اتساع المعاني المختزلة في تركيب الأداة لكن
لا يُنظر إلى النص إلا من خلال ما يستهدفه وصولا إلى الفكرة والمقصود؛ وتكثيف ذلك الحس على شكل أدوات لغوية، لذا فإن تذوق قيمة البلاغة في نص ما؛ يعتمد على ما تحتويه بعض الألفاظ من مكنون يختفي خلف حروفها؛ لا يَظهر المرادُ منه إلا بالترابط بين الجملة الواحدة؛ واستخلاص المعنى المقصود وانتزاعه من بين ما خفي؛ سواء في اجتماع تلك الحروف؛ لتكوين كلمة، أو بين اجتماع تلك الكلمات لتكوين جملة. ولا شك ان اختيار اللغة العربية لغة للقران الكريم(1) يمنحها رفعة وسموا، خصوصا مع عالمية الدعوة التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم. ولعل ذلك(2) يتكأ على وجودية الحياة التي تتغلغل في الحروف اجتماعا؛ وحيوية الترابط في الجملة الواحدة، وفيما بين الجمل كوحدة موضوعية، وهذه الحيوية هي التي تكون قرينة وصارف يصرف المعنى الى ما هو اهم مما يظهر لمتلقي النص ويشده الى التحيز التام للمعنى المرجو من تآلف تلك الحروف وتراكيبها بحروف قليلة مع اتساع المعنى.
والشاهد في عمارة اللغة مع قلة الحروف واتساعها في المعنى؛ تلك الحروف التي اصطلح -نحويا- على تسميتها بحروف المعاني، وهي حروف مشبهة بالفعل؛ أي: هي التي تختزل -مع قلة حروفها- معان كثيرة داخلها اذا استعملت ضمن الجملة الواحدة، أي: أنها تكون دالة على معنى في غيرها، تنتج في سياق الجملة. فكل تعبير يحمل في طياته دلالة بلاغية.
وقد تكلمنا كثيرا عن الدلالات البلاغية في معرض حديثنا عن جماليات بلاغة القرآن الكريم، وقد شدني في هذه المرة دلالة تنسيب الحكم في ادة -او حرف- "لكن". والحكم الناشئ في النصوص الأدبية من عناصر البلاغة التي يعتمد عليها في الاتصال بين المتلقي والنص.
وكون "لكن" للاستدراك يعني مخالفة حكم ما قبلها لحكم ما بعدها وهذا يستدعي وجود طرفين نقيضين احدهما مثبت والآخر منفي، وهذا هو: قيد الاستدراك؛ وإلا فإنه لا يستقيم استعمالها في وجود توافق بين الحكمين.
ان عظم الأداة اللغوية يكمن فيما تحمله من أسرار جمالية يستهدفها النص للوصول الى الفكرة، فالمحتوى الداخلي للأداة يتحدد من خلال السياق.
لقد ظهر للنحاة باستقراء هذه الاداة - لكن-، انها تختزل مضامين بلاغية تنشأ عن تشبهها بالفعل، واتخاذ لبوسا منه؛ لا ينفك عنها يتجلى في عدة أفعال: - وهذا كما ترى تعبيرا عن دلالة التضمين للأدوات-:
استدرك
أؤكد
أنفي حكم ما قبلها وأثبت حكم جديدا ومخالفا بعدها
اعتذر عن بيان قصر في الفهم
انسب حكما مناقضا لما جاء قبلها
اتساع المعاني المختزلة في تركيب الأداة "لكن"
نفي ورفع ما يتوهم ثبوته وتحققه، وإثبات ما يتوهم نفيه ، أي: رفع توهم تولد من كلام سابق
اسْتِدْرَاكُ مَا فَاتَ او ما فـُوّت
نقص معنوي ينشأ عن قصر في الفهم والادراك
تُثبِت لما بعدها حُكمًا مخالفًا لحكم ما قبلها
عطف وتأكيد لما بعدها
فهي -لكن- : حرف مشبه بالفعل من حروف المعاني الرباعية حيث ان أصَلها لاكن فالالف بها تحذف كتابة وخطًّا وتؤكد لفظا وقولا، وقولنا للاستدراك يعني بالضرورة أنه لا يصح بها صدارة الجملة والابتداء بها، كونها حالة تتوسط طرفي نقيض؛ أي: لنفي ما قبلها وتثبيت ما بعدها؛ لذا فإن ما بعدها مترتب على ما قبلها، فلا تقع إلا بين متنافيين؛ أو متغايرين؛ وإن كانت حالة التوافق تجمعهما لم يجز، بإجماع علماء النحو. قال الزمخشري: لكن للاستدراك، توسطها بين كلامين متغايرين، نفياً وإيجاباً. فتستدرك بها النفي بالإيجاب، والإيجاب بالنفي.
وتجد قوة تركيب (لكن) إذا حللناها لأصولها -على اعتبار انها مركبة- فستجد انها اتخذت معان نتيجة من اتحاد عناصر :
النفيٍ: ومسوغه عنصر (لا) فهي تنفي اخبارا متقدم
تاكيد وتثبيت (النون) بمنزلة (إن) الخفيفة أو الثقيلة(3)، إلا أن الهمزة حذفت منها استثقالاً؛ فهي -إن- تُثبت خبراً متأخراً
من أحكامها :
لكنْ خفيفة وثقيلة حرف عطف للاستدراك والتحقيق يوجب بها بعد نفي
تعمل عمل إن تنصب الاسم وترفع الخبر
ويستدرك بها بعد النفي
من حيث التركيب:
<ul> مذهب البصريين: «لكن» بسيطة. وهو حرف نادر البناء، قال ابن يعيش: وألفه أصل،
مذهب الكوفيين: «لكن» مركبة وأصلها (إن) وأضيف لها (لا) و (ك) وتم حذف همزة (إن) ، ومسوغ ذلك في مذهبهم دخول اللام في خبره، كما تدخل في خبر إن؛ والشاهد: قول الشاعر : (ولكنني من حبها لعميد)(4)
مذهب السهلي : إنها مركبة من (لا) و(كأن)، والكاف للتشبيه، وأن على أصلها. ومسوغ ذلك وقوعها بين كلامين، من نفي لشيء، وإثبات لغيره
</ul> والخفيفة لا تعمل وتكون حرف ابتداءٍ، خلافا للأخفش، لدخولها بعد التخفيف على الجُملتين: الاسميَّة والفعليَّة.
لَكِنْ : الخفيفةً بأصل الوضع، فإن ولِيَها جملةٌ فهي حرفُ ابتداءٍ لمجرد إفادة الاستدراك وليست عاطفة
لكنْ : يجوزُ أَن تستعمل مع الواو
لَكِنَّ : حرف ناسخ ينصب الاسم ويرفع الخبر، وهو أن تُثبِت لما بعدها حُكمًا مخالفًا لحكم ما قبلها، ولذلك لا بدَّ أَن يتقدَّمها
<ul> كلامٌ مناقضٌ لما بعدها
أو ضدٌّ له
</ul> قيل: أن الأصل أن تاتي للتوكيد لأنها من أخوات انَّ، ويصحب التوكيد معنى الاستدراك وهذا اختيار ابن عصفور رحمه الله
قال تعالى:{وَاعْلَمُ وا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ}
قال الفراء: مُرَكَّبة من لكن وأنْ، فطُرِحَت الهمزةُ للتخفيف.
إذا اتَّصلت به (ما) الموصولة فلا تكفُّه عن العمل بخلاف (ما) التي تدخل على ان فهي تكف عمل ان وتصبح في معنى الحصر.(5)
تتقاطع (لكن) مع الاستثناء المنقطع، اذ تحمل بطياتها استثناءً منقطع وهو: الذي المستثنى فيه ليس من نوع المستثنى منه
حَرْفُ عَطْفٍ، وَتَكُونُ خَفِيفَةً مِنْ أَصْلِهَا، يُعْطَفُ بِهَا بَعْدَ النَّفْيِ وَالنَّهْيِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفُهَا مُفْرَداً وَلاَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا الْوَاوُ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ لاَ يَدْخُلُ عَلَى مِثْلِهِ: "لَمْ أَخْرُجْ صَبَاحاً لَكِنْ مَسَاءً".
أمثلة مستوحاة معاني اداة لكن:
{ وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم (الأحزاب:5)}
{لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (البقرة:225)}
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة:260) }
{وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (الرعد:1)}
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (يونس:104)}
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ (آل عمران:179)}
قال رسول الله: (يا أسَدُ بْنَ كُرْزٍ ! لا تدخلُ الجنةَ بعملٍ، ولكن برحمةِ الله، [ قلتُ : ولا أنتَ يا رسول الله ؛ قال: ] ولا أنا؛ إلا أن يتلافاني الله، أو يتغمدني [ الله ] منه برحمةٍ ) (أخرجه البخاري في "التاريخ " (1/2/49) وصححه الالباني في الصحيحة)
قال رسول الله: (لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه ، و لكن افسحوا يفسح الله لكم )(أخرجه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2 / 483 )
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: قلت يا رسول الله، ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال:(«لَكِنَّ أَحْسَنَ الجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الحَجُّ، حَجٌّ مَبْرُورٌ»(مسلم: 1861)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما منكم من أحد الا وقد وكل به قرينة من الجن وقرينة من الملائكة قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي لكن الله أعانني عليه فاسلم فلا يأمرني الا بخير) رواه أحمد في المسند : 3648 ، 3779 ، 3802 ، 4392 تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم
قال صفوان بن عسال عن الرسول أنه كان يأمرنا إذا كنا في سفر - أو مسافرين - أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن ـ إلا من جنابة ـ لكن من غائط وبول ونوم( حسنه الالباني في الإرواء ( 104 )
يتبع