في رمضان يجلو العمل الصالح .. فتذكروا إخوانكم


عابدة المؤيد العظم






تزوجا وعاشا في سعادة غامرة لولا اشتياقهما لطفل صغير يتمِّم هناءهما ويزيدهما حبوراً وسروراً، لجأ إلى العلاج وسكنا في المستشفيات سنين عدداً حتى مَنّ الله عليهما بالحمل.


وأتم الحمل شهره السادس، وذهبا إلى الطبيبة ليطمئنا، وكانت الصدمة.. وأي صدمة!!.. طفلتهما مريضة ولن تعيش إلا دقائق معدودة بعد الولادة... تحطم الحلم وتبددت السعادة وتكدر الزوجان، وخيم الحزن والأسى.


وأكملت الزوجة حملها وحان الوضع وولدت الطفلة المريضة، وتسابق الزوجان إلى ضمها وتقبيلها، وإغداق الحنان عليها، وأولياها في هذه الدقائق القليلة كل الحب والعطف، ثم جلسا يراقبانها - في شجاعة - وهي تذوي ويتغير لونها، وتخمد أنفاسها.. حتى لم يبق أي أمل في نجاتها...


في تلك اللحظة المؤلمة تبرع الوالدان بأعضائها كلها للمصابين والمرضى والمحرومين!


تبرعا بابنتهما (ورضيا بتمزيقها قطعاً وتوزيع أشلائها هنا وهناك) بكل رباطة جأش وعزم وتصميم، وعلّلا صنيعهما بكلمات قوية سطّرت معانٍ عميقة ورائعة: «لا يمكن لابنتنا أن تدخل إلى هذه الدنيا وتخرج منها دون أن تصنع شيئاً يُذكر، لا يمكن أن تخرج دون أن تفيد أحداً، ابنتنا عاشت دقائق معدودة، وستخرج وقد أدّت دوراً فعّالاً وإيجابياً في خدمة الآخرين، وكأنها عاشت سنوات طويلة».

وهذا ما كان:
فقلبها الصغير زرع في صدر طفل مريض شارف على الموت فأحياه الله وقرّ عين أهله به.
وِكُليتاها أعادتا النضارة لفتاة صغيرة فشلت كليتاها في العمل فبدأت تذوي.
وقرنيّتاها أنقذتا صبياً من العمى...


لقد أشاعت تلك المولودة الحية الميتة الحبور والسرور في بيوت كثيرة، وأذهبت الحزن عن مجموعة من العائلات، وأنقذت الأمهات والآباء من المعاناة والتحسُّر على أطفالهم المهدّدين بالأمراض المزمنة والمضاعفات الخطيرة أو الموت... فأي عمل عظيم صنعته تلك الوليدة وأهلها؟!


واقعة أبكتني وجعلتني آسى على نفسي، وعلى المسلمين من حولي، فهذان الوالدان أمريكيان ليسا بمسلمين، ولكنهما امتلكا روح الإسلام، روح البذل والتضحية والعطاء، وهذه الطفلة عاشت دقائق معدودة وكانت فعالة وإيجابية، وتركت بصمة قوية يستمر أثرها سنوات طويلة... فما هي حال مَن وصل عمره للعشرين؟ أو للثلاثين؟ أو للخمسين؟ ماذا قدم أولئك للإسلام؟ وماذا فعلوا للمسلمين؟!

أيها المسلمون والمسلمات:
رمضان أقبل، ورجع معه القيام والصيام وعمارة المساجد وقراءة القرآن والدعاء والابتهال... والمسلمون لا تنقصهم العبادات ولا يقصِّرون فيها إن شاء الله، وإنما يحتاجون لثواب المعاملات، يحتاجون للتفكير في الآخرين والعمل من أجلهم ليكتمل ثواب أعمالهم بالإيثار والعطاء...


وكل مسلم - مهما كان ضعيفاً أو فقيراً - يستطيع أن يقدم شيئاً لإخوانه المحتاجين.


فلا نحقرنّ أي عمل لقِلّته، ولقد روى البخاري: «كل معروف صدقة»، وكثيراً ما تكون الأعمال الهينة البسيطة - التي يراها المسلمون حقيرة - أفضل عند الله من عمل يصعب القيام به (كقيام ليل أو صيام نفل)، والحديث التالي يصدّق ويشهد على صحة هذا الكلام: «كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، فنزلنا منزلاً في يوم حارّ أكثرُنا ظلاً صاحب الكساء، ومنا مَن يتقي الشمس بيده، فسقط الصُوّام، وقام المفطرون وضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر».


فكيف يكون الفرد فعّالاً؟ وكيف يُسهم المسلم والمسلمة في مؤازرة إخوانه والذّب عنهم؟
طرق الخير متنوعة، والأولوية اليوم لمجموعة منها:
1- الجهاد في سبيل الله بالمال، وهو أفضل الأعمال:
«مَن جهز غازياً في سبيل الله فقد غَزا، ومن خلّف غازياً في أهله بخير فقد غزى» متفق عليه، وكم يحتاج المجاهدون اليوم للمال؟


2- السعي على الأرملة والمسكين:
«الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله» وأحسبه قال: «كالقائم لا يفتر وكالصائم لا يُفطر» متفق عليه.


3- كفالة اليتيم:
«كافل اليتيم - له أو لغيره - أنا وهو كهاتين في الجنة وأشار بأصابعه» متفق عليه. وكم أفرزت الثورات من أيتام. والكفالة لا تختص بالنفقة المادية بل تتعداها إلى التربية والتهذيب والتعليم، بل تصل إلى الابتسام في وجهه، والمسح على رأسه، والمساواة بينه وبين أقرانه... في محاولة لصيانة هؤلاء من العُقَد النفسية...


4- بَذْل الفضل:

فقد وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - حلاًّ واقعياً للعِوزَ والفَقر وازدياد حاجات المهجَّرين، ويمكن لكل مسلم العمل به: «... مَنْ كان معه فضل ظهر فليَعُد به على من لا ظهر له، ومَنْ كان له، فضل زاد فليَعُد به على مَن لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل» رواه مسلم.


ولا يمكن للمؤمن أن يترك أخاه في العقيدة والإسلام يُقتل ويُهدم بيته ويُسرق ماله ويُحرم قوتَ يومه... وهو ينعم بالغنى والفضل ووفرة المال... خاصة في ذلك الشهر الكريم رمضان شهر الخير واليُمن والبركات والأعمال الصالحة، ومن نفّس عن مؤمن كُربة من كُرَب الدنيا نفّس اللهُ عنه كُربة من كُرَب يوم القيامة.