الحمد لله وكفى ، وصل اللهم وسلم على عبدك المصطفى وبعد :
*** ابحث عـن الأصــل ***
((( و حَـــدَثَ فـــي السفـــــر....))
* من الأهمية بمكان لكل مسلم فضلا عن طالب للعلم أن يعلم حكم الأصل في الأشياء ؛ليردكل حادثة أو مسألة إلى أصلها ؛ فيعلم حكمها الصحيح في الشرع .
* وعند التحقق من أصل ما ، لا يجوز لنا العدول عنه إلى حكم آخر إلا بدليل ينقلنا عن حكم الأصل .
- هذه من أهم القواعد الفقهية النافع معرفتها ، وهذا- يعلم الله - عن تجربة ، ولنضرب أمثلة تقرب المراد :-
*الأصل في الأبضاع الحرمة إلا ما جاء الدليل بحله (ناقل عن الأصل) كالزواج ،
* كما و إن الأصل في البيوع الحل إلا ما أتى فيه نص محرم (ناقل عن الأصل) كبيع الغرر ،
* كذا الأصل بقاء ما كان على ما كان إلا إذا جاء الدليل بزواله عن أصله كبقاء الطهور المتيقن وورود الشك عليه : (وترجع الأحكام لليقين ***** فلا يزيل الشك لليقين)
* الأصل في الميتة الحرمة إلا ما جاء الدليل بحله (ناقل عن الأصل) كميتة البحر والجراد ....وهكذا.
هذه كانت توطئة بين يدي قصتنا : (((و حَــدَثَ فــي السفـر....))
في رمضان ما ،كنا في سفرة ما إلى مكان ما ، جمْعٌ من المعارف رجالًا ونساءًا ، وكان سفرنا عن طريق البحر
وصلت سفينتا بعد منتصف الليل إلى الميناء ، وبعد تمام الإجراءات أُذِن لنا – نحن الركاب – بالنزول من قمراتنا إلى الميناء ، وكانت عقارب الساعات في أيدينا تعدت الثالثة بعد منتصف الليل على توقيت بلدنا ، ومن نافلة القول أن هناك فارق لا بأس به بين توقيت بلدنا وتوقيت تلك البلد ، ولكننا كنا نجهل قيمته ، كما كنا نجهل كم التوقيت ساعتئذ ، وكان الجو شديد الرطوبة مما يعطي انطباعًا خانقًا، وإحساسًا متزايدًا بارتفاع درجة الحرارة ، تنامى هذا الإحساس مع شدة الزحام ، وتباطؤ سيارات نقل الركاب في تقديم الخدمات في مثل تلك الأوقات ، واشتد بنا العطش ، واشتاقت أنفسنا لقطرات تطفئ لهيب أجوافنا ، وامتدت الأيدي ؛ تبحث بين الأمتعة عن زجاجات المياه الماتعة .
ولكــــــــــــ ـــــــــــن.... مهـــــــــــــ ـــــلا لحظــــــــــــ ــــــــة ...
هـــــــــــل طلـــــــــــــ ـــع الفجـــــــــــ ـــــــــــرأم لـــــــــــا ؟
**و أخذ الجمع يسأل بعضه بعضًا ، بل ويبحثون عمن يسألونه من مواطني هذه البلدة ، فلم يُوفّق لأي منا ذلك فانقســــــــــ ـــــــــم القــــــــــــ ـوم مـــــــــا بيــــــــــــن :-
- ممسك عن الشراب لنفسه ، ومانعا منه غيره ؛ متورعًا يحتاط – بزعمه - لصومه
- وشارب لشدة عطشه عازمًا الفطر يومه ، أخذًا برخصة الفطر في السفر .
- وناظرٍ إلى السماء محاولًا تَبَيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر .
- وقوم يقلبون أبصارهم إلى هؤلاء تارة وإلى هؤلاء تارة ، متلهفة قلوبهم ، مشرئبة أعناقهم لا حول ولا قوة لهـــــــــم .
- وإذا بصوت يرتفع : يــــا قـــوم يـــا قـــوم : الأصــــل الأصــــل عليكــــم بالأصـــــل .
فالتفت الجمع إليه ، مقبلين بكليتهم عليه ، عن أي أصل تتحدث ؟ فشرب ثم شرب ثم شرب ،
وهم ناظرين إليه مشوقين لما سيخرج من شفتيه ، وأخـــــيرًا قال لهــم :-
هل تبين أحدكم طلوع الفجر ؟ أجابوا : أن لا ، قال : إذن الأصل بقاء الليــــــــل ، قالـــــــــوا كيـــــــــــف ؟
قال : قال الشيخ العثيمين –حفظه الله تعالى- :
{ الأصل بقاء الليل حتى يأتي دليل على طلوع الفجر}
واستدل بقوله تعالى :
((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ُثمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ .. ))الآية }البقرة187}
فقال إن الأكل والشرب أبيح في الآية الكريمة حتى تَبَيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الليل .
*كما استدل بحديث عائشة –رضى الله عنها - حيث قالت : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم - :[إن بلالا يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم .] صحيح البخاري / رقم : (622)
* وكذا استدل بحديث عدي بن حاتم الطائي :
لما نزلت : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } [ 2 / البقرة / الآية 187 ] . قال له عدي بن حاتم : يا رسول الله ! إني أجعل تحت وسادتي عقالين : عقالا أبيض وعقالا أسود . أعرف الليل من النهار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن وسادتك لعريض . إنما هو سواد الليل وبياض النهار " . صحيح مسلم / رقم : (1090)
فلما لم نتبين طلوع الفجر ، لزمنا العمل بالأصل وهو بقاء الليل ؛ وجاز لنا التمتع بالطعام والشراب إلى أن نتبين ،
وبخاصة ؛ أننا بذلنا الجهد واستفرغنا الوسع في التبين يا قوم .
-فنظرنا إليه دهشين ومن قوله متعجبين ،فانبرى قائلٌ منا كأنه معبر عنا :
مــــــــاذا إذا شربنا ،ثم تبين لنا بعدُ أننا فعلنا بعد طلوع الفجر ؟؟؟!!!
-أجابه فقيهنا : نقلا عن العثيمين شيخنا :
{من أكل أو شرب يظن الليل لم ينته ، وأن الفجر لم يطلع ، بيد إنه أخذ بالتحري ، فلا شيء عليه
لقوله تعالى : (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) البقرة : 286
وقوله تعالى : (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ) الأحزاب : 5
ولأن عدي ابن حاتم كان يأكل ويشرب حتى يتبين العقال الأبيض من الأسود ثم يمسك ، فأخبره النبي
-صلى الله عليه وسلم- أن المراد بالخيطين سواد الليل وبياض النهار ولم يأمره - صلى الله عليه وسلم –
بالقضاء ، لأنه كان جاهلا بالحكم .
-وثبت في الصحيح عن أسماء –رضي الله عنها – عن أبيها : (( أنهم أفطرنا يوما في رمضان في غيم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس )) ولم يأمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم – بالقضاء . /صحيح البخاري / كتاب : الصيام / رقم (1823)
فدل هذا على أن من أكل في وقت يظن فيه أنه مباح له الأكل فإنه لا حرج عليه ،إذا تبين له أنه في النهار ،
سواء كان ذلك من أول النهار أو من آخره ؛ لأن العلة واحدة
**ولكن الفرق بين أول النهار وآخره :
-أن أول النهار يجوز له الأكل مع الشك في طلوع الفجر ؛ لأن الأصل بقاء الليل.
- وأما في آخر النهار فلا يجوز له الأكل مع الشك في غروب الشمس ؛ لأن الأصل بقاء النهار ....} انتهى.
*****وهنا سارع الجميع يعبون من الماء العذب عبًّا ، حتى إذا ذهب الظمأ وابتلت العروق ، وتحقق -بفضل الله -الريّ ، وسكن الروع ، واطمأنت القلوب ...
*وإذا بصوت النداء يصدح في سماء الميناءمُؤْذِنً ا بطلوع فجر جديد :
الله أكبر الله أكبر ***** الله أكبر الله أكبر
ولسان حال جمعنا يقول :
تالله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا .
فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
.