(... تابع)
* بحثًا عن المترجم المفقود...*
ولنعُد الآن إلى ما عتبرتَه "بيت القصيد"، أي: هوية مترجم رد الأفغاني على رينان..
وقد رجّح كون "خليل غانم" هو المترجم: سمير أبو حمدان، وسيد خسروشاهي، ومحمد الحداد؛ وكلهم متخصص في فكر الأفغاني وتاريخه، مع أنّ مشاربهم ومذاهبهم مختلفة... وسأعفيك من الرجوع إلى كتاباتهم، وأرجو أن تتأمّل كلامي معتبرًا إياه رأيًا في المسألة، لأنَّ فيه إضافات أغفلها مَن أشرتُ إليهم...
وأقرِّر سلفًا أنَّ المسألة مبنيَّة على ظن راجح، لغياب أية وثيقة تاريخية تصرِّح باسم المترجم. وترجيح الظن في هذه المسألة قائم على القرائن المتوفرة والمتضافرة. وترجيح الظن في مغيّبات الحوادث التاريخية لا يكون إلا للبناء عليه في تناول تلك الحوادث، وإلا لما أصبح له قيمة تقتضي إيراده أصلا...
وهنا تُطرح عدَّة احتمالات:
1_ مترجم المقال هو الأفغاني نفسه. وقد يكون كتبه بالفرنسية، دون الحاجة إلى ترجمته.
2_ المترجم هو يعقوب صنوع، لأنه كان ملازمًا لجمال الدين الأفغاني خلال إقامته في باريس.
3_ المترجم هو الجريدة؛ أي أنها أوكلَت بذلك إلى أحد المترجمين، سواء كان موظفًا لديها أو كان من المتعاونين معها.
4_ المترجم هو خليل غانم، بحكم القرائن العديدة التي ترجِّح ذلك.
فلْنتناول بالتحليل هذه الاحتمالات الواحد تلو الآخر:
1_ تقديم الجريدة لرد جمال الدين الأفغاني على رينان نص صريح على أنَّ مقاله كُتِب باللغة العربية، وأنّ الجريدة هي التي تولَّت ترجمته. وتصريح الأفغاني بأنّ مضمون محاضرة رينان إنّما تُرجِم له تأكيد على أنه لم يكن يتقن الفرنسية في تلك الفترة. وبالتالي: الأفغاني لم يحرِّر المقال بالفرنسية، ولم يترجمه هو إلى هذه اللغة.
2_ كون يعقوب صنوع هو الذي ترجم المقال احتمال وارد، لكن تصرفنا عنه الاعتبارات التالية:
_ اطّلعتُ على عدة أعداد من جريدة "أبو نظارة زرقا" الصادرة في باريس (بإشراف يعقوب صنوع، مؤسسها وحرّرها وناسخها!) فتبيَّن لي أنّ أسلوبه بالفرنسية أشد ركاكة من عربيته. وراجعت أيضًا بعض ما كتب في الجرائد الفرنسية مثل "Le Gaulois" و"Le Petit Journal"، فازددتُ يقينًا بما توصلت إليه. ودعوى أنه كان يتقن 13 لغة دعوى فارغة، قد يكون هو الذي كرَّس لها، مثلما أوهم الناس بأنه يحفظ القرآن والتوراة والإنجيل؛ ومثلما أوْهم أحد المستشرقين بأنه هو أوّل مَن أدخل المسرح إلى العالَم العربي، وظل هذا الوهم سائدًا إلى أن قام مؤخرًا أحد الباحثين المصريين بكشف زيفه... وديباجة ترجمة رد الأفغاني على رينان تختلف تمامًا عن ديباجة خربشات صنوع بالفرنسية، بل هي أشبه ما تكون بديباجة خليل غانم...
_ كان صنُّوع كثير الادِّعاء.. وكان ينسب إلى نفسه منجزات غيره.. والمتتبع لسيرته الطريفة يدرك ذلك.. ومَن يقرأ كتاب "بلنت" (W. S. Blunt, My Diaries) يجد فيه غرائب نسبها "أبو نظارة" إلى نفسه وصدَّقها صاحب الكتاب... ولو كان صنوع هو مترجم رد الأفغاني، لصاح بذلك من فوق برج إيفل ولما سكت.
_ تتبعتُ ما كُتِب عن تاريخ جريدة "le Journal des Débats" فلم أجد فيه إشارة إلى يعقوب صنُّوع، سواء في قائمة المحررين، أو المتعاونين، أو المترجمين..
_ يعقوب صنوع إنما اشتغل مترجما في جريدة "العروة الوثقى"، وكان يترجم الأخبار لا المقالات الفكرية. ولا يدرى إن كان هو الذي يحرر ترجمته باللغة العربية أو غيره...
_ استمرَّت علاقة صنوع بجمال الدين الأفغاني إلى غاية توقف "العروة الوثقى"، بينما لم أجد فيما أمكنني الاطلاع عليه من دراسات ووثائق أمارة على أنّ العلاقة بين الأفغاني وخليل غانم استمرت بشكل وُدّي دائم بعد صدور الرد في جريدة "لو جورنال دي ديبا". بل بعد ذلك قرَّر الأفغاني الكتابة في جريدة أخرى، لا علاقة لخليل غانم بها، كما أنه لم يكتب بعد ذلك في جريدة "البصير"..
_ رأينا أنّ الأفغاني اكتشف أنّ مقاله أصابه التحريف، وأنّه لشدة شكه في المحيطين به (غانم، وصروف، وغيرهما...) أرسل بالمقال إلى محمد عبده ليتأكّد هو بنفسه من مضمون الترجمة. وقد وقعت خصومة بين الأفغاني وصنوع قبيل توقف "العروة الوثقى"، ونشر صنوع في جريدة (Paris) ثلاث مقالات بعنوان "مكائد الشرقيين"، في شهر ديسمبر 1984. بإمضاء "S"، يتهم فيها الأفغاني بأنّ مصادر تمويل مشاريعه (العروة الوثقى) مشبوهة، ويتهم محمد عبده بأنه استحوذ على أموال جمعها من تونس. وقد ردَّ عليه جمال الدين، وفي رده أشار إلى أنه كان يعمل عنده مترجِمًا. وكانت القطيعة بين الرجلين...
ولو كان صنوع هو الذي ترجم مقال الأفغاني ردًّا على رينان، لما تردَّد في الإشارة إلى تحريف كلامه وتشويه معانيه.
3_ احتمال أنَّ الجريدة استلمت الرد العربي للأفغاني على رينان، وأنَّها هي التي أوكلت بترجمته إلى أحد موظَّفيها أو المتعاونين معها، احتمال قائم، تؤيده مقدمة مقال الأفغاني. لكن بالرجوع إلى قائمة محرِّري الجريدة والمتعاونين معها في تلك الفترة، لم أجد إلا عربيا واحدًا هو: خليل غانم!
وهذا يقودنا إلى الحديث عن قرائن ترجيح كون خليل غانم هو المترجم...
(يتبع...)