عنزة أبي عمرو (قصة)
السيد شعبان جادو








هذا الصباح تدثَّرتُ بعباءة أبي التي صُنعتْ من صوف شياهنا البرقية، وبطبيعة الحال جلست مستدفئًا، البرد في هذه الساعة شديدٌ، كمٌّ من الهواجس تناوشني طوال الليل، كنت انتهيت من مشاهدة التلفاز، رتَّبتُ بعض حاجاتي: الورقة، والقلم أداتيَّ اللتين أدسُّهما تحت وسادتي؛ أقتنص بهما شارد فكرة، أو أرسم لوحةً من نثر، هممْتُ أن أمسك بالقلم كعادتي، ذاكرتي أصابها العطب، لم يحدث هذا من قبل، تسلَّل إليها ذلك المرضُ الذي يضرب في غير هوادة، خمنت، ما تُراه سلَّطه عليَّ؟



لم أقترب من منطقة الخطر بعد، كلُّ كتاباتي تحوم حول الحِمى، لكنها تُحاذر أن تقع فيه، لا أزال أجد أثر الصفعة التي انهالت عليَّ؛ وُجدت متلبسًا بتلك الداهية، الفكرة المجنونة أن أكون إنسانًا، كان ذلك منذ ما يقارب ربع قرن، فررْتُ منهم لما خفتهم، أدمنت الحديث مع ذاتي، انطويت على عالم تسكنه الأشباحُ، الهمُّ يدفع بي جهةَ الانزواء، كل هذا ترك أثره، انتفختْ ذاكرتي، تدمن السرد وتولع بالقصِّ، انتبهت جيدًا، اللص ترك بعض أثر، تعودت أن أتفرَّس في خطوط الرمال، حيث أعيش في الصحراء.



لم أحكِ لكم أنني هنا منقطع للزراعة، تركت مقاعد الجامعة مرغمًا، النفي داخل الوطن أشدُّ مرارةً من الخروج تحت أردية الحدود، أي قصة أكتبها لن تصف بل ربما كانت مدلسة، لست كاذبًا، ولا أنا بطبيعة شأني أشتمل على الصدق.

هيَّأتُ جلستي، استندت على وسادتي، فتحت النافذة المطلة على الحديقة، أسفلها ثلاثة أعواد من الرمان، كرمة حديثة عهد بالجانب الشرقي، أعلم أن كلَّ هذا لغوٌ، لا فائدةَ منه، الذاكرة مغشوشةٌ.



قبل أن أنام سمعت أن جارنا أبا عمرو تاهت منه عنزتُه، بحث كثيرًا عنها، لم تنم الكلابُ طوال الليل، ربما حاولت أن تدخل مراحها، الليل يفزع الحيواناتِ الصغيرة؛ تسكن الثعالب قريبًا منا، عند الفجر سمعت نباح الكلاب يشتد، فزعت؛ فلدي ما أخاف عليه: بضع دجاجات يطعمنا الله في الصباح منها البيض، الثعلب كان بقنِّ الدجاج، صوف العنزة وزغبها ملأ الدوار، رجعت لذاكرتي أجمع شتاتها كما أخبرتكم من قبل، عجزت أن أدير مفتاحها، صارت معتلةً.



الثعلب في طريقه للهرب، لم ينسَ مهمته التي جاء لها، أن يعبث بأوصال ذاكرتي، الحاسوب خرجت منه كلُّ الملفات المختزنة، أصابتني الهموم من جديد، ترك ورقةً يخبرني فيها أنه يتبع ظلي، يقبع في عتمة التخفِّي، من جديد وبحيلة مدافع أمسكت بالقلم، وها أنتم تطالعون ذلك الحدث الذي عانيته في الليلة الفائتة!



في المرة القادمة سأحتفظ بها بعيدًا عن يديه، أصابعه مثل وحش يمسك بخناقي، سأضعها تحت الوسادة، لتجاور الورقة والقلم، ربما تُودع أمانةً في بيت الوقف، هي هامَّةٌ دون شك، وإلا كانت مثل عنزة جاري، عليَّ أن أدجنها قليلًا، لا طاقة لي بأنياب الثعلب، وهل لمثلي أن يقبع مرة ثانية في القبو؟!




الحل ألا أكتب قصةً أخرى، إنه يفك شفرات الحروف، يغتال بها عبق المعنى، لكل واحد سرٌّ يخشى عليه، مفرداتي هي ثروتي التي اختزنتها لهذه الأيام، الكل أصابه الخرس، لست متفرِّدًا عنهم، بل ربما كنت أكثرهم، لا أملك غير هذه البضاعة المزجاة، وهل يعبأ بتلك النصوص أحدٌ؟!

لكن الثعلب مهر في الخطف، لقد أحال العنزة من قبل إلى أشلاء، ثم هو بعد أن أدرَكَتْه عصاي ينفخ بطنه تماوتًا.