مسقط رأسي قرية مغمورة من قرى بنغلاديش. قرية لو رأيتَها من بعيد حسبتها مجموعة أشجار، أشجار الخيزران والمانغو والكاكايا والتنبول وغيرها. قرية كانت وقت ميلادي شاحبة الوجه نحيلة الجسد، فالفقر كان ينيخ بكلكله في أرجاءها، فالرجل إذا خرج صباحا كان يستعصي عليه العودة بلقمة عيش يضعها في فم أسرته مساءً. غير أنها كانت مليئة بالنشاط، نشاط محموم هنا وهناك، فهذا يحرث أرضه وذاك يسوق مواشيه إلى مرعى قريب أو بعيد. والثالث يقود عربته التي تجرها أبقاره إلى أحد الأسواق. فالكل في كد وكدح، وكفاح شديد.
اسم قريتي تشر خريتشا ( Char Kharicha). وكنت أكتبه من قبل حين أكتبه بالعربية (جر خريجة)، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي تعلمت فيه النطق الصحيح لكلمة "تشاد" ، اسم بلد مجاور لليبيا. فاللغة العربية على ثرائها لا تحتوي على كثير من النطق الذي يوجد في لغات أخرى. ومنه نطق ( ch ) مما جعل الخبراء يتفقون على أن " تش" هي البديل العربي لـ ( ch ). ومن ثم ستكون التهجئة العربية الصحيحة لاسم قريتي ( Charkharcha ) هي (تشر خريتشا) .
ولدت في تشر خريتشا، وترعرعت بين أشجارها ومزارعها وبيادرها، إنها قريتي الحبيبة التي سقتني من رحيقها وملأت رئتيي بنسيمها العليل أيام كانت قرية خالصة لا يعشعش في أطيافها صخب المدنية ولا ضوضاؤها، وما كان يكدر صفوها ما حمل العالم الرقمي اليوم من شهوات وسيئات.
لا أذكر من صباي إلا ما كان لي من صفات الانطواء والخجل، وحب العزلة، وعدم الاكتراث بدنيا الناس. كنت خجولًا كتومًا لا يزعجني أحد ولا أزعج أحدا.
قالت لي أمي: إنك لم تزعجني في شيء يوم ربيتك، فلو أجلستك في مكان كنت لا تبرحه، وما كنت تبكي إلا إذا برَّح بك الألم.
وأذكر أنني كنت أحب ركوب الجاموس، ورعي الشياه، وصيد الأسماك بالسنارات. وأذكر أنني كنت أصنع الكرة بالقش حينا، وحينا آخر اقتطف من شجرة أمي برتقالا هنديا ( جامبورا) فأجعله كرة ألعب بها مع الأصدقاء.