المؤمن متوكل مستريح
الشيخ أحمد النعسان
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد فيا عباد الله:
مقدمة الخطبة:
إن شعور وإحساس المؤمن بأن زمام العالم من أعلاه إلى أسفله في قبضة الله عز وجل, ولن يفلت من يده تبارك وتعالى, يجعل في قلب المؤمن الطمأنينة والارتياح.
فمن خلال هذا الشعور يعلم المؤمن بأن الأحداث مهما اضطربت والأحوال مهما تقلَّبت فلن تَبُتَّ فيها إلا مشيئة رب الأشياء كلِّها, قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين}. وقال: {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون}.
المؤمن متوكِّل مستريح:
أيها الإخوة المؤمنون: من خلال هذا المنطلق فإنا نرى الإنسان المؤمن متوكلاً على الله تعالى ـ وطبعاً الفارق كبير بين المتوكِّل والمتواكل ـ يقوم بما أوجبه عليه الشرع ويؤديه على النحو الذي طُلِب منه, ثم يركن إلى قضاء الله تعالى وقدره, ويستريح قلبه إلى ما يقضي الله عز وجل به ويقدِّر, لأن المؤمن يعلم:
أولاً: بأن الله رحيم به, قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِين َ رَحِيمًا}. فكلُّ قضاء وقدر من الله تعالى في حقِّ المؤمن هو خير, ولذلك يقول ابن عطاء الله الإسكندري رحمه الله تعالى في بعض حكمه: (من ظنَّ انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره).
ويجسِّد هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ, إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ) رواه مسلم عَن صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ثانياً: بأن الله يعلم والعبد لا يعلم, قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}. فرُبَّ شيء يحبُّه العبد وهو شر له, ورُبَّ شيء يكرهه العبد وهو خير له, والله تعالى يعلم ما يصلح هذا العبد المؤمن.
وربنا عز وجل أعطانا أمثلة في القرآن العظيم حتى يطمئن قلب العبد المؤمن لهذا, من جملة هذه الأمثلة, قصة سيدنا موسى عليه السلام مع سيدنا الخضر عليه السلام, عندما خرق السفينة قال له سيدنا موسى عليه السلام: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}. وكان خرق السفينة في الظاهر شراً.
وعندما قتل الغلام قال له سيدنا موسى عليه السلام: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا}. وكان قتل الغلام في ظاهر الأمر شراً.
وعندما بنى الجدار قال له سيدنا موسى عليه السلام: {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}. وكان بناء الجدار لأهل قرية أشحاء بخلاء في غير محله, حيث وصل أهل القرية إلى درجة من الشحِّ والبخل بأنهم ما أطعموا ابن السبيل, قال تعالى: {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا }.
عِلْمُ الإنسان القاصر يرى هذه الأمور شراً لا خير فيها, ولكن عندما اطلع الإنسان على نتائجها وجد الخير في ذلك, والشرَّ فيما كان يظنه خيراً.
نعم بخرق السفينة سَلِمت السفينة من يد الظالم, قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}. وبِقتل الغلام سَلِمَ الأبوان من الطغيان والكفر, قال تعالى: {وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}. وببناء الجدار سَلِمَ الكنز من أيدي الأشحاء البخلاء, قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ}.
وطبعاً فعلُ سيدنا الخضر عليه السلام ما هو إلا بوحي من عند الله تعالى.
ثالثاً: بأن ما يصيب المؤمن مَغْنَم وليس بمَغْرَم: قال تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا}. فالمؤمن المتوكِّل مستريح القلب مطمئن الفؤاد بأن نتائج الأمور لصالحه, وهي مغنم له وليست بمغرم, فهو ليس بِعَجُول, لأنَّ كل قضاء وقدر له أجل, ولكلِّ أجل كتاب.
ولا أدلَّ على ذلك من حادثة صلح الحديبية التي كانت فيها الشروط قاسية وقاسية جداً على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه الكرام, حتى أذهلت سيدنا عمر رضي الله عنه وقال لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي) رواه مسلم.
وبعد الصلح نزلت سورة الفتح التي قال الله تعالى فيها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}. وتلاها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة وعلى سيدنا عمر رضي الله عنه فكانت بنود صلح الحديبية مغنماً للمسلمين في نهاية المطاف وليست مغرماً, حيث كانت تبدو للمسلمين في أول الأمر مغنماً للمشركين ومغرماً للمسلمين, فصدق الله القائل: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا}.
فالمؤمن متوكل مستريح الفؤاد ومطمئن القلب لأن الله تعالى رحيم به, فيدع علمه لعلم الله تعالى, ويعلم العبد بأن المصائب له وليست عليه, فلا معنى لتوتر الأعصاب وشدة القلق نحو أمور خارجة عن نطاق إرادتنا.
ورحم الله القائل:
لا تدبر لك أمراً *** فذوو التدبير هلكى
سلِّم الأمر إلينا *** نحن أولى بك منك
أما غير المؤمن:
أيها الإخوة الكرام: هذا هو شأن الإنسان المؤمن بالله تعالى, أما غير المؤمن الذي فرغت نفسه من الله تعالى فيرى الأشياء هي الفاعلة, ويراها كأنها آلهة والعياذ بالله تعالى, فهذا العبد ينظر إلى الأحداث كأنها مَوج يتدفَّق يغرق فيها من يغرق وينجو منها من ينجو, فهو يعيش بفؤاد هواء تلعب به الأحداث والظنون, فهو في حالة خوف وقلق واضطراب وإثم, إن كان في نعمة فهو في حالة قلق من زوالها, وإن ضمن عدم زوالها فهو في قلق لأنه سيزول عنها, أما إذا كان في نقمة فحدِّث ولا حرج في ذلك.
من أين الطمأنينة؟
أيها الإخوة الكرام: ليسأل أحدنا من أين نأتي بهذه الطمأنينة حتى يرتاح القلب والفؤاد؟ لأن الخوف مسيطر على أكثر الناس, الخوف من المستقبل, الخوف من الغيب, الخوف من المخاطر التي لا يعلم عددها إلا الله تعالى.
أيها الإخوة: هذه الطمأنينة لا تأتي إلا من الإيمان بالله تعالى وكثرة ذكره جلت قدرته, قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب}.
أهل الإيمان وأهل الذكر هم أهل الاطمئنان, وصاحب القلب المطمئن هو السعيد, فالإيمان وكثرة ذكر الله تطمئن القلب, فالإيمان والذكر يجعلان حياة الإنسان المؤمن في سعادة في جميع مراحلها.
مطمئن في دنياه:
العبد المؤمن الذاكر مطمئن في دنياه لقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً}. والله قادر على جعل حياة الإنسان طيبة مع الشدائد, لأن الرضا محله القلب, فهو على يقين من قوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا}.
مطمئن عند سكرات الموت:
العبد المؤمن الذاكر مطمئن عند سكرات الموت , وذلك لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ }.
مطمئن عند الحشر:
العبد المؤمن الذاكر مطمئن عند الحشر, وذلك لقول الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُون}.
مطمئن عند دخول الجنة:
العبد المؤمن الذاكر مطمئن عند دخول الجنة, وذلك لسماعه قول الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة}.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها الإخوة الكرام: من أراد أن يحيا حياة طيبة مطمئنة يستقبل أحداث الدنيا بيقين وشجاعة فعليه بزيادة الإيمان وبكثرة ذكر الله تعالى, والإيمان يزيد بفعل الطاعات وينقص بفعل المعاصي والمنكرات.
فلنحاول الإكثار من الطاعات لله عز وجل ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً, وأن نترك المعاصي الظاهرة والباطنة, وأن نكثر من ذكر الله تعالى حتى نكون من أهل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب}. اللهم اجعلنا منهم. آمين. أقول هذا القول وكل منا يستغفر الله فيا فوز المستغفرين
