طرق اكتساب ملكة الكتابة
أحمد محمد عبد الرؤوف المنيفي

1- حفظ القرآن:
يرى الإمام ابن الأثير أن الطريقة المثلى والعليا في تعلم فن الكتابة هي حفظ أجزاء من القرآن الكريم ومن الأحاديث النبوية ومجموعة من دواوين الشعر لفحول الشعراء.

وهذه الطريقة عنده هي أعلى الطرق في تعلم فن الكتابة، والجاري عليها يبلغ درجة الاجتهاد، ويكون إمامًا في صناعة الكتابة؛ يقول في كتابه المثل السائر: "الثالثة: ألَّا يتصفح كتابة المتقدمين، ولا يطلع على شيء منها؛ بل يصرف همَّه إلى حفظ القرآن الكريم، وكثير من الأخبار النبوية، وعدة من دواوين فحول الشعراء ممن غلب على شعره الإجادة في المعاني والألفاظ، ثم يأخذ في الاقتباس من هذه الثلاثة؛ أعني: القرآن والأخبار النبوية والأشعار، فيقوم ويقع، ويخطئ ويصيب، ويضل ويهتدي، حتى يستقيم على طريقة يفتتحها لنفسه. وهذه الطريق هي طريق الاجتهاد، وصاحبها يعدُّ إمامًا في فن الكتابة"[1].

ويقول: "ومن آتاه الله في القرآن بصيرة، فإنه يسبك ألفاظه ومعانيه في كلامه، ويستغني به عن غيره، إلا أنه ينبغي أن يكون فيه صوَّاغًا يخرج منه ضروب المصوغات، أو صرَّافًا يتجهبذ في نقوده المختلفة من الذهب المختلف الألوان، ولا أقول من الفضة، فإنه ليس فيه من الفضة شيء، وهو أعلى من ذلك.

واعلم أن المتصدي لحل معاني القرآن الكريم يحتاج إلى كثرة الدرس، فإنه كلما داوم على درسه ظهر من معانيه ما لم يظهر من قبل.

وهذا شيء جربته وخبرته، فإني كنت آخذ سورة من السور، وأتلوها وكلما مر بي معنى أثبته في ورقة مفردة، حتى أنتهي إلى آخرها، ثم آخذ في حل تلك المعاني التي أثبتها واحدًا بعد واحد، ولا أقنع بذلك حتى أعاود تلاوة تلك السورة، وأفعل مثلما فعلته أولًا، وكلما صقلتها بالتلاوة مرة بعد مرة ظهر في كل مرة من المعاني ما لم يظهر في المرة التي قبلها"[2].

2- حفظ كلام العرب القديم:
تحصل ملكة الكتابة للشخص بحفظ كلام العرب القديم وأخبارهم وأيامهم، وكلام العرب القديم ينقسم إلى نوعين: منظوم ومنثور، فالمنظوم هو الشعر، وأما المنثور فهو الخطب والرسائل والمكاتبات والوقائع والأيام المشهورة ونحوها.

والعلم الذي يعنى بكلام العرب القديم المنظوم والمنثور هو علم الأدب، وهو علم ليس له قوانين معينة؛ وإنما المقصود منه هو ثمرته وهي الإجادة في الكتابة وتأليف الكلام؛ ولذلك فهم يعرفونه فيقولون: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، وتوجد في هذا العلم كتب مشهورة هي أركان هذا العلم؛ مثل: البيان والتبيين للجاحظ، والكامل للمبرد، والأمالي لأبي علي القالي.. ونحو ذلك[3].

ويجب على الكاتب أن يأخذ نفسه بحفظ أنواع من الكلام العربي القديم الموجود في هذه الكتب؛ لكي تنشأ لديه ملكة الكتابة والقدرة على صياغة الكلام والتعبير عن الأفكار؛ يقول ابن خلدون: "ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها، أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضًا في سائر فنونهم، حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم، ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عمَّا في ضميره على حسب عباراتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم، وترتيب ألفاظهم، فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتهما رسوخًا وقوة"[4].

ومع ذلك فإن الكاتب عليه أن يختار محفوظاته من الكلام العربي القديم، فيحفظ من ذلك الكلام الأشعار والمنثورات العالية الطبقة، ويبتعد عن الأنواع النازلة؛ وذلك حتى يحافظ على جودة ملكة الكتابة لديه؛ يقول ابن خلدون: "قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي، وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته وقلته، تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ، فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميين شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانئ أو الشريف الرضي، أو رسائل ابن المقفع أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابئ، تكون ملكته أجود وأعلى مقامًا ورتبة في البلاغة ممن يحفظ أشعار المتأخرين؛ مثل: شعر ابن سهل أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد الأصبهاني، لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك، يظهر ذلك للبصير الناقد صاحب الذوق، وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملكة من بعدهما، فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة؛ لأن الطبع إنما ينسج على منوالها، وتنمو قوى الملكة بتغذيتها"[5].

3- الأحاديث النبوية:
وما يجري على القرآن يجري على السنة النبوية، والرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، فألفاظه في تعبيرها عن المعاني لا يماثلها شيء من الألفاظ، مثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((الآن حمي الوطيس))، فهذا التعبير لم يسمع قبله من غير رسول الله، ولو قلت: "استعرت الحرب" لما كان في مثل جمال هذا التعبير وقوته.

كما أن الأحاديث النبوية تتسم بالإيجاز، بمعنى أنها تجمع المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة؛ ولذلك فإن حفظ الأحاديث النبوية يرتقي بملكة الكتابة لدى الكاتب، ويكسبه من حلاوة الكلام وسحر المعنى ما لا يحصل له لو اقتصر فقط على حفظ الخطب والأشعار.

4- الخطب:
الخطب هي الأصل في فن الكتابة وعلى منوالها نسج هذا الفن، وبها استقامت أركانه؛ لذلك تكاد تجمع كلمة علماء العربية على أن حفظ الخطب أمر ضروري ولازم لتكوين ملكة الكتابة لدى الشخص؛ جاء في صبح الأعشى: "وهي من آكد ما يحتاج إليه الكاتب، وذلك أن الخطب من مستودعات سر البلاغة، ومجامع الحكم، بها تفاخرت العرب في مشاهدهم، وبها نطقت الخلفاء والأمراء على منابرهم، بها يتميز الكلام، ويخاطب الخاص والعام، وعلى منوال الخطابة نسجت الكتابة، وعلى طريق الخطباء مشت الكتاب" [6].

وقد كانت الخطابة من الفنون النادرة العالية المرتبة في الجاهلية والإسلام، والتي لا تتأتى إلا للخطباء الفصحاء في اللغة العربية من سادات العرب ورؤسائهم، وكانت تقال في المناسبات النادرة الكبيرة والمحافل العظيمة، وذلك بخلاف الشعر الذي كان يتعاطاه الخاصة والعامة منهم لسهولة حفظه وشيوعه بينهم[7].

ولا شك أن من يحفظ الخطب البليغة يجني فوائد جمة؛ لأنه يسهل عليه التعبير عن الأفكار والمعاني بالكلام البليغ، وتفيض عليه وقت الحاجة الألفاظ والعبارات المناسبة والسهلة للمعنى أو الفكرة التي يريد التعبير عنها.

5- الشعر:
يوصف الشعر بأنه ديوان العرب؛ لأن فيه تاريخهم وأخبارهم وأيامهم ودولهم، وفيه لغتهم وأساليبهم وآدابهم؛ ولذلك فإنه لا غنى للكاتب عن حفظه لتكوين ملكة الكتابة لديه وتجويدها، وهو على أنواع، فمنه شعر العرب في الجاهلية مثل المعلقات، وشعر الحماسة، والمفضليات، والأصمعيات... إلخ، ومنه شعر المولدين من العرب، وهم الذين كانوا في أول الإسلام؛ مثل: جرير والفرزدق والأخطل ونحوهم، ومنهم المحدثون؛ مثل: أبي تمام والبحتري والمتنبي ونحوهم، أما شعر العرب والمولدين فلا يستغني الكاتب عن حفظه لما فيه ذلك من غزارة المواد، والأمثال، والمعاني المخترعة، وأصول اللغة وشواهدها ونوادرها[8].

وأما شعر المحدثين فيتميز بالصناعة، وتوليد المعاني اللطيفة، وقربه من الكتابة والخطابة؛ ولذلك فإن حفظ هذه الأشعار وتدبر معانيها يسهل على الكاتب عند الحاجة استعمال ألفاظها واقتباس معانيها[9].

وإذا أكثر الكاتب من حفظ الشعر، فإنه تتوارد عليه الألفاظ والمعاني عند حاجته إلى التعبير عن معنى أو فكرة، فيسهل عليه استعمال هذه الألفاظ للتعبير عنها، ويصوغ أفكاره في ألفاظ رشيقة قريبة المأخذ سهلة الفهم.

قال في صبح الأعشى: "فإن الشعر هو المادة الثالثة للكتابة بعد القرآن الكريم والأحاديث النبوية وخصوصًا أشعار العرب، فإنها ديوان أدبهم ومستودع حكمهم وأنفس علومهم في الجاهلية، فإذا أكثر من حفظ الشعر وفهم معانيه، غزرت لديه المواد، وترادفت عليه المعاني، وتواردت على فكره"[10].

[1] المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ج1، ص 100.

[2] المرجع السابق، ص 135.

[3] مقدمة ابن خلدون، ص 620، 621.

[4] مقدمة ابن خلدون، ص 627.

[5] المرجع السابق، ص 647.

[6] صبح الأعشى في كتابة الإنشا، ج1، ص 210.

[7] المرجع السابق، ص 211.

[8] صبح الأعشى، ج1، ص 271.

[9] المرجع السابق، ص 273.

[10] المرجع السابق، ص 281.