العلاقة بين النقد والإبداع


د. وليد قصاب


يقع الباحثُ في التراث الأدبيِّ عند العرب على نصوص نقديَّة كثيرة تتحدَّث عن العلاقة بين المبدِع والنَّاقد، وعن طبيعة كلٍّ منهما، وعمَّا إذا كان امتلاك المرء لإحدى الموهبتين يعني - بالضرورة - امتلاكه الموهبَةَ الأخرى، أو قبضه على ناصيتها؟

تُحدِّثنا نصوص تراثية نقديَّة كثيرة أنَّ طائفة من الشُّعراء قد تمرَّدوا على أحكام نقَّادٍ بأعيانهم متهمين إياهم بعدم البَصر بجوهر الشِّعر وحقيقته، وأنَّ نَقدهم سطحيٌّ، يَقف من الشِّعر عند قِشرته الخارجيَّة، متمثِّلاً ذلك في نحوه، أو صرفه، أو عروضه، أو وجوه إعرابه، وفيما يجوز وفيما لا يجوز، ويَكتفي بذلك، فلا ينفذ إلى بواطِن القول وخفاياه، ولا يَقرأ ما خلف سطوره من معانٍ وأفكار، ولا يتلمَّس ما في لغته من جمال وتميُّز، وخروج على النَّمط المألوف؛ أي: إنَّ بعض النُّقَّاد يَكتفي بالصواب عن الجمال.

يَعرف نَقد الشِّعر من يمارسه:
ولم يتقبَّل بعضُ الشعراء ما وجَّه النقَّاد إليهم من ملحوظاتٍ أو مآخذ بصدرٍ رحب، ولا سيما إن كان هذا النَّاقد من غير المبدِعين، وأشاع هؤلاء الشعراء - إنْ عن اقتناع، أو عن معاندة لأنهم نُقِدوا - فكرة أنَّ نقد الشِّعر لا يعرفه مَن لم يمارسه، أو - بتعبير بعضهم - مَن "لم يُدفع إلى مَضايقه".

سئل البحتريُّ، فقيل له: "يا أبا عبادة، أمسلِم أَشْعَر أم أبو نواس؟ فقال: بل أبو نواس؛ لأنَّه يتصرَّف في كلِّ طريق، ويبدِع في كلِّ مذهب؛ إنْ شاء جدَّ، وإنْ شاء هزل، ومسلمٌ يلزم طريقًا واحدًا لا يتعدَّاه، ويتحقَّق بمذهبٍ لا يتخطَّاه"، فقيل له: "إنَّ أحمد بن يحيى ثعلبًا لا يوافقك على هذا، فقال: ليس هذا من عِلم ثعلب وأضرابه ممَّن يَحفظ الشِّعر ولا يقوله؛ فإنَّما يَعرف الشِّعر من دُفِع إلى مضايقه"[1].

ومن هذا القبيل ما كان من أبي نواس، فقد سُئل عن رأيه في كلٍّ من جرير والفرزدق، ففضَّل جريرًا، فقيل له: إنَّ أبا عبيدة مَعْمر بن المثنَّى لا يوافقك على هذا، فقال: "ليس هذا من عِلم أبي عُبيدة؛ فإنَّما يَعرفه من دُفع إلى مضايق الشِّعر..."[2].

والحقُّ أنَّ هذه الفِكرة غير صحيحة؛ إذ النَّقد نشاط مختلِف عن الإبداع، وهو يَحتاج إلى خِبرة وحصيلة معرفيَّة عميقة، إنَّه وليد ذَوق مدرَّب، واطِّلاع غَزير على النصوص الأدبيَّة، وهو نشاط عقليٌّ منظَّم، يقوم على مناهج وضوابط، لا يتم بصورةٍ عفويَّة أو تلقائيَّة.

وقد يكون النَّاقد أخبر بالعمل الأدبيِّ من المبدِع نفسه، وكم استنبط النَّاقِد من نصِّ المبدِع أشياء لم تَخطر في بال هذا المبدِع نفسه.

وهذا ما عبَّر عنه ابنُ رشيق وهو يَشرح قولَ امرئ القيس يصف فرسَه:
مِكرٍّ مِفرٍّ مقبلٍ مُدْبرٍ معًا ♦♦♦ كجلمودِ صخرٍ حطَّه السيلُ من علِ

إذ - بعد أن أوردَ عدَّة تفسيرات للبيت فيما سمَّاه في كتابه باب الاتساع - قال: "ولعلَّ هذا ما مرَّ قطُّ ببال امرئ القيس، ولا خطَر في وهمه، ولا وقع في خلده، ولا رُوعه"[3].

وكان شاعر العربيَّة الأكبر أبو الطيِّب المتنبِّي كثيرًا ما يحيل مَن يَسأله عن بعض ما أشكل عليه من قوله إلى ناقِده، الذي فسَّر شعرَه، وعُني به، وهو أبو الفتح بن جني، ويقول له: "اذهبوا إلى ابن جني؛ فإنَّه يقول لكم ما أردتُه، وما لا أردته"[4].

ولا شكَّ أنَّ هذه شهادة ذات قيمة ودلالة عظيمة من شاهدٍ كبير، معتدٍّ بشِعره وشخصه أشد اعتداد، لناقدِ شعره ابن جنِّي، واعتراف منه بقدرَته على فهم شعره فهمًا عميقًا، والنَّفاذِ إلى بواطنه، بل إلى إدراك أسرارٍ لم تَخطر في بال الشَّاعر نفسه؛ كما كان يقول ابنُ رشيق.

إذًا قد يَنقد الشِّعر، ويجيد في نقده مَن لا يقوله، وقد يقوله ولكنَّه لا يَستطيع نَقده، أو لا يكون هو الأميَز والأقدر على نقده.

وليس ثمَّة تلازم بين الإبداع والنَّقد؛ فهما - كما ذكرتُ - نشاطان مختلفان، وليس ثمَّة علاقة حتميَّة بينهما، ولذلك لا يَبدو لي صحيحًا ما ذكره مونتسكيو عن النُّقَّاد؛ حيث شبَّههم بجنرالات فاشلين عَجزوا عن الاستيلاء على بلد فلوَّثوا مياهَه[5].

النَّاقد ليس مبدِعًا فاشلاً كما يقول مونتسكيو، وهو لا يصبُّ جامَ غضبه على الأديب، أو يحاول الانتقامَ منه؛ لأنَّه عجز أن يكون مبدعًا مثله، كما أنَّ النَّقد الأدبي لا يُفقِر العملَ الأدبي؛ كما قال بعضُهم[6].

إنَّ النقد الأدبيَّ نشاط فكريٌّ مستقلٌّ، وهو نشاط فعَّال، لا غِنى للأدب عنه، وأفضال النقَّاد على الأُدباء لا تكاد تُحصى.

إنَّ الناقد هو الذي يُبرز الأديبَ المتميِّز، وهو الذي يذيع ذِكرَه، ويرفع شأنَه، وهو الذي يعرِّف الناسَ به، وينوِّه بتميُّزه، ويفسِّر كلامَه، ويقرِّبه من عقول القرَّاء وأذواقهم.

وهذا ما عبَّر عنه الخليلُ بن أحمد الفراهيدي في حوارٍ طريف دار بينه وبين ابن مناذر الشاعر, قال الخليل: "أنتم - معاشر الشُّعراء - تبعٌ لي؛ إنْ قرَّظتكم ورضيتُ قولَكم نَفقتم، وإلا كسدتم"[7].

النَّقد - كما ذكرتُ - نشاط فكريٌّ مستقلٌّ عن الإبداع، وقد عبَّرَت أقوال نقدية كثيرة في تراثنا الأدبيِّ عن هذه الحقيقة، وكانت ردود النقَّاد واضحة مقنِعة على من يتوهَّمون أنَّ نقد الشِّعر صنعة لا يجيدها إلاَّ شاعِر، لا يجيدها إلا من دُفع إلى مضايق الإبداع.

قيل للخليل بن أحمد الفراهيديِّ: "لِم لا تقول الشِّعر مع علمك به؟ فقال: لأني كالمِسنِّ أشحذ ولا أقطع"[8].

وكان ردُّ المفضَّل الضبي ذا دلالة بليغة على أنَّ النَّاقِد الخبير بفنِّ القول قد يطبِّق هذه الخبرة على ما يُقذف على لسانه هو نفسه من الإبداع، فيمتنع عن إذاعته بين الناس؛ لأنَّه ليس أهلاً لذلك، ولأنَّه أدرى من غيره بالحسن والرديء.

قال قائل للمفضَّل: "لمَ لا تقول الشِّعر وأنت أعلم الناس به؟ قال: عِلمي به يَمنعني من قوله، وأنشد:

أبى الشِّعرُ إلاَّ أن يفيء رديئُه
عليَّ، ويأبى منه ما كان محْكَما

فيا لَيتني إذ لم أُجِدْ حوكَ وشْيه
ولم أكُ من فرسانِه كنتُ مُفْحما[9]


ومثله كان ردُّ الأصمعي على من قال له: ما يَمنعك من قول الشِّعر؟ إذ أجاب إجابة دالَّة، فقال: "نظري لجيِّده"[10].
كبار النُّقَّاد غير مبدعين:
إنَّ الانتقاص من قدر النَّاقد لأنَّه لا يستطيع أن يبدِع أدبًا غير صحيح، ولا تؤيِّده شواهد التاريخ الأدبيِّ؛ فتراثنا العربيُّ وتراث الأمَم الأخرى كذلك عرف نقَّادًا كبارًا لم يكونوا مبدعين، وربَّما لم ينشئ أحدهم نصًّا إبداعيًّا واحدًا، أو أنَّه أبدع، ثمَّ وجد ما أبدعه لا يَرقى إلى مستوى الرِّفعة والتميُّز، فطواه ولم يذِعه بين الناس، وكان هذا ممَّا يُحتسب له؛ إذ يدلُّ على موضوعيَّةٍ وقُدرة على تمييز الجيِّد من الرَّديء؛ كما أشار إلى ذلك كلٌّ من الأصمعيِّ والمفضَّل الضبيِّ في النصوص التي توقَّفنا عندها.

إنَّ النَّقد شيء والإبداع شيء، وقد يَجتمعان في واحد وقد لا يجتمعان، وقد أشار الجاحظُ ذات مرَّة إلى هذه المسألة، فذكر أنَّ صنعة النَّثر وصنعة الشِّعر لا يَجتمعان إلاَّ للقليل من العلماء، وأنَّ من يجيد إحداهما قد لا يُجيد الأخرى.


[1] العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده؛ لابن رشيق: 2 / 104.

[2] السابق نفسه.

[3] السابق: 2 / 93.

[4] سرح العيون، شرح رسالة ابن زيدون؛ لابن نباتة المصري (18).

[5] انظر: "مدخل إلى مناهج النقد الأدبي"؛ لمجموعة من النقَّاد الغربيين - ترجمة رضوان ظاظا - سلسلة عالم المعرفة: (11).

[6] السابق نفسه.

[7] الأغاني: 8 / 184.

[8] العقد الفريد: 2 / 268.

[9] الموشح؛ للمرزباني: 564.


[10] العقد الفريد: 5 / 308.