خطبة الحرم المكي - سعادة الموحدين في الدارين


الفرقان

جاءت خطبة المسجد الحرام بتاريخ 22 جمادي الأولى الموافق: 16 ديسمبر 2022م، بعنوان: (سعادة الموحدين في الدارين)، لإمام الحرم المكي الشيخ ياسر الدوسري، واشتملت الخطبة على عدد من العناصر كان أهمها: نعمة الله على خلقه بوضع الآيات البينات للهداية، والمكانة العظيمة للتوحيد، وبيان خطورة الشرك والتحذير منه، والعاقبة الحسنة للتوحيد ونبذ الشرك.
في بداية الخطبة بين الشيخ الدوسري أنَّ مِنْ تمامِ نِعَمةِ اللهِ على عبادِهِ أنْ نَصَبَ لهمْ للحقِّ مَناراتٍ وبيِّناتٍ، مِنَ الدلائلِ والآياتِ، يهتدِي إليهَا مَنْ وَفَّقَهُ ربُّ الأرضِ والسماواتِ؛ فمَنْ أَطلقَ بصرَه في الكونِ وتفكَّرَ، وأمعنَ النظرَ في كتابِ اللهِ وتدبَّرَ، عَلِمَ أنَّ اللهَ خَلَقَ الناسَ على الفِطرةِ السَّويَّةِ، ودَلَّـهُمْ عليهِ بالآياتِ الكونيَّةِ، وأَرسَلَ إليهمُ الرُّسلَ بالـحُجَجِ القويَّةِ، فسهَّلَ لعبادِه السَّاعِينَ إلى مَرضاتِهِ سبيلًا، فأَقرُّوا لهُ بالعبوديةِ، وحذَّرَ -سبحانَه- مِنْ عِصيانِهِ النفوسَ الغويَّةِ.
إخلاص العبادةِ للهِ
إنَّ إخلاصَ العبادةِ للهِ -تعالى-، وإقامةَ الدِّينِ، وصيةُ اللهِ لأنبيائِهِ ورسلِهِ -عليهِمُ الصلاةُ والسلامُ-؛ فقدْ وصَّى بذلكَ نوحًا وإبراهيمَ، وعيسى وموسَى الكليمَ، ومحمدًا خاتَـمَ النبيِّينَ والمرسَلينَ، فقالَ في مُحكمِ التنزيلِ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}(الشُّورَى : 13)، وقدْ تَضافرتِ الآياتُ في ترسيخِ هذا المعنَى إعادةً وتأكيدًا، فمَا مِنْ رسولٍ بُعِثَ في أمةٍ إلَّا وقَدْ صدَّرَ دعوتَهُ بهذَا الأصـلِ العـظـيمِ؛ {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النَّحْلِ: 36).
عِظَم أمرِ التوحيدِ
لقدْ دلَّتْ نصوصُ الوحيينِ على عِظَمِ أمرِ التوحيدِ، وكونِهِ أصلَ الأعمالِ وأساسَهَا، فإنْ وُجِدَ قُبِلَتْ، وإنْ عُدِمَ تَبدَّدَتْ، كمَا بيَّنَتْ أنَّ الشياطينَ مَا فَتِئَتْ تَترصَّدُ لبني آدمَ تجتالُـهُمْ وتُغويهِمْ عنْ دينِ اللهِ وإخلاصِ العبادةِ لهُ، وَقَدْ أقسمَ إبليسُ على ذلكَ، كمَا حكَى اللهُ عنهُ في كتابِهِ: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}( ص: 82-83)، وفي الحديثِ القُدسي يقولُ اللهُ -سبحانَه-: «إني خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُم ْ عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطَانًا» (أخرجَهُ مُسلمٌ).
أوّل نداءٍ للناسِ أجمعينَ
إنَّ أوّلَ نداءٍ للناسِ أجمعينَ، في كتابِ اللهِ المبينِ: هوَ قولُ ربِّ العالمينَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الْب َقَرَةِ: 21)، وإنَّ أولَ نهيٍ لهم هو قوله -تعالى-: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(الْ بَقَرَةِ: 22)، ففي قولِهِ -تعالى-: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}(الْبَ قَرَةِ: 21)، أمر بالتوحيد، وفي قولِهِ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}(الْب َقَرَةِ: 22)، نهي عن الشرك، وقد تكرر هذا الأسلوب في الذكر الحكيم، ومن ذلك قول العزيز العليم: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}(النِّسَ اءِ: 36)، فصرح بالإثبات بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ}(النِّسَ اءِ: 36)، وحذر من الشرك بقوله: {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}(النِّسَ اءِ: 36)، فبدأ اللهُ -جلَّ وعلا- خِطابَهُ بإثباتِ التوحيدِ الخالصِ لهُ، وختَمَهُ بنفي الشـركِ المنزَّهِ عنهُ؛ توجيهًا للعبادِ إلى تحقيقِ الأمرينِ، والجمعِ بينَ المتلازمينِ، وهذا هو معنَى «لا إلَهَ إلا الله»، فكونُوا -عبادَ اللهِ- مِنْ أهلِهَا، الذينَ حقَّقوا شُرُوطَهَا، فأثْبَتُوا مَا أثبتَتْ، ونَفَوا ما نَفَتْ، ووحَّدُوا اللهَ في ربوبيتِهِ، وفي ألوهيتِهِ، وفي أسمائِهِ وصفاتِهِ، بلا تمثيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تحريفٍ، ولا تعطيلٍ.
حاجة العبادِ إلى ربـِّهِمْ
إنَّ حاجةَ العبادِ إلى ربـِّهِمْ في عبادتِـهِمْ إيَّاهُ وإنابتِهِمْ، ليستْ بأقلَّ منْ حاجتِهِمْ إليهِ في خَلْقِهِ لهم ورزقِهِمْ، وإنَّ افتقارَهُمْ إليهِ في معافاتِهِ لأبدانِـهِمِ، وسَترِهُ لعوراتِـهِم، وتأمينِهِ لرَوْعاتِـهِم، ليسَ بأعظمَ مِنْ حاجتِهم إليهِ في توفيقِهِمْ لطاعتِهِ، وإعانتِهِمْ على شهَواتِـهِمْ، بلْ حاجتُهُمْ إلى محبتِهِ والإنابةِ إليهِ، والعبوديةِ له أعظمُ؛ فإنَّ ذلكَ هو الغايةُ المقصودةُ مِنْ خلقِهِم، وهو الْمَطلَبُ الأفخمُ لإيجادِهِمْ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(ا لذَّارِيَاتِ: 56)، فلا نجاحَ ولا صلاحَ ولا فلاحَ للعبادِ إلَّا بالتوحيدِ وإقامةِ الدِّينِ، واجتنابِ الشركِ، فالشِّركُ هو أعظمُ أمرٍ نهانَا اللهُ عنْهُ، فقالَ -سبحانَه-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(لُقْمَا نَ: 13)، وقالَ -عزَّ مِنْ قائلٍ-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}(النِّس َاءِ: 116).
الشرك نوعان
واعلمُوا أنَّ الشركَ نوعان: شركٌ أكبرُ، لا يغفرُهُ اللهُ، وهو عبادةُ غيرِ اللهِ بأيِّ نوعٍ منْ أنواعِ العبادةِ، مِنْ دعاءٍ وذبحٍ ونذرٍ وسجودٍ وخضوعٍ وغيرِ ذلكَ ممَّا لا يُصرَفُ إلا لِلَّهِ، وشركٌ أصغرُ، وهو مَا أتَى في النصوصِ أنَّهُ شركٌ، ولم يَصِلْ إلى حدِّ الشركِ الأكبرِ؛ كالرياءِ، والحَلِفِ بغيرِ اللهِ.
القرآن معدن التوحيد ومنبعه
ولَمَّا كان القرآن معدن التوحيد ومنبعه، ومصدر الإيمان ومرجعه نفَرَت منه نفوسُ مَنْ أُشرِبوا في قلوبهم الأندادَ، وضرب الهوى بينهم وبين الْهُدَى أصلب الأسداد، فكانوا في أحكامهم عليه في أمر مريج؛ فكَّروا وقدَّرُوا فلم يتمخَّض جهدُهم إلا عن رأي خديج، وقد تحداهم الله -جل في علاه- أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، وفي دائرة الإبلاس انحجزوا، قال الله -تعالى-: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(الْب َقَرَةِ: 23)، فاستولى العجز على بيانهم، وأحاط بهم العي من كل جوانبهم، ثم حسم الباري -جل وعلا- بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}( الْبَقَرَةِ: 24).
الترتيب القرآنيّ البديع
إن هذا الترتيب القرآنيّ البديع دال على أن أعظم مصدر لمعرفة التوحيد هو هذا الكتاب العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(فُصِّلَ تْ: 42)، وَقَدْ بَرْهَنَ ابنُ القيمِ -رحمهُ اللهُ- على هذا التقريرِ بقولِهِ: «كلُّ آيةٍ في القرآنِ فهيَ مُتضمِّنةٌ للتوحيدِ، شاهدةٌ بهِ، داعيةٌ إليهِ، فإنَّ القرآنَ: إمَّا إخبارٌ عنِ اللهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ فهو التوحيدُ العِلْميُّ الخبريُّ، وَإِمَّا دَعْوَةٌ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَخَلْعِ كُلِّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ، فَهُوَ التَّوْحِيدُ الْإِرَادِيُّ الطَّلَبِيُّ، وَإِمَّا أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَإِلْزَامٌ بِطَاعَتِهِ فِي نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ، فَهِيَ حُقُوقُ التَّوْحِيدِ وَمُكَمِّلَاتُه ُ، وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لِأَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُكْرِمُهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فهذا جَزَاءُ تَوْحِيدِهِ، وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ الشِّـرْكِ، وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّكَالِ، وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْعُقْبَى مِنَ الْعَذَابِ، فَهُوَ خَبَرٌ عَمَّنْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ التَّوْحِيدِ، وليس تحتَ أديمِ السماءِ كتابٌ متضمِّنٌ للبراهينِ والآياتِ على المطالبِ العاليةِ: منَ التوحيدِ، وإثباتِ الصفاتِ، وإثباتِ المعادِ والنُّـبُـوَّات ِ، وردِّ النِّحَلِ الباطلةِ، والآراءِ الفاسِدةِ، مثلُ القرآنِ، فإنَّهُ كَفيلٌ بذلكَ كلِّهِ، مُتضمِّنٌ لهُ على أتمِّ الوجوهِ وأحسنِهَا، وأقربِـهَا إلى العُقُولِ وأفصحِهَا، فهوَ الشفاءُ على الحقيقةِ من أَدْواءِ الشُّبَهِ والشُّكوكِ» انتهى كلامه -رحمه الله.
وعد الله لعباده الموحدين
لقد وعَد اللهُ عبادَهُ الموحِّدِينَ وبشَّرهُمْ بجناتٍ تجري مِنْ تحتِهَا الأنهارُ، فنِعْمَ عُقبَى الدارِ، وتوعَّدَ مَنْ أَشرك بِهِ غيرَهُ، وخَالَفَ أوامرَهُ، وارتكبَ نواهِيَهُ بعذابِ النارِ فبئسَ القرارُ، فعنْ جابرٍ - رضي الله عنه - قالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْـمُوجِبَتَان ِ؟ فَقَالَ: «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ»(رواه مسلم).