- مفهوم السياق: السياق في اللغة مصدر ساق قال الجوهري في (الصحاح )" وساق الماشية من باب قال وقام فهو سائق وسواق " . وقد وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم باستعمالات متعددة منها: قوله تعالى " حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء" الأعراف 56. قوله تعالى " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه الى بلد ميت" فاطر9. قوله تعالى " أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون" السجدة 27. قوله تعالى " ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " مريم 87. قوله تعالى " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين" الزمر68. قوله تعالى " كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون " الأنفال 6. قوله تعالى " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " ق 21. وبالرجوع الى كتب التفسير للوقوف على معاني هذه الآيات الكريمة يتضح أنها لاتفيد المعنى الذي نقصده من مصطلح السياق في هذه الدراسة . وفي الإصطلاح جاء في (المعجم الوسيط) " سياق الكلام تتابعه وأسلوبه الذي يجري عليه ". وعرفه العطار في حاشيته على جمع الجوامع قائلا " السياق ما سيق الكلام لأجله " ج1/320. - وعرفه الطحاوي في (معاني الآثار) بقوله " السياق هو الأمر الذي يمكن أن يؤثر في معنى خطاب معين مما له علاقة بالخطاب ذاته"ج1/49. - وقد عرف السياق من طرف بعض الباحثين المعاصرين بتعاريف منها: - هو الناظم الذي يعطي للكلمة في إرتباطها بما قبلها وما بعدها معناها المقصود. - هو ما سيق الكلام لإفادته على نسق معين من ترتيب لفظه. - هو الجو العام الذي يحيط بالكلمة وما يكتنفها من قرائن وعلامات. - هو مؤدى الكلام السابق واللاحق ومقتضاه في تفسير بعض الألفاظ وتحديد المعاني المرادة من بين معانيها. - هو نظام داخلي يجري عليه الكلام الذي تنتظم فيه المعاني والألفاظ المؤدية لها للتعبير عما في النفس بمفردات اللغة وتراكيبها وأساليب البيان المختلفة. - سياق الكلام تتابعه وترابطه وأسلوبه الذي يجري عليه ويوصل الى معاني مقصودة . ( يرجع في هذه التعاريف الى: " أهمية إعتبار السياق في المجالات التشريعية وصلته بسلامة العمل بالأحكام " – أعمال ندوة الرابطة المحمدية للعلماء -. " السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة " لسعيد بن محمد). - يستفاد من هذه التعاريف: أن السياق قد يراد به: - ما سيق النص من أجله . - أوما سبق النص ولحقه مما يراد بيانه . - أوما سيق الخطاب من أجله . - أو تأويل النص بحيث يتضح ما سيق الكلام لأجله ز - كما قد يراد به مقاصد الشريعة وعللها وحكمها . - أو قصد الشارع الذي يدل النص عليه بنوع من أنواع الدلالة ويستفاد منه بتأويله أوبيانه . - وقد يراد به سبب نزول الآية أو مناسبتها أو سبب ورود الحديث أومناسبته ومكونات الواقع الذي نزل الخطاب فيه وأحوال المخاطبين. وهذا كله لايتأتى الا بملاحظة بيئة النص . لم يصرح الأصوليون بهذا كلما أرادوا كشف مراد الشارع وفهم مقصوده من النصوص ، لكن أقوالهم وتحليلاتهم تكشف عن وجود هذه المفاهيم في أذهانهم وهم يمارسون عملية فهم النصوص وإستنباط الأحكام ، وقد وردت إشارات الى ذلك عند بعض العلماء من ذلك ما يسميه الشاطبي رحمه الله المساق الحكمي الذي " يختص بمعرفته العارفون بمقاصد الشارع " (الموافقات) ج3/ 276. - أمثلة لإعتبارالسياق: - إعتبار السياق عند الصحابة رضوان الله عليهم: إعتبر الصحابة رضوان الله عليهم السياق فيما كانوا يفهمونه من القرآن الكريم سواء تعلق الأمر بالسياق المقالي أو السياق المقامي من ذلك مثلا: - رد أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رجع من الغار وفؤاده يرجف بداية نزول الوحي قائلة له " والله ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق " وهذا تثبيت لرسول الله عليه السلام إستفادته رضي الله عنها من دلالة الحال وسياق ما عرفته عن الرسول الكريم عليه السلام. - معارضة الصديق رضي الله عنه للفاروق عمر في شأن الممتنعين عن دفع الزكاة رغم إستدلاله على ذلك بقوله كيف نقاتلهم وهم يشهدون أن لاإله إلا الله وقد قال النبي عليه السلام " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله لأنه فطن لما لم يفطن له عمر رضي الله عنه حيث إحتج على عمر بدلالة الإقتران التي هي من دلالة السياق قائلا " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " لإقترانهما في كتاب الله. - قول عمر رضي الله عنه في حديث جبريل عن الرجل الذي جاء يسأل النبي عليه السلام " شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لايرى عليه أثر السفر ولايعرفه منا أحد " فان استنتاج المفارقة في قوله" لايرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد" لا يمكن إدراكها الا باعتبار السياق الذي يستفاد من دلالة الحال. - جلد عمر رضي الله عنه حد القذف لرجل سب الآخر قائلا والله ما أبي بزان ولا أمي بزانية بعد أن إستشار في ذلك فقال قائل مدح أباه وأمه وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن تجلده الحد وهذا لايستفاد إلا بدلالة السياق. - إعتبار السياق في فتاوى الفقهاء رحمهم الله: سار الفقهاء على منهج االصحابة في إعتبار السياق وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله" ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين: - أحدهما فهم الواقع والفقه فيه وإستنباط حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما . - والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع وهو حكم الله الذي حكم الذي حكم به في كتابه أوعلى لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر " (اعلام الموقعين) ج/4-220 ومن أمثلة ذلك: - قال ابن العربي في أحكام القرآن في قوله تعالى في سورة السجدة 18 " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لايستوون " في هذا القول نفي المساواة بين المؤمن والكافر وبهذا منع القصاص إذ من شروط وجوب القصاص المساواة بين القاتل والمقتول وبذلك احتج علماؤنا على أبي حنيفة في قتله المسلم بالذمي " أحكام القرآن ج/3- 535 ، وقد إستدل الجمهور ومنهم المالكية على ذلك بعموم الآية في نفي المساواة لوقوع الفعل في قوله تعالى " لايستوون " في سياق النفي. - السياق هو الذي جعل الفقهاء يفمهون من قوله تعالى " واذا حللتم فاصطادوا " المائدة 3 ، أن إباحة الإصطياد بعد الإحلال من الإحرام هو رفع للحظر الذي ورد في قوله تعالى " غير محلي الصيد وأنتم حرم " المائدة 2 . - والسياق كذلك هو الذي جعل الفقهاء يفهمون من قوله تعالى " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم" المائدة 35 ، أن المراد بها ليس بيان حد الحرابة ، بل المراد بذلك بيان ما ترتب على فعل ابن آدم الذي قتل أخاه . والأمثلة لا حصر لها في كتب التراث الا أننا نقتصر على ما سلف على سبيل التمثيل فقط. - أقسام السياق: السياق هو قرينة من القرائن المؤثرة في معنى الخطاب مما له علاقة بالخطاب ذاته ، وهو في بعض الأحيان يكون ظاهرا بارزا لايحتاج الى كثير من النظر والتدبر ليظهر، وأحيانا يحتاج الى شئ من ذلك ، وهو إما أن يكون مقاليا أو مقاميا، وبهذا الإعتبار ينقسم الى قسمين هما: 1- سياق مقالي أو لغوي: هو الذي يرتبط بالقرائن اللغوية التي يتضمنها الدليل ويستدل بها على مدلوله من جهة اللفظ والمعنى لتحديد المعنى اللغوي ، أوما يعبر عنه بالمعنى النحوي أو الوظيفي للجملة الذي قد تتعدد احتمالات دلالاته فيصبح بحاجة الى إعتبار القرائن لرفع تلك الإحتمالات وتحديد المعنى المراد ، ولذلك قال الشاطبي رحمه الله في سياق إستدلاله على أهمية أسباب التنزيل في فهم القرآن الذي هو أصل أدلة الأحكام " والدليل على ذلك أمران: أحدهما أن علم المعاني والبيان الذى يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين وبحسب مخاطبين وبحسب غير ذلك ، كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة وعمدتها مقتضيات الأحوال وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه ، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال" (الموافقات) ج/3- 225. 2 - سياق مقامي أو غير لغوي: هو الذي يعتمد على القرائن الغير المرتبطة بالدليل والمدلول لتحديد مراد المتكلم بحسب مقتضى الحال ، وهذا المعنى هو المعبر عنه بالمعنى المراد من الخطاب أو مقتضى الحال ويشتمل على عناصر متعددة تتصل بالمخاطب والمخاطب وسائر الملابسات التي تحيط بالخطاب ، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وضع اللفظ في اللغة ، كاختلاف الغاية التي تساق من أجلها القصة في القرآن الكريم حيث تذكر بعض معانيها الوافية بالغرض في مقام ، وتبرز معاني أخرى في مقامات مغايرة حسب مقتضيات الأحوال. وهذا ما يؤكده الدكتور تمام حسان في كتابه (البيان في روائع القرآن) قائلا " وهكذا تمتد قرينة السياق على مساحة واسعة من الركائز ، تبدأ باللغة من حيث مبانيها الصرفية وعلاقاتها النحوية ومفرداتها المعجمية ، وتشمل الدلالات بأنواعها من عرفية الى عقلية الى طبيعية كما تشتمل على المقام بما فيه من عناصر حسية ونفسية واجتماعية كالعادات والتقاليد ومأثوات التراث ، وكذلك العناصر الجغرافية والتاريخية ، مما يجعل قرينة السياق كبرى القرائن بحق " ص-221-222. ويقول كذلك " فالمبنى الواحد متعدد المعنى ، ومحتمل كل معنى مما نسب إليه وهو خارج السياق ، أما إذا تحقق المبنى بعلامة في السياق ، فإن العلامة لاتفيد إلا معنى واحدا تحدده القرائن اللفظية والمعنوية والحالية ، وهذا التعدد والإحتمال في المعنى الوظيفي يقف بإزائه تعدد واحتمال في المعنى المعجمي أيضا " ( اللغة العربية معناها ومبناها ) ص- 165. وفهم مدلول الخطاب وسياقه أمر يتفاوت في فهمه المخاطبون وبحسب ذلك تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم ، فعدم إدراك السياق مطلقا في فهم الخطاب ليس كادراك السياق المقالي وحده أو المقامي وحده ، وهذه المرتبة ليست كادراكهما معا في فهم خطاب معين ، فمن لوازم الفهم السليم للخطاب العلم بالقرائن المرتبطة به جملة وتفصيلا والتي تشكل سياقه. - مجالات إعتبار السياق: إن اكثر المجالات التي ظهرت فيها العناية بالسياق هي: - البحث عن أسباب نزول الآيات القرآنية ، وأسباب ورود الأحاديث النبويه . - إدراك دلالات النصوص الشرعية وذلك لما يترتب عليه من أثر في فهم الأحكام وتوجيهها والكشف عن معانيها بدقة ووضعها في الإطار الذي جاءت فيه . - حل الإشكالات التي قد تنشأ عند تجريد النصوص من سياقها الذي وردت فيه وخاصة عندما يلاحظ التعارض بينها. واذا كانت هذه هي أهم المجالات التي ظهرت فيها العناية بالسياق عند العلماء فان بلوغ الغاية فيها يبدأ بتحكيم قواعد اللغة التي هي الأداة المعبر بها عن النص والسياق ، وذلك بحصر عناصره والبحث عنها خارج النص كأشباه النص ونظائره من النصوص القريبة والبعيدة والتي لها صلة به ولوازمه وما يحتف به من الحيتيات الزمانية والمكانية والنظرة الشمولية لموضوعه المستوعبة لجزئياته وذلك لتحليل النص وفهمه فهما سليما يساعد على تنزيله على محله، غير أنه لابد لمراعاة السياق من ضابطين هما أن يكون دليله قويا وليس ضعيفا، وأن يكون حقيقيا وليس وهميا .