الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذا مبحث في مبتكرات الحافظ ابن حجر في الدرس والتصنيف، وقد جاء الكلام في مطلبين وخاتمة.
المطلب الأول: ابتكاره في الدرس بالاستنباط والاستدراك والشك العلمي.
قال السخاوي (ت902هـ): "كان -رحمه الله - إليه المنتهى في إلقاء الدروس على طريقة لم أرَ نظيره فيها، ويأتي في كل فنٍ من بنات فكره استنباطًا واستدراكًا وتشكيكًا بما يبهر علماء ذلك الفن، بحيث يقضون له بالسيادة فيه. كيف لا يكون كذلك، وهو الغاية في سرعة الإدراك، بحيث أطلق عليه غير واحد من الأئمة أنه أذكى أهل عصره، وأحسنهم كلامًا في الأشياء الدقيقة"[1].
المطلب الثاني: ابتكاره في التصنيف وفي تسمية كتبه.
قال ابن حجر (ت852هـ) -في شرح النخبة واصفًا ترتيب كتابه-: "لخصته في أوراق لطيفة، سميتها: (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر)، على ترتيب ابتكرته، وسبيل انتهجته"[2].
وقال تغري برمش الفقيه (ت852هـ) -في أسبقية شيخه في التصنيف-: "صنف كتبًا لم يُسبق إليها"[3].
وقال أبو ذر الحلبي (ت884هـ) -وهو يصف مبتكرات شيخه في التصنيف-: "(فتح الباري) لم يُنْسج على منواله، ولم تسمع قريحة بمثاله، و (تغليق التعليق) لم يُسبق إليه، ولم يُعرِّج أحد قبله عليه...، وبالجملة: ليس له مؤلَّف إلا وهو فرد في بابه"[4].
ونقل السخاوي (ت902هـ) شهادة شيوخ ابن حجر على أسبقيته في بعض التصانيف؛ فقال: "وقف عليه كبار مشايخه كما أسلفت، وشهدوا بأنه لم يُسبق إلى وضع مثله"[5].
بل نص على أسبقية شيخه إلى شرائط مخصوصة في بعض كتبه؛ فذكر كتاب (الإمتاع بالأربعين المتباينة بشرط السماع) ثم قال: "اشترط فيها اتصال السماع في جميعها، وشرائط كثيرة لم يُسبق إليها"[6].
وقد ذكر السخاوي -وهو التلميذ الخصيص - إعجابه ببعض تصانيف شيخه معلِّلًا؛ فقال -مَرَّة-: "(أطراف الصحيحين) على الأبواب مع المسانيد، عجيب الوضع"[7]، وقال -أخرى-: "مختصرُه (التقريب)، وهو عجيب الوضع، يشتمل على رجال (تهذيب الكمال)، لا تزيد الترجمة على السطر"[8].
وفي ابتكاره في تسمية كتبه، قال أبو ذر الحلبي -وهو يصف عناية شيخه بتسمية كتبه-: "يسمي مؤلفاته بألطف الأسماء"[9].
وقد اعتذر السخاوي لشيخه في أسبقية ابن رجب الحنبلي (ت795هـ) إلى التسمية بـ(فتح الباري)؛ فقال: "سمعت صاحب الترجمة يذكر أنه لم يطلع على ذلك"[10].
واعتذر له أخرى؛ فقال -في أسبقية ابن واصل (ت697هـ) فسمَّى (نخبة الفكر في علم النظر): "الظن أن صاحب الترجمة ما استحضره حين التسمية به "[11]، وهذا الاعتذار أعجب من سابقه لتباعد الزمان والفن بين الكتابين.
بل اعتذر له في التوافقات الجزئية -غير التامة- في بعض تصانيفه؛ فذكر (الإصابة بمعرفة الصحابة) وأن جماعة قد سبقوا الشيخ للتسمية بذلك، وذكر: (تبيين الإصابة لأوهام حصلت في معرفة الصحابة)، و (إعلام الإصابة بأعلام الصحابة)، و (منهج الإصابة في محبة الصحابة)؛ ثم قال: "لكن الشيخ ما علم بتسميتها، وهذا الأمر سهل بالنسبة لعليِّ مقامه"[12].
ومنه: أن شيخه قد سُبق في تسمية (إنباء الغمر بأبناء العمر)، وأن لابن الجوزي (ت597هـ) كتابًا سماه (تنبيه الغمر على مواسم العصر)؛ ثم قال: "الغالب على الظن أن شيخنا لم يطلع على تسميته بذلك، ولـمَّا أثبت صاحب الترجمة اسم هذا التصنيف في بعض مجاميعه"[13].
(الخاتمة)
وبعد؛ فهذه أهم نتائج البحث:
1- تعدد مجالات الابتكار عن ابن حجر، ومنها ما كان في الدروس والتصنيف.
2- من مبتكراته في الدرس:
*أ. الابتكار في الاستنباط.
*ب. الابتكار في الاستدراك.
*ج. الابتكار في الشك العلمي، والذي عليه مدار كثير من الدراسات المعاصرة.
3- من مبتكراته في التصنيف:
*أ- الأسبقية في التصنيف النوعي؛ فليس له مؤلف إلا وهو فرد في بابه.
*ب- الابتكار في ترتيب تصانيفه.
*ج- الابتكار في تلخيص تواليف من سبقه.
*د- الابتكار في شرائط بعض كبته.
*ه- الابتكار في تسمية كتبه بألطف الأسماء.
هذا والله أعلم، والحمد لله على مَنِّه وبلوغ التمام.
---------------
[1] الجواهر والدرر: (2/ 610).
[2] شرح النخبة: ص35.
[3] الجواهر: (1/ 310).
[4] الجواهر: (1/ 322).
[5] الجواهر: (2/ 665).
[6] الجواهر: (2/ 669).
[7] الجواهر: (2/ 672).
[8] الجواهر: (2/ 683).
[9] الجواهر: (1/ 322).
[10] الجواهر: (2/ 675).
[11] الجواهر: (2/ 677).
[12] الجواهر: (2/ 682).
[13] الجواهر: (2/ 685).


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/144431/#ixzz6jzgObVo9