رثاء


د . موسى لاشين في ذمة الله



د. ناصر وهدان


في قرية اسنيت مركز بنها بمحافظة القليوبية في السادس من ابريل عام 1920م كان مبتداه، وعلى فراش المرض بمنزله الكائن بمدينة نصر بمحافظة القاهرة في السادس من يناير عام 2009م كان منتهاه عن عمر يناهز تسعة وثمانين عاما.

انه العالم العامل الثبت، والأديب اللوذعي، والفارس الأول للمركز الدولي للسيرة والسنة بوزارة الأوقاف المصرية، وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ومجمع البحوث الإسلامية، الشيخ الدكتور موسى شاهين لشين رحمه الله رحمة واسعة .
كان دائرة معارف تمشى على قدمين، هو البحر ماله من شاطئين كان جل همه الانتصار للقرآن والسنة بصفة خاصة، وللشريعة الإسلامية بصفة عامة حتى أخر رمق في حياته.
وقد كان محدثا متمكنا، ومفسرا لا يباري، ومثقفا ثقافة إسلامية وعربية عالية ومتنوعة، قدم النصح خالصا للراعي والرعية على سواء، وتصدي لأصحاب الفكر الشارد عن الإسلام بشجاعة العالم مهما تكبد من معاناة، وكياسة السياسي الفطن لبواطن الأمور، لان طبيعته ترفض الباطل – أي باطل – ولعل ذلك من مفاتيح شخصيته رحمه الله.
نشأته

نشأ عالمنا الدكتور موسى شاهين لاشين في أسرة مستورة الحال ، وحفظ القران الكريم كعادة أبناء القرى المصرية في كتاب القرية (مكتب سيد سالم الذي كان جدا له من جهة آمه) وتولاه بالحفظ أخوه الأكبر جودة.
تعليمه في الأزهر الشريف سلك شيخنا سنوات التعليم بالمعاهد الأزهرية وكان أول طالب يدرس في الأزهر من هذه القرية (بعد خال له اخذ الابتدائية من معهد طنطا) إلى أن حصل على شهادة الثانوية الأزهرية التي أهلته للالتحاق بكلية أصول الدين فحصل على الشهادة العالية (الليسانس) من كلية أصول الدين عام 1946م. كما حصل على شهادة العالية مع إجازة التدريس (الماجستير) من كلية اللغة العربية عام 1948م. كما حصل على شهادة العالمية (الدكتوراه) في التفسير والحديث من كلية أصول الدين عام 1965م، اختارته إدارة المعاهد الأزهرية مدرسا للتفسير والحديث لمدة عشرين عاما تقريبا (1948م- 1965م)، وتقديرا لعلمه الوفير اختارته جامعة الأزهر مدرسا بقسم الحديث بكلية أصول الدين منذ عام 1965م وتدرج في سلك الجامعة أستاذا مساعدا للتفسير والحديث (1971م- 1976م) وأستاذا ورئيسا لقسم الحديث 1976م، وعميدا للكلية (1979م- 1982م) وتقديرا لمكانته العلمية عين رئيسا للجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة في أقسام التفسير والحديث والدعوة (1977م- 1984م) وفي 1979م تقلد منصب نائب رئيس جامعة الأزهر للدراسات العليا والبحوث بالانتداب كما تقلد منصب رئيس المركز الدولي للسيرة والسنة بالمركز الأعلى للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف منذ عام 1994م حتى وفاته.
إعارته الخارجية

وفي أثناء عمله بالمعاهد الأزهرية والجامعة أعير للتدريس بالكويت والسعودية وليبيا والصومال وقطر.
من مفاتيح شخصيته

من مفاتيح شخصيته التي تميز عالمنا بها الصبر الجميل على المكاره، نجد ذلك عندما احتسب عند الله تعالى زوجته الأولى مع كريمته العروس الشابة في حادث أليم. ومن قبل عندما احتسب في حياته ثلاثة من أبنائه وبناته وهم في مقتبل عمرهم.
كما أن من مفاتيح شخصيته استثمار الوقت حتى في لحظات المرض المؤلمة، نجد ذلك عندما نقل مكتبه فوق فراش المرض ليسهل عليه التفرغ للاطلاع والتأليف
ومن مفاتيح شخصيته أيضا تمتعه بحب كوكبة عامرة من عارفي فضله من أساتذته وزملائه وتلاميذه من أمثال الشيخ إبراهيم زيدان رحمه الله (الذي زوجه كريمته) ود. محمد رشاد خليفة رحمه الله (الذي زوج ابنه لإحدى كريمات الفقيد) ود. محمد المسير رحمه الله، ود. محمد نايل (الذي زوج كريمته لأحد أبناء الشيخ الفقيد)
جل همه كان منحصراً في الانتصار للقرآن والسنة وللشريعة الإسلامية حتى آخر رمق في حياته

جهوده العلمية ومنهجه

كان فقيدنا لا يعرف تضييع الأوقات، لذا كان من أهم جهوده قيامه بالتخطيط لمشروع موسوعة السنة (تخريج الأحاديث النبوية والحكم عليها بالصحة أو الحسن أو الضعف بمنهج علمي دقيق) فقد ابتكر هذا المنهج لطلابه في جامعة الأزهر، ودرجوا عليه إلى وقتنا الحاضر في إعداد رسائلهم للماجستير والدكتوراه، وظل طوال حياته يتابع نجاح هذا المنهج ويشرف عليه مع أقرانه وتلاميذه في إعداد الرسائل الجامعية منذ عام 1976م حتى وفاته، فخرج منه العديد من المجلدات في جامعة الأزهر الشريف، كما ناقش واشرف على أكثر من مائتي رسالة ماجستير ودكتوراه في جامعة الأزهر والإسكندرية بمصر، وآم القرى والإمام محمد بن سعود بالسعودية، وأم درمان بالسودان، كما شارك في ترقية أكثر من خمسين أستاذا في الحديث والتفسير والدعوة بالجامعات المصرية والسودانية والسعودية والإماراتية، فضلا عن قيامه بالتدريس والمحاضرات لطلبة الدراسات العليا بمصر والسعودية وليبيا وقطر على مدى ثلاثين عاما، كما شارك في تصحيح المفاهيم المغلوطة، ونشر الدعوة الإسلامية في الإذاعات المرئية والمسموعة بنحو ألف حلقة في مصر، ونحو خمسمائة حلقة في قطر، وخمسين حلقة بالسعودية، وعشرين حلقة بالإذاعة البريطانية، كما أثرى الصحافة العربية والإسلامية بما يزيد على ألف فتوى وخمسين مقالة ورد علمي في صحافة مصر وعشر مقالات في صحافة قطر، ونحو خمسة مقالات في صحافة السعودية كما سد فراغا كبيرا بالمكتبة الإسلامية بمؤلفات متميزة في مجالي التفسير والحديث، منها تيسير تفسير النسفي في تفسير القرآن الكريم (خمسة عشر جزءا) والذي درس لطلاب المعاهد الأزهرية حقبة طويلة من الزمن، وقد لاقى رواجا كبيرا لدى الأساتذة والطلاب بها، واللآلئ الحسان في علوم القرآن والمنهل الحديث في شرح أحاديث البخاري (أربعة أجزاء) الذي يتهافت عليه جموع الطلاب بمن فيهم طلاب الجمعيات الشرعية والأهلية بمصر، وفتح المنعم في شرح صحيح مسلم (عشرة مجلدات) وهو المؤلف الذي قضى في إعداده حوالي ربع قرن من عمره، والذي يعد من اكبر وأعظم مؤلفات شيخنا الجليل، وتحقيق وتعليق صحيح مسلم في (خمسة مجلدات) بالاشتراك مع تلميذه د. احمد عمر هاشم،وتيسير البخاري (ثلاثة مجلدات) وصحيح البخاري في نظم جديد (أربعة مجلدات) وقصص من الحديث النبوي (مجلدان) بالاشتراك مع كريمته د. أماني موسى لاشين ود. حصة السويدي من قطر، والموسوعة المختصرة للأحاديث النبوية (إصدار المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية) وعلوم الحديث وبحوث عديدة منها السنة والتشريع، والسنة كلها تشريع والحصون المنيعة للدفاع عن الشريعة، وكان خاتمة المطاف كتابه تجديد الدين.
من مظاهر التقدير

ومن مظاهر التقدير التي حظى بها حصوله على جائزة الأوائل طوال سنوات الدراسة بالمعاهد الأزهرية، وجائزة عيد العلم لحصوله بنجاح على مراتب الشرف طوال سنوات الدراسة بالجامعة وذلك عام 1964م، وحصوله على درع وزارة الداخلية وشهادة تقدير منها عام 1982م لجهوده في تصحيح المفاهيم المغلوطة لدى شباب جماعات التكفير والهجرة، وبقية الجماعات الأخرى، وشهادات تقدير متعددة لما قام به من التوعية الدينية العامة من الجامعات والجمعيات الشرعية والأهلية ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية منذ عام 1965م وحتى وفاته.
وقد توجت هذه الجوائز بحصوله من رئيس الجمهورية على وسام جمهورية مصر العربية للعلوم والفنون والآداب من الطبقة الأولى في عام 1997م، وقد قدم قبل وفاته مؤلفاته وعلى رأسها كتابه الفريد في بابه "فتح المنعم" إلى إحدى مسابقات المؤسسات العلمية المتخصصة بدولة الكويت، ولم يتم البت فيها إلى الآن.
يذكر أن إمام مسجد رابعة العدوية بالقاهرة يعد رسالة دكتوراه عن حياة الشيخ ومنهجه في بحوثه وكتبه.

خاتمة المطاف


ما ذكرته عن الشيخ غيض من فيض، وقطرة من محيط عطاياه ، وقديما قالت العرب: كفى بالقلادة ما حف بالعنق، رحم الله شيخنا، واسكنه فسيح جناته، وألهم أله وتلاميذه ومحبيه وعارفي فضله الصبر والسلوان، ونفع بعلمه، وأوصل إليه ثوابه، وعوض الأمة الإسلامية عنه خيرا.