انحسار هَيْبة كبار النفوس وأثره على الأمّة


من أخطر الأمور على المجتمعات أن يفقد الناس بوصلتهم ولا يعرفون إلى أين هم متجهون؟ وبمن يتأثرون؟

ضياع جلالة قدر كبير النفس في نفوس عامة الناس تُفقِد المجتمع القدوات والتأثر بالقيادات الصالحة البنّاءة وانحسار هيبتهم تُنبِئ عن هشاشة الترابط المجتمعي
ضياع جلالة قدر كبير النفس في نفوس عامة الناس تُفقِد المجتمع القدوات والتأثر بالقيادات الصالحة البنّاءة، وانحسار هيبتهم تُنبِئ عن هشاشة الترابط المجتمعي؛ فلكل مجتمع عُقد تربط حبال الأسر ببعضها وبالأفراد ممن حولهم لنضمن استمرارية اللّحمة بينها حتى في أجناسها المختلفة، ولكن عندما تخلو عقول الناس ونفوسهم من القدوات ذوات الهيبة تنتشر المناقص والمعايب فيما بين الناس، ومن هنا تنحدر الأخلاق وتتأرجح السويّة في الشخصيات، فما يعود أحد يسمع لأحد ينصحه وما يعود أحد يقبل من أحد، يقول سعيد بن يعقوب الطالباني: «قال رجلٌ لابن المبارك: هل بقي من ينصح؟ قال: وهل تَعرف من يقبلُ؟» وقد توفي ابن المبارك في ١٨١ هجرية.
إجلال قدر كبير النفس وعاليها لا يقوى عليه إلا المتأدب بأدب العلماء الأجلاّء، فمن صفات الإنسان السّوي وسمت شخصيته أن يكون هيّابا في نفسه حينما يتعامل الناس معه، يحبونه لبشاشته ويسره وتواضعه وفي الوقت ذاته يجلّونه ويقدّرونه ولا يقدرون على ممارسة الابتذال معه أو حتى أمامه، فمن هاب الله هابه كل شيء كما يقول بعض أهل العلم، والهيّاب الذي تهابه الناس هو في ذاته يجلّ العلماء ويقدر لهم قدرهم.
انهيار الحضارة
إنّ زوال الإجلال والتقدير والمهابة لأهل العلم لأدلّ دليل على انهيار الحضارة في الأمة؛ فما يبقى من يصلح بين الناس ولا نرى رادعاً في نفوس الأفراد فيتجاوزون الكلمة الفصل التي قال بها ذاك العالم، فالمجتمعات حتى تسود لابد لها من قيادة ذات تأثير إصلاحي واسترشادي، تحفظ على الناس أخلاقهم وتردعهم عن التمادي في العداوات فيما بينهم؛ فإذا ضاعت الهيبة وفقدت الأمة ذلك الإجلال للعلماء فمن بعد ذلك يقود عجلة تحريك الضمائر؟
اجعل من نفسك قائدًا هيّابا للإصلاح
وإنْ ادّعى داعٍ أنّ الإصلاح وتحريك الضمائر وإيقاظها ليس حكرًا على العلماء والمصلحين، فجرّب نفسك واجعل منها قائدا هيّابا للإصلاح وتحريك الضمائر وانظر من يسمع لك ومن يستيقظ ضميره من نداءاتك؟ وها هو ذا التاريخ يملأ الآفاق في سير من قاد الأمم نحو الاستصلاح وليس الصلاح والإصلاح فقط، ومن المحرّك و(الدينمو) لضمائر الناس غير أولئك ممن يحملون صفة العلماء المعتبرين في الأمة، وذلك ليس حكرا على عالم دون آخر ولا عصر دون عصر ولا أمة دون أمة، وإنما المفكرون والعلماء -شئنا أم أبينا- هم المحركون والمجددون لضمير الأمة بأجمعها، وأيّا كانت هذه الأمة؛ فتلك هي سنن الله في الخلق، أن ينتشر الصلاح في القاعدة الأكبر من المجتمع؛ فعندما تنصلح أحوالهم الدينية والثقافية والاجتماعية، فإنّ قوام المجتمع يعتدل ولا ينحرف، وعندها تكبر البصيرة عند الناس وتقلّ الرغبة في الفساد وينحسر الإفساد؛ فلا يقبل المجتمع عنصرا فاسدا يعيش بينهم وإنما تلقائيا يضيّقون عليه والتضييق آت من أهله وأحبابه الذين نبذوا الفساد قبله فينصلح اعوجاجه. وهكذا شيئا فشيئا تستقيم المجتمعات وتكثر العدوى النافعة بين الناس وترجع الأمور إلى طبيعتها ومن تسوّل له نفسه الخراب أو التخريب سينكفئ على نفسه خوفا من هجوم من حوله عليه بدلا من اعتياد الناس سابقا على الخطيئة والفساد والإفساد.
من أخطر الأمور على المجتمعات
أعزائي القراء، من أخطر الأمور على المجتمعات أن يفقد الناس بوصلتهم ولا يعرفون إلى أين هم متجهون وبمن يتأثرون، ولا الهدف من مسيرتهم في دنياهم ومن الذي يوجههم وصيّر حياتهم بهذا الشكل أو ذاك؟ إنهم لا يدركون حقا خطر افتقاد خصلة التقدير والإجلال لكبير النفس أو كبير العمر أو كبير المقام أو حتى كبير الخبرة وكثيرها، حينما نفتقد تقدير كل شيء وإجلال من يستحق الإجلال فإنّ ذلك يعني التشرذم والتفكك والتصدع في كل مجال من مجالات البلاد والعباد وعندها نفتقد قيمة الأشياء ومعانيها، وينخفض مستوى التقدير لكل ما يستحق التقدير، ويحلّ محله اشتهار ترّهات الأمور وسفاسفها، ويعلو صوت النشاز لينادي بتجميع الناس للاستمتاع بالتفاهات من الأمور، ثم تضيع الأوقات وتُهدر الطاقات، وعندها يكثر النزاع بيننا، من يا ترى السبب في جهالة؟ الأمة ويبدأ التراشق بالاتهامات فيما بيننا ولا نجد من نحتكم إليه؛ حيث ضاعت هيبة العلماء وما عادت لهم صولة ولا جولة؛ فاختفوا عن المشهد وعن الساحة وتلك الأيام تدور عقارب سويعاتها هدرا.

اعداد: هيام الجاسم