مجالس رمضان: الحث على الازدياد من الطاعات في شهر رمضان


سمير الخال


لشهر رمضان مزايا عديدة وفضائل كثيرة. ويكفيه فخرا أن يكون سببا لتحقيق مقصد التقوى، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة،183]. ولتشويق العباد إلى التسابق إلى الخيرات في هذا الشهر الفضيل، فقد أخبر المصطفى عليه السلام والصلاة بما خص الله هذا الشهر من الفضائل، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ” (رواه البخاري ومسلم).

على أن دلالة الميزات الثلاثة في هذا الحديث قد تُحمل على ظاهرها حقيقة (وهي: فتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب جهنم، وتصفيد الشياطين وشدهم بالأغلال والسلاسل) وهو الأولى شرعا، ووضعا لغويا، وعقلا ما دام الله سبحانه على كل شيء قدير، وفعال لما يريد، ولا يعجزه شيء، كما هو مقرر في مسلمات العقيدة الإسلامية. كما قد تحمل دلالة ميزات هذا الحديث على المجاز، في علاقتها بكثرة الخير في هذا الشهر (من صلاة وصيام وقراءة القرآن وغير ذلك)، وقلة الشر فيه (خصوصا المعاصي والسيئات)، وتعجيز الشياطين عن إغواء الصائمين وتزيين الشهوات لهم (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بتصرف وزيادة ونقصان).


على أية حال، فرغم التردد الحاصل في تعيين دلالة هذه الميزات الثلاثة بين الحقيقة والمجاز، فإن ذلك لا تعفينا التأكيد على أن المقصد من ذكرها ههنا هو إعلاء همم المسلم إلى طاعة الله في هذا الشهر الفضيل، وبذل أقصى جهده في عبادة الله سبحانه، والابتعاد عن معصيته. وهذا ما يستوجب شدة حرص المسلم على عدم تضييع فرصة صومه لهذه السنة، خاصة إذا استحضر أن الأعمار بيد الله، وأن إطالة عمر المكلف إلى رمضان المقبل قد بات مندرجة في مسائل الغيب المطلق، مما لا مجال للإنسان إلى إدراكها.


تبعا لذلك، ينبغي على المسلم أن لا يفتر عن طاعة الله في هذا الشهر، وأن لا يتكاسل عن عبادته، وأن يكون همه الازدياد من الطاعات والقربات فيه، من خلال استحضار التوجيهات النظرية والمسلكية التالية:

لقد ذكر الله شكوى أهل النار وطلبهم من ربهم إخراجهم منها وإرجاعهم إلى الدنيا كي يعملوا عملا صالحا، قال تعالى: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} الآية [فاطر،37]. فقد أثبت الله تعالى أن حكمته اقتضت أن الآخرة دار جزاء فقط، وأن الخروج منها أمر متعذر، خاصة وأن الإنسان قد مكنه ربه من العيش في الحياة الدنيا مدة، تخللتها دعوات (ومنها: بعثة الأنبياء، وبلوغ سن الأربعين، أو الستين، فما فوقها، أو ظهور الشيب، وضعف الجسم والحواس، وفقدان الأهل والأحبة وغيرهم). على أن المقصد من هذه الدعوات إنذار العبد بقرب أجله، وتذكيره بأن الموت سنة كونية، اقتضت حكمته سبحانه أن يكون غالبا على حين غفلة من الإنسان.
ومما يعين المسلم على الحث على العمل الصالح في هذا الشهر الفضيل اعتقادُه أن كل أعمال العبد معلومة لله سبحانه، الذي سيجازيه عليها جزاءً من جنس عمله في الدنيا، قال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة،215].وقال تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة،7-8].
ومن ذلك أيضا تنويع مجالات العبادة، بين العبادات المحضة (كالصلاة، وقراءة القرآن، وذكر الله)، والعبادات المتعدية (كصلة الرحم، والصدقة، وبذل النصيحة، وعيادة المريض)، مما يكون سببا للرفع من قوى المسلم المعنوية، وتقوية نشاطه حتى يظل قريبا من الله تعالى.
ومن الأدلة على هذا الأصل حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: (الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ). قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: (أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا). قلت: فإن لم أفعل؟ قال: (تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ). قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: (تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ) (متفق عليه، واللفظ لمسلم). فقد دل الحديث على أنواع متفاضلة من العمل الصالح، يأتي الإيمان بالله والجهاد في سبيله في أعلاها، ثم عتق الرقبة الجيدة والثمينة، ثم مساعدة الصانع على عمله، أو قضاء حاجة غير الصانع (الأخرق). وفي حال العجز عما سبق من الأعمال الصالحة، تقع على عاتق الإنسان عبادة لا تكلفه جهدا ولا مال، بالتصدق على نفسه، بإمساك أذاه عن غيره.
وقريب من هذا، تنويع مجالات العبادة الواحدة، بأن لا يلزم المسلم ذِكْرا واحدا -مثلا- فقط، بل الأفضل تنويع ألفاظه بين تسبيح لله، وتحميده، وتهليله، وتكبيره، وهكذا. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى) (رواه مسلم).
وغير بعيد عن هذا، عدم احتقار المسلم من الخير شيئا، ولو بابتسامة في وجه أخيه المسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ) (رواه مسلم).
وبالمقابل، يجب على المسلم عدم الاستهتار بالمخالفات الشرعية مهما كانت يسيرة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ، لَا تُدْفَنُ) (رواه مسلم).
ومما يقوي المسلم على مداومة عبادة الله تعالى في هذا الشهر الفضيل كذلك، أن يأخذ الإنسان من العمل الصالح ما يستطيعه، مع تنويع مجالات العبادات، حتى لا يمل الإنسان فتفتر همته، وتضعف عزيمته. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ) (البخاري ومسلم).
ومما يزيد المسلم حرصا على الازدياد من الطاعات، خاصة في هذا الشهر الفضيل، مدارسة سيرة السلف الصالح ومدى حرصهم على العمل الصالح فيه، كيف لا وقد قال ابن عيينة: “عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة“، وما قاله محمد بن يونس: “ما رأيت للقلب أنفع من ذكر الصالحين” (ابن الجوزي، صفوة الصفوة)؟!
وفي السياق ذاته، فمن حرص الصالحين من السلف على العمل الصالح عثمانُ بن عفان الذي كان يختم القرآن كل يوم مرة. وليس هذا حصرا على هذا الصحابي فقط، فقد كان غيره من السلف يتنافسون في قراءة القرآن خاصة في شهر رمضان؛ ومن هؤلاء سعيد بن جبير الذي كان يختمه كل ليلتين. وقريب منه قتادة، فقد كان يختمه في كل ثلاث ليالٍ، فإذا جاءت العشر الأواخر ختمه في كل ليلة مرة. ومن هؤلاء أيضا جدي ابن محيريز الذي كان يختم القرآن كل سبع. ولا ننسى الشافعي، فقد كان له في رمضان ستون ختمة (حلية الأولياء).

والقائمة طويلة، وإما قدمت ما سبق للتمثيل فقط، وإن كان الإعراض عن غيرهم من السلف الصالح، حتى لا تخرج هذه الورقة عن حد الاعتدال، وبالله التوفيق.