تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 34 من 34

الموضوع: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,774

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (21) الأرواح جنـــود مجنـــدة


    د.وليد خالد الربيع



    يجد الإنسان نفسه - أحياناً - متوافقا مع بعض الناس، منسجما معهم، مرتاحا لهم، أفكارهم متشابهة، وأسلوبهم متماثل. في حين أنه يجد نفسه مع آخرين منقبضا عنهم ، مجانبا لهم، مبغضا للاجتماع معهم، حتى إنه ليؤثر الانفراد على الاختلاط بهم، ويفضل الوحدة على صحبتهم، من غير سبب يذكر، ولا عيب يظهر، وإذا سئل عن سبب اعتزاله لأولئك الرهط، ومفارقته لذلك المجلس أجاب معللا ذلك بقوله: «الأرواح جنود مجندة؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
    وأصل هذه المقولة حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به عَنْ عَائِشَةَ ر ضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَ[ يَقُولُ: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
    وأخرجه مسلم مسندا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله[ قال: «الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»، وفي لفظ آخر: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
    قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث: «قال الخطابي: يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد, وأن الخيِّر من الناس يحنّ إلى شكله، والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر, فإذا اتفقت تعارفت, وإذا اختلفت تناكرت.
    ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجسام, وكانت تلتقي فتتشاءم, فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم.
    وقال غيره: المراد أن الأرواح أول ما خلقت خلقت على قسمين, ومعنى تقابلها أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت أو اختلفت على حسب ما خلقت عليه الأرواح في الدنيا إلى غير ذلك بالتعارف.
    قلت -القائل ابن حجر-: ولا يعكر عليه أن بعض المتنافرين ربما ائتلفا؛ لأنه محمول على مبدأ التلاقي, فإنه يتعلق بأصل الخلقة بغير سبب، وأما في ثاني الحال فيكون مكتسبا لتجدد وصف يقتضي الألفة بعد النفرة كإيمان الكافر وإحسان المسيء.
    وقوله: «جنود مجندة» أي أجناس مجنسة أو جموع مجمعة, قال ابن الجوزي: «ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم, وكذلك القول في عكسه».

    وقال القرطبي: «الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحا لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها, فتتشاكل أشخاص النوع الواحد وتتناسب بسبب ما اجتمع فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة؛ ولذلك نشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر , وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها .»اهـ كلام ابن حجر .
    وقال النووي في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة»: قال العلماء: معناه جموع مجتمعة، أو أنواع مختلفة، وأما تعارفها فهو لأمر جعلها الله عليه، وقيل: إنها موافقة صفاتها التي جعلها الله عليها، وتناسبها في شيمها، وقيل: لأنها خلقت مجتمعة، ثم فرقت في أجسادها؛ فمن وافق بشيمه ألفه، ومن باعده نافره وخالفه.
    وقال الخطابي وغيره : تآلفها هو ما خلقها الله عليه من السعادة، أو الشقاوة في المبتدأ، وكانت الأرواح قسمين متقابلين، فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت واختلفت بحسب ما خلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار، والأشرار إلى الأشرار، والله أعلم «اهـ.
    ويعلل أبو حاتم البستي في (روضة العقلاء)سبب ائتلاف الناس وافتراقهم بعد القضاء السابق بأنه تعارف الروحين، وتناكر الروحين، فإذا تعارف الروحان وجدت الألفة بين نفسيهما، وإذا تناكر الروحان وجدت الفرقة بين جسميهما.
    ونقل عن مجاهد قال: رأى ابن عباس رضي الله عنها رجلا فقال: «إن هذا ليحبني» قالوا: وما علمك؟ قال: «إني لأحبه، والأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
    وذكر عن قتادة في قوله عز وجل: {إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}، قال: «للرحمة والطاعة، فأما أهل طاعة الله فقلوبهم وأهواؤهم مجتمعة، وإن تفرقت ديارهم، وأهل معصية الله قلوبهم مختلفة ، وإن اجتمعت ديارهم».

    ويبين أبو حاتم خطورة هذا التماثل والتقارب بين المتشابهين من الناس وأثر ذلك على دين الشخص وسلوكه فيقول: «إن من أعظم الدلائل على معرفة ما فيه المرء من تقلبه وسكونه، هو الاعتبار بمن يحادثه ويوده؛ لأن المرء على دين خليله، وطير السماء على أشكالها تقع، وما رأيت شيئا أدل على شيء، ولا الدخان على النار، مثل الصاحب على الصاحب، ونقل عن هبيرة أنه قال: اعتبر الناس بأخدانهم، أي: قس الناس بأصدقائهم، وذكر عن الإمام مالك أنه قال: «الناس أشكال كأجناس الطير؛ الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبط مع البط، وكل إنسان مع شكله».
    قال أبو حاتم: «العاقل يجتنب مماشاة المريب في نفسه، ويفارق صحبة المتهم في دينه؛ لأن من صحب قوما عرف بهم، ومن عاشر امرأ نسب إليه، والرجل لا يصاحب إلا مثله أو شكله، فإذا لم يجد المرء بدا من صحبة الناس تحرّى من زانه إذا صحبه، ولم يشنه إذا عرف به».
    ويقرر أبو حاتم أن ما قد يجده المرء في نفسه من اتفاق أو افتراق قد يؤكده الواقع بعد حينٍ حينَ تنجلي الأمور وتتكشف الحقائق فيقول: «إن من الناس من إذا رآه المرء يعجب به، وإذا ازداد به علما ازداد به عجبا، ومنهم من يبغضه حين يراه، ثم لا يزداد به علما إلا ازداد له مقتا ، فاتفاقهما باتفاق الروحين قديما، وافتراقهما يكون بافتراقهما».

    وأخيرا، مع تسليمنا بدلالة هذا الحديث إلا أن الشرع يؤكد على ضرورة مصاحبة الأخيار، ولزوم اجتناب الفجار، فكون المرء يميل إلى الأشرار ويبغض الأخيار ليس مبررا لما يتبع ذلك من مخالفات شرعية؛ لأنه مأمور بالصبر على صحبة الأخيار كما قال عز وجل: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,774

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (22)العطاء شرف والأخذ ألم

    د.وليد خالد الربيع




    هذه المقولة الموجزة تقرر واقعا ثابتا، وتوضح جانبا اجتماعيا يلاحظه المتأمل في أحوال الناس، فبعض الناس جبل على العطاء، وحبب إليه البذل، فهو كثير الأيادي، جمّ الإفضال؛ لذا فهو محبوب عند الناس، ذو شرف ومنزلة عندهم، كما قال علي ]: «من آتاه الله منكم مالا فليصل به القرابة، وليحسن فيه الضيافة، وليفك فيه العاني والأسير وابن السبيل والمساكين والفقراء وليصبر فيه على النائبة؛ فإنه بهذه الخصال ينال كرم الدنيا وشرف الآخرة»، وقال أبو حاتم البستي: «أجود الجود من جاد بماله، وصان نفسه عن مال غيره، ومن جاد ساد، كما أن من بخل رذل».

    ومصداق هذا قوله [: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، قال المناوي: «يعني المنفقة أفضل من الآخذة، أي ما لم تشتد حاجته»، وسئل الحسن عن معنى الحديث فقال: «يد المعطي خير من يد المانع».

    وفي المقابل يوجد في بعض الناس شره إلى المكاسب، وتشوف إلى ما في أيدي الناس، فتراه واسع الأطماع، كثير المراغب، لم يقنع بما رزقه الله تعالى، ولم يرض بما أعطاه مولاه، تجاوز طموحه حدود قدراته، وأراد الغنى على حساب غيره، فيعمل على الإثراء بالسؤال والاستجداء، دون أن يسعى في حرفة أو يتعاطى صنعة، وهذا مخالف لما تقرره الشريعة الغراء من ضرورة العمل والاكتساب، وحرمة المسألة والتكثر بغير حق.

    قال عز وجل: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا}.

    قال ابن كثير: أَيْ: لا يُلِحُّونَ فِي الْمَسْأَلَة وَيُكَلِّفُونَ النَّاس مَا لا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغنِيه عَنْ الْمَسْأَلَة فَقَدْ أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَة ، وفي حديث قبيصة ابن المخارق ] أن النبي [ قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل لأحد إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة. فحلت له حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا»، أخرجه مسلم.

    وعن أبي كبشة الأنماري ] أنه سمع النبي [ يقول: «ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه» قال: «ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر»، أخرجه الترمذي.

    قال المباركفوري: «(ولا فتح) أي على نفسه (باب مسألة) أي سؤال للناس (إلا فتح الله عليه باب فقر) أي: باب احتياج آخر وهلم، أو يكون سلب عنه ما عنده من النعمة فيقع في نهاية من النقمة كما هو مشاهد»، اهـ.

    عن حكيم بن حزام ] قال: سألت النبي [ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «إن هذا المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى»، أخرجه مسلم.

    قال النووي: «قال العلماء: إشراف النفس: تطلعها إليه وتعرضها له وطمعها فيه، وأما طيب النفس فذكر القاضي فيه احتمالين:

    أظهرهما: أنه عائد إلى الآخذ، ومعناه: من أخذه بغير سؤال ولا إشراف وتطلع بورك له فيه، والثاني: أنه عائد إلى الدافع، ومعناه: من أخذه ممن يدفع منشرحا بدفعه إليه طيب النفس، لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس الدافع.

    وفي هذا الحديث الحث على التعفف والقناعة، والرضا بما تيسر في عفاف وإن كان قليلا، والإجمال في الكسب، وأنه لا يغتر الإنسان بكثرة ما يحصل له بإشراف ونحوه فإنه لا يبارك له فيه»، اهـ.

    عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي [ قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم» متفق عليه، قال النووي: «المزعة بضم الميم وإسكان الزاي: أي قطعة، قال القاضي: قيل معناه: يأتي يوم القيامة ذليلا ساقطا لا وجه له عند الله، وقيل هو على ظاهره، يحشر ووجهه لا لحم عليه عقوبة له وعلامة بذنبه حين طلب وسأل بوجهه، كما جاءت الأحاديث الأخرى بالعقوبات في الأعضاء التي كانت بها المعاصي، وهذا فيمن سأل لغير ضرورة سؤالا منهيا وأكثر منه، كما في الرواية الأخرى: «من سأل تكثرا».

    وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» أخرجه مسلم، قال النووي: «قال القاضي: معناه أنه يعاقب بالنار، ويحتمل أن يكون على ظاهره، وأن الذي يأخذه يصير جمرا يكوى به، كما ثبت في مانع الزكاة».

    وسمع عمر ] سائلا يسأل بعد المغرب، فقال لواحد من قومه: عشّ الرجل، فعشاه، ثم سمعه ثانيا يسأل، فقال: ألم أقل لك عشّ الرجل؟ قال: قد عشيته. فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا، فقال: لست سائلا ولكنك تاجر. ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة، وضربه بالدرة وقال: «لا تعد».

    وقال أبو حاتم البستي في «روضة العقلاء»: «العاقل لا يسأل الناس شيئا فيردوه، ولا يلحف في المسألة فيحرموه، ويلزم التعفف والتكرم، ولا يطلب الأمر مدبرا، ولا يتركه مقبلا؛ لأن فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وإن من يسأل غير المستحق حاجة حطّ لنفسه مرتبتين، ورفع المسؤول فوق قدره».


    والخلاصة أن البذل والعطاء شرف ورفعة، وهذا ما دل عليه اللغة والسنة، ففي اللغة الشرف هو المكان العالي، قال ابن فارس: «الشرف: العلو، والشريف: الرجل العالي»، اهـ.


    وفي الحديث قال [: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، فيفهم منه أن اليد المعطية يد شريفة عالية؛ فحري بالمسلم أن يحرص على هذا الفضل بأن تكون يده عليا بالخير.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,774

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (23)

    ومـا أكـثـر النـــــاس ولــو حرصـت بمؤمنيـن


    هذه الآية الكريمة من سورة يوسف عليه السلام تقرر حقيقة شرعية، وسنة إلهية وهي أن أهل الحق أقل من أهل الباطل، وأن الغالب على الناس الجحود والكفر، والقليل منهم من يهتدي للحق ويقوم به، قال الشاطبي: «وهذه سنة الله في الخلق; أن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل؛ لقوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} ، وقوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور}، ولينجز الله ما وعد به نبيه [ من عود وصف الغربة إليه، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم، وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا، وتصير السنة بدعة والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف، كما كان أولا يقام على أهل البدعة»اهـ.
    وقال الشيخ ابن سعدي: «يقول تعالى لنبيه محمد [ {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانهم {بِمُؤْمِنِينَ} فإن مداركهم ومقاصدهم قد أصبحت فاسدة، فلا ينفعهم حرص الناصحين عليهم ولو عدمت الموانع، بأن كانوا يعلمونهم ويدعونهم إلى ما فيه الخير لهم، ودفع الشر عنهم، من غير أجر ولا عوض، ولو أقاموا لهم من الشواهد والآيات الدالات على صدقهم ما أقاموا».اهـ.
    ومن الآيات المقررة لهذه الحقيقة قوله تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}، قال ابن كثير:» يُخْبِر تَعَالَى عَنْ حَال أَكْثَر أَهْل الْأَرْض مِنْ بَنِي آدَم أَنَّهُ الضَّلال كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلهمْ أَكْثَر الْأَوَّلِينَ} وَهُمْ فِي ضَلَالهمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِين مِنْ أَمْرهمْ وَإِنَّمَا هُمْ فِي ظُنُون كَاذِبَة وَحُسْبَان بَاطِل {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} فَإِنَّ الْخَرْص هُوَ الْحَزْر وَمِنْهُ خَرْص النَّخْل وَهُوَ حَزْر مَا عَلَيْهَا مِنْ التَّمْر وَذَلِكَ كُلّه عَنْ قَدَر اللَّه وَمَشِيئَته .
    قال الشيخ ابن سعدي:» يقول تعالى لنبيه محمد [، محذرا من طاعة أكثر الناس: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فإن أكثرهم قد انحرفوا في أديانهم وأعمالهم وعلومهم. فأديانهم فاسدة، وأعمالهم تبع لأهوائهم، وعلومهم ليس فيها تحقيق، ولا إيصال لسواء الطريق. بل غايتهم أنهم يتبعون الظن، الذي لا يغني من الحق شيئا، ويتخرصون في القول على الله ما لا يعلمون، ومن كان بهذه المثابة، فحري أن يحذِّر الله منه عبادَه، ويصف لهم أحوالهم؛ لأن هذا – وإن كان خطابا للنبي [ - فإن أمته أسوة له في سائر الأحكام، التي ليست من خصائصه.
    ودلت هذه الآية، على أنه لا يستدل على الحق بكثرة أهله، ولا تدل قلة السالكين لأمر من الأمور أن يكون غير حق، بل الواقع بخلاف ذلك؛ فإن أهل الحق هم الأقلون عددا، الأعظمون -عند الله- قدرا وأجرا، بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل، بالطرق الموصلة إليه».اهـ.
    وقد جاء في الحديث قوله «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء «أخرجه مسلم، قال النووي:»قال القاضي: وظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ» اهـ.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فوائد هذا الحديث: «لا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا يجوز تركه - والعياذ بالله - بل الأمر كما قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
    ولا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا أن المتمسك به يكون في شر، بل هو أسعد الناس، كما قال في تمام الحديث:»فطوبى للغرباء {وطوبى من الطيب، قال تعالى: «طوبى لهم وحسن مآب}، فإنه سيكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبا، وهو أسعد الناس، أما في الآخرة فهم أعلى الناس درجة بعد الأنبياء عليهم السلام، وأما في الدنيا فقد قال تعالى: {يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} أي:إن الله حسبك وحسب متبعك».
    وقال: «وكما أن الله نهى نبيه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام أول الأمر، فكذلك في آخره، فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم أو يكون في ضيق من مكرهم، وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكلّ وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر {إن وعد الله حق} وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار».
    قال:»وهذا الحديث يفيد المسلم أنه لا يغتم بقلة من يعرف حقيقة الإسلام، ولا يضيق صدره بذلك، ولا يكون في شك من دين الإسلام، كما كان الأمر حين بدأ، قال تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك} إلى غير ذلك من الآيات والبراهين الدالة على صحة الإسلام.»اهـ.
    ويوضح الإمام ابن القيم الغربة الممدوحة بأنها: «غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله [ أهلها، وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ «غريبا» وأنه»سيعود غريبا كما بدأ» وأن «أهله يصيرون غرباء «.
    وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه»الغربة»هم أهل الله حقا؛ فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسول الله [، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه.
    ومن صفات هؤلاء الغرباء: التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد، وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا، وأكثر الناس - بل كلهم - لائم لهم «اهـ.
    ويقسم ابن رجب الغرباء الممدوحين إلى قسمين: أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يصلح ما أفسد الناس من السنة، قال: «وهو أعلى القسمين».


    اعداد: د.وليد خالد الربيع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,774

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (24)

    الخير عادة والشر لجاجة




    من القضايا الفلسفية القديمة البحث في النفس البشرية, وهل الأصل فيها الخير والشر طارئ ؟ أم العكس الذي يقول إن الشر متأصل في نفس الإنسان والخير طارئ؟
    والذي تدل عليه النصوص الشرعية أن الإنسان مهيأ لقبول الخير والشر بما خلق الله تعالى فيه من الإرادة والقدرة والاختيار كما قال تعالى:{وهديناه النجدين}، قال الشيخ ابن سعدي: «أي طريقي الخير والشر، بينا له الهدى من الضلال والرشد من الغي»، وقال القاسمي: «أي أودعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر، وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاما تدله عليهما، ثم وهبنا له الاختيار، فإليه أن يختار أي الطريقين شاء»اهـ.
    وقال: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} قال القاسمي: «أي سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك، أي: عرّفناه وبينا له ذلك بأدلة العقل والسمع» اهـ.
    ومع ذلك فإن الله تعالى من رحمته فطر الإنسان على حب الخير والميل إليه وتفضيله على الشر كما قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
    قال ابن سعدي: «يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال وإقامة دينه فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أي: انصبه ووجّهه إلى الدين الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها، وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.وهذا الأمر الذي أمرناك به هو {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ووضع في عقولهم حسنها واستقباح غيرها؛ فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم الميل إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة، ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي [: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»اهـ.
    وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ[ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: «أَلاَ إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلاَلٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُم ْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا». أخرجه مسلم
    قال النووي: قوله تعالى: {وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ} أي مسلمين، وقيل:طاهرين من المعاصي، وقيل: مستقيمين منيبين لقبول الهداية.
    وقوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَاجْتَالَتْهُم ْ عَنْ دِينِهِمْ» أي: استخفوهم فذهبوا بهم، وأزالوهم عما كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطل»اهـ.
    وقال الطاهر بن عاشور: «وإذ قد كانت نفوس الشياطين داعية إلى الشر بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير، ولكنه معرض لوسوسة الشياطين، فيقع في شذوذ عن أصل فطرته، وفي هذا ما يكون مفتاحا لمعنى كون الناس يولدون على الفطرة، وكون الإسلام دين الفطرة، وكون الأصل في الناس الخير».
    وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّه ِ[: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» متفق عليه.
    قال النووي: «والأصح أن معناه: أن كل مولود يولد متهيئا للإسلام فمن كان أبواه أو أحدهما مسلما استمر على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في أحكام الدنيا، وهذا معنى يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، أي:يحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن بلغ استمر عليه حكم الكفر ودينهما، فإن كانت سبقت له السعادة أسلم وإلا مات على كفره» اهـ.
    والفطرة في اللغة: من فطر بمعنى شق، وانفطر وتفطر: انشق، وتأتي بمعنى خلق يقال: فطر الله الخلق، أي: خلقهم وأنشأهم، والفطرة: الابتداء والاختراع والخلق، ومنه قوله تعالى: {الحمد لله فاطر السموات والأرض}.
    قال القرطبي: «الفطرة هي الخلقة التي خلق الله عليها المولود في المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة».
    ومن هنا يأتي هذا الحديث ليؤكد هذا الأصل، ويحث الناس على الاستكثار من الخير والتعود على فعله حتى يصير سجية في النفس وعادة في الطبع، فعن ‏معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-عن رسول الله [ «‏‏إنه قال ‏ ‏الخير ‏ ‏عادة ‏ ‏والشر ‏ ‏لجاجة، ‏ومن يرد الله به خيرا ‏ ‏يفقهه في الدين» أخرجه ابن ماجه، وفي رواية أن معاوية -رضي الله عنه- قال: «عَوِّدُوا أَنْفُسَكُمُ الْخَيْرَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ[ يَقُولُ: «الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
    واللجاجة في اللغة بمعنى التردد وعدم الثبات، قال ابن فارس: «اللام والجيم أصل صحيح يدل على تردد الشيء بعضه على بعض، وترديد الشيء، يقال: لجلج الرجل المضغة في فيه إذا رددها ولم يسغها، ويقولون:في فؤاد فلان لجاجة، وهو أن يخفق لا يسكن من الجوع».
    قال السندي في شرحه: «‏أَي الْمُؤْمِن الثَّابِت عَلَى مُقْتَضَى الْإِيمَان وَالتَّقْوَى يَنْشَرِح صَدْره لِلْخَيْرِ فَيَصِير لَهُ عَادَة، وَأَمَّا الشَّرّ فَلَا يَنْشَرِح لَهُ صَدْره فَلَا يَدْخُل فِي قَلْبه إِلَّا بِلَجَاجَةِ الشَّيْطَان وَالنَّفْس الْأَمَارَة،وَه َذَا هُوَ الْمُوَافِق لِحَدِيثِ: «دَعْ مَا يَرِيبك إِلَى مَا لَا يَرِيبك وَالْإِثْم مَا حَاكَ فِي صَدْرك وَإِنْ أَفْتَاك الْـمَفْتُون». وَالْمُرَاد أَنَّ الْخَيْر مُوَافِق لِلْعَقْلِ السَّلِيم، فَهُوَ لا يَقْبَل إِلا إِيَّاهُ وَلا يَمِيل إِلا إِلَيْهِ، بِخِلافِ الشَّرّ فَإِنَّ الْعَقْل السَّلِيم يَنْفِر عَنْهُ وَيُقَبِّحهُ.
    وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد بِالْخَيْرِ وَالشَّرّ الْحَقّ وَالْبَاطِل، وَلِلْحَقِّ نُور فِي الْقَلْب يَتَبَيَّن بِهِ أَنَّهُ الْحَقّ، وَلِلْبَاطِلِ ظُلْمَة يَضِيق بِهَا الْقَلْب عَنْ قَبُوله؛ فَلا يَدْخُل فِيهِ إِلا بِتَرَدُّدٍ وَانْقِبَاض لِلْقَلْبِ عَنْ قَبُوله، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِق لِلْمَثَلِ الْمَشْهُور: «الْحَقّ أَبْلَجُ وَالْبَاطِل لجلج» مِنْ غَيْر أَنْ يَنْفُذ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا بَيَان مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُون الْمُؤْمِن عَلَيْهِ، أَيْ اللَّائِق بِحَالِهِ أَنْ يَكُون الْخَيْر عَادَته وَالشَّرّ مَكْرُوهًا لَا يَدْخُل عَلَيْهِ إِلَّا لِلَّجَاجَةِ»اه ـ.
    فعلى المسلم أن يتحرى الخيرات ويستكثر منها حتى يعتاد عليها ، ويعرف بها، ويألفها فيموت عليها ويختم له -بإذن الله- بخاتمة السعداء، كما عليه أن ينفر من الشرور والآفات، ويتباعد عنها، حتى يقوى في قلبه إنكارها ويزيد بغضها، ويفر منها ومن أهلها، فيكون كما أراده الله تعالى من عباده المخلِصين المخلـَصين، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,774

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (25)

    «إذا اشتريت اليوم ما هو كمالي تبيع غدا ما هو ضروري».



    هذه الكلمة الحكيمة تتناول سلوكا اجتماعيا منتشرا في مجتمعاتنا - وللأسف - وهو الرغبة في الشراء والتملك دون ضوابط شرعية أو معايير اقتصادية؛ مما يعود بالآثار السلبية على الأفراد والأسر والمجتمعات.
    فسوء تنظيم الإنسان لأموره المالية، وعدم كبح جماح طموحاته الاجتماعية يدفعانه إلى التمادي في الاستهلاك والاقتراض، وكثير من الآباء والأمهات لا يرفضون لأولادهم طلبا لكيلا يشعروهم بالنقص مع أقرانهم، في حين أنه من أساسيات التربية تنشئة الأبناء على التفريق بين ما يحتاجون إليه وما يريدونه؛ ليميزوا بين الحاجيات والكماليات، وما يلزم تحقيقه وما يمكن تأجيله، ليغرسوا هذا المبدأ في أبنائهم في المستقبل.
    كما أن حب التقليد والمحاكاة للطبقات الغنية، من التفاخر والمباهاة بالمقتنيات، وتقييم الإنسان من خلال لباسه وسيارته وبيته وأثاثه وقيمة مقتنياته، والتركيز على المظاهر الجوفاء دون المعاني والقيم والمبادئ من أسباب تفشي هذه الظاهرة.
    وللإعلام دور خطير في غرس هذا النمط الاستهلاكي عند الناس، فمن الأصول التسويقية: إن استطعت إقناع الزبون بشراء سلعتك مع أنها أكثر تكلفة من مثيلاتها فأنت مروج ناجح، أما إذا أقنعته بشرائها مع أنه لا يحتاجها فأنت أكثر نجاحا، أما أكثر المروجين نجاحا فهو الذي يقنع عميلا بشراء سلعة أكثر تكلفة وهو لا يحتاجها ولا يملك ثمنها.
    أما آثار هذا السلوك فهي عديدة، منها:
    1- الذل والهم : الذي يخيم على نفوس كثير من أرباب الأسر بسبب الديون والأقساط، وقد كان النبي[ يستعيذ بالله من الجبن والبخل ومن غلبة الدين وقهر الرجال؛ لما يترتب على ذلك من آثار نفسية عميقة، ومشكلات صحية وأمراض مزمنة.
    2- كثرة السؤال: انتشر بين الناس كثرة السؤال المكروه شرعا كما جاء في الحديث: «وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»، وقال[: «من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمر جهنم فليستقل منه أو ليستكثر» أخرجه مسلم، وقال[: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح» قيل: وما الغنى؟ قال:«خمسون درهما أو قيمتها من الذهب»أخرجه أحمد والأربعة.
    3- عدم القناعة بما قسم الله عز وجل للعبد من رزق فيتطلع إلى ما ليس في وسعه ولا استطاعته، ويسعى لمحاكاة الآخرين بالديون والأقساط، وقد حثنا الدين على القناعة فقال [: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» أخرجه مسلم.
    4- كثرة المشكلة الأسرية: إما بسبب كثرة مطالبات الزوجة والأبناء لرب الأسرة مع ضعف إمكانياته المادية وما يتبع ذلك من مشاحنات وسوء العلاقات الأسرية، وإما بسبب تورط رب الأسرة في الديون والشيكات بغير رصيد وما يتبع ذلك من سجنه وضياع عمله وتشتت أبنائه وانحرافهم لغياب رقابة الأب عليهم.
    5- تربية الأبناء على الإسراف والبذخ والتبذير ، والظهور بمظهر الرفاهية المزيفة، فعن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت: يا رسول الله أقول إن زوجي أعطاني ما لم يعطني؟ فقال[: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» أخرجه مسلم، قال النووي: «معناه المتكثر بما ليس عنده بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده، يتكثر بذلك عند الناس ويتزين بالباطل، فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور».
    ويكمن أساس هذا السلوك الاجتماعي السلبي في غياب الوعي الشرعي بأهمية حفظ المال واستثماره وخطورة الديون وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة.
    فالشارع يقرر أن المال مال الله، ونحن مؤتمنون عليه ومسؤولون عنه كما قال تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}، وقال: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، وقال[: «نعم المال الصالح للرجل الصالح»، وقال[ لأبي ذر لما أبصر أحدا: «ما أحب أنه يحول لي ذهباً يمكث عندي مائة دينار فوق ثلاث إلا دينارا أرصده لدين» أخرجه البخاري، وقال[: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» أخرجه الترمذي.
    وقد أكد الشارع أهمية الاعتدال والتوسط في الإنفاق دون إسراف ولا بخل، فقال عز وجل: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}، قال الجرجاني: «الإسراف هو إنفاق المال الكثير في العرض الخسيس، وقيل: هو تجاوز الحد في النفقة»، وقال ابن القيم في تفسير الآية: «أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهلهم فيقصرون في حقهم، فلا يكفونهم، بل عدل خيار، وخير الأمور أوسطها».
    وقال عز وجل: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا}، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: «هم الذين ينفقون المال في غير حقه».
    وقال ابن سعدي معللا اقتران المبذرين بالشياطين: «لأن الشيطان لا يدعو إلا إلى كل خصلة ذميمة، فيدعو الإنسان على البخل والإمساك، فإذا عصاه دعاه إلى الإسراف والتبذير، والله تعالى إنما يدعو بأعدل الأمور وأقسطها ويمدح عليه كما في قوله عن عباد الرحمن الأبرار: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}، وقال هنا: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك}، كناية عن شدة الإمساك والبخل {ولا تبسطها كل البسط}، فتنفق فيما لا ينبغي، وزيادة على ما ينبغي {فتقعد} إن فعلت ذلك {ملوما} أي: تلام على ما فعلت {محسورا} أي: حاسر اليد فارغها، فلا يبقى ما في يدك من المال ولا خلفه مدح ولا ثناء»اهـ.
    وقال رسول الله[: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة» أخرجه أحمد، وقال[: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» أخرجه البخاري.
    قال الشيخ ابن سعدي: وقوله: «وإضاعة المال» وذلك إما بترك حفظه حتى يضيع، أو يكون عرضة للسراق والضياع، وإما بإهمال عمارة عقاره، أو الإنفاق على حيوانه، وإما بإنفاق المال في الأمور الضارة، أو غير النافعة، فكل ذلك داخل في إضاعة المال.قال: «وما كرهه الله لعباده، فهو يحب منهم ضدها» وذكر أنه سبحانه يحب من عباده «أن يحفظوا أموالهم ويدبروها، ويتصرفوا فيها التصرفات النافعة، ويصرفوها في المصارف النافعة»اهـ.
    ونختم بوصية نفيسة لابن الجوزي حيث يبين حال العاقل في فقره أو غناه فيقول: «العاقل يدبر بعقله معيشته في الدنيا، فإن كان فقيرا اجتهد في كسب وصناعة تكفّه عن الذل للخلق، وقلّل العلائق، واستعمل القناعة، فعاش سليما من منن الناس عزيزا بينهم، وإن كان غنيا فينبغي له أن يدبر في نفقته خوف أن يفتقر فيحتاج إلى الذل للخلق، ومن البلية أن يبذر في النفقة ويباهي بها ليكمد الأعداء، كأنه يتعرض بذلك - إن أكثر - لإصابته بالعين، وينبغي التوسط في الأحوال، وكتمان ما يصلح كتمانه، وإنما التدبير حفظ المال، والتوسط في الإنفاق، وكتمان ما لا يصلح إظهاره».


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,774

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (26)

    لا يكلف الله نفساً إلا وسعها





    هذه الآية الكريمة دليل على سعة رحمة الله تعالى بعباده، وكريم فضله وإنعامه عليهم؛ إذ إن التكاليف الشرعية والمطلوبات الدينية موضوعة على حسب القدرة والطاقة، لا تخرج عن الوسع الإنساني والجهد البشري، وذلك لرحمة الله تعالى بعباده، وعلمه بضعفهم وعجزهم، ومن هنا ندرك أن مقصود الشارع الحكيم هو التيسير على المكلفين، وأن ما تشتمل عليه التكاليف الشرعية من مشقة ليس المقصود منها المشقة ذاتها، وإنما المقصود المصالح المترتبة على تلك التكاليف، كمثل الطبيب الماهر يلزم المريض بتناول الدواء المر لا يقصد بذلك إيلامه وإنما يقصد سلامته من المرض.



    قال ابن كثير:«قَوْله: {لا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا} أَي:لا يُكَلَّف أَحَد فَوْق طَاقَته، وَهَذَا مِنْ لُطْفه تَعَالَى بِخَلْقِهِ وَرَأْفَته بِهِمْ وَإِحْسَانه إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ هِيَ النَّاسِخَة الرَّافِعَة لِمَا كَانَ أَشْفَقَ مِنْهُ الصَّحَابَة فِي قَوْله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه} أَيْ: هُوَ وَإِنْ حَاسَبَ وَسَأَلَ لَكِنْ لَا يُعَذِّب إِلَّا بِمَا يَمْلِك الشَّخْص دَفْعه، فَأَمَّا مَا لَا يَمْلِك دَفْعه مِنْ وَسْوَسَة النَّفْس وَحَدِيثهَا فَهَذَا لَا يُكَلَّف بِهِ الْإِنْسَان »اهـ.

    قال الطبري:» يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إلَّا وُسْعهَا} فَيَتَعَبَّدهَا إلا بِمَا يَسَعهَا , فَلَا يُضَيِّق عَلَيْهَا , وَلَا يُجْهِدهَا، عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله: {لا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إلَّا وُسْعهَا} قَالَ: هُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَسِعَ اللَّه عَلَيْهِمْ أَمْر دِينهمْ , فَقَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج}، وَقَالَ: {يُرِيد اللَّه بِكُمْ الْيُسْر وَلَا يُرِيد بِكُمْ الْعُسْر}، وَقَالَ: {اتَّقُوا اللَّه مَا اسْتَطَعْتُمْ}ـ.
    قال ابن سعدي: «لما نزل قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به، فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، أي: أمرا تسعه طاقتها، ولا يكلفها ويشق عليها، كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، فأصل الأوامر والنواهي أنها ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم»اهـ.
    من المعلوم أن التكليف: هو إلزام مقتضى خطاب الشرع، وشرطه العلم والقدرة، قال شيخ الإسلام: «من استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل؛ فمن كان عاجزا عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها»، فلابد من أمرين ليتحقق التكليف: الأول: التمكن من العلم، والثاني: القدرة على العمل.
    ومن الأدلة على الأمر الأول: قوله عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}، وقال عز وجل: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، قال شيخ الإسلام: بين سبحانه أنه لا يعاقب أحداً حتى يبلغه ما جاء به الرسول، ومن علم أن محمدا رسول الله فآمن بذلك ولم يعلم كثيرا مما جاء به الرسول، لم يعذبه الله على ما لم يبلغه، فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان بعد البلوغ فأنه لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلوغ أولى وأحرى. وقال: فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيء معين لم يثبت حكم وجوبه عليه.
    ومن الأدلة على الأمر الثاني: قوله عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقال عز وجل: {لا نكلف نفسا إلا وسعها}، قال شيخ الإسلام: «تضمن ذلك أن جميع ما كلفهم به أمرا ونهيا فهم مطيقون له قادرون عليه وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون، وتأمل قوله {إلا وسعها} كيف تجد تحته أنهم في سعة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق ولا حرج ومشقة؛ فإن الوسع يقتضي ذلك، فاقتضت الآية أن ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر عليهم ولا ضيق ولا حرج».
    فالذي يظهر لنا أن المشقة التي اشتملت عليها التكاليف الشرعية مشقة معتادة محتملة، كتلك التي يحتملها الناس عند القيام بمصالحهم الحياتية كالدراسة والعمل ونحوهما من مشاق مألوفة معتادة، فمشقة التكاليف الدينية ليست مشقة خارجة عن قدرتهم، ولا هي مشقة عظيمة ترهقهم وتثقل عليهم، فالشارع الحكيم يريد التخفيف عن العباد ورحمتهم والرفق بهم، فمشقة التكاليف معتادة محتملة.
    ومن هنا نقرر أنه ليس للمكلف أن يقصد إلى المشقة من حيث هي مشقة يريد أن يرهق نفسه يظن أن الأجر على قدر المشقة لأنه بذلك يخالف مقصود الشارع من تشريع الأحكام التكليفية، ولم يفرق بين المشقة العارضة والمشقة المقصودة، فالمشقة من حيث هي مشقة ليست مقصودة، وإنما إذا عرضت المشقة له أثناء امتثاله فصبر عليها فهنا يقال: الأجر على قدر المشقة، كمن صام رمضان في الصيف الحار، أو توضأ بالماء البارد الذي لا يجد ما يسخنه به، فهنا المشقة عارضة وليست لازمة، بدليل أن رمضان قد يأتي بالشتاء، وماء الوضوء يمكن أن يسخن لدفع برده.
    ولهذا كان النبي[ يمنع أصحابه من قصد المشقة لذاتها لأن ذلك ليس مقصودا للشارع، فقد قال [: «عليكم من الأعمال ما تطيقون» فإن الله لا يمل حتى تملوا»، وحين قالت له عائشة رضي الله عنها: هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل، فقال [: «لا تنام الليل ! خذوا من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا»، وفي حديث أنس قال: دخل رسول الله [ المسجد وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا؟ قالوا: حبل لزينب، تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال: «حلوه! ليصلّ أحدكم نشاطه, فإذا كسل أو فتر قعد»، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَيْنَا النَّبيُّ [ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: «أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِلَّ، وَلا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ ، وَلْيَسْتَظِلَّ ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ».
    وعن عقبة بن عامر رضي الله عنها سأل النبي [ عن أخت له نذرت أن تحج ماشية غير مختمرة، فقال: «مروها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام» وفي رواية: «إن الله غني عن مشي أختك؛ فلتركب ولتهد بدنة»، وفي رواية أخرى:«إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا، لتحج راكبة ثم لتكفر يمينها‏».
    وعَنْ أَنَسٍ أن النَّبِيِّ [ رأى شيخا يهادى بين ابنيه فقال‏:‏ «ما بال هذا‏؟»‏ قالوا‏:‏ نذر أن يمشي‏»،‏ قَالَ:» إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ ‏»‏ وأمره أن يركب.


    فالخلاصة أن رحمة الله تعالى واسعة تجلت في خلقه وشرعه، فعلى المكلف أن يدرك هذه الرحمة، ويشكر ربه عليها، ويعمل بها وفق المقاصد الشرعية، دون إفراط ولا تفريط، ولا مخالفة لمقاصد الشارع ولا أحكامه، وبالله التوفيق.



    اعداد: د.وليد خالد الربيع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,774

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (27)

    رحم الله عبدا قال فغنم أو سكت فسلم



    نعمة الكلام والإبانة عن المراد من أجلّ النعم التي امتن الله تعالى بها على عباده وميزهم بها عن البهائم كما قال تعالى: {الرحمن. علم القرآن . خلق الإنسان . علمه البيان}.
    قال ابن كثير:» يُخْبِر تَعَالَى عَنْ فَضْله وَرَحْمَته بِخَلْقِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى عِبَاده الْقُرْآن وَيَسَّرَ حِفْظَهُ وَفَهْمَهُ عَلَى مَنْ رَحِمَهُ، ثم نقل عن الْحَسَن تفسير قوله {علمه البيان} قال: يَعْنِي النُّطْق، وَقَالَ الضَّحَّاك وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا: يَعْنِي الْخَيْر وَالشَّرّ وَقَوْل الْحَسَن هَاهُنَا أَحْسَن وَأَقْوَى لِأَنَّ السِّيَاق فِي تَعْلِيمه تَعَالَى الْقُرْآن وَهُوَ أَدَاء تِلَاوَته، وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ بِتَيْسِيرِ النُّطْق عَلَى الْخَلْق وَتَسْهِيل خُرُوج الْحُرُوف مِنْ مَوَاضِعهَا مِنْ الْحَلْق وَاللِّسَان وَالشَّفَتَيْنِ عَلَى اِخْتِلاف مَخَارِجهَا وَأَنْوَاعهَا.».
    ويرى الطبري أن البيان أشمل من مجرد النطق فقال: «وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَال: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّه عَلَّمَ الْإِنْسَان مَا بِهِ الْحَاجَة إِلَيْهِ مِنْ أَمْر دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِنَ الْحَلال وَالْحَرَام, وَالْمَعَايِش وَالْمَنْطِق, وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا بِهِ الْحَاجَة إِلَيْهِ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَخْصُصْ بِخَبَرِهِ ذَلِكَ, أَنَّهُ عَلَّمَهُ مِنَ الْبَيَان بَعْضًا دُون بَعْض , بَلْ عَمَّ .»اهـ.
    قال الطاهر بن عاشور: «{علمه البيان} خبر ثالث تضمن الاعتبار بنعمة الإبانة عن المراد والامتنان بها بعد الامتنان بنعمة الإيجاد، أي علم جنس الإنسان أن يبين عما في نفسه ليفيد غيره ويستفيد هو. والبيان: الإعراب عما في الضمير من المقاصد والأغراض وهو النطق، وبه تميز الإنسان عن بقية أنواع الحيوان فهو من أعظم النعم.
    ومعنى تعليم الله الإنسان البيان: أنه خلق فيه الاستعداد لعلم ذلك»اهـ.
    ومن يتأمل في أحوال الناس يجد أن في كثير منهم حب الكلام والاستكثار منه فيما ينفع وفيما لا ينفع، فيما يعلم وفيما يجهل فيما يهمه وفيما لا يعنيه ، بل إن بعضهم قد اتصف ببعض الصفات المقيتة كما قيل: فلان متشدق، ثرثار، مهذار، غث المنطق، تافه الكلام، يتمنطق بالهراء، ويتنطع بفضول القول، ويتكثر بلغو المقال، إذا تكلم انصرفت عنه الوجوه، وأعرضت عنه القلوب، وانقبضت منه الصدور، وسئمته النفوس.
    ولهذا نجد النصوص الشرعية والآداب الدينية تقرر فضيلتين لا غنى للمسلم عنهما، وهما؛ إما النطق بخير أو الصمت وحفظ اللسان، فعن أبي هريرة ] أن رسول الله [ قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت» متفق عليه.
    قال النووي: «معناه: أنه إذا أراد أن يتكلم؛ فإن كان ما يتكلم به خيرا محققا يثاب عليه؛ واجبا أو مندوبا، فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام، سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح مستوي الطرفين، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورا بتركه، مندوبا إلى الإمساك عنه مخافة انجراره إلى المحرم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرا أو غالبا، وقد قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.
    ونقل عن القشيري أنه قال: «الصمت بسلامة هو الأصل ، والسكوت في وقته صفة الرجال، كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال»اهـ.
    وقال [ : «رحم الله عبدا قال خيرا فغنم, أو سكت عن سوء فسلم» حسنه الألباني، وهو ظاهر الدلالة في تقرير هذا الأصل الكريم في قول الخير أو السكوت والصمت.
    والنصوص الشرعية التي تقرر خطر اللسان كثيرة مما يدل على فضل الصمت وقلة الكلام ، منها قول النبي [ : «إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب». متفق عليه، قال النووي: «معناه: لا يتدبرها ويفكر في قبحها، ولا يخاف ما يترتب عليها، وهذا كله حث على حفظ اللسان».
    عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال [ : «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك»، وقال سفيان بن عبد الله:قلت: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال [ :»قل: ربي الله، ثم استقم»، قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال:»هذا».
    وقد تتابع العلماء من الصحابة ومن بعدهم على الحث على حفظ اللسان والصمت عن السوء، قال أبو الدرداء:» أنصف أذنيك من فيك، فإنما جُعل لك أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تتكلم»، وقال ابن مسعود: «والله الذي لا إله إلا هو، ليس شيء أحوج إلى طول حبس من لساني»، وكان يقول: «يا لسان قل خيرا تغنم ، واسكت عن شر تسلم، من قبل أن تندم»، وقال أبو الدرداء: «لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين: منصت واع ٍ، أو متكلم عالم»، وقال الأوزاعي: «ما بلي أحد في دينه ببلاء أضر عليه من طلاقة لسانه».
    وما أحسن نصيحة أبي حاتم البستي حين قال :«الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في حفظ اللسان حتى يستقيم له؛ إذ اللسان هو المورد للمرء موارد العطب، والصمت يكسب المحبة والوقار، ومن حفظ لسانه أراح نفسه، والرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، والصمت منام العقل، والمنطق يقظته»اهـ
    ولا يخفى أن الجدل والاعتراض والنقاش العقيم بين الناس سبب لكثير من البغضاء والخصومات ، فبعض الناس هوايته الجدل وإجبار الناس على قبول رأيه ، ومتعته في تسفيه آراء الآخرين، في حين أن الأمر واسع واختلاف وجهات النظر فيما يتسع فيه المجال للتنوع ليس مبررا للخصومة والجدل؛ فاحفظ للجليس كرامته باحترام رأيه وليس من الضرورة أن توافقه، فالصمت في مثل هذه المواضع خير من الجدل العقيم، كما قال البستي:» الواجب على العاقل ألا يغالب الناس على كلامهم ، ولا يعترض عليهم فيه؛ لأن الكلام - وإن كان في وقته - حظوة جليلة فإن الصمت في وقته مرتبة عالية، ومن جهل بالصمت عيّ بالمنطق، والإنسان إنما هو صورة ممثلة أو صالـّة مهملة ، لولا اللسان ، والله جل وعز رفع جارحة اللسان على سائر الجوارح، فليس منها شيء أعظم أجرا منه إذا أطاع ، ولا أعظم ذنبا منه إذا جنى»اهـ.
    فما أحوجنا إلى لزوم الصمت والإقلال من الكلام في زمن أصبح فيه الكلام مصدر للرزق، فهناك من يثري من ثرثرة بعضنا، بل ويحثنا على كثرة الكلام ليستنزف أموالنا، واسمع نصيحة البستي حين قال: «الواجب على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلم، فما أكثر من ندم إذا نطق، وأقل من يندم إذا سكت ، وأطول الناس شقاء، وأعظمهم بلاء من ابتلي بلسان مطلق، وفؤاد مطبق».اهـ.



    اعداد: د.وليد خالد الربيع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,774

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (30)

    المسلمون على شروطهم




    من الصفات التي رسخها الإسلام، ومدحها القرآن، ورتب عليها الجزاء الجزيل والثواب الوفير، الوفاء بالعهود، وأداء الالتزامات، فقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}، وقال تعالى: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما}، وقال تعالى في مدح المؤمنين: {إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق}، وقال تعالى: {وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون}، وغير ذلك من الآيات التي وردت بشأن الوفاء بالعهود والعقود وسائر الالتزامات للخالق سبحانه وللمخلوقين .
    والوفاء هو إتمام العهد وإكمال الشرط، وهو ضد الغدر، والعرب تمدح الشخص بهذه الصفة فتقول: فلان برّ، وفيّ، كريم العهد، صادق الوعد، وثيق الذمة، صحيح الموثق، ثابت العقد .
    وقد بيـّن الراغب الأصفهاني أن الوفاء من الصفات اللازمة للإنسانية الدال على كمال الشخص ورفعته فيقول: «الوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والجور، وذلك أن الوفاء صدق باللسان والفعل معا، والغدر كذب بهما، وفيه مع الكذب نقض العهد، والوفاء يختص بالإنسان ، فمن فقده فقد انسلخ من الإنسانية كالصدق، وجعل الله العهد من الإيمان، وصيره قواما لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون، ولا يتم تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفعت المعايش، ولذلك عظم الله تعالى أمره فقال تعالى: {وأوفوا بعهدي أُوف ِبعهدكم وإياي فارهبون}، وقال تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم}، وقال تعالى: {وثيابك فطهر}أي: نزه نفسك عن الغدر، وقال عز وجل: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} وقال عز وجل: {والذين لأماناتهم وعهدهم راعون} ولقلة وجود ذلك في الناس قال تعالى : {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} اهـ.
    ومن الأحاديث الجامعة التي أكدت أهمية الوفاء بالعهود والالتزامات حديث عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه قال: قال النبي [ : «المسلمون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما» أخرجه أبو داود والترمذي .
    ومعنى قوله [ : «المسلمون على شروطهم» أي: ثابتون عليها لا يرجعون عنها، فالمسلم يوفي بما عليه من حقوق وواجبات ولا يتهرب منها، ولا يتحايل لإسقاطها والتملص منها، بل إن دينه وإيمانه يحمله على أداء الحقوق والوفاء بالالتزامات .
    فهذا الحديث تناول أحكاماً شرعية عدة؛ منها: وجوب الوفاء بالعهود والالتزامات التي يعقدها الإنسان على نفسه سواء مع الله تعالى بمقتضى إسلامه كالقيام بواجب الإيمان والإخلاص ونبذ الشرك والمعاصي، وكأداء العبادات الواجبة، أو ما يعقده الإنسان مع غيره من المسلمين أو غيرهم من معاملات وتبرعات وغيرها من تصرفات لازمة كما قال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}.
    أما الحكم الثاني الذي يستفاد من هذا الحديث فهو أن الأصل في الشروط والعقود هو الحل والإباحة إلا ما قام الدليل على بطلانه كما قال شيخ الإسلام: «الأصل في الشروط الجواز والصحة، والتزامها لمن شرطت عليه، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله» اهـ
    وقال أيضا: «فالأصل في العقود كالأصل في الأفعال العادية (عدم التحريم)؛ لأنها ليست من العبادات، وقوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} عام في الأعيان والأفعال ، وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة، وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت تحريمه بعينه ، وانتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم، فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا» اهـ .
    أما استدلال بعض العلماء بقوله [ : «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» -متفق عليه- على أن الأصل في الشروط الحظر إلا ما دل عليه الدليل النقلي، فالجواب عنه بما قاله ابن بطال أن: «المراد بـ (كتاب الله) هنا حكمه من كتاب الله أو سنة رسوله [ ، لا أن كل من شرط شرطا لم ينطق به الكتاب يبطل، لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط، ويشترط في الثمن شروطا - من أوصافه ومن نجومه - ونحو ذلك فلا يبطل «اهـ.
    وقال ابن القيم في بيان المراد بـ (كتاب الله في الحديث): «ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعا، فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن بل علمت من السنة، فعلم أن المراد بـ (كتاب الله) حكمه، كقوله: {كتاب الله عليكم} وقول النبي [ : «كتاب الله القصاص»، فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله، ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له فيكون باطلا»اهـ.
    أما الحكم الثالث الذي دل عليه الحديث فهو أن الشروط نوعان: شروط صحيحة، وشروط فاسدة، فالشروط الصحيحة لازمة، وأما الشروط الفاسدة فهي لاغية.
    قال الخطابي في بيان مورد الحديث: «هذا في الشروط الجائزة في حق الدين دون الشروط الفاسدة، وهو من باب ما أمر الله تعالى من الوفاء بالعقود».
    وقال الشيخ ابن سعدي: «إن الشروط في جميع العقود نوعان: صحيحة وباطلة:
    فأما الصحيحة: فهي كل شرط اشترطه المتعاقدان لهما، أو لأحدهما فيه مصلحة، وليس فيه محذور من الشارع، قال: فإنها شروط لازمة للمتعاقدين، إذا لم يف أحدهما بما عليه منها كان للآخر الفسخ . ثم ذكر أمثلة من الشروط الصحيحة؛ كأن يشترط المشتري أن الثمن أو بعضه مؤجل بأجل مسمى، أو يبيع الشيء ويشترط البائع أن ينتفع به مدة معلومة، ومثل أن يشترط سكنى البيت أو الدكان مدة معلومة أو يستعمل الإناء مدة معلومة وما أشبه ذلك، وكذلك شروط الرهن والضمان والكفالة هي من الشروط الصحيحة اللازمة، ومثل الشروط التي يشترطها المتشاركان في مضاربة أو شركة، ومثل شروط الواقفين والموصين في أوقافهم ووصاياهم من الشروط المقصودة، وكذلك الشروط بين الزوجين، فكلها صحيحة إلا شروطا تحلل الحرام وعكسه كالتي تعود إلى الجهالة والغرر .
    وأما الشروط الباطلة : فهي التي تضمنت إما تحليل حرام أو تحريم حلال، ويدخل فيها جميع الشروط الباطلة في البيع والإجارة والرهن والوقف والنكاح؛ فإنها مشتملة على تحريم الحلال أو تحليل الحرام، ومن تأملها وجدها كذلك «أهـ.
    فحري بالمسلم أن يفي بالشروط والحقوق، ويحذر من الغدر والخيانة لأنهما من أسباب ورود النار كما قال [ : «المكر والخديعة والخيانة في النار» حديث حسن(ص.ج.6726)، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,774

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (31)

    إن أردت التنعم بما تستحق هب الآخريـن ما يستحقــون


    العدل من أهم القيم الإسلامية ، ومن أعظم الأسس التي يقوم عليها التشريع والمجتمع والأخلاق، والعدل يقتضي القيام بحقوق الله تعالى، والقيام بحقوق العباد تامة غير منقوصة ، فبعض الناس - وهم قلة - يطالبون بحقوقهم وزيادة، لكنهم لا يؤدون واجباتهم تجاه الله تعالى ولا تجاه العباد، وهذا ليس من العدل ولا الإنصاف، فميزان القسط يقتضي التوازن بين الحقوق والواجبات، بحيث يؤدي الإنسان ما عليه من واجبات قبل أن يطالب بما له من حقوق، أما العكس فهي أثرة مقيتة وأنانية كريهة، إذا غرست بذورها في الأفراد والمجتمع أنبتت آثارا وخيمة من الفساد والبغضاء والحقد والفوضى والتذمر من ضياع الحقوق واستئثار البعض بالفرص ، وربما تجاوز الأمر القول إلى الفعل بإلحاق الأذى بالآخرين انتقاما منهم وعقوبة لهم .
    ولهذا ذم الشرع الأثرة وحذر من آثارها، وأمر بالصبر والمطالبة بالحقوق وفق السبل المشروعة واجتناب الفوضى أو سلوك الطرق غير المشروعة .
    فعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَلاَ بِرَسُولِ اللهِ [ فَقَالَ: أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلاَنًا؟ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِيَ أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ»، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ [ : «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ».
    فمن العدل أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملونك، وذلك بأداء الحقوق والتزام الواجبات ومراعاة الآخرين، ولذا قيل: «إن أردت التنعم بما تستحق هب الآخرين ما يستحقون»، وهذا المبدأ هو ما دلت عليه السنة المطهرة ،فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي [ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» متفق عليه.
    قال النووي: «معناه لا يؤمن الإيمان التام، وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة، والمراد يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات، ويدل عليه ما جاء في رواية النسائي في هذا الحديث: «حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه».
    ومن كمال الإيمان أن يحب المسلم لإخوانه ما يحب لنفسه، وأن يبغض لهم ما يبغضه لنفسه، قال ابن رجب: «والمقصود أن من جملة خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه، فإذا زال ذلك عنه فقد نقص إيمانه، وقد روي أن النبي [ قال لأبي هريرة: «أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا» أخرجه الترمذي وهو حسن‏(ص.ج:7833)
    ومن النصوص الشرعية التي تؤكد هذا المعنى قوله [ : «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه» رواه مسلم.
    قال النووي: «هذا من جوامع كلمه [ وبديع حكمه، وهذه مهمة، فينبغي الاعتناء بها، وأن الإنسان يلزم أن لا يفعل مع الناس إلا ما يحب أن يفعلوه معه».
    فالمؤمن صحيح الإيمان يراعي إخوانه المسلمين، فيقوم لهم بما يستحقونه منه، كما يحب منهم أن يقوموا له بما يستحقه عليهم، سواء ما تعلق بالأمور المالية أومالسلوكية، فإذا كنت تحب أن يحترمك الناس فاحترمهم، وإذا كنت تكره منهم أن يغشوك أو يأكلوا مالك بغير حق فلا تفعل ذلك بهم، وإذا كنت تريد منهم أن يحفظوا غيبتك ويحترموا خصوصيتك فابدأ بنفسك واحفظ غيبتهم واحترم خصوصيتهم، وهكذا في كل الأمور، فلو وضع الإنسان نفسه مكان غيره لعرف التصرف الصحيح في كل موقف، إلا أن بعض الناس يظن أنه يعيش في هذه الدنيا منفردا فيفعل ما يريد دون مراعاة لحقوق الآخرين أو مشاعرهم، أو يتوهم أنه مركز الكون فعلى الناس أن يدوروا حوله مؤدين الحقوق والواجبات له، وليس لهم عليه شيء ولا أن يطالبوه بحق ولا أداء واجب، ولاشك أن هذه أنانية مفرطة ونرجسية بغيضة، فالمؤمن يحب لنفسه ما يحب لإخوانه ويكره لهم ما يكرهه لنفسه .
    وقد كان النبي [ يطبق هذا المبدأ عمليا مع أصحابه ، فقد قال لأبي ذر رضي الله عنه : « يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرنّ على اثنين، ولا تولين مال يتيم»، قال ابن رجب:» وإنما نهاه عن ذلك لما رأى من ضعفه، وهو يحب هذا لكل ضعيف، وإنما كان يتولى أمور الناس لأن الله قواه على ذلك وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم»اهـ.
    ويبين ابن رجب أن تحصيل هذه الصفة الطيبة إنما يكون بسلامة الصدر من أمراض القلوب فقال: «وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن ويريد لأخيه المؤمن ما يريد لنفسه من الخير، وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغش والغل والحسد، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير أو يساويه فيه، لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله وينفرد بها عنهم والإيمان يقتضي خلاف ذلك، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء «اهـ.
    وفي الختام، فإن دعوى الأخوة الإيمانية تحتاج إلى دليل عملي يصدقها، ولا أدل على ذلك من حسن الخلق مع المؤمنين كما قال النبي [ : «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»، ورأس ذلك أن يقيم المسلم أخوانه مقام نفسه، فيحب لهم ما يحب لها، ويكره لهم ما يكره لها، كما وصف الله تعالى عباده المؤمنين بقوله : {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.
    كما أن المجتمعات تتقدم وتزدهر بالتعاون والتكامل، وأن يقدم كل فرد أحسن ما عنده لخدمة إخوانه ومجتمعه كما أمر الله تعالى عباده فقال: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، أما الأنانية والأثرة فباب الفساد والشر، وعنوان العداوة والقطيعة ، نسأل الله تعالى العافية والسلامة من كل إثم، وبالله التوفيق .



    اعداد: د.وليد خالد الربيع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,774

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (32)

    قل لله العـزة جميعاً



    يرسخ الإسلام في أتباعه المؤمنين العقيدة الصحيحة والأخلاق الحميدة والقيم الرفيعة، ليكونوا مثالا حيا وصورة واقعية للمسلم الحق الذي يريده لله تعالى، المسلم الذي يخلص دينه لله تعالى، فيتحرر من قيود الوثنية والعبودية لغير الله التي أذلت رقاب الناس للناس، وجعلتهم أسرى للأفكار البشرية والعقائد الشركية، فأذهانهم عليلة، ونفوسهم ذليلة، وأبدانهم أسيرة .
    أما المسلم الحق فإنه حر القلب والعقل والبدن، فهو عالي الهمة، عزيز النفس، شريف الطبع، لا يعنو لقهر، ولا يقيم على مذلة، غرس الإسلام فيه معاني الكرامة، وأصول الأنفة، وقواعد العزة، كما قال عمر:» إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله».
    والعزة كما يعرفها الأصفهاني: «حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، من قولهم: أرض عزاز أي: صلبة، والعزيز: الذي يقهر ولا يُـقهر قال تعالى :{ إنه هو العزيز الحكيم} وقال تعالى:{سبحان ربك رب العزة}، فقد يمدح بالعز تارة كما ترى، ويذم بها تارة كعزة الكفار قال:{ بل الذين كفروا في عزة وشقاق}، ووجه ذلك أن العزة التي لله ولرسوله وللمؤمنين هي الدائمة الباقية التي هي العزة الحقيقية، والعزة التي هي للكافرين هي التعزز، وهو في الحقيقة ذل كما قال عليه الصلاة والسلام: «كل عز ليس بالله فهو ذلّ»، وعلى هذا قوله:{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا} أي: ليتمنعوا بهم من العذاب، وقوله :{من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} معناه: من كان يريد أن يعز يحتاج أن يكتسب منه تعالى العزة فإنها به، وقد تستعار العزة للحمية والأنفة المذمومة وذلك في قوله: {أخذته العزة بالإثم}ـ» اهـ.
    وأما ورودها في القرآن الكريم فهو على أوجه كما ذكر ذلك ابن الجوزي في الوجوه والنظائر فقال : «العزة في القرآن على ثلاثة أوجه:
    - أحدها : العظمة،ومنه قوله تعالى: {وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون}، وقال تعالى:{قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين}.
    - والثاني : المنعة، ومنه قوله تعالى :{أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا}.
    - والثالث: الحميّـة، ومنه قوله تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} وقال تعالى: {بل الذين كفروا في عزة وشقاق}.»اهـ.
    وجاءت العزة مضافة لله تعالى في مواضع منها قوله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ }، وقوله تعالى:{سبحان ربك رب العزة عما يصفون}، وقوله تعالى:{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.
    وأيضا جاء هذا المعنى في السنة المطهرة فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقول الله سبحانه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحدا منهما ألقيته في النار» مسلم.
    والعزيز من أسماء الله تعالى الحسنى ومعناه كما قال ابن كثير: «العزيز الذي قد عزّ كل شيء فقهره، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه».
    وهناك فرق دقيق بين العزة والكبر كما بينه الأصفهاني بقوله: «أما العزة فالترفع بالنفس عما يلحقها غضاضة، وأصلها من العزاز وهو الأرض الصلبة، فالمتعزز من حصوله في عزاز لا يلحقه فيه غضاضة، والعزة منزلة شريفة، وهي نتيجة معرفة الإنسان بقدر نفسه، وإكرامها عن الضراعة للأعراض الدنيوية، كما أن الكبر نتيجة جهل الإنسان بقدر نفسه وإنزالها فوق منزلتها، وكثير ما يتصور أحدهما بصورة الآخر، كتصور التواضع والتضرع والتذلل بصورة واحدة، وتصور الإسراف بصورة الجود، والبخل بصورة الحزم؛ ولهذا قال الحسن ] لمن قال له : ما أعظمك من نفسك؟ فقال: لست بعظيم ولكنني عزيز قال الله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، وقال [: «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه».
    وسبيل تحصيل العزة المحمودة بلزوم طاعة الله تعالى وامتثال شرعه كما قال إبراهيم بن شيبان : «الشرف في التواضع، والعز في التقوى، والحرية في القناعة».
    وفي المقابل فإن المعصية تورث الذل والمهانة، قال ابن القيم : «المعصية تورث الذل ولابد، فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله، كان من دعاء بعض السلف :»اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك»، وقال الحسن البصري : «إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه»اهـ
    كما أن الصفح والعفو من أسباب تحصيل العزة كما قال النبي [: «وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا»أخرجه مسلم، يوضح النووي معناه بأنه فيه وجهان:أحدهما : أنه على ظاهره، وأن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب،وزاد عزه وإكرامه، والثاني : أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك»اهـ.
    ويبين الشيخ ابن سعدي المناسبة في الآية الكريمة بين العزة والكلم الطيب والعمل الصالح فيقول : «أي: يا من يريد العزة، اطلبها ممن هي بيده؛ فإن العزة بيد اللّه، ولا تنال إلا بطاعته، وقد ذكرها بقوله: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } من قراءة وتسبيح وتحميد وتهليل وكل كلام حسن طيب، فيرفع إلى اللّه ويعرض عليه ويثني اللّه على صاحبه بين الملأ الأعلى { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ } من أعمال القلوب وأعمال الجوارح {يَرْفَعُهُ } اللّه تعالى إليه أيضا، كالكلم الطيب.»اهـ.
    ويؤكد ابن كثير هذا المعنى أيضا فيقول: «وَقَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَلِلَّهِ الْعِزَّة جَمِيعًا } أَيْ مَنْ كَانَ يُحِبّ أَنْ يَكُون عَزِيزًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَلْيَلْزَمْ طَاعَة اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ يَحْصُل لَهُ مَقْصُوده؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَالِك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلَهُ الْعِزَّة جَمِيعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى :{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدهمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّة لِلَّهِ جَمِيعًا } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:{وَلَا يَحْزُنك قَوْلهمْ إِنَّ الْعِزَّة لِلَّهِ جَمِيعًا} وَقَالَ جَلَّ جَلَاله : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةَ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} َقَالَ قَتَادَة:{ مَنْ كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَإِنَّ الْعِزَّة لِلَّهِ جَمِيعًا } أَيْ: فَلْيَتَعَزَّزْ بِطَاعَةِ اللَّه عَزَّ وَجَلّ»اهـ.
    فالخلاصة أن العزة من صفات الله تعالى؛ فعلى المسلم أن يسأل ربه من فضله، ويسلك طريق طاعته لتحصل له العزة في الدنيا والآخرة، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,774

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (33)

    زر غبا تزدد حبا




    الأخوة الإيمانية، ورابطة العقيدة الإسلامية من أهم الركائز التي يقوم عليها المجتمع المسلم، كما قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة}، وقال النبي [: «المسلم أخو المسلم»، فالمسلمون إخوة تجمعهم رابطة الإيمان وأخوة العقيدة على اختلاف الزمان وتنوع المكان.
    ولهذه الأخوة حقوق وواجبات، وآثار ومقتضيات، كما أن لها أسبابا تقويها، وموانع تحول دون تحقق آثارها ونتائجها.
    والزيارة بين الإخوان من أسباب ترسيخ المحبة وتأكيد الأخوة، كما أنها من الأعمال الدينية المستحبة كما دلت على ذلك النصوص الشرعية كقوله [: «من عاد مريضا أو زار أخا في الله ناداه مناد: أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا « رواه الترمذي، قال شراح الحديث:»قوله: «من عاد مريضا» أي: محتسبا «أو زار أخا له» في الدين لوجه الله لا للدنيا ناداه مناد» أي ملك «أن طبت» دعاء له بطيب عيشه في الدنيا والآخرة، وطاب ممشاك قال الطيبي: كناية عن سيره وسلوكه طريق الآخرة بالتعري عن رذائل الأخلاق والتحلي بمكارمها، «وتبوأت من الجنة منزلا» أي تهيأت من منازل الجنة العالية منزلة عظيمة ومرتبة جسيمة بما فعلت «اهـ.
    وقال النبي [: «أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته - أي: طريقه - ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربّها عليه؟ - أي: تقوم بإصلاحها - قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجلّ، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه» أخرجه مسلم، قال النووي:»في هذا الحديث فضل المحبة في الله تعالى، وأنها سبب لحب الله تعالى العبد، وفيه فضيلة زيارة الصالحين والأصحاب «اهـ
    ومما جاء في فضل الزيارة قوله [:» ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة ؟ ثم ذكر منهم :» والرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الله، في الجنة» أخرجه الدارقطني وحسنه الألباني.
    وفي الحديث القدسي قال الله عز وجلّ: «حقت محبتي للمتزاورين فيّ» أخرجه أحمد وصححه الألباني.
    ونلاحظ من الأحاديث المتقدمة وغيرها اشتراط الإخلاص لله تعالى في الزيارة وابتغاء وجه الله والتماس الأجر والمثوبة منه سبحانه، فلا يقصد الزائر مصلحة دنيوية أو منفعة مادية، حتى ينال ذلك الجزاء والفضل، ومن المقاصد المشروعة طلب العلم، وصلة الرحم، وعيادة المريض، وتفقد الأحوال لقضاء الحاجات، وترويح الأنفس بالمباحات ونحوها من مقاصد حسنة ونيات صالحة.
    قال أبو حاتم في روضة العقلاء:»الواجب على العاقل تعاهد الزيارة للإخوان، وتفقد أحوالهم؛ لأن الزائر في قصده الزيارة يشتمل على مصادفة معنيين:
    أحدهما : استكمال الذخر في الآجل بفعله ذلك.
    والآخر : التلذذ بالمؤانسة بالأخ المزور، مع الانقلاب بغنيمتين معا «.
    وللزيارة آداب وأحكام ينبغي للزائر مراعاتها؛ منها أحكام الاستئذان والسلام وآداب المجلس والحديث، ومنها أيضا أن تكون الزيارة سببا لزيادة الود وليست لترسيخ القطيعة وغرس البغضاء بسبب إثقال الزائر على المزور، أو مضايقته ببعض التصرفات الساذجة، كطلب بعض الأطعمة، أو التدخل في الأمور الخاصة، أو انتقاد ما يراه من أثاث أو طعام أو غير ذلك، أو اصطحاب الأطفال المزعجين، ومن ذلك عدم الإطالة في الزيارة أو تكرارها بما يقتضي الملل؛ ولهذا جاء في الحديث:» زر غبا تزدد حبا» أخرجه البزار وغيره وصححه الألباني.
    ويبين ابن الأثير معنى الحديث فيقول:»الغِبّ من أوراد الإبل أن ترد الماء يوما وتدعه يوما ثم تعود، فنقله إلى الزيارة وإن جاء بعد أيام، يقال : غبّ الرجل إذا جاء زائرا بعد أيام، وقال الحسن: في كل أسبوع، ومنه الحديث:»أغبوا في عيادة المريض» أي لا تعودوه في كل يوم؛ لما يجد من ثقل العوّاد «اهـ.
    فإن قيل إن النبي [ كان يكثر زيارة أبي بكر رضي الله عنه كل يوم بكرة وعشيا، كما ذكرته عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب: هل يزور صاحبه كل يوم بكرة وعشيا؟ فهل هذا يعارض الحديث المذكور؟
    فالجواب كما قال ابن حجر :»لا منافاة بين هذا الحديث وحديث الباب - يعني حديث عائشة - لأن عمومه يقبل التخصيص، فيحمل على من ليست له خصوصية ومودة ثابتة، فلا ينقص كثرة زيارته من منزلته. قال ابن بطال: «الصديق الملاطف لا تزيده كثرة الزيارة إلا محبة بخلاف غيره»اهـ.
    وقال أبو حاتم :» الناس في الزيارة على ضربين :
    فمنهم من صحح الحال بينه وبين أخيه، وتعرى عن وجود الخلل، وورود البغض فيه، فإذا كان بهذا النعت، أحببت له الإكثار من الزيارة، والإفراط في الاجتماع ؛ لأن الإكثار من الزيارة بين من هذا نعته لا يورث الملالة، والإفراط في الاجتماع بين من هذه صفته يزيد في المؤانسة.
    والضرب الآخر : لم يستحكم الود بينه وبين من يواخيه، ولا أداهما الحال إلى ارتفاع الحشمة بينهما فيما يبتذلان لمهنتيهما، فإذا كان بهذا النعت أحببت له الإقلال من الزيارة؛ لأن الإكثار منها بينهما يؤدي إلى الملالة، وكل مبذول مملول، وكل ممنوع ملذوذ، وقد روي عن النبي [ أخبار كثيرة تصرح بنفي الإكثار من الزيارة حيث يقول: «زر غبا تزدد حبا»اهـ.
    فالمسلم يراعي حقوق الله تعالى بالإخلاص والاتباع، ويراعي حقوق العباد بالأخوة والرحمة والإنصاف، دون أن يضر نفسه أو يؤذي غيره حسيا أو معنويا، فيقدر ظروفهم، ويراعي مشاعرهم، ويثمن أخوتهم، وينمي محبتهم، ويحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه؛ لأنه وإياهم كالجسد الواحد يكمل بعضه بعضا، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,774

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (34)

    خلـق الإنسـان من عجـل



    لا نزال نسمع أن هذا العصر هو (عصر السرعة)؛ لما فيه من سرعة المواصلات، وسرعة التقنيات، وسرعة الإنجازات، وهذا أمر جيد ولا شك؛ لأن فيه تيسير الحياة على الناس وتوفير الأوقات والجهود، إلا أن الأمر اللافت للنظر هو انعكاس هذه المقولة على ثقافة الناس وسلوكهم، فالعجلة والاستعجال، والضجر وقلة الصبر، والرعونة والاستهتار سواء في الطرقات، أم في مواضع الاجتماعات كالوزارات والمجمعات تجد هذه الظاهرة بارزة بشكل واضح ولافت فكم من أرواح أزهقت بسبب العجلة في الشوارع، وكم من أسرة تهدمت بسبب عجلة أحد الزوجين في الحكم على الآخر أو استعجاله في ردة فعله، بل وصلت العجلة إلى المساجد فبعض الأئمة يستعجل في صلاته فلا يدرك المأموم القراءة أو التشهد، وبعض المأمومين يستعجل في صلاته فلا يطمئن في ركوعه أو سجوده، أو يبادر بمغادرة المسجد قبل أن يردد أذكار الصلاة أو يؤدي النافلة.
    وكذلك تبرز العجلة في المجتمع في الحكم على الناس والأشياء قبل التثبت سواء في وسائل الإعلام أم في المجالس واللقاءات، وكذلك في سرعة الجواب بين المتحاورين قبل فهم الكلام أو حتى قبل أن يكمل الآخر كلامه، وأمثلة لا تنتهي من مظاهر العجلة المذمومة وآثارها الخطيرة.
    وبالتأمل في كتاب الله تعالى نجد أن العجلة - في غير أمور الدين والآخرة - مذمومة، كما قال [: «التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة»أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
    فقوله تعالى:{خلق الإنسان من عجل} أكبر دلالة على هذه الحقيقة الشرعية، وقد تباينت أقوال العلماء في المراد بهذه الآية:
    قال ابن سعدي: «{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي: خلق عجولا، يبادر الأشياء، ويستعجل بوقوعها، فالمؤمنون يستعجلون عقوبة الله للكافرين، ويتباطئونها، والكافرون يتولون ويستعجلون بالعذاب، تكذيبا وعنادا، ويقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} والله تعالى يمهل ولا يهمل ويحلم، ويجعل لهم أجلا مؤقتا { إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ْ} ولهذا قال: { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} أي: في انتقامي ممن كفر بي وعصاني {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ } ذلك، وكذلك الذين كفروا يقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قالوا هذا القول، اغترارا، ولما يحق عليهم العقاب، وينزل بهم العذاب.»اهـ.
    وقال القرطبي: «{خلق الإنسان من عجل} أي ركب على العجلة فخلق عجولا ؛ كما قال الله تعالى:{الله الذي خلقكم من ضعف} أي: خلق الإنسان ضعيفا، أي: طبع الإنسان العجلة، فيستعجل كثيرا من الأشياء وإن كانت مضرة.»اهـ.
    وقال ابن كثير: «وقوله: {خلق الإنسان من عجل}، كما قال في الآية الأخرى: {وكان الإنسان عجولا} أي: في الأمور. والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت، فقال الله تعالى:{خلق الإنسان من عجل}; لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يؤجل ثم يعجل، وينظر ثم لا يؤخر; ولهذا قال: {سأوريكم آياتي} أي: نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني، {فلا تستعجلون}.
    وقال الطاهر: «والعجل: السرعة، وخلق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جبلة الإنسانية، شبهت شدة ملازمة الوصف بكون مادة التكوين موصوفة؛ لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية. فإذا فكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين؛ فلا جرم كان الإنسان عجولا بالطبع فكأنه مخلوق من العجلة، ونحوه قوله تعالى: {وكان الإنسان عجولا}، وقوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا}. ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر، ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه.
    وجملة: {سأريكم آياتي} هي المقصود من الاعتراض، وهي مستأنفة، والمعنى: وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلاك أئمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين.
    وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله، ولكل أجل كتاب، فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد»اهـ.
    ومن عجيب أمر العجلة أنها تحمل الإنسان على أن يضر نفسه كما قال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولا }، قال ابن سعدي: «وهذا من جهل الإنسان وعجلته حيث يدعو على نفسه وأولاده وماله بالشر عند الغضب ويبادر بذلك الدعاء كما يبادر بالدعاء في الخير، ولكن الله - بلطفه - يستجيب له في الخير ولا يستجيب له بالشر: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم ْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}»اهـ.
    ولخطورة العجلة نسبت إلى الشيطان كما جاء في الحديث: «التأني من الله، والعجلة من الشيطان» أخرجه البيهقي وحسنه الألباني، ومعلوم أن كل ما أضيف إلى الشيطان فهو مذموم كما قال تعالى: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين}.
    ولهذا كثرت أقوال العلماء في بيان فضل الرفق والتؤدة والتحذير من العجلة والطيش، قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: «اعلموا أن الحلم زينة، والوفاء مروءة، والعجلة سفه، والسفر ضعف، ومجالسة أهل الدناءة شين، ومخالطة أهل الفسق ريبة».
    قال أبو حاتم في روضة العقلاء: «الرافق لا يكاد يسبق، كما أن العَجِل لا يكاد يلحق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم، كذلك من نطق لا يكاد يسلم، والعجل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم، والعجل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تكني العجلة، أم الندامات.
    ونقل عن إبراهيم بن عمر بن حبيب قوله: كان يقال:لا يوجد العجول محمودا، ولا الغضوب مسرورا، ولا الحر حريصا، ولا الكريم حسودا، ولا الشره غنيا، ولا الملول ذا إخوان».
    وقال أبو حاتم أيضا مبينا سبب العجلة وأثرها: «العجلة تكون من الحدة، وصاحب العجلة إن أصاب فرصته لم يكن محمودا، وإن أخطأها كان مذموما، والعجل لا يسير إلا مناكبا للقصد، منحرفا عن الجادة.
    ونقل عن خالد بن برمك أنه قال: من استطاع أن يمنع نفسه من أربعة أشياء فهو خليق ألا ينزل به كبير مكروه؛ العجلة، واللجاجة، والعجب، والتواني، فثمرة العجلة الندامة، وثمرة اللجاجة الحيرة، وثمرة العجب البغضة، وثمرة التواني الذل.»اهـ.
    فما أحوجنا في عصر السرعة إلى التأني والروية، والتؤدة والرفق، والصبر والنظر، في أمورنا كلها لنظفر بالمقاصد والغايات ونسلم من الندامة والخسران، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,774

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (35 )

    حولهـــا ندنــدن



    هذه الجملة المختصرة تتكرر على ألسنة كثير من الناس مستشهدين بها عند تقرير بعض الغايات المتفقة، وتأكيد بعض الأهداف المشتركة، فإذا التقت المقاصد واتفقت الوجهات قال أحدهم للآخر : حولها ندندن، أي قد اتفقت مقاصدنا وإن اختلفت عباراتنا أو وسائلنا.
    ولا يخفى أن هذه العبارة الوجيزة هي كلام نبوي بليغ، حدد فيه النبي [ بكل وضوح وإيجاز الغاية التي ينبغي للمسلم أن يطلبها، والمقصد الذي ينبغي أن يسعى إليه؛ وذلك لأن تحديد الأهداف يعين على تعيين السبل، وضياع الأهداف يجعل سعي الإنسان عبثا وضلالا؛ لذا كان تحديد الأهداف مهما، كما أن وضوحها لا يقل أهمية؛ لأن الأهداف المبهمة تزيد حيرة الإنسان وتشتته، ولا تعينه على تحديد طريقه؛ لذا نجد أن القرآن الكريم واضح ومحدد ومباشر في تحديد الأهداف العليا للإنسان فقال تعالى:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وقال سبحانه:{ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}.
    وبين الوسيلة بقوله عز وجلّ: {إياك نعبد وإياك نستعين} وقال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون} فالعبادة والاستعانة والدعاء والتقوى والمجاهدة سبيل لتحقيق أعلى الغايات وأسمى المقاصد.
    وهذا الحديث الكريم يؤكد هذا المعنى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ] قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [ لِرَجُلٍ: «مَا تَقُولُ فِي الصَّلاةِ؟» قَالَ: أَتَشَهَّدُ ثُمَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ، أَمَا وَاللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
    قال شراح الحديث: «الدندنة ـ بدالين مفتوحتين ونونين ـ هِيَ أَنْ يَتَكَلَّم الرَّجُل بِالْكَلامِ تُسْمَع نَغْمَته وَلا يُفْهَم، أَيْ: لا أَدْرِي مَا تَدْعُو بِهِ أَنْتَ يَا رَسُول اللَّه وَمَا يَدْعُو بِهِ مُعَاذ إِمَامنَا، وَلا أَعْرِف دُعَاءَك الْخَفِيّ الَّذِي تَدْعُو بِهِ فِي الصَّلاة وَلا صَوْت مُعَاذ، ولا أقدر على نظم ألفاظ المناجاة مثلك ومثل معاذ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرَّجُل الصَّحَابِيّ مُعَاذًا - وَاَللَّه أَعْلَم - لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ قَوْم مُعَاذ أَوْ هُوَ مِمَّنْ كَانَ يُصَلِّي خَلْف مُعَاذ، والحاصل: إني أسمع صوتك وصوت معاذ ولكن لا أفهم.
    ومعنى قوله: «حَوْلهَا»: أَيْ حَوْل الْجَنَّة وَالنَّار نُدَنْدِن, وَإِنَّمَا نَسْأَل الْجَنَّة وَنَتَعَوَّذ مِنْ النَّار كَمَا تَفْعَل، كما جاء في الرواية الأخرى : «حول هاتين»، قال المناوي :«أي ما ندندن إلا حول طلب الجنة والتعوذ من النار، فالحقيقة لا مباينة بين ما ندعو به وبين دعائك».
    هذا الحديث العظيم اشتمل على فوائد نفيسة وحكم جليلة منها كما تقدم أهمية تحديد المقاصد والغايات ووضوحها حتى يبذل الإنسان لها السعي المناسب فلا يبالغ ولا يقصر كما قال تعالى :{ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}.
    ومن فوائد الحديث أنه على المعلم أن يتفقد تلاميذه، وعلى الشيخ أن يتابع طلابه، وكذلك الداعية عليه أن يوجه المدعوين، فيبحث عن أحوالهم، ويسأل عن أوضاعهم الدينية؛ فمن كان محسنا شجعه وأثنى عليه، ومن كان مخطئا نصحه ووجهه، ومن كان متأولا علمه وبين له وجه الصواب، كما كان النبي [ يفعل مع الصحابة الكرام، تفقدا ومتابعة وتعليما وتوجيها، ولم يكن يكتف فقط بالبلاغ وإنما يزيد عليه التربية والتوجيه والتعليم.
    ومن فوائد الحديث استحباب الدعاء في الصلاة ؛ فإن الصلاة مناجاة بين العبد وربه، والله تعالى يحب الدعاء ويحب من عبده أن يسأله ويتضرع إليه، ويستحب الدعاء بعد التشهد والصلاة الإبراهيمية وقبل السلام؛ لحديث ابن مسعود حيث علمه [ التشهد ثم قال: «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو» متفق عليه، وفي لفظ مسلم:» ثم ليتخير من المسألة ما شاء». ولما قال أبو بكر ] للنبي [ :«علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال [: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم»متفق عليه.
    ومن فوائد الحديث تقرير أن سؤال الله تعالى الجنة والاستعاذة به من النار هو طريقة الأنبياء والمرسلين والمؤمنين، وأنه لا ينقص من توحيد العابدين، كما يزعم بعض المتصوفين؛ حيث قرر بعضهم أن العبادة الحقة هي عبادة الله تعالى حبا في ذاته لا خوفا من ناره ولا طمعا في جنته، كما قال الغزالي في الإحياء: «العامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه كالأجير السوء ودرجته درجة البله، وأما عبادة ذوي الألباب فإنها لا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه حبا لجماله وجلاله، وهؤلاء أرفع درجة من الالتفات إلى المنكوح والمطعوم في الجنة فإنهم لم يقصدوها، بل هم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه... ويسخرون ممن يلتفت إلى الحور العين «اهـ. ونقل في «الإحياء» عن رابعة العدوية أنه قالت: «ما عبدته خوفا من ناره ولا حبا في جنته فأكون كالأجير بل عبدته حبا له وشوقا إليه» ونقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال: «إن لله عبادا ليس يشغلهم عن الله خوف نار ولا رجاء جنة»، ونقل عن بعض المتصوفة ولم يذكر اسمه: «من عبد الله لعوض فهو لئيم»، وغيرها من أقوال لبعض المتصوفة تؤكد هذا المعنى.
    والقرآن الكريم يؤكد أن الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء، وسؤال الله الجنة والتعوذ به من النار هو طريقة المرسلين، وسنة النبيين، ومنهج المؤمنين، وهو من توحيد رب العالمين، الذي خلق الجنة والنار، وجعلهما دار القرار لمن شاء من عباده الأبرار والفجار كما قال تعالى:{إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين}، مبينا حال النبيين عليهم السلام : وقال تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه }، وقال عزوجل:{ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}.
    ووصف سبحانه عباده المؤمنين فقال:{ إنما يخشى الله من عباده العلماء}،وقال سبحانه: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا}، وقال تعالى: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}، والآيات في الترغيب في الجنة والترهيب من النار كثيرة لا تخفى.
    وكان النبي [ أشد الناس خشية لله تعالى كما قال :«إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية»، وكان يسأل الله تعالى الجنة ويستعيذ به من النار كما ورد في الحديث المذكور، وكان يطلب من المسلمين أن يدعوا الله تعالى أن يرزقه (الوسيلة) بعد الأذان لأنها أعلى درجة عند الله فقال [: «الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة «أخرجه أحمد وصححه الألباني وفي لفظ سأله الصحابة: وما الوسيلة ؟ قال: «أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون هو».
    وكان يأمر المسلمين بالاستعاذة من النار وسؤال الله الجنة كما قال [: «استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب جهنم..الحديث، وقال: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه سر الجنة»أخرجه الطبراني يعني أفضل موضع فيها، فإنه أعلا درجات الجنة وأعظم مراتبها كما روى الترمذي وغيره أن رسول الله [ قال: «في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس». صححه الألباني.
    فعلى المسلم أن يحدد أهدافه العليا، ويستحضرها أمامه كل حين، ليستعد لها الاستعداد المناسب، ولا يغفل عنها، فلا تستهويه الغفلات، ولا يبطره الأمل، وإنما هو التشمير والعمل، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,774

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (36) ليس كل ما يلمع ذهباً



    لا شك أن بعض الأشياء قد تتشابه في الظاهر ، وتتماثل في نظر بعض الناس عند الوهلة الأولى، إلا أنها تختلف في واقع الأمر، ولا تخفى حقائقها على ذوي البصائر والتمييز، فهم يعرفون الفرق بين المتماثلات ظاهرا، ويدركون أن ليس كل ما يلمع ذهبا، في حين أن بسطاء التفكير ومحدودي العلم يغترون بالمظاهر، وينجرفون وراء البريق الزائف والدعاوى العريضة التي لا تستند إلى دليل ولا يؤيدها برهان.
    والنصوص الشرعية تؤكد أن العبرة بالحقائق، وتحذر من الاغترار بالمظاهر، فمن ذلك قوله تعالى عن المنافقين :{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ }، قال ابن كثير :«أَيْ وَكَانُوا أَشْكَالا حَسَنَة وَذَوِي فَصَاحَة وَأَلْسِنَة، وَإِذَا سَمِعَهُمْ السَّامِع يُصْغِي إِلَى قَوْلِهِمْ لِبَلاغَتِهِمْ ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي غَايَة الضَّعْف وَالْخَوَر وَالْهَلَع وَالْجَزَع وَالْجُبْن».
    وقال الشيخ ابن سعدي:» { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } من روائها ونضارتها، { وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي: من حسن منطقهم تستلذ لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدي الصالح شيء، ولهذا قال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض، { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم، والريب الذي في قلوبهم يخافون أن يطلع عليهم».
    ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، فعن سهل ابن سعد قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: «ما رأيك في هذا؟» قال: رجل من أشراف الناس، حَرِيٌّ – والله - إن خَطَبَ أنْ يُنكح، وإنْ شَفَعَ أن يُشَفَّع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال صلى الله عليه وسلم للرجل: «ما رأيك في هذا»؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، حَرِي إنْ خَطَبَ ألا يُنكَح، وإنْ شَفَعَ ألا يُشَفَّع، وإنْ قال ألا يُسمَع لقوله، فقال [: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا» أخرجه البخاري.
    وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الاغترار بأصحاب الأهواء والبدع مهما كان ظاهرهم حسنا، كما قال صلى الله عليه وسلم عن الخوارج: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» أخرجه البخاري، فالخوارج بالغوا في التدين إلا أن ذلك لم ينفعهم لما كانوا عليه من انحراف منهجي وضلال فكري؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين»، وعن أنس رضي الله عنه قال: ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج فيكم أو يكون فيكم قوم يتعبدون ويتدينون حتى يعجبوكم وتعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية» أخرجه ابن أبي عاصم وقال الألباني: إسناده صحيح.
    وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بما يختم له؛ فإن العامل يعمل زمانا من دهره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملا سيئا ، وإن العبد ليعمل زمانا من دهره بعمل لو مات دخل النار ثم يتحول فيعمل عملا صالحا ، فإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته فوفقه لعمل صالح» أخرجه ابن أبي عاصم في السنة وقال الألباني :إسناده صحيح.
    وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا عليكم ألا تعجبوا بأحد حتى تعلموا بما يختم له» أخرجه ابن أبي عاصم وقال الألباني : إسناده صحيح.
    وحذر سلف الأمة من الاغترار بالمظاهر الزائفة والدعاوى المغشوشة، فعن يونس ابن عبد الأعلى الصدفي قال: قلت للشافعي: «كان الليث بن سعد يقول: «إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء: فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة». فقال الشافعي: «قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، ويطير في الهواء : فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة».
    وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: «ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون »، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «إن فيما أخشى عليكم زلة عالم وجدال المنافق بالقرآن ـ والقرآن حق ـ وعلى القرآن منار كأعلام الطريق».
    وعن ابن عباس: «ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيترك قوله ذلك، ثم تمضي الأتباع»، وقال علي بن أبي طالب: «إياكم والاستنان بالرجال؛ فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء» الجامع لابن عبد البر ، وقال ابن مسعود: «ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن ، وإن كفر كفر؛ فإنه لا أسوة في البشر»، وقال أيضا: «من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة ؛ أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم».
    وقال عبد الله بن المبارك: «رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة، كانت منه الهفوة والزلة لا يُقتدى به في هفوته وزلته»، وقال الإمام مالك: «ليس كل ما قال رجل قولا – وإن كان له فضل – يتبع عليه؛ لقول الله عز وجل: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}، وقال مجاهد: «ليس من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم»، وقال ابن خزيمة: «ليس لأحد قول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح الخبر عنه».
    وخلاصة القول أن الشرع المطهر قد وضع لنا معايير دقيقة وموازين عادلة للحكم على الاعتقادات والأقوال والأفعال والأشخاص والأشياء، الأخذ بها نجاة، والإعراض عنها أو تعطيلها باب الضلال والهلاك، فالمسلم يستضيء بنور الله الذي أنزله إلينا في كتابه وسنة رسوله [ ويميز بين المظاهر والحقائق، ولا يغتر بكل ناعق، ولا يشتري كل لامع؛ فليس كل ما يلمع ذهبا، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •