خطبة الحرم المكي - اسم الله الودود: بعض معانيه وآثاره في حياة المسلم



الفرقان

جاءت خطبة المسجد النبوي بتاريخ 1 جمادي الأولى 1444ه، الموافق 25 نوفمبر 2022م، للشيخ ماهر المعيقلي، بعنوان: (اسم الله الودود وبعض معانيه وآثاره في حياة المسلم)، واشتملت الخطبة على عدد من العناصر كان أهمها: المكانة العظمى لمعرفة الله -تعالى-، وبعض معاني اسم الله الودود، ومن فيوضات اسم الله الودود على العبد، ومن وجوه التعبد لله بمعاني اسم (الودود).

في بداية الخطبة بين الشيخ المعيقلي أنَّ معرفةَ الربِّ -جل جلاله-، بأسمائه وصفاته وأفعاله، هو لُبُّ الإيمانِ، وغايةُ دعوةِ الأنبياءِ والمرسَلينَ؛ فالعبدُ إذا عرَف ربَّه، أخلَص في توحيده، واجتَهَد في طاعته، وابتَعَد عن مخالَفة أمرِه، وزاد تعظيمًا له وإجلالًا، ومحبةً وإقبالًا، وتعلَّق قلبُه برؤيته ولقائه، ومَنْ أحَبَّ لقاءَ الله، أحبَّ اللهُ لقاءَه، ولله تسعة وتسعون اسمًا، مَنْ أحصاها دخَل الجنةَ، ولقد أثنى اللهُ -تعالى- على ذاته العلية، فوصَف نفسَه بالودود، فقال -سبحانه-: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}(الْب ُرُوجِ: 14-15)، وقال -جل في علاه على لسان نبيِّه شعيبٍ عليه السلام-: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}(هُودٍ: 90)، فالمودة: هي وصفٌ زائدٌ على مُطلَق المحبة، فالودود هو ذو المحبة الخالصة، والرب -جل جلاله- وتقدَّست أسماؤه، يتودَّد إلى خَلقِه بصفاته الجليلة، وآلائه ونِعَمِه العظيمةِ، وألطافه الخفية، فكلُّ ما في الكون من آيات بيِّنات، هي ودٌّ من الخالق ورحمة، وتفضُّل منه وإحسان ومنَّة؛ {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}( الْجَاثِيَةِ: 13).
هداية العباد للإسلام
ومِنْ كرمِه -سبحانه-، وجودِه ورحمتِه، أَنْ هدى عبادَه للإسلام، وأكمَل لهم الدينَ، ونفَى عنهم الحرجَ والمشقةَ، وأمرَهم بذِكْره وشُكره، ووعَد مَنْ شكَره بالمزيد، رغبةً في صلاح عباده، ونيلهم خيره ورضاه، فقال -سبحانه-: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (الْبَقَرَةِ: 152).
مخاطبة رب العالمين للمخطئين
وأمَّا مَنْ تلقفَتْه الشهواتُ والشبهاتُ، وأسرَف على نفسه بالخطيئات، فالودود -سبحانه- يُخاطبه بألْيَنِ خطابٍ، وأجملِ عتابٍ، فيقول -سبحانه-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزُ ّمَرِ: 53)، فسبحانه من رب كريم، رحيم حليم! يعصونه فيَدعُوهم إلى بابه، ويُخطِئون فلا يمنعهم إحسانَه، بل لا يزال خيرُه إليهم نازلًا، وشرُّهم إليه صاعدًا، ويحلم عنهم ويسترهم، ويبسط يدَه بالليل، ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وينزل -تبارك وتعالى- كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، نزولا يليق بجلاله، حين يَبقى ثلثُ الليل الآخِر، فيقول: «مَنْ يدعوني فأستجيب له، مَنْ يسألني فأعطيه، مَنْ يستغفرني فأغفر له»، فإن تابوا إليه، فهو حبيبُهم؛ لأنه -سبحانه- يحب التوابينَ، بل إن من مودته للتائبين، أنه يفرح بتوبتهم وهو الغني عنهم، ويُبيِّن لهم سعةَ رحمته، والأسبابَ التي ينالون بها مغفرتَه، فيقول -جل جلاله-: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}(الْ أَعْرَافِ: 156).
معنى الودود
إنَّ الودودَ -سبحانه-، هو الوادُّ لأوليائه، والمودود لهم، فاللهُ -جَلّ جلالُه-، يُحبُّ المؤمنين ويُحبُّونه، فمحبةُ المؤمنين لربهم، بتوحيده والإِيمَانِ بِهِ، واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(آلِ عِمْرَانَ: 31).
مسارعة العبد لمرضاة ربه
ولا يزال العبد يُسارع في مرضاة مولاه، حتى يفوز بالحب، ويظفر بالقرب، فإذا أحبَّ اللهُ -عز وجل- عبدَه، حبَّبه إلى خَلقِه، فما أقبَل عبدٌ بقلبه إلى الله، إلا أقبَل اللهُ بقلوب الخَلق إليه، ففي صحيح مسلم: عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: كُنَّا بِعَرَفَةَ، فَمَرَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِمِ، فَقَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ إِنِّي أَرَى اللهَ يُحِبُّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟، قُلْتُ: لِمَا لَهُ مِنَ الْحُبِّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، فَقَالَ: بِأَبِيكَ أَنْتَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ. فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ».
مودةُ اللهِ -تعالى- لعبده المؤمن
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد، قيل لأحد الصالحين: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: «أَصْبَحْتُ بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ، لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟: ذُنُوبٌ سَتَرَهَا اللَّهُ، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعَيِّرَنِي بِهَا أَحَدٌ، وَمَوَدَّةٌ قَذَفَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، وَلَمْ يَبْلُغْهَا عَمَلِي»؛ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}(مَرْيَمَ : 96)، {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}، في الأُولى والأخرى، فمودةُ اللهِ -تعالى- لعبده المؤمن، لا تُفارقه بعدَ وفاته، فإذا شخَص البصرُ، وحَشرَج الصدرُ، بُشِّرَ المؤمنُ برضوان الله وكرامته، وبرحمته وجنته، وإذا وُضع في قبره، فُسِحَ له فيه مدَّ بصره، ويُصبح قبرُه روضةً من رياض الجنة، و{إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا}(ال زَّلْزَلَةِ: 1-2)، وخرَج الناسُ من قبورهم، حفاةً عراةً غُرلًا، تلقَّتِ الملائكةُ المؤمنينَ، مهنئينَ لهم ومبشرينَ، كلُّ ذلك تودُّدٌ من الرحمن الرحيم؛ {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُم ُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}(الْأ َنْبِيَاءِ: 101-103).
مقتضى أسماء الله وصفاته
إنَّ الله -تعالى- يُحِبّ مقتضى أسمائه وصفاته؛ فالمؤمن الودود، محبوبٌ عند الله -عز وجل-، وإنَّ من التعبد باسم الله الودود، مودةَ الرجل لزوجته، ورِفقَه بها، ومودةَ المرأة لزوجها، وحُسن عِشرتها له، ففي السنن الكبرى للبيهقي، قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ نِسَائِكُمُ الْوَدُودُ الْوَلُودُ، الْمُوَاتِيَةُ الْمُوَاسِيَةُ، إِذَا اتَّقَيْنَ اللهَ»، فخيرُ النساء، مَنْ جمَعَت بين تودُّدِها لربها؛ باتباع مرضاته، وتودُّدِها لزوجها، بتتبُّعِ محابِّه، وخيرُ الرجال، مَنْ كان خيِّرًا لأهله، ففي سنن الترمذي: عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»، والحياة الزوجية لها ركنان، أحدهما المودة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}( الرُّومِ: 21).
حُسن المصاحَبة للأقربينَ
وحُسن المصاحَبة للأقربينَ، وتذكُّر جميل الآخَرين، والوفاءُ للآباء الراحلينَ، هو مِنْ مقتضى العمل باسم الله الودود، فعَنِ ابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ، لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ، وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ. وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً، كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، إِنَّهُمُ الْأَعْرَابُ، وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ، صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ» (رواه مسلم).
من أسباب نشر المودة في المجتمعات
وإنَّ من أسباب نشر المودة في المجتمعات، إفشاء السلام، والتسامح بين الناس، وحب الخير لهم، وإدخال السرور عليهم، والرفق بضُعفائهم، ومساعَدة فقيرهم، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ -تعالى-، أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -تعالى-، سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا»، يَعْنِي مَسْجِدَهُ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإسْنَادٍ حَسَنٍ).