طرائق الترجمة
عبدالهادي شفيق

لا أحد ينكر دور الترجمة لكونها أداة للتبادل الثقافي والعلمي بين الأمم، وقد مسَّت الحاجة إليها، ومارستها الشعوب بشكل تلقائي منذ زمن بعيد وقديم جدًّا، وتنظر الدراسات الحديثة للترجمة ممارسة ونظرية على أنها جزء لا يتجزأ من الواقع الثقافي للأمم؛ بحيث تخضع للعوامل التاريخية والاجتماعية التي تمر بها المجتمعات.

يجب أن ندرك قبل كل شيء بيت القصيد في النص، وأن نستخلص زبدته حريصين كل الحرص على عدم المساس بخصائصه ومميزاته، فقد يكون فيه من البيان ألوان، وأن يكون شاعري الطابع، أو منطقيًّا، علينا أن نفهم الواقع؛ لأن الكلمات بعدئذ منقادة منساقة إذا تمكَّنا من ذلك، أو بعبارة أخرى ما أُدْرِك بدقة وتعمُّق يُمكن أن يُبيَّن بوضوح وتذوُّق، لكن ينبغي التنبيه إلى مدرسة الشعراء، فهي كاتمة الأسرار وبعيدة الأغوار، يجب أولًا ألا نضع مسودة مع تقييد بعض المفكرات دون أن نندفع اندفاعًا أعمى وراء إغواء القاموس أيًّا كان نوعه، هناك من يرى أنه يكفي تصفح معجم من المعاجم لترجمة ما لديهم من النثر، وهذا وهم؛ لأنه ليس ثمة مترادفات ثابتة وراسخة تصلح لكل المناسبات، فالمفردة الواحدة تتبدل وتتلون بتلون الظروف والملابسات، ولنا في اللغة العربية والإنجليزية من الأمثال ما يمكن أن يكون على ذلك شاهدًا، هناك كلمات وكلمات تفرق بينها كما رأينا ظلال من المعاني الدقيقة، يقع في حبالها من لا يزال مبتدئًا، إذا كنا أمام نص وعر عسير نحتار في أمرنا، ولا ندري أي المعاني نختار، في هذه الحالة يكون السياق نِعم المعين، وإذا أمعننا وأعملنا الفكر، وأعيانا التفكير في إيجاد مقابل لتعبير معين، أمكننا التبديل؛ كوضع فعل محل اسم، أو صفة أو جملة فعلية أو اسمية ... إلخ اتباعًا لقواعد اللغة المنقول إليها.

باختصار شديد يشترط في الترجمة خفة الروح وحضور البال، واتساع مجاري الخيال، مع القدرة على السبك والحبك، والتعبير الفصيح والسليم، والمطالعة المستمرة، والمران الذي لا يعرف الكلل والملل، ويجب أن تكون الترجمة أمينة التأدية مع تلافي الركاكة والعجمة.

لقد دأب الناس على مر الأحقاب والعصور على تقسيم الترجمة إلى قسمين: الترجمة التفسيرية (بتصرُّف)، والترجمة الحرفية أو ضيقة النطاق، وهناك الترجمة الممعنة في الحرفية، والترجمة التفسيرية، وإن الترجمة التقريبية هي التي سار عليها مصطفى لطفي المنفلوطي، وقبله بطرس البستاني في ترجمة "روبنسون كروزو"، سواء لعدم الإلمام باللغة العربية، أو رغبة في الاسترسال والإبداع والسجع، وسنحاول حصر موضوعنا هذا في الترجمة الحرفية والتصرف:
الترجمة الحرفية: هي النقطة التي يستقيم فبها المعنى مع الركاكة في التعبير عنه.

الترجمة المتصرفة (بتصرف)؛ أي: بلوغ نص في اللغة المنقول إليها يكون فحواه دقيقًا من حيث المعنى وأسلوبه سلسًا مقبولًا، وهو الهدف المنشود، وكلما كان المترجم أقدر كان النص أرقى أسلوبًا، ولا ريب أن هناك أساليبَ تختلف باختلاف الأشخاص والمواضيع والفروع، وبالنسبة للغة العربية، فالمبدأ الأساس أن يعمِد الكاتب إلى الكلام الأعجمي، فيترجمه بكلام عربي فصيح يسوقه على مناهج العرب، إلا أن الحرفية والتصرف تختلف درجتهما من لغة إلى أخرى، وكلما اتسعت الشقة بين اللغتين كانت الحرفية غير مستحبة، واتسمت بالركاكة، وبخصوص اللغة العربية فإنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع الكلمات اليونانية، ويقع كذلك الخلل من جهة استعمال المجازات، وهي كثيرة في جميع اللغات، وأن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها في أسمائها وأفعالها وحروفها، وتأليفها وتقديمها وتأخيرها، واستعاراتها وتحقيقها، وقد كانت طريقة حنين بن إسحاق أن يأتي بالجملة فيحصل معناها في ذهنه، ويعبر عنها في اللغة الأخرى بجملة تطابقها، سواء ساوت الألفاظ أو خالفتها.

لنتأمل هذه الأمثلة التي تجسد لنا مظهر الترجمة الحرفية والترجمة المتصرفة:
الترجمة الحرفية: هي في الحقيقة ترجمة شبه حرفية؛ لأن التركيبين العربي والإنجليزي مختلفين، فلنتأمل هذين المثالين:
هذان الرجلان هما شيخا القبيلة
These two men are the two chiefs of the tribe
على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم
According to the degree of people resolrencame the resolutions
And according to the degree of noble men come the noble actions
التصرف: وتنقسم إلى قسمين: ترجمة شبه حرفية، وذات مسحة أصلية:
وبعد أن وصلت إلى وسط الزقاق، سمعتُ فجأة ضوضاءَ شديدة، ولَمَّا توسطت الدرب إذ أنا أفاجَأ بصوت عظيم
And after i had got the middle of the lane i all at once heard a great noise
يتضح لنا من الأمثلة السابقة أن التدرج من الحرفية إلى التصرف أمر ضروري، وأن إضفاء الطابع الأصيل شيء مستحب ومرغوب، إلا أن هذا يتطلب الحنكة والذوق الرفيع، ويمكن أن نقول: إنه لا بد من الوصول بالنص إلى مستوى معين من التصرف، بحيث يكون سلسًا ومفهومًا بالقدر اللازم من ذلك الحد الفاصل بين الحرفية والتصرف، تختلف الأساليب اختلاف المترجمين، وقد تكون النصوص النهائية كلها جيدة ومتساوية في المنزلة، وقد كانت من عادة الأستاذ أحمد حسن الزيات أن ينقل النص الأجنبي إلى العربية حرفيًّا على حسب نظمه في صفته، ثم يعود فيجربه على الأسلوب العربي الأصيل، فيقدم ويؤخر دون أن ينقص أو يزيد، ثم يعود فيفرغ في النص روح المؤلف وشعوره باللفظ الملائم والمجاز المطابق والنسق المنتظم.

فكما نحن بصدد الترجمة الحرفية والتصرف، نود أن نقدم ما جاء على لسان الدكتور مصطفى الطوبي في "الترجمة بين الاتباع والإبداع" في فصل "قضايا ترجمة المصطلح في علم المخطوط"، الذي نسقط هذا على محور الترجمة بتصرف؛ لأنه الأوفى والأنسب لعلم ترجمة المخطوط؛ يقول: "فالمترجم يكون في بداية أمره أمام إشكالية المصطلح، وهو الأمر اللافت للنظر في عملية التواصل مع اللغة الهدف، فلا بد من مراعاة الجانب التأصيلي للمصطلح، وعلى هذا الأساس ستكون ترجمته في شكلها الإيجابي هي البحث عن المقابل للمصطلح الأجنبي، لا اللجوء إلى الترجمة الحرفية[1].

وهكذا فإن روعة النص المكتوب وجماله واتساقه في اللغة المنقول إليها، يعتمد أيضًا على مقدرة (قدرة) المترجم على تقمُّص شخصية المؤلف، ومن الأهمية بمكان ألا يخرج المترجم عن طابع النص، فيكون في تصرفه شطط أو تشويه ذلك، ويشترط فيه ألا يتنطس ( التيه / الإغراق) الناقل إلى درجة تذهب بروح الفكر الذي يحاول أن ينقله، كان يخلط بين الأساليب الكتابية، فينقل الرواية المؤثرة مثلًا إلى عبارة المرسلين القدماء، أو أصحاب المقامات، ويستعمل للوصف الخيالي أوضاعًا ضخمة لا تصلح إلا في الملاحم والمساجلات.

[1] الطوبي مصطفي أستاذ ودكتور مادة الترجمة كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة ابن زهر أكادير.