تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,561

    افتراضي حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية

    حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية (1)
    الإسلام سبَّاق إلى تقرير حقوق الإنسان




    إن الإسلام عقيدة وشريعة، هو دين الله الحق الذي ارتضاه لعباده المؤمنين؛ فهو نظام دين ودنيا، ينظم علاقة المسلم بربه، وبمجتمعه، وينظم حال الجماعة المسلمة بما يصلح حالها، ويضمن الاستقرار اللازم لها؛ لقيام مجتمع آمن يلتزم أفراده فيه بأمر ربه، فبه تهذب النفوس وتصوب الأعمال، والدعوة رسالة شاملة؛ فهي تتعدى الحدود الإقليمية، وهي دعوة عالمية في نظامها وأحكامها التي تستمدها من التشريع الإلهي وهو القرآن الكريم الذي جاء كاملاً وشاملاً لجميع الأحكام والأزمنة والأوقات، وشرع مبادئ العلاقات بين البشر، ومن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، الذي فسّر وبيّن الأحكام الشرعية للناس كافة.
    ولما كانت حقوق الإنسان الشغل الشاغل للبشرية جمعاء، منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا، وهذه من سنن الحياة في الكون، وستظل هكذا طالما في هذا الوجود صراع بين الخير والشر، وبين الظلم والعدل، وبين النفي والإثبات، وبين قوة المساواة، وقوة العنصرية؛ فلذلك كان من أهم إنجازات الإنسانية في نهاية القرن العشرين، بلورة مبادئ حقوق الإنسان وحرياته الأساسية عَالَمِيًّا، وإقرارها وتنميتها وحمايتها وصونها من الاعتداء عليها.
    الحضور الدولي لحقوق الإنسان
    فبعد تصاعد الحضور الدولي لحقوق الإنسان، أصبح إلزامًا على المجتمع الدولي والإقليمي والمحلي عبء ومسؤولية للتحرك للحيلولة دون وقوع انتهاكات لهذه الحقوق، كما يجب معاقبة المنتهك لهذه الحقوق، وتعويض المتضرر من تلك الانتهاكات، إلا أن هناك عددا غير قليل من الناس يرى أو يظن أن حقوق الإنسان لم تعرف إلا من قريب، ولم يكن هناك معرفة بحقوق الإنسان في عهد الإسلام الأول، بل هي قوانين عرفتها واستحدثتها الغرب قبل الإسلام، كما يظن بعضهم أن الأديان عموما لم تهتم بحقوق الإنسان.
    حقوق عرفتها الأديان السماوية
    إلا أنه يمكن القول والقطع بأن حقوق الإنسان أمر لم يستحدثه الغرب، بل هي حقوق عرفتها الأديان السماوية منذ آدم -عليه السلام-، وأن الشرعية الدولية لم تكن أول من سجل الحقوق وألزم بها، ولإثبات ذلك يكفي أن نراجع الكتب السماوية الثلاث-التوراة والإنجيل والقرآن-لنجد أن الحقوق مدونة فيها وواضحة، كما جعلها الله -سبحانه وتعالى-فرائض إلهية، وواجبات شرعية ملزمة لجميع البشر، وفرض على المعتدي عليها جزاء في الدنيا، وعقابا في الآخرة، وكذلك يمكننا القوال بأن الإسلام كان سبّاقًا إلى الحقوق والدعوة إليها تأصيلاً-قرآنًا وسنة -وممارسته في أرض الواقع.
    من الواجبات الشرعية الكفائية
    والبحث في حماية حقوق الإنسان في الإسلام وتجليتها بأسلوب علمي ومنهجي يعد من الواجبات الشرعية الكفائية، التي تسهم في بيان حقوق الإنسان في الإسلام، والتكريم الإلهي للإنسان من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة؛ مما تسهم في دفع الشبهات ودحض الاتهامات التي تلصق بالدين الإسلامي، هذا الدين الذي كفل للبشرية جميعا كل الحقوق، دون تفرقة أو تميز.
    حقوق الإنسان في الشرائع والأديان السماوية
    يعد ظهور الأديان السماوية وخاصة الإسلام والمسيحية علامة فارقة في تطور نظرة المجتمع للإنسان؛ فقد نادت الأديان السماوية بتكريم الإنسان، وأعلت من قيم الحق والعدل والمساواة، وإذا أردنا التطرق لحقوق الإنسان في الشرائع السماوية فيجب التفريق والتمييز بين الأديان (اليهودية، المسيحية، والإسلام) كأديان ساهمت في تأسيس الوعي بحرية الإنسان وحقه في العيش الحر الكريم، وتحريره من كل القيود؛ حيث إن هذه الأديان ذات المصدر الواحد اهتمت اهتمامًا بالغًا بالإنسان وحقوقه لكونه هو مدار الكون ومناط التكريم بصفته الإنساني.
    الكتب السماوية المقدسة
    وقد حفلت الكتب السماوية المقدسة بحقوق وواجبات تخص الإنسان، وهي مقدسة ولا يجوز مسها أو العبث فيها، ولا يدخلها نسخ ولا تعطيل، ولا تحريف ولا تبديل، فهي ليست كالفلسفات أو القوانين الوضعية التي يضعها الإنسان والقابلة للتغيير في جوهرها أو تبديل نصوصها أو تطويرها متى يشاء وكيفما شاء وفي أي وقت شاء، بل هي حقوق من عند الله- تعالى-مقدسة، حقوق شرعية أبدية لا تتغير ولا تتبدل مهما طال الزمن، لها حصانة ذاتية؛ لأنها من لدن حكيم عليم؛ فالله -سبحانه وتعالى- أعلم بخلقه، وهو -سبحانه- أعلم بمصالح العباد من أنفسهم، أنزل الله -تعالى- بها كتبه، وفرض على العباد حماية هذه الحقوق ورعايتها فيما بينهم، وحرم إهانتها من الاستغلال أو الاضطهاد أو الإهانة، من أجل أن يعيش الإنسان بأمن وطمأنينة، ويعيش في عز وكرامة، كرامة في الحياة، وكرامة بعد الممات، فحقوق الإنسان في الشرائع الدينية لا تقتصر على حياته فقط، فالإنسان مكرم حَيًّا وَمَيِّتًا، وكذلك لا تقتصر عليه في حال الصحة، بل هو مكرم في حال الصحة والمرض، وفي الغنى والفقر، وفي السعة والضيق غير أن هذه الديانات حرفت ولم يسلم من التحريف إِلَّا الإسلام.
    حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية
    إنَّ الإسلام منذ بزوغه جاء بإعلان حقوق الإنسان، وقد دخلت هذه الحقوق حيز التنفيذ منذ معرفة وحدانية الله - سبحانه وتعالى-؛ حيث خلق البشر وكرمهم أحسن تكريم على جميع مخلوقاته؛ بدليل قوله -تعالى في كتابه العزيز-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: ٧٠)، ووضع لهم المنهج الذي يسيرون عليه في هذه الحياة، وطلب منهم طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر، ولكن هذه الطاعة حددها الله - سبحانه وتعالى- في الحدود التي رسمها الإسلام لهم.
    محور المسيرة الإنسانية
    والإسلام جعل الإنسان المحور المركزي للمسيرة الإنسانية؛ بحيث تصب كل معطياتها وإنجازاتها وطموحاتها في محصلة نهائية هي خير هذا الإنسان؛ لأن الإنسان هو أكرم ما في الوجود وهو فعلا أكرم ما في الوجود، وقد جاء الإسلام ليرى أن هناك واقعا كان يسود فيه الظلم والاستبداد وامتهان لكرامة الإنسان واستباحة لحقوق الإفراد والجماعة، فتعامل معها بواقعية؛ من حيث الصيغ التي وضعها من أجل أن يؤمن للفرد أو الجماعة حقوقهم من ولادتهم حتى لحظة مماتهم فلم يترك شيئا إلا ونظمه.
    سبق الإسلام في حقوق الإنسان
    فمن هنا يمكن أن نقول بأن الإسلام كان السباق إلى تقرير حقوق الإنسان، دون ضغوط وطنية ولا إقليمية ولا عالمية، والقارئ للقرآن الكريم سيجد مئات الآيات التي تقرر حقوق الإنسان على أكمل وجه، وينبغي الإشارة إلى أن حقوق الإنسان التي يقررها الإسلام ليست منة من حاكم ولا من منظمة، وإنما هي حقوق أزلية فرضتها الإرادة الربانية فرضاً، وهي من نعمة الله على الإنسان حين خلقه في أحسن صورة وأكمل تقويمه، قال تعالى:- {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: 4)، فإقامة العدل بمعانيه، واستئصال الظلم بأبعاده هو المقصد الأساسي للدين، قال -تعالى:- {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } (الحديد: 25).
    إعلاء قيمة الإنسان
    لذا جاء الدين الإسلامي وشرّع تشريعات تُعَلي من قيمة الإنسان، ونقلت احترام حقوقه من قدر الفضيلة إلى قدر الفريضة، فأوجب الجميع بالالتزام بها، فكان الإسلام بمثابة ثورة حقيقية لا مثيل لها في التاريخ الإنساني كله، وكان الإنسان وحرياته وحقوقه فيها هو حجر الزاوية في المجتمع الجديد؛ حيث جاء بنظام كامل لتنظيم كافة السلوك الإنساني، فنظم علاقة الفرد بالفرد وعلاقته بالمجتمع وكذا علاقة الحاكم برعيته، وبذلك يكون الإسلام قد أعطى أهمية بالغة للإنسان من خلال إبرازه لأهم حقوقه المتمثلة أساسًا في المساواة والحرية والعدل.
    المساواة والحرية
    فحقوق الإنسان العامة مثلاً ترجع في الأساس إلى حقين رئيسيين هما المساواة والحرية، كما قال الدكتور على عبد الواحد الوافي -وهو يتحدث عن حقوق الإنسان في كتابه-، والإسلام أول من أكد هذه الحقيقة الأساسية في قصة الحياة البشرية وقيمها المعنوية والحضارية، إلا أن الأمم الديمقراطية الحديثة قد ادعت أن العالم الإنساني مدين لها بتقرير هذين الحقين، والحق أن الإسلام هو أول من قرر هذه المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان في أكمل صوره وأوسع نطاق، ولقد جاء الإسلام بتباشير النّور ليبدّد ظلمات السّلوك الإنساني التي سادت لفتراتٍ طويلة، وَلِيَتَأَصَّل أخلاقيّات التّعامل الإنساني، وتسود شريعة كاملة شاملة، تحكم سلوك الأفراد وعلاقاتهم مع بعضهم بعضا، وإن الأمة الإسلامية في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين من بعده كانت أسبق الأمم في السير عليها، فنظم الإسلام إلى جانب العبادات علاقات الإنسان بربه، وفي جانب المعاملات علاقات الإنسان مع الآخرين، فأعطى لكل ذي حق حقه، فجعل لكل من له حق أن يأخذه بتشريع من الله -تعالى-؛ فجعل حقوقا للأحياء وللأموات، وللمريض، والسليم، والرجل والمرأة، والجنين، والطفل، وحتى الحيوان راعى الإسلام حقوقه، وكذا البيئة..إلخ.
    هداية القرآن الكريم والسنة النبوية
    وقد منّ الله -سبحانه علينا أهل الإسلام- فجعل فينا فقهاء على مر العصور يدركون حاجات مجتمعاتنا، فاجتهدوا في صياغة الأحكام الفقهية وفقاً لمتطلبات العصر، منطلقين من هداية القرآن الكريم والسنة النبوية، وما جاءت به الشريعة من رعاية المصالح والحقوق، ودرء المفاسد والمظالم، ولقد حظيت سائر الحقوق بالدراسة والبحث من فقهائنا الأجلاء.


    محمد مالك درامي


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,561

    افتراضي رد: حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية

    حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية (2)
    المفهوم الشرعي لحقوق الإنسان




    إن الإسلام عقيدة وشريعة، هو دين الله الحق الذي ارتضاه لعباده المؤمنين فهو نظام دين ودنيا، ينظم علاقة المسلم بربه، وبمجتمعه، وينظم حال الجماعة المسلمة بما يصلح حالها ويضمن الاستقرار اللازم لها لقيام مجتمع آمن يلتزم أفراده فيه بأمر ربه، وهي رسالة شاملة، تتعدى الحدود الإقليمية، ودعوة عالمية في نظامها وأحكامها التي تستمدها من التشريع الإلهي وهو القرآن الكريم الذي جاء كاملاً وشاملاً لجميع الأحكام والأزمنة والأوقات، وشرع مبادئ العلاقات بين البشر، ومن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، الذي فسّر وبيّن الأحكام الشرعية للناس كافة؛ لذلك كان الإسلام سباقًا إلى تقرير حقوق الإنسان، وشرع تشريعات تعلي من قيمة الإنسان وحقوقه المتمثلة في المساواة والحرية والعدل.
    لقد قررت الشريعة مبدأ الكرامة الإنسانية، لكل الناس على اختلاف أجناسهم وأعراقهم، وألوانهم ولغاتهم، وأديانهم وبلدانهم، وإذا كان العالم المعاصر يتغنى بحقوق الإنسان وحفظ مصالحه، وقد يخيل لكثير من الناس أنه هذا من مبتدعات العصر ومحاسنه؛ فإن الله -تعالى- أخبرنا بأنه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ لأجل إسعاد الإنسان وحفظ مصالحه وحماية حقوقه المشروعة، كما قال ربنا -سبحانه وتعالى-:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: ٢٥)، فبين أن الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو إقامة القسط والعدل بين الناس، والعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، ووضع كل شيء في موضعه الصحيح، وبهذا يسعد الناس وتحفظ حقوقهم ومصالحهم.
    النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بالمعروف
    ووصف الله -جل وعلا- رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله:{يَأْمُرُه ُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: ١٥٧)، فالرسول [ لا يأمر إلا بالمعروف الذي أمر الله به، وتعرفه العقول السليمة والفطرة السليمة، ولا ينهى إلا عن المنكر الذي نهى الله عنه، وتنكره العقول السلمية والفطرة المستقيمة، ولا يحل إلا ما أحله الله من الطيبات النافعات، ولا يحرم إلا ما حرمه الله من الخبائث والمضرات، وأكد ذلك بقوله -تعالى-:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:١٠٧).
    ولو كان في هذه الشريعة الغراء شيء ضد مصلحة الإنسان وحقوقه المشروعة لم تكن رحمة للعالمين، كما بين -سبحانه- في آيات كثيرة.
    الشريعة قائمة على العدل والقسط
    وهذه الشريعة المباركة قائمة على العدل والقسط، والمصلحة والحكمة، والإحسان والرحمة، فالله -تعالى- من كمال رحمته بعباده وعظيم فضله عليهم لا يأمرهم إلا بالعدل والحق، والإحسان والبر، ولا ينهاهم إلا عن الظلم والباطل، والفحشاء والمنكر، كما قال -عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:٩٠)، وقال -تعالى-: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنعام:١١٥)، أي: إن كلامه -سبحانه- كله صدق وحق، وأحكامه كلها عدل وقسط، قال -تعالى-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:٥٠).
    ولهذا كان أسعد الناس، وأكثرهم أمناً، وأطيبهم حياة، وأهنأهم عيشاً، وأكثرهم تمسكاً بدين الله والتزاماً بشرعه، قال الله -تعالى-:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: ٩٧)، فضمن لكل من آمن به وعمل صالحاً من الأفراد والمجتمعات أن يحيا حياة طيبة، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بحفظ حقوق هذا الإنسان، وحماية مصالحه، وقال -تعالى-:{فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: ٣٨)، وقال -تعالى-:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} (طه: ١٢٣) وقال -تعالى-:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: ٨٢)، فمن آمن بالله -تعالى- واتبع هداه، والتزم شريعته، كان له تمام الأمن والهداية في الدنيا وفي الآخرة، وألا يضل فيهما ولا يشقى، ولا يخاف ولا يحزن، فكان الالتزام بدين الله، والأخذ به عقيدة وشريعة ومنهاج حياة هو الضمانة الحقيقية لإسعاد الإنسان، وحفظ حقوقه، وضمان أمنه واستقراره، ليس في الدنيا فحسب، بل في الدنيا والآخرة.
    الإسلام له فضل السبق
    والإسلام كان له فضل السبق على المواثيق والإعلانات كافة، والاتفاقيات الدولية، في تناوله لحقوق الإنسان، وتأصيله وتحديده لتلك الحقوق، وتشريعه للأحكام اللازمة لحفظها وحمايتها، ومراعاة المصالح، وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها من أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، فجاءت تشريعاته في هذا الباب: جامعة، مانعةً، فاقت بذلك كل ما عرفته، وتعرفه المدنية بكل هيئاتها، وما الحقوق التي تضمنتها المواثيق والصكوك الدولية إلا تأكيد وترديد لبعض ما تضمنته الشريعة الإسلامية.
    المفهوم الشرعي لحقوق الإنسان
    نتناول المفهوم الشرعي لحقوق الإنسان وذلك في محاور:
    أولاً: مفهوم حقوق الإنسان في القرآن الكريم
    من الألفاظ المحورية في القرآن الكريم لفظ (الحق)، فهو لفظ ذو حضور بارز في العديد من الآيات القرآنية، ولا عجب في ذلك؛ فإن القرآن الكريم هو الحق القويم، ودعوة إلى الحق المبين، وقد وردت مادة:(ح. ق. ق) في القرآن الكريم مائتين وثلاثة وثمانين موضعا بدءا من سورة البقرة في قوله -تعالى-: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} البقرة: ٢٦، وانتهاء بسورة العصر في قوله جل وعلا: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر: ٣).
    وكلمة الحق لم ترد في القرآن الكريم بصيغة الجمع، وإنما وردت بصيغة المفرد، وقد جاءت بالمفردات الآتية:(حق) قال -تعالى-: {وما قدروا الله حق قدره} (الأنعام: ٩١).
    و(حقت) قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} (يونس: ٩٦)، و(بحق) قال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} (المائدة: ١١٦).
    و(استحق) قال -تعالى-: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} (المائدة: ١٠٧)، و(الحق) قال -تعالى-: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (يونس: ٣٢)، و(حقا) قال -تعالى-: وَلِلْمُطَلَّقا تِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (البقرة:.٢٤١)، و(حقه) قال -تعالى-: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (الإسراء: ٢٦)، و(حقيق) قال -تعالى-: {حَقِيقٌ عَلَى أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (الأعراف: ١٠٥)، كما أن كلمة الحقُّ مِن أسماء الله -تعالى-، فيوصف الله -عز وجل- بأنه الحق؛ لأنَّ ُوجُوده ثابِت لا مِريَة فيه، وأفعالُه صِدق لا مُعقِّبَ لَها ولا مُستَدرك، قال -تعالى-: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (الأنعام: ٦٢).
    الحق صفة من صفات الله عزوجل
    وكما قيل إنه صفة من صفاته -عز وجل-، قال الشيخ عبدالرحمن السعدي- رحمه الله- في تفسيره، «إن الله هو الحق في ذاته وصفاته، فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به. فهو الذي لم يزل ولا يزال بالجلال والجمال والكمال موصوفا، ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفا.
    فقوله حق، وفعله حق، ولقاؤه حق، ورسله حق، وكتبه حق، ودينه هو الحق، وعبادته وحده لا شريك له هي الحق، وكل شيء ينسب إليه فهو حق، قال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (الحج: ٦٢) وقال -تعالى-: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: ٢٩)، وقال -تعالى-: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (يونس: ٣٢)، وقال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء: ٨١).
    لفظ (الحق) في القرآن الكريم
    ولفظ (الحق) ورد في القرآن الكريم على معان عدة وصور مختلفة، وفي مواضع عدة نذكر منها: ما جاء بمعنى الله -سبحانه وتعالى-، من ذلك قوله -تعالى-: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (المؤمنون: ٧١)، قال مجاهد وغيره: «الحق هو الله -عز وجل-»، وجاء بمعنى القرآن الكريم، من ذلك قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} (الأنعام: ٥)، قال البغوي وغيره: «القرآن ونحوه قوله -تعالى-: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} (الزخرف: ٢٩) يعني: القرآن، وقاله الشوكاني وغيره، وجاء بمعنى دين الإسلام، من ذلك قوله -تعالى-: {وقل جاء الحق} (الإسراء: ٨١)، قال القرطبي: «أي الإسلام» ونحوه قوله -سبحانه وتعالى-: {ليحق الحق ويبطل الباطل} (الأنفال: ٨)، قال القرطبي:» أي: يظهر الإسلام»، كما جاء الحق بمعنى الإنجاز والتأكيد، من ذلك قوله -تعالى-: {وعدا عليه حق} (التوبة:١١١) أي: ما قضى به -سبحانه وتعالى- أمر كائن لا بد منه، ولا محيد عنه فهو واقع لا محالة، ونحوه قوله -سبحانه وتعالى-: {وكان وعد ربي حقا} (الكهف: ٩٨). قال ابن كثير: «أي كائناً لا محالة».
    وجاء بمعنى الحاجة، من ذلك قوله -تعالى-: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} (هود:٧٩) أي: ليس لنا فيهن حاجة، كما جاء بمعنى العدل، من ذلك قوله -تعالى-: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (النور: ٢٥)، قال ابن كثير: «أي: وعده ووعيده وحسابه هو العدل، الذي لا جور فيه»، وقوله -تعالى-: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (غافر:٢٠).
    الحق بمعنى التوحيد
    وجاء الحق بمعنى التوحيد، من ذلك قوله -تعالى-: {فعلموا أن الحق لله} (القصص: ٧٥). قال ابن كثير: «أي: لا إله غيره»، ونحوه قوله -سبحانه وتعالى-: {له دعة الحق} (الرعد: ١٤)، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: «لا إله إلا الله»، وقال الطبري: «عنى بالدعوة الحق، توحيد الله، وشهادة أن لا إله إلا الله».

    محمد مالك درامي


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,561

    افتراضي رد: حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية

    حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية
    (3) أركان الحق وأقسامه في الفقه الإسلامي






    إن الإسلام عقيدة وشريعة، هو دين الله الحق الذي ارتضاه لعباده المؤمنين؛ فهو نظام دين ودنيا، ينظم علاقة المسلم بربه، وبمجتمعه، وينظم حال الجماعة المسلمة بما يصلح حالها، ويضمن الاستقرار اللازم لها لقيام مجتمع آمن يلتزم أفراده فيه أمر ربه، ولقد كان الإسلام سباقًا إلى تقرير حقوق الإنسان، وشرع تشريعات تعلي من قيمة الإنسان وحقوقه المتمثلة في المساواة والحرية والعدل؛ لذلك نستعرض في هذه السلسلة حقوق الإنسان التي أقرتها الشريعة الإسلامية وسبقت بها الأمم كافة.
    مفهوم الحق في السنة النبوية
    استعملت كلمة الحق في السنة النبوية الشريفة في مواطن عدة، منها ما ورد في حديث النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ولا وصية لوارث»، أي: إنَّ اللهَ بيَّن وحدَّد لكلِّ وارثٍ نَصيبَه مِن الميراثِ، وبين له حظه ونصيبه الذي فرض له، وفي حديث آخر» عَنْ مُعَاذٍ قَالَ بَيْنما أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ قَالَ مِثْلَهُ ثَلَاثًا هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قُلْتُ لَا، قَالَ: «حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» ثُمَّ سَارَ سَاعَةً فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ،» قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ أَلَا يُعَذِّبَهُمْ»، معنى الحق الأول، وهو حق الله على العباد، أي: حتم ولازم وواجب على العبد تجاه ربه -جل وعلا- أن يعبده ويفردوه بالعبودية ولا يشركوا به شيء، ومعنى الحق الثاني، وهو حق العباد على الله، أي: الأمر لمتحقق الثابت والخير والثواب الواقع الذي لا تردد معه، ألا يعذب من لا يشرك به شيئا.
    الحزم والاحتياط للمسلم
    وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»، قال الإمام الشافعي: «معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده» اهـ.
    وقال - صلى الله عليه وسلم -: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ «أي بمعنى فمن حكمت له بحق أو ملك أخيه المسلم وسلمته له فلا يستحله، وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: «حق على كلِّ مسلم، أَنْ يَغْتَسِلَ في كُلَّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْماً»، وقوله: (حق) بمعنى: ثابت ولازم. (على كل مسلم).
    أبغض الناس إلى الله ثلاثة
    وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه»، يُخبرُ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحَديثِ أنَّ أبغضَ النَّاسِ إلى اللهِ ممَّنْ هوَ من جملةِ المسلمِينَ ثلاثةٌ: من هؤلاء الثلاثة، «مَطلَبُ دمِ امرئٍ بغيرِ حقٍّ لِيُهَريقَ دمَه»، أي: ومَنْ يجتهدْ في السَّعيِ لِطلبِ قتلِ امرئٍ مُسلمٍ وإراقةِ دمِه بغير حقٍّ. فالقتل بغير حق مذموم لكونه ظلمًا، وهي جريمةٌ كبرى.
    أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ
    وعن عبد الله بن عباس - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد قال: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعليك تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ؛ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ»، هذا الحديثُ مِن الأدعيةِ الجوامع الَّتي كان يدعو بها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قام مِن اللَّيل يتهجَّدُ، والتهجُّدُ هو التيقُّظُ والسَّهرُ بعد نَومةٍ مِن اللَّيل، ولَمَّا كان القائمُ يُصلِّي باللَّيل متيقِّظًا ساهرًا، سُمِّيَت الصَّلاةُ صلاةَ التهجُّد، والمُصلِّي مُتهجِّدًا، فكان - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «اللَّهمَّ لك الحمدُ، أنتَ قيِّمُ السَّمواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ...إلى أن قال» أنتَ الحقُّ»، والحقُّ اسمٌ مِن أسماء الله -تعالى-، وصفةٌ مِن صفاتِه.
    أركان الحق وأقسامه في الفقه الإسلامي
    من خلال ما سبق يظهر جليا ويتضح أن الحقوق شرعية، وأن مصدرها الله -سبحانه وتعالى-؛ مما يسمو بهذه الحقوق، ويجعلها مستمدة من العقيدة وركيزة من ركائز الإيمان، ويجعل الحفاظ عليها والدفاع عنها قربة من القربات إلى الله-عزوجل- ومن هنا يتضح أن الحق في الشريعة الإسلامية يقوم على أركان أربعة أساسية وهي: (صاحب الحق، ومن عليه الحق، ومحل الحق، ومصدر الحق).
    أركان الحق في الشريعة الإسلامية
    للحق أركان عدة يقوم عليها من عليه الحق، وهو الذي يوجب الحق ويثبته ويوجده وهو مدين به، فالفرد منا مدين بحق عبادة الله -تعالى- والتزام الطاعات، على سبيل المثال فالأركان أربعة وهي:
    - أولاً: صاحب الحق: وهو المستحق للحق، قد يكون هو الله -تعالى-، أو العبد، أو يكون الحق مشتركًا بَيْن الله وبين العبد.
    - ثانيا: من عليه الحق: وهو المدين بالحق؛ فالمكلف مدين لله بأداء الفروض الواجبة عليه من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها، والمشتري مدين بالثمن للبائع.
    - ثالثاً: محل الحق: وهو ما يتعلق به الحق، كالدار التي يملكها الإنسان، والديون التي له في ذمة الآخرين، وطاعة الله؛ فهي حقوق فعلية.
    - رابعاً: مصدر الحق: وهو المرجع الذي استُخرج منه الحق كالشريعة الإسلامية والقرآن الكريم، والسنة النبوية.
    ثانياً: أقسام الحق
    - وكما أن للحق أركانا فكذلك لها أقسام، وهي تنقسم في الشريعة الإسلامية إلى أقسام عديدة وذلك بحسب الاعتبارات المختلفة وهي كالآتي:
    - أولاً: تقسيم الحقوق باعتبار من يضاف إليها الحق (صاحب الحق): فلقد اهتم الأصوليون والفقهاء ببحث الحق وأنواعه باعتبار من يستحق الحق ويثبت له الأمر، فقسموه إلى أربعة أقسام وهي:
    أولاً: حق لله -تعالى- خالصًا
    هي ما فهم من الشرع أنه لا خيار فيها للمكلف، سواء كان الحق له معنى معقول أو غير معقول- أي غير معلوم العلة ولا يثبت بالقياس- وهي ما يتعلق به النفع العام، فلا يختص بالحق فيها أحد، وتنسب هذه الحقوق إلى الله -تعالى- تعظيما لخطرها وشمول نفعها؛ لأن الله -تعالى- يتعالى عن أن ينتفع بشيء؛ فلا يجوز أن يكون شيء حقا لله -تعالى- بهذا الوجه، بل الإضافة إليه لتشريف ما عظم خطره وقوي نفعه وشاع فضله، بأن ينتفع به الناس كافة.
    كما أنها امتثال أوامره واجتناب. وكذلك هي ما تعلق به النفع العام للعالم كله من غير اختصاص بأحد، ولا سيما الحدود التي شرعها الله، فلا يمكن إسقاطها بعفو أو صلح أو تنازل، ولا يجوز تغييرها، وتنسب هذه الحقوق إلى الله -تعالى- لعظم خطرها وشمول نفعها؛ مثاله: حرمة البيت الحرام الذي يتعلق به مصلحة المسلمين باتخاذه قبلة في صلاتهم، وكحرمة الزنا الذي تعلق به سلامة المسلمين وصيانة الأنساب، فهذه كلها حقوق لله -تعالى-؛ لأنه يقصد بها النفع للجميع؛ لذلك لا يحتاج إثباته إلى دعوى وليس للإنسان التهاون في إقامته.
    ثانيًا: محض حق العباد
    وهو ما يكون محض حق العباد فهو أكثر من أن يحصى، نحو ضمان الدية وبدل المتلفات، والمغصوب، وما أشبه ذلك مما يتعلق به مصلحة، إما مصلحة عامة أو مصلحة خاصة، ولا يقصد به في الواقع إلا الامتلاك للأفراد، أو التي تتعلق بالمصلحة الخاصة.
    لذلك فإن حق العبد ينقسم إلى قسمين:
    (1) حق الإنسان العام: وهو ما تترتب عليه مصلحة عامة للمجتمع من غير اختصاص بأحد.
    ومثاله: المرافق العامة من التعليم والقضاء ووسائل النقل والطرق والمياه والصحة، وهذه الحقوق يتولى رعايتها ولي الأمر باعتباره وكيلا عن الأمة؛ فيقوم بصيانتها والدفاع عنها ونفقتها على بيت مال المسلمين.
    (2) حق الإنسان الخاص: وهو ما تعلقت به مصلحة خاصة للفرد، ويقصد منه حماية مصلحة الشخص.
    ومثاله: حق الزوج في الطلاق، وحق الزوجة في المهر والنفقة من زوجها، وحق الشفعة، وحق تملك المشتري للمبيع، وتملك البائع للثمن، وضمان المتلفات، واستيفاء الديون، والدية، وغيرها.
    وهذا الحق قابل للإسقاط والتعويض؛ حيث يكون الخيار في استيفائه إلى المكلف نفسه؛ فإن شاء أسقطه وإن شاء استوفاه؛ لأن الإنسان يتصرف في حقه كيف شاء.
    ثالثًا: ما اجتمع فيه الحقان وحق الله غالب
    من أمثلة هذا الحق: كعدة المطلقة، فإن فيها حقاً لله وهو صيانة الأنساب عن الاختلاط، وفيها أيضاً حق للعباد وهو المحافظة على النسب، ولكن حق الله هنا هو الغالب؛ لأن في صيانة الأنساب نفعاً عاماً للجميع وهو صيانتها من الفوضى والاختلاط، وكذلك حد القذف، فإن حق الله -تعالى- فيه يتمثل في الزجر عن القذف وتطهير المجتمع من الرذيلة ما يعود بالنفع على العامة، وحق العبد فيه يتمثل في دفع العار عن المقذوف وإثبات شرفه وصيانة عرضه وبالرغم من ذلك فإن حق الله -تعالى- غالب على حق العبد، والذي يدل على ذلك أنه لو تنازل المقذوف عن حقه بعد وصول الأمر إلى القضاء فإن الحد لا يسقط بذلك.
    من أمثلة هذا الحق: حق القصاص الثابت لولي المقتول في القتل العمد؛ فإن حق الله -تعالى- فيه يتمثل في منع ارتكاب الجريمة حفاظاً على الأنفس وصيانة لحياة الناس، وحق العبد فيه يتمثل في حقه في البقاء والاستمتاع بالحياة، كما وفيه حق لأولياء المقتول تتمثل في تهدئة النفوس وجبر ما فاتهم من الانتفاع بحياة المقتول، ولكن حق العبد هنا هو الغالب؛ لأن القتل يمس بالمجني عليه أكثر مما يمس المجتمع ونظامه، وعلى ذلك لا يقتص من القاتل إلا بطلب من ولي القتيل وله أن يتنازل عن القصاص مجاناً أو بمقابل الدية.


    محمد مالك درامي


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,561

    افتراضي رد: حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية

    حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية
    (4) أبرز ضمانات حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي






    إن الإسلام عقيدة وشريعة، هو دين الله الحق الذي ارتضاه لعباده المؤمنين فهو نظام دين ودنيا، ينظم علاقة المسلم بربه، وبمجتمعه، وينظم حال الجماعة المسلمة بما يصلح حالها، ويضمن الاستقرار اللازم لها لقيام مجتمع آمن يلتزم أفراده فيه بأمر ربها، ولقد كان الإسلام سباقًا إلى تقرير حقوق الإنسان، وشرع تشريعات تعلي من قيمة الإنسان وحقوقه المتمثلة في المساواة والحرية والعدل؛ لذلك نستعرض في هذه السلسلة حقوق الإنسان التي أقرتها الشريعة الإسلامية وسبقت بها الأمم كافة، وكنا قد تكلمنا في المقال السابق مفهوم الحقوق في القرآن الكريم.
    شرع الإسلام -منذ أربعة عشر قرنا- حقوق الإنسان في شمول وعمق، وأحاطها بضمانات كافية لحمايتها، وصاغ مجتمعه على أصول ومبادئ تمكن هذه الحقوق وتدعمها، فالإسلام دين عالمي، وقد أرسل الله خاتم رسالات السماء، وأوحى بها إلى رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ليبلغها للناس كافة هداية وتوجيها، ليكفل لهم حياة طيبة كريمة، يسودها الحق والخير والعدل والسلام، فدعوته - صلى الله عليه وسلم - جاءت للناس جميعاً، قال -تعالى-: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا { (الأعراف:158).
    وقد انطلق الإسلام من قاعدة أساسية ثابتة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وهي أن أصل الإنسان واحد ومصيره واحد، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (المؤمنون: ١٢)، ومن هنا كان لزاما علينا أن نبلغ للناس جميعا دعوة الإسلام امتثالاً لأمر ربنا - سبحانه وتعالى- حينما قال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤).
    وسائل حماية هذه الحقوق
    ولم تكتف الشريعة الإسلامية بتقرير حقوق الإنسان فقط، بل جاءت بوسائل لحماية هذه الحقوق وضمان استمتاع الأفراد بها؛ حيث حددت الشريعة ثلاث جهات لتتولى القيام بهذا الدور وهي: الأفراد والجماعات والدولة.
    أولاً - من جهة الفرد
    من جهة الفرد؛ فإن مجرد قيام الفرد بواجباته التعبدية، يعد ضمانة من ضمانات حقوق الإنسان في الإسلام؛ فالمسلم ينهاه الدين عن قتل النفس بغير حق، قال -تعالى-: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (الإسراء:٣٣).
    كما ينهانا الدين عن الاعتداء على غيرنا، قال -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: ١٩٠).
    كما ينهانا كذلك على أكل أموال الناس بالباطل، قال -تعالى-: { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ١٨٨).
    القواعد الفقهية
    وهنالك الكثير من القواعد الفقهية التي تكون -في حد ذاتها- ضمانات قويـة لحقـوق الإنسان، ذكرها الفقهاء، كقاعدة: (لا ضرر ولا ضرار)؛ ففي الحديث قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر، ولا ضرار» ففي هذا الحديثِ قاعدةٌ عَظيمةٌ مِن قواعِدِ الدِّينِ والمراد بالقاعدة هنا: إن الشريعة تنفي الضرر والإفساد سواء على النفس أم على الآخرين، وذلك يكون بمنع وجوده أصلًا، أو برفعه وإزالته بعد وجوده. وقاعـدة: (الاضطرار لا يبطل حق الآخر) فهاتان القاعدتان يبينان -على سبيل المثال لا الحصر- منع الفرد من الاعتداء على حقوق الآخرين وحرياتهم، وإن الضرورة التي تبيح المحظور لا تبطل حق المضرور في التعويض؛ وعليه فإن قيام المسلم بأدائه لأمور دينه فيه تكريس وضمان وحماية لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية؛ لأن هذه الحقوق جزء من العقيدة وليست مجرد قوانين وأفكار جميلة يشجع الناس على القيام بها.
    ثانياً- من جهة الجماعة
    أما دور الجماعة في حماية حقوق الإنسان، فيتمثل في واجبها في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يقول -تعالى-: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤).
    ثالثاً- من جهة الدولة
    أما دور الدولة الإسلامية في حماية حقوق الإنسان فيكمن في تميز الإسلام بوجود ثلاثة أنظمة قضائية متوازية تحمي الحقـوق والحريات العامة للإنسان وتتمثل هذه الأنظمة في:
    1- القضاء العادي
    ويتميز القضاء في الإسلام بالعدالة المطلقة يقول -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: ٨)، والعدل في الإسلام فريضة واجبة؛ فالشريعة الإسلامية كفلت للإنسان حقوقه عن طريق ضمانها لوحدة القانون المطبق على الجميع دون أي نوع من التفرقة أو التمايز بين الناس؛ فالشريعة لم تفرق بين الناس في العدل، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول في الحديث التي روته السيدة عائشة- رضي الله عنها-:» وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
    -2 ولاية المظالم
    والمظالم يقصد بها عند فقهاء المسلمين ظلم أصحاب النفوذ في الدولة لأفراد المجتمع، أو هو ظلم الولاة والجباه والحكام للرعية، وقضاء المظالم يختص بتلقي الشكاوى من أفراد الرعية الذين انتهكت حقوقهم وحرياتهم في مواجهة ظالميهم من أصحاب النفوذ، يقول ابن خلدون في مقدمته: (إن التظلم في المظالم وظيفة ممتزجة بين سطوة السلطة ونصف القضاء).
    3- نظام الحسبة
    والحسبة ولاية دينية أساسها الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله، ويعد نظام الحسبة من القضاء المتخصص؛ لأنه يجمع في آن واحد بين أنظمة القضاء والمظالم والشرطة؛ إذ يختص المحتسب بالفصل في المنازعات الظاهرة التي لا تحتاج إلى أية أدلة لإثباتها كما يملك سلطة تأديب من يجاهر علناً بارتكاب المعاصي.
    أهم ضمان لحماية
    حقوق الإنسان
    وفي ختام هذا المبحث يتضح أن أهم ضمان لحماية حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي هي الضمانات الدينية، التي يقصد بها: الضمانات التي انفرد بها التشريع الإسلامي، ولها أثر كبير في حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ولا نجد لها نظيرا في التشريعات الوضعية الحديثة لافتقارها إلى النظم التي يمتلكها الإسلام، التي بها يبني النفس الإنسانية من الداخل بناء إيمانيا أخلاقيا، وهو إقرار مبدأ المسؤولية الفردية، وتأتي في طليعة هذه الضمانات، التي تعتمد مبدأ المسؤولية الشخصية لتكوين مواطن صالح عن طريق التربية والتثقيف والإعلام، ومن ثم الضمانات الأخلاقية التي تبنى على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما يعرف بنظام الحسبة وهي إحدى الولايات العامة في الدولة الإسلامية.
    تكوين الإنسان الصالح
    ومن المهم الإشارة إلى أن النظـــــم الوضعية قد غفلت عن شيء مهم ضـــروري في حمايـــــة الحقوق والحريات، وهو تكوين الإنسان الصالح، الذي يعرف حق ربه عليه فيؤديه، ويعرف حقوق العباد فيحترمها ويحافظ عليها، والإنسان الذي يحسن اختيار ممثليه إذا كان منتخباً، ويحسن تمثيل منتخبيه إذا كان نائباً، ويحسن القيام بأمانة المسؤولية إذا كان حاكماً، ودون هذا الإنسان الصالح لا تراعى حقوق ولا حريات، ولا تصلح دول ولا مجتمعات، وما غفلت أو عجزت عنه النظم الوضعية كان هو أول ما يعنى به النظام الإسلامي؛ فأجهزة هذا النظام كلها في جوانب التربية والتثقيف والإعلام والتوجيه والتشريع والتنظيم تقوم على أساس تكوين الإنسان الصالح.
    الضمائر الحية والقلوب المؤمنة
    ومن هنا نجد أن النظام الإسلامي في سبيل حماية الحقوق والحريات لا يعتمد على سيف السلطان وسوط القانون، ورقابة الدولة فحسب، كما هو الشأن في النظم الوضعية، إنما يعتمد بجوار ذلك على الضمائر الحية والقلوب المؤمنة التي تستجيب لأوامر الشارع، وتنتهي عن محذوراته، وغني عن البيان أن الالتزام بالحقوق والحريات المنبعث من النفس ابتداء، أجدى على المجتمع من الالتزام بقوة القانون من غير اعتماد على الإيمان والضمير الديني؛ لأن ما يبنى على القانون قد يوجد في النفس ما يسوغ مخالفته، أما ما يعتمد على الضمير الديني أولاً ثم على القانون ثانيًا فإن الإنسان المؤمن يطيعه على أنه من أمر الله الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة النفوس وما تخفي الصدور.

    محمد مالك درامي


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,561

    افتراضي رد: حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية

    حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية (5)
    خصائص حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي ومميزاتها



    إن الإسلام عقيدة وشريعة، هو دين الله الحق الذي ارتضاه لعباده المؤمنين فهو نظام دين ودنيا، ينظم علاقة المسلم بربه، وبمجتمعه، وينظم حال الجماعة المسلمة بما يصلح حالها، ويضمن الاستقرار اللازم لها لقيام مجتمع آمن يلتزم أفراده فيه بأمر ربها، ولقد كان الإسلام سباقًا إلى تقرير حقوق الإنسان، وشرع تشريعات تعلي من قيمة الإنسان وحقوقه المتمثلة في المساواة والحرية والعدل؛ لذلك نستعرض في هذه السلسلة حقوق الإنسان التي أقرتها الشريعة الإسلامية وسبقت بها الأمم كافة، وكنا قد تكلمنا في المقال السابق مفهوم الحقوق في القرآن الكريم.
    إن الإسلام -عقيدة وشريعة- هو دين الله الحق الذي ارتضاه لعباده المؤمنين؛ فهو نظام دين ودنيا، ينظم علاقة المسلم بربه، وبمجتمعه، وينظم حال الجماعة المسلمة بما يصلح حالها ويضمن الاستقرار اللازم لها لقيام مجتمع آمن يلتزم أفراده فيه بأمر ربه، ولقد كان الإسلام سباقًا إلى تقرير حقوق الإنسان، وشرع تشريعات تعلي من قيمة الإنسان وحقوقه المتمثلة في المساواة والحرية والعدل؛ لذلك نستعرض في هذه السلسلة حقوق الإنسان التي أقرتها الشريعة الإسلامية وسبقت بها الأمم كافة، وكنا قد تكلمنا في المقال السابق عن أبرز ضمانات حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي، واليوم نتكلم عن خصائص حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي ومميزاتها.
    لقد سبق الإسلام المواثيق الدولية والقوانين الوضعية كافة في الاعتراف بحقوق الإنسان، وشدد على ضرورة حمايتها وحفظها ورعايتها على مفهوم: الشريعة أساس الحق، وليس الحق أساس الشريعة، وقرر ذلك جليا قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، كما بين الإسلام مقاصد الشريعة الإسلامية بأنها تقوم على حماية حياة الإنسان ودينه وعقله وماله وأسرته.
    حقوقٌ أصيلة
    فحقوق الإنسان في الإسلام هي حقوقٌ أصيلة تثبت للإنسان بمجرّد خروجه وليداً إلى هذه الحياة الدّنيا، وبصفته إنساناً، ومن ثم هي ليست حقوقا مكتسبة، بمعنى أنّ الإنسان يكتسبها بسبب لونه، أو جنسه، أو عرقه، أو دينه، فلكلّ النّاس حقوقهم المعتبرة والأصيلة في الحياة والكسب الطيب، والحريّة الشّخصيّة، وحقّ التّملك والتّصرف في الأموال والأملاك وغير ذلك من الحقوق.
    واقعنا المعاصر
    بينما نرى في واقعنا المعاصر أنّ كثيراً من الدّول التي تبنّت مواثيق حقوق الإنسان قد ظلمت الإنسان كثيراً في تاريخها حينما حرمته من أبسط حقوقه في الحياة، وما الوثائق والصكوك الدولية التي يتباهى بها الغرب حول حقوق الإنسان إلا وليدة هذه العصور الحديثة، وكان أهمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي لم يصدر إلا في 10/12/1948م، ومثال على الظلم والتعسف، في واقعنا المعاصر استعباد الغرب لذوي الأصول الإفريقيّة عندما دخلوا تلك البلاد مستعمرين.
    خصائص حقوق الإنسان في الإسلام ومميزاتها
    لحقوق الإنسان في الإسلام خصائص ومميزات لا توجد في الاتفاقيات والصكوك الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، ومن أهم هذه الخصائص ما يأتي:
    أولاً: منح إلهية منحها الله لخلقه
    إن حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية منحها الله لخلقه، فهي ليست منحة من مخلوق لمخلوق مثله، يمن بها عليه ويسلبها منه متى شاء، أو قرار صادرا عن سلطة أو منظمة دولية، بل هي حقوق ملزمة، قررها الله للإنسان، فلا تقبل الحذف ولا النسخ ولا التعطيل، ولا يسمح بالاعتداء عليها، ولا يجوز التنازل عنها.
    ثانياً: حقوق تنبثق من العقيدة الإسلامية
    إن حقوق الإنسان في الإسلام تنبعُ- أصلاً- من العقيدة، ولا سيما من عقيدة التوحيد، ومبدأ التوحيد القائم على (شهادة أن لا إله إلا الله) هو منطلقُ كل الحقوق والحريات؛ لأن الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد- خلق الناس أحراراً، ويريدهم أن يكونوا أحراراً، ويأمرهم بالمحافظة على الحقوق التي شرعها والحرص على الالتزام بها، ثم كلفهم- شرعاً- بالجهاد في سبيلها والدفاع عنها، ومنع الاعتداء عليها وهذا ما تكرَّر في القرآن الكريم في آيات القتال والجهاد، قال -تعالى-:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: ١٩٠ ).
    ثالثا: حقوق شاملة لكل أنواع الحقوق
    إن حُقُوق الإنسان في الإسلام شاملة لكل أنواع الحقوق الدينية والبدنية والمدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما أن هذه الحقوق عامة لكل الناس، دون تمييز بينهم بسبب اللون أو الجنس أو اللغة، وكلها قائمة على العدل والحكمة، والمصلحة والرحمة.
    رابعا: حقوق ثابتة
    لا تقبل الإلغاء
    أو التبديل أو التعطيل
    من خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أنها كاملة وغير قابلة للإلغاء أو التبديل مع تغير الزمان وتبدل الظروف والأحوال؛ لأنها جزء من الشريعة الإسلامية، فإن وثائق البشر قابلة للتعديل والإلغاء مهما جرى تحصينها بالنصوص، والجمود الذي فرض على الدساتير لم يحمها من التعديل بالأغلبية الخاصة، وقضى الله أن يكون دينه خاتم الأديان وأن يكون رسول الله خاتم النبيين؛ ومن ثم فما جاء في كتاب الله وسنة رسوله فهو باق ما دامت السماوات والأرض.
    خامسا: حقوق مقيدة بعدم التعارض مع الشريعة
    ومن خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أنها ليست مطلقة، بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية، ومن ثم بعدم الإضرار بمصالح الجماعة التي يعد الإنسان فرداً من أفراده.
    سادسا: مقدّمة على حقوق بقيّة المخلوقات
    لقد أولت الشّريعة الإسلاميّة الإنسان الاهتمام الكبير باعتباره أهمّ مخلوقٍ على وجه هذه الأرض، فهو المستخلف الشّرعي فيها، وهو مناط التّكليف، وهو منفّذ حكم الله -تعالى- في الأرض، وقد أكّد القرآن الكريم على هذه الحقيقة في قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً} (الإسراء: ٧٠).
    سابعا: حقوق الغاية منها تكريم للإنسان
    الشريعة الإسلامية لم تحافظ على حقوق الإنسان فحسب، بل تجاوزتها إلى ما هو أهم وأسمى، وأعظم إكراماً للإنسان وأكثر إعزازًا له، ألا وهو تقرير كرامة الإنسان، وتفضيله على سائر الحيوان، وإسباغ النعم عليه، وتسخير ما في السماوات والأرض له، يقول -تعالى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً} (الإسراء:٧٠).
    إذا فحقوق الإنسان في الإسلام تنبع من التكريم الإلهي للإنسان بالنصوص الصريحة، وهو جزء من التصور الإسلامي والعبودية لله -تعالى- وفطرة الإنسان التي فطره الله عليها.
    وحقوق الإنسان في الإسلام تقوم على مبدأين أساسيين هما، مبدأ المساواة بين كل بني الإنسان، ومبدأ الحرية لكل البشر، ويؤسس مبدأ المساواة على قاعدتي وحدة الأصل البشري، وشمول الكرامة الإنسانية لكل البشر.


    محمد مالك درامي

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,561

    افتراضي رد: حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية

    حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية (6)
    أســس حقــوق الإنســان في الإسلام





    لقد كان الإسلام سباقًا إلى تقرير حقوق الإنسان، وشرع تشريعات تعلي من قيمة الإنسان وحقوقه المتمثلة في المساواة والحرية والعدل؛ لذلك نستعرض في هذه السلسلة حقوق الإنسان التي أقرتها الشريعة الإسلامية، وسبقت بها الأمم كافة، وكنا قد تكلمنا في المقال السابق عن أبرز ضمانات حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي، واليوم نتكلم عن خصائص حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي ومميزاته.
    وتقوم حقوق الإنسان في الإسلام على أربعة أسس نذكرها فيما يلي:
    الأساس الأول: وحدانية الله -تعالى
    إن الإيمان بالله -سبحانه وتعالى- هو الأصل الأول من أصول الإيمان، بل هو الأصل الأصيل الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض، وخلق الجنة والنار، ونصب الميزان وضرب الصراط، وخلق لذلك كل الناس كما قال -سبحانه-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: ٥٦)، كما أنها هي القاعدة التي تقوم عليها المسؤولية الفردية وهو أصل كل القيم والعلاقات الإنسانية. إن الإيمان بذلك المفهوم للأخلاقيات -باعتبارهما منبثقة من مصدر إلهي وسوف تلقي جزاءها ثواباً وعقاباً يَرْسَخُ- مفهوم هذه الأخلاقيات.
    الله -تعالى- مصدر كل السلطات
    والحق-سبحانه- وتعالى- مصدر كل السلطات، والكون كله خلقاً وتدبيراً يشهد بوحدانية الله، فالناس كلهم وجدوا من خالق واحد هو الله –سبحانه وتعالى-، فمبدؤهم منه خلقاً، ونهايتهم إليه بعثاً وحساباً، قال -تعالى-: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (الروم: ١١)، وقال كذلك: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف: ٥٤)، وعلى هذا فإن مصدر التشريع ابتداء من الله -تعالى-، ويستطيع الإنسان أن يضع القوانين بشرط أن يكون موافقاً مع أصول التشريع الإسلامي الرباني ومصادره ، قال -تعالى-: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف: ٤٠).
    بهذا المفهوم يكون إثراء الحقوق في الإسلام، ولتكون مستوعبة لكل ما يجدُّ حول هذه الحقوق، فوحدانية الله-سبحانه وتعالى- هي أساس التفكير الإسلامي؛ لأن التوحيد عظيم الفائدة للبشرية جمعاء؛ فهو يجمع البشر حول عقيدة واحدة، وفي هذا جمع لشمل البشرية جمعاء، والمحافظة على كرامتهم؛ وبذلك يتحرر الفكر الإنساني من الخضوع لغير الله.
    الأساس الثاني: الوحدة الإنسانية
    البشر جميعاً ينحدرون من أصل، واحد كما دل على ذلك الكتاب والسنة، ومن يستعرض آيات القرآن الكريم في ذلك الصدد يجد أن الناس في الأصل أمة واحدة، خُلِقُوا من نفس واحدة هو التراب قال -تعالى-: لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (نوح: ١٧)، فمنها نشؤوا وانتشروا في أرجائها، وحينما اختلف الناس عبر التاريخ البشري أرسل الله إلى كل أمة رسولاً، يدلهم على طريق الله المستقيم، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (النحل:٣٦ ).
    وقد قرر الإسلام أن الناس كلهم ولدوا من أب واحد هو آدم -عليه السلام- وأمهم حواء -عليها السلام-، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء:١)، وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الأعراف: ١٨٩)، وقال -تعالى-: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (الزمر: ٦)، وفي السنة، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله -عزوجل- قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، والناس بنو آدم، وآدم من تراب».
    الناس في الأصل أمة واحدة
    فالأدلة السابقة تدل على أن الناس في الأصل أمة واحدة، أبوهم واحد وهو آدم -عليه السلام-، وأمهم واحدة وهي زوج آدم حواء -عليها السلام-، وكل البشر خُلِقُوا من ذكر وأنثى ليتعارفوا فيما بينهم، قال -تعالى-:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ( الحجرات: ١٣)، وفي دين الإسلام، كلنا في الإنسانية متساوون، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أبيض، إلا بالتقوى، هذا ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع : «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى».
    وهذه المساواة في القيمة الإنسانية المشتركة التي تعتمد على الأصل الواحد، والنسب الواحد لا يتصور في أحد من بني الإنسان أن يولد مميزاً على غيره، كما يقضي على أسباب التعصب والتعالي على الآخر، ومن خلال هذه الرؤية يُنتقص من حقوق الآخرين، وهكذا تنشأ الكراهية، والصراعات بين الناس، وتنحدر الإنسانية من المستوى الرفيع الذي أراده الله -تعالى- لها إلى شريعة الغاب.
    الأساس الثالث: الدعوة إلى مكارم الأخلاق
    مَن تأمَّلَ آيات القرآن، وأَمعَن فيها النظر، ظهر له أمور ومجالات مِن دعوة القرآن، فمِن ذلك: دعوة القرآن إلى مكارم الأخلاق ومعاليها، ووجوب التحلِّي بها، ونهيه للمخالفين للفضائل وأصولها، وما ذلك إلا لكون الأخلاق ميزانًا شرعيًّا يُهَذِّب الإنسان، ويرقى به إلى مدارج الإنسانيَّة الفاضلة، فالدعوة إلى مكارم الأخلاق في الإسلام دعوة أصيلة في عقيدة التوحيد، بل إنها نابعة من تلك العقيدة، فعدم الاستجابة لدعوة التوحيد يعني التولي عن مكارم الأخلاق والإفساد في الأرض، قال -تعالى-: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (محمد: ٢٢).
    مكارم الأخلاق هي دعوة النبيين
    ومكارم الأخلاق هي دعوة النبيين أجمعين، وكل نبي ساهم في بناء هذا الصرح الأخلاقي الشامخ، ولذلك حق للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول «بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ»، وتتعدى مكارم الأخلاق لبني الإنسان لتشمل غير البشر من الكائنات الحية يقول - صلى الله عليه وسلم -: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» ، هذا هو معنى الإحسان الذي جاء به الإسلام، والدعوة إلى مكارم الأخلاق توجد مجتمعاً فاضلاً منظماً يحكم بقواعد إسلامية منضبطة نابعة من أصل هذا الدين القيم، وهذه القواعد تبدو في الأسرة وفي الجماعات، وفي الدول، وفي العلاقات الإنسانية بين الناس مهما اختلفت ألوانهم وأجناسهم وأديانهم.
    المحافظة على كرامة الإنسان
    وتتلخص هذه القواعد في المحافظة على كرامة الإنسان والعدالة والتعاون العام والمودة والرحمة والإنسانية والمصلحة ودفع الفساد في الأرض، ومكارم الأخلاق وما ينبثق عنها من سلوكيات ترتبط بالحقوق، يجعلها ديننا الحنيف ميثاقاً مع الله -سبحانه وتعالى- يجب الوفاء بها، ولا يجوز انتهاكها بأي حال من الأحوال تحت أي ظرف مهما كانت الذرائع.
    وقد امتدح الله -تعالى- رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - بحسن الخلق فقال -تعالى-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)، وعندما سئلت السيدة عائشة - رضي الله عنها- عن خلقه - صلى الله عليه وسلم - قالت: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» فكان - صلى الله عليه وسلم - مطبقاً للقرآن في واقع الحياة، وهو بذلك كان أحسن الناس خلقاً؛ لأنه أكملهم إيماناً، وهو القائل عندما سئل من قبل الأعرابي أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ:» أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا».
    والإيمان هو أقوى محرك للأخلاق الكريمة والسلوك الصحيح القويم؛ فالرحمة، والمودة، والمروءة، والنجدة، والصدق، والعفة والتسامح، والتكافل، والوفاء، والتواضع، والصبر كل ذلك عنوان على صدق الإيمان في النفس الإنسانية، ودون صدق الإيمان تصبح الأخلاق لفظاً لا مفهوم له.
    الأساس الرابع: الإنسان في هذا الدين مكرم أعظم تكريم
    إن أبرز شيء في هذا الدين العظيم أنه إنساني الطابع، وأن الإنسان في هذا الدين مكرم أعظم تكريم، فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق متميز، مكرم ميزه الله وكرمه، وفضله على كثير من خلقه، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: ٧٠) والتكريم الإلهي للإنسان، سبق ذكر بعضها، فالشريعة الإسلامية لا تقرر للفرد المسلم حقوقا أكثر من غيره بمقتضى إنسانيته، بل لأمر آخر لإسلامه أو إيمانه أو تقواه، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: ١٣).



    محمد مالك درامي


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •