كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
المجلد الرابع
الحلقة (181)
صــــــــــ 257 الى صـــــــــــ263
( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وهذا مثل معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم وقول ابن عباس وقولنا وهؤلاء الخارجون من السخط إن فروا من أكثر منهم حتى يكون الواحد فر من ثلاثة فصاعدا فيما ترى [ ص: 257 ] والله تعالى أعلم بالفارين بكل حال ، أما الذين يجب عليهم السخط فإذا فر الواحد من اثنين فأقل إلا متحرفا لقتال أو متحيزا والمتحرف له يمينا وشمالا ومدبرا ونيته العودة للقتال والفار متحيزا إلى فئة من المسلمين قلت أو كثرت كانت بحضرته أو منتئية عنه سواء إنما يصير الأمر في ذلك إلى نية المتحرف والمتحيز فإن كان الله عز وجل يعلم إنه إنما تحرف ليعود للقتال أو تحيز لذلك فهو الذي استثنى الله فأخرجه من سخطه في التحرف والتحيز وإن كان لغير هذا المعنى خفت عليه إلا أن يعفو الله تعالى عنه أن يكون قد باء بسخط من الله وإذا تحرف إلى الفئة فليس عليه أن ينفرد إلى العدو فيقاتلهم وحده ولو كان ذلك الآن لم يكن له أولا أن يتحرف ولا بأس بالمبارزة وقد بارز يوم بدر عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وبارز محمد بن مسلمة مرحبا يوم خيبر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وبارز يومئذ الزبير بن العوام ياسرا وبارز يوم الخندق علي بن أبي طالب عمرو بن عبد ود وإذا بارز الرجل من المشركين بغير أن يدعو أو يدعى إلى المبارزة فبرز له رجل فلا بأس أن يعينه عليه غيره لأنهم لم يعطوه أن لا يقاتله إلا واحد ولم يسألهم ذلك ولا شيء يدل على أنه إنما أراد أن يقاتله واحد فقد تبارز عبيدة وعتبة فضرب عبيدة عتبة فأرخى عاتقه الأيسر وضربه عتبة فقطع رجله وأعان حمزة وعلي فقتلا عتبة
( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى فأما إن دعا مسلم مشركا أو مشرك مسلما إلى أن يبارزه فقال له لا يقاتلك غيري أو لم يقل له ذلك إلا أنه يعرف أن الدعاء إلى مبارزة الواحد كل من الفريقين معا سوى المبارزين أحببت أن يكف عن أن يحمل عليه غيره فإن ولى عنه المسلم أو جرحه فأثخنه فحمل عليه بعد تبارزهما فلهم أن يقتلوه إن قدروا على ذلك لأن قتالهما قد انقضى ولا أمان له عليهم إلا أن يكون شرط أنه آمن منهم حتى يرجع إلى مخرجه من الصف فلا يكون لهم قتله حتى يرجع إلى مأمنه ولو شرطوا ذلك له فخافوه على المسلم أو يجرح المسلم فلهم أن يستنقذوا المسلم منه بلا أن يقتلوه فإن امتنع أن يخليهم وإنقاذ صاحبهم وعرض دونه ليقاتلهم قاتلوه لأنه نقض أمان نفسه ولو عرض بينه وبينهم فقال أنا منكم في أمان قالوا نعم إن خليتنا وصاحبنا فإن لم تفعل تقدمنا لأخذ صاحبنا فإن قاتلتنا قاتلناك وكنت أنت نقضت أمانك فإن قال قائل وكيف لا يعان الرجل البارز على المشرك قاهرا له ؟ قيل إن معونة حمزة وعلي على عتبة إنما كانت بعد أن لم يكن في عبيده قتال ولم يكن منهم لعتبة أمان يكفون به عنه فإن تشارطا الأمان فأعان المشركون صاحبهم كان للمسلمين أن يعينوا صاحبهم ويقتلوا من أعان عليه المبارز له ولا يقتلوا المبارز ما لم يكن هو استنجدهم عليه
( قال الشافعي ) وإذا تحصن العدو في جبل أو حصن أو خندق أو بحسك أو بما يتحصن به فلا بأس أن يرموا بالمجانيق والعرادات والنيران والعقارب والحيات وكل ما يكرهونه وأن يبثقوا عليهم الماء ليغرقوهم أو يوحلوهم فيه وسواء كان معهم الأطفال والنساء والرهبان أو لم يكونوا لأن الدار غير ممنوعة بإسلام ولا عهد وكذلك لا بأس أن يحرقوا شجرهم المثمر وغير المثمر ويخربوا عامرهم وكل ما لا روح فيه من أموالهم فإن قال قائل ما الحجة فيما وصفت وفيهم الولدان والنساء المنهى عن قتلهم ؟ قيل الحجة فيه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصب على أهل الطائف منجنيقا أو عرادة ونحن نعلم أن فيهم النساء والولدان وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع أموال بني النضير وحرقها } أخبرنا أبو ضمرة أنس بن عياض عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق أموال [ ص: 258 ] بني النضير } .
( قال الشافعي ) أخبرنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق أموال بني النضير } فقال قائل :
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
.
( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى فإن قال قائل فقد نهى بعد التحريق في أموال بني النضير ؟ قيل له إن شاء الله تعالى إنما نهى عنه أن الله عز وجل وعده بها فكان تحريقه إذهابا منه لعين ماله وذلك في بعض الأحاديث معروف عند أهل المغازي فإن قال قائل فهل حرق أو قطع بعد ذلك ؟ قيل نعم قطع بخيبر وهي بعد بني النضير وبالطائف وهي آخر غزوة غزاها لقي فيها قتالا فإن قال قائل كيف أجزت الرمي بالمنجنيق وبالنار على جماعة المشركين فيهم الولدان والنساء وهم منهي عن قتلهم ؟ قيل أجزنا بما وصفنا { وبأن النبي صلى الله عليه وسلم شن الغارة على بني المصطلق غارين وأمر بالبيات وبالتحريق } والعلم يحيط أن فيهم الولدان والنساء وذلك أن الدار دار شرك غير ممنوعة وإنما نهى أن تقصد النساء والولدان بالقتل إذا كان قاتلهم يعرفهم بأعيانهم للخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم سباهم فجعلهم مالا وقد كتب هذا قبل هذا فإن كان في الدار أسارى من المسلمين أو تجار مستأمنون كرهت النصب عليهم بما يعم من التحريق والتغريق وما أشبهه غير محرم له تحريما بينا وذلك أن الدار إذا كانت مباحة فلا يبين أن تحرم بأن يكون فيها مسلم يحرم دمه وإنما كرهت ذلك احتياطا ولأن مباحا لنا لو لم يكن فيها مسلم أن تجاوزها فلا نقاتلها وإن قاتلناها قاتلناها بغير ما يعم من التحريق والتغريق ولكن لو التحم المسلمون أو بعضهم فكان الذي يرون أنه ينكأ من التحمهم يغرقوه أو يحرقوه كان ذلك رأيت لهم أن يفعلوا ذلك ولم أكرهه لهم بأنهم مأجورون أجرين أحدهما الدفع عن أنفسهم والآخر نكاية عدوهم غير ملتحمين فتترسوا بأطفال المشركين فقد قيل لا يتوقون ويضرب المتترس منهم ولا يعمد الطفل وقد قيل يكف عن المتترس به ولو تترسوا بمسلم رأيت أن يكف عمن تترسوا به إلا أن يكون المسلمون ملتحمين فلا يكف عن المتترس ويضرب المشرك ويتوقى المسلم جهده فإن أصاب في شيء من هذه الحالات مسلما أعتق رقبة .
وإذا حاصرنا المشركين فظفرنا لهم بخيل أحرزناها أو بنا بها عنهم فرجعت علينا واستلحمنا وهي في أيدينا أو خفنا الدرك وهي في أيدينا ولا حاجة لنا بركوبها إنما نريد غنيمتها أو بنا حاجة إلى ركوبها أو كانت معها ماشية ما كانت أو نحل أو ذو روح من أموالهم مما يحل للمسلمين اتخاذه لمأكلة فلا يجوز عقر شيء منها ولا قتله بشيء من الوجوه إلا أن نذبحه كما قال أبو بكر " لا تعقروا شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ولا تغرقن نخلا ولا تحرقنه " فإن قال قائل فقد قال أبو بكر " ولا تقطعن شجرا مثمرا فقطعته " قيل فإنا قطعناه بالسنة واتباع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أولى بي وبالمسلمين ولم أجد لأبي بكر في ذوات الأرواح مخالفا من كتاب ولا سنة ولا مثله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حفظت فلو لم يكن فيه إلا اتباع أبي بكر كانت في اتباعه حجة مع أن السنة تدل على مثل ما قال أبو بكر في ذوات الأرواح من أموالهم فإن قال قائل ما السنة ؟ قلنا أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن صهيب مولى بني عامر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها سأله الله عز وجل عن قتله قيل يا رسول الله وما حقها ؟ قال أن يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها } وقد نهى [ ص: 259 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصبورة ووجدت الله عز وجل أباح قتل ذوات الأرواح من المأكول بواحد من معنيين أحدهما أن تذكى فتؤكل إذا قدر عليها والآخران تذكى بالرمي إذا لم يقدر عليها ولم أجده أباح قتلها لغير منفعة وقتلها لغير هذا الوجه عندي محظور فإن قال قائل ففي ذلك نكايتهم وتوهين وغيظ قلنا وقد يغاظون بما يحل فنفعله وبما لا يحل فنتركه فإن قال ومثل ما يغاظون به فنتركه قلنا قتل نسائهم وأولادهم فهم لو أدركونا وهم في أيدينا لم نقتلهم وكذلك لو كان إلى جنبنا رهبان يغيظهم قتلهم لم نقتلهم ولكن إن قاتلوا فرسانا لم نر بأسا إذا كنا نجد السبيل إلى قتلهم بأرجالهم أن نعقر بهم كما نرميهم بالمجانيق .
وإن أصاب ذلك غيرهم وقد عقر حنظلة بن الراهب بأبي سفيان بن حرب يوم أحد فانعكست به فرسه فسقط عنها فجلس على صدره ليذبحه فرآه ابن شعوب فرجع إليه يعدو كأنه سبع فقتله واستنقذ أبا سفيان من تحته فقال أبو سفيان بعد ذلك شعرا :
فلو شئت نجتني كميت رجيلة ولم أحمل النعماء لابن شعوب
وما زال مهري مزجر الكلب منهم لدن غدوة حتى دنت لغروب
أقاتلهم طرا وأدعو لغالب وأدفعهم عني بركن صليب
.
( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى فإن قال قائل ما الفرق بين العقر بهم وعقر بهائمهم ؟ قيل العقر بهم يجمع أمرين أحدهما دفع عن العاقر المسلم ولأن الفرس أداة عليه يقبل بقوته ويحمل عليه فيقتله والآخر يصل به إلى قتل المشرك والدواب توجف أو يخاف طلب العدو لها إذا قتلت ليست في واحد من هذين المعنيين لا أن قتلها منع العدو للطلب ولا أن يصل المسلم من قتل المشرك إلى ما لم يكن يصل إليه قبل قتلها وإذا أسر المسلمون المشركين فأرادوا قتلهم قتلوهم بضرب الأعناق ولم يجاوزوا ذلك إلى أن يمثلوا بقطع يد ولا رجل ولا عضو ولا مفصل ولا بقر بطن ولا تحريق ولا تغريق ولا شيء يعدو ما وصفت لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن المثلة } وقتل من قتل كما وصفت فإن قال قائل قد قطع أيدي الذين استاقوا لقاحه وأرجلهم وسمل أعينهم فإن أنس بن مالك ورجلا رويا هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم رويا فيه أو أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب بعد ذلك خطبة إلا أمر بالصدقة ونهى عن المثلة ، أخبرنا سفيان عن ابن أبي نجيح { أن هبار بن الأسود كان قد أصاب زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فقال إن ظفرتم بهبار بن الأسود فاجعلوه بين حزمتين من حطب ثم أحرقوه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله عز وجل إن ظفرتم به فاقطعوا يديه ورجليه } .
( قال الشافعي ) رحمه الله وكان علي بن حسين ينكر حديث أنس في أصحاب اللقاح أخبرنا ابن أبي يحيى عن جعفر عن أبيه عن علي بن حسين قال { والله ما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عينا ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم } .
( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى في الأسارى من المسلمين في بلاد الحرب يقتل بعضهم بعضا أو يجرح بعضهم بعضا أو يغصب بعضهم بعضا ثم يصيرون إلى بلاد المسلمين إن الحدود تقام عليهم إذا صاروا إلى بلاد المسلمين ولا تمنع الدار حكم الله عز وجل ويؤدون كل زكاة وجبت عليهم لا تضع الدار عنهم شيئا من الفرائض ولكنهم لو كانوا من المشركين فأسلموا ولم يعرفوا الأحكام وأصاب بعضهم من بعض شيئا بجراح أو قتل درأنا عنهم الحد بالجهالة وألزمناهم الدية في أموالهم وأخذنا منهم في أموالهم كل ما أصاب بعضهم لبعض وكذلك لو زنى رجل منهم بامرأة وهو لا [ ص: 260 ] يعلم أن الزنا محرم درأنا عنه الحد بأن الحجة لم تقم وتطرح عنه حقوق الله ويلزمه حقوق الآدميين ، ولو كانت المرأة مسلمة أسرت أو استؤمنت ممن قد قامت عليهم الحجة فأمكنته من نفسها حدث ولم يكن لها مهر ولم يكن عليه حد ولو أنه تزوجها بنكاح المشركين فسخنا النكاح وألحقنا به الولد ودرأنا عنه الحد وجعلنا لها المهر ولو سرق بعضهم من بعض شيئا درأنا عنه القطع وألزمناه الغرامة ولو أربى بعضهم على بعض رددنا الربا بينهم لأن هذا من حقوق الآدميين وقال في القوم من المسلمين ينصبون المجانيق على المشركين فيرجع عليه حجر المنجنيق فيقتل بعضهم فهذا قتل خطأ فدية المقتولين على عواقل القاتلين قدر حصة المقتولين كأنه جر المنجنيق عشرة فرجع الحجر على خمسة منهم فقتلهم فأنصاف دياتهم على عواقل القاتلين لأنهم قتلوا بفعلهم وفعل غيرهم ولا يؤدون حصتهم من فعلهم فهم قتلوا أنفسهم مع غيرهم ولو رجع حجر المنجنيق على رجل لم يجره كان قريبا من المنجنيق أو بعيدا معينا لأهل المنجنيق بغير الجر أو غير معين لهم كانت ديته على عواقل الجارين كلهم ولو كان فيهم رجل يمسك لهم من الحبال التي يجرونها بشيء ولا يجر معهم في إمساكه لهم لم يلزمه ولا عاقلته شيء من قبل أنا لم ند إلا بفعل القتل فأما بفعل الصلاح فلا ولو رجع عليهم الحجر فقتلهم كلهم أو سقط المنجنيق عليهم من جرهم فقتل كلهم وهم عشرة ودوا كلهم ورفع عن عواقل من يديهم عشر دية كل واحد منهم لأنه قتل بفعل نفسه وفعل تسعة معه فيرفع عنه حصة فعل نفسه ويؤخذ له حصة فعل غيره ثم هكذا كل واحد ولو رمى رجل بعرادة أو بغيرها أو ضرب بسيف فرجعت الرمية عليه كأنها أصابت جدارا ثم رجعت إليه أو ضرب بسيف شيئا فرجع عليه السيف فلا دية له لأنه جنى على نفسه ولا يضمن لنفسه شيئا ولو رمى في بلاد الحرب فأصاب مسلما مستأمنا أو أسيرا أو كافرا أسلم فلم يقصد قصده بالرمية ولم يره فعليه تحرير رقبة ولا دية له وإن رآه وعرف مكانه ورمى وهو مضطر إلى الرمي فقتله فعليه دية وكفارة وإن كان عمده وهو يعرفه مسلما فعليه القصاص إذا رماه بغير ضرورة ولا خطأ وعمد قتله فإن تترس به مشرك وهو يعلمه مسلما وقد التحم فرأى أنه لا ينجيه إلا ضربه المسلم فضربه يريد قتل المشرك فإن أصابه درأنا عنه القصاص وجعلنا عليه الدية وهذا كله إذا كان في بلاد المشركين أو صفهم فأما إذا انفرج عن المشركين فكان بين صف المسلمين والمشركين فذلك موضع يجوز أن يكون فيه المسلم والمشرك فإن قتل رجل رجلا وقال ظننته مشركا فوجدته مسلما فهذا من الخطأ وفيه العقل فإن اتهمه أولياؤه أحلف لهم ما علمه مسلما فقتله فإن قال قائل كيف أبطلت دية مسلم أصيب ببلاد المشركين برمي أو غارة لا يعمد فيها بقتل ؟ قيل قال الله عز وجل { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } إلى قوله { متتابعين } فذكر الله عز وجل في المؤمن يقتل خطأ والذمي يقتل خطأ الدية في كل واحد منهما وتحرير رقبة فدل ذلك على أن هذين مقتولان في بلاد الإسلام الممنوعة لا بلاد الحرب المباحة وذكر من حكمهما حكم المؤمن من عدو لنا يقتل فجعل فيه تحرير رقبة فلم تحتمل الآية والله تعالى أعلم إلا أن يكون قوله { فإن كان من قوم عدو لكم } يعني في قوم عدو لكم وذلك أنها نزلت وكل مسلم فهو من قوم عدو للمسلمين لأن مسلمي العرب هم من قوم عدو للمسلمين وكذلك مسلمو العجم ولو كانت على أن لا يكون دية في مسلم خرج إلى بلاد الإسلام من جماعة المشركين هم عدو لأهل الإسلام للزم من قال هذا القول أن يزعم أن من أسلم من قوم مشركين فخرج إلى دار الإسلام فقتل كانت فيه تحرير رقبة ولم تكن فيه دية وهذا خلاف حكم المسلمين وإنما معنى الآية إن شاء الله تعالى على ما قلنا وقد سمعت بعض من أرضى من أهل العلم يقول ذلك فالفرق بين القتلين أن يقتل المسلم في دار الإسلام غير معمود بالقتل فيكون فيه [ ص: 261 ] دية وتحرير رقبة أو يقتل مسلم ببلاد الحرب التي لا إسلام فيها ظاهر غير معمود بالقتل ففي ذلك تحرير رقبة ولا دية .
. مسألة مال الحربي
( قال الشافعي ) وإذا دخل الذمي أو المسلم دار الحرب مستأمنا فخرج بمال من مالهم يشتري لهم شيئا فأما مع المسلم فلا نعرض له ويرد إلى أهله من أهل الحرب لأن أقل ما فيه أن يكون خروج المسلم به أمانا للكافر فيه وأما مع الذمي قال الربيع " ففيها قولان أحدهما أنا نغنمه لأنه لا تكون كينونته معه أمانا له منا لأنه إنما روي { المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم } فلا يكون ما مع الذمي من أموالهم أمانا لأموالهم وإن ظن الحربي الذي بعث بماله معه أن ذلك أمان له كما لو دخل حربي بتجارة إلينا بلا أمان منا كان لنا أن نسبيه ونأخذ ماله ولا يكون ظنه بأنه إذا دخل تاجرا أن ذلك أمان له ولماله بالذي يزيل عنه حكما والقول الثاني أنا لا نغنم ما مع الذمي من مال الحربي لأنه لما كان علينا أن لا نعرض للذمي في ماله كان ما معه من مال غيره له أمان مثل ماله كما لو أن حربيا دخل إلينا بأمان وكان معه مال لنفسه ومال لغيره من أهل الحرب لم نعرض له في ماله لما تقدم له من الأمان ولا في المال الذي معه لغيره فهكذا لما كان للذمي أمان متقدم لم يتعرض له في ماله ولا في المال الذي معه لغيره مثل هذا سواء . والله نسأل التوفيق برحمته . وكان آخر القولين أشبه إن شاء الله تعالى .
الأسارى والغلول
أخبرنا الربيع بن سليمان قال أخبرنا الشافعي قال إذا أسر المسلم فكان في بلاد الحرب أسيرا موثقا أو محبوسا أو مخلى في موضع يرى أنه لا يقدر على البراح منه أو موضع غيره ولم يؤمنوه ولم يأخذوا عليه أنهم أمنوا منه فله أخذ ما قدر عليه من ولدانهم ونسائهم .
( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى فإن أمنوه أو بعضهم وأدخلوه في بلادهم بمعروف عندهم في أمانهم إياه وهم قادرون عليه فإنه يلزمه لهم أن يكونوا منه آمنين وإن لم يقل ذلك إلا أن يقولوا قد أمناك ولا أمان لنا عليك لأنا لا نطلب منك أمانا فإذا قالوا هذا هكذا كان القول فيه كالقول في المسألة الأولى يحل له اغتيالهم والذهاب بأموالهم وإفسادها والذهاب بنفسه فإن أمنوه وخلوه وشرطوا عليه أن لا يبرح بلادهم أو بلدا سموه وأخذوا عليه أمانا أو لم يأخذوا .
( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى قال بعض أهل العلم يهرب وقال بعضهم ليس له أن يهرب وقال وإذا أسر العدو الرجل من المسلمين فخلوا سبيله وأمنوه وولوه من ضياعهم أو لم يولوه فأمانهم إياه أمان لهم منه فليس له أن يغتالهم ولا يخونهم وأما الهرب بنفسه فله الهرب فإن أدرك ليؤخذ فله أن يدفع عن نفسه وإن قتل الذي أدركه لأن طلبه غير الأمان فيقتله إن شاء ويأخذ ماله ما لم يرجع عن طلبه [ ص: 262 ] فإذا أسر المشركون المسلم فخلوه على فداء يدفعه إلى وقت وأخذوا عليه إن لم يدفع الفداء أن يعود في إسارهمفلا ينبغي له أن يعود في إسارهم ولا ينبغي للإمام أن يدعه إن أراد العودة فإن كانوا امتنعوا من تخليته إلا على مال يعطيهموه فلا يعطيهم منه شيئا لأنه مال أكرهوه على أخذه منه بغير حق وإن كان أعطاهموه على شيء يأخذه منهم لم يحق له إلا أداؤه بكل حال وهكذا لو صالحهم مبتدئا على شيء انبغى له أن يؤديه إليهم إنما أطرح عليهم ما استكره عليه ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى في أسير في أيدي العدو وأرسلوا معه رسلا ليعطيهم فداء أو أرسلوه بعهد أن يعطيهم فداء سماه لهم وشرطوا عليه إن لم يدفعه إلى رسولهم أو يرسل به إليهم أن يعود في إسارهم .
( قال الشافعي ) يروى عن أبي هريرة والثوري وإبراهيم النخعي أنهم قالوا لا يعود في إسارهم ويفي لهم بالمال وقال بعضهم إن أراد العودة منعه السلطان العودة وقال ابن هرمز يحبس لهم بالمال وقال بعضهم يفي لهم ولا يحبسونه ولا يكون كديون الناس وروي عن الأوزاعي والزهري يعود في إسارهم إن لم يعطهم المال وروي ذلك عن ربيعة وعن ابن هرمز خلاف ما روي عنه في المسألة الأولى .
( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى ومن ذهب مذهب الأوزاعي ومن قال قوله فإنما يحتج فيما أراه بما روي عن بعضهم أنه يروى { أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل الحديبية أن يرد من جاءه بعد الصلح مسلما فجاءه أبو جندل فرده إلى أبيه وأبو بصير فرده فقتل أبو بصير المردود معه ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد وفيت لهم ونجاني الله منهم فلم يرده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعب ذلك عليه وتركه فكان بطريق الشام يقطع على كل مال قريش حتى سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمه إليه لما نالوه من أذاه } .
( قال الشافعي ) رحمه الله وهذا حديث قد رواه أهل المغازي كما وصفت ولا يحضرني ذكر إسناده فأعرف ثبوته من غيره
قال وإذا كان المسلمون أسارى أو مستأمنين أو رسلا في دار الحرب فقتل بعضهم بعضهم أو قذف بعضهم بعضا أو زنوا بغير حربية فعليهم في هذا كله الحكم كما يكون عليهم ولو فعلوه في بلاد الإسلام وإنما يسقط عنهم لو زنى أحدهم بحربية إذا ادعى الشبهة ولا تسقط دار الحرب عنهم فرضا كما لا تسقط عنهم صوما ولا صلاة ولا زكاة فالحدود فرض عليهم وإذا أصاب الرجل حدا وهو محاصر للعدو أقيم عليه الحد ولا يمنعنا الخوف عليه من اللحوق بالمشركين أن نقيم حد الله تعالى ولو فعلنا توقيا أن يغضب ما أقمنا عليه الحد أبدا لأنه يمكنه من أي موضع أن يلحق بدار الحرب فيعطل عنه حكم الله جل ثناؤه ثم حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد بالمدينة والشرك قريب منها وفيها شرك كثير موادعون وضرب الشارب بحنين والشرك قريب منه
( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وإذا دخل الرجل بلاد الحرب فوجد في أيديهم أسيرا أو أسارى رجالا ونساء من المسلمين فاشتراهم وأخرجهم من بلاد الحرب فأراد أن يرجع عليهم بما أعطى فيهم لم يكن ذلك له وكان متطوعا بالشراء وزائدا أن اشترى ما ليس يباع من الأحرار فإن كان بأمرهم اشتراهم رجع عليهم بما أعطى فيهم من قبل أنه أعطى بأمرهم وإذا أسرت المرأة فنكحها بعض أهل الحرب أو وطئها بلا نكاح ثم ظهر عليها المسلمون لم تسترق هي ولا أولادها لأن أولادها مسلمون بإسلامها فإن كان لها زوج في دار الإسلام لم يلحق به هذا الولد ولحقوا بالنكاح المشرك وإن كان نكاحه فاسدا لأنه نكاح شبهة وإذا أسر المسلم فكان في دار الحرب فلا تنكح امرأته إلا بعد يقين وفاته عرف مكانه أو خفي مكانه وكذلك لا يقسم ميراثه وما صنع الأسير من المسلمين في دار الحرب أو في دار الإسلام أو المسجون وهو صحيح في ماله غير مكره عليه فهو جائز من بيع وهبة وصدقة وغير ذلك .
[ ص: 263 ] المستأمن في دار الحرب .
( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم أو يبلغوا مدة أمانهم وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم
وإن أسر العدو أطفال المسلمين ونساءهم لم أكن أحب لهم الغدر بالعدو ولكن أحب لهم لو سألوهم أن يردوا إليهم الأمان وينبذوا إليهم فإذا فعلوا قاتلوهم عن أطفال المسلمين ونسائهم .
ما يجوز للأسير في ماله إذا أراد الوصية
( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : يجوز للأسير في بلاد العدو ما صنع في ماله في بلاد الإسلام وإن قدم ليقتل ما لم ينله منه ضرب يكون مرضا وكذلك الرجل بين الصفين ( قال الشافعي ) : أخبرنا بعض أهل المدينة عن محمد بن عبد الله عن الزهري أن مسروقا قدم بين يدي عبد الله بن زمعة يوم الحرة ليضرب عنقه فطلق امرأته ولم يدخل بها فسألوا أهل العلم فقالوا : لها نصف الصداق ولا ميراث لها ( قال الشافعي ) : أخبرنا بعض أهل العلم عن هشام بن عروة عن أبيه أن عامة صدقات الزبير تصدق بها وفعل أمورا وهو واقف على ظهر فرسه يوم الجمل وروي عن عمر بن عبد العزيز : عطية الحبلى جائزة حتى تجلس بين القوابل وبهذا كله نقول ( قال الشافعي ) : وعطية راكب البحر جائزة ما لم يصل إلى الغرق أو شبه الغرق ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى وقال القاسم بن محمد وابن المسيب : عطية الحامل جائزة ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى وما وصفت من قول من سميت وغيرهم من أهل المدينة وقد روي عن ابن أبي ذئب أنه قال : عطية الحامل من الثلث وعطية الأسير من الثلث وروى ذلك عن الزهري ( قال الشافعي ) : وليس يجوز إلا واحد من هذين القولين والله تعالى أعلم ثم قال قائل في الحبلى عطيتها جائزة حتى تتم ستة أشهر وتأول قول الله عز وجل { حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت } وليس في قول الله عز وجل { فلما أثقلت } دلالة على مرض ولو كانت فيه دلالة على مرض يغير الحكم قد يكون مرضا غير ثقيل وثقيلا وحكمه في أن لا يجوز له في ماله إلا الثلث سواء ولو كان ذلك فيه كان الإثقال يحتمل أن يكون حضور الولاد حين تجلس بين القوابل لأن ذلك الوقت الذي يخشيان فيه قضاء الله عز وجل ويسألانه أن يؤتيهما صالحا فإن قال : قد يدعوان الله قبل ؟ قيل : نعم مع أول الحمل ووسطه وآخره وقبله والحبلى في أول حملها أشبه بالمرض منها بعد ستة أشهر للتغير والكسل والنوم والضعف ولهي في شهرها أخف منها في شهر البدء من حملها وما في هذا إلا أن الحبل سرور ليس بمرض حتى تحضر الحال المخوفة للأولاد أو يكون تغيرها بالحبل مرضا كله من أوله إلى آخر فيكون ما قال ابن أبي ذئب ، فأما غير هذا لا يجوز - والله تعالى أعلم - لأحد أن يتوهمه .
المسلم يدل المشركين على عورة المسلمين .