باختصار - ما أحوجنا إلى التَجرُّد!



التَجرُّد من أهم الأخلاق والمبادئ التربوية والسلوكية التي نحتاجها في وقتنا الحالي، ونقصد به إخلاء النفس والقصد عن كل ما سوى الله، وأن ننشد الحقَّ ولو كان عند غيرنا، وأن نبتغي الصلاح ولو عند مخالفينا، وألا يمازج نفوسنا هوىً أو دنيا أو جاه أو سلطان.
قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8).
قال الشيخ السعدي -رحمه الله في تفسير هذه الآية-: «يا أيها الذين آمنوا قوموا بلازم إيمانكم، بأن تكونوا قوامين لله شهداء بالقسط، وأن يكون ذلك القيام لله وحده، لا لغرض من الأغراض الدنيوية، والقسط هو العدل في الأقوال والأفعال مع القريب والبعيد، والصديق والعدو».
وقد يخلط بعضنا بين الإخلاص والتَجرّد؛ لأنهما متقاربان في المعنى والمضمون، إلا أنَّ الإخلاص أعمّ من التَجرّد، فأنا أتجرد لله في العمل، وأتجرد لله في الفكرة، وأتجرد لله في القول، لذلك فالتَجرّد هو أعلى درجات الإخلاص.
إنَّ أهم ما يميز الشخص المُتَجرّد أنَّ قلبه كبير، لا يحمل حقدًا ولا كرهًا لأحد؛ لأنه يرى الحياة بوضوح أكثر، ولأن تَجرُّده همَّش مشاعر الكراهية لديه، منصفٌ فِي أحكامه، ينظر إِلَى الأشياء نظرةً موضوعيَّة دُون اعتبار لنزعاته وأهوائه، يعطى كل ذي حقٍّ حقه، ولا يظلم غيره ولا ينتقص من قدره حتى لو كان عدوَّه.
والمُتَجرّد أوسع الناس صدرًا مع المخالفين، شعاره «قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب»، بينما غيره أضيق الناس صدرًا، وأكثرهم تعصبًا، لا يرى الحق إلا معه، ولا يجد الصواب إلا في أقواله وأفعاله.
المُتَجرّد لا يجعل الخلافات في المواقف الشخصيَّة سببًا في شق الصف، أو قطيعة الرحم، أو التشهير وإلصاق التهم بالآخرين، بل إن تَجرُّدَهُ يجعله ملتمسًا العذر لمن خالفوه محسنًا الظن بهم، يقبل النصيحة منهم ويحتمل النقد لشخصه أو لأفكاره أو لتصرفاته.
المُتَجرّد يصارع أمواجا عاتية في مجتمع مليء بالمظاهر والزيف والتملق؛ لأنه ليس من النوع الذي يتلون، وليس له وجهان يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه، فذو الوجهين لا يثبت على حديث، ودائمًا ما يغير كلامه وفقًا للموقف الذي هو عليه، ويسعى لإرضاء من حوله حتى ولو على حساب الحقّ الذي يعتقده.
إنَّ التَجرُّد للحقِّ من أهم ما يميز الإنسان المنصف مع نفسه ومع غيره، وهو من الخصال الحميدة التي تجعل للإنسان موقف محدد تجاه الأشخاص والأحداث، ويكون ذا مبدأ واضح وهوية محددة، وصاحب المبدأ لا تخف منه حتى ولو كان عدوك، وما قـيمة الناس إلا في مبادئهم، فلا المال يبقى ولا الألقاب ولا الرتب.


وائل رمضان