السلم والأمن الاجتماعي في القرآن الكريم والسنة النبوية


الفرقان

جاءت نصوص القرآن حافلة بتعظيم شأن الأمْن والسلم، وتنوّعت أساليب الدلالة على أهميته في حياة الإنسان، ومن ذلك امتنانه -تعالى- على المسلمين بنعمة الأمن في البلد الحرام: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} (البقرة:١٢٥)، أي: «يأمن به كل أحد، حتىّ الوحش، وحتى الجمادات كالأشجار»، ودعا إبراهيم -عليه السلام- ربّه، أن يجعل البلد الحرام آمنا، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا} (البقرة:١٢٦)، أي: «أن يكون محفوظا من الأعداء الذين يقصدونه بالسّوء»، وامتنّ على قريش بهذه النِّعمة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت:٦٧)، أي: «يأمن فيه ساكنه من الغارة، والقتل، والسبي، والنهب، فصاروا في سلامة وعافية مما صار فيه غيره من العرب، فإنهم في كل حين تطرقهم الغارات، وتجتاح أموالهم الغزاة، وتسفك دماءهم الجنود، وتستبيح حرمهم وأموالهم شطار العرب وشياطينها»، كما امتنّ الله على القوم الغابرين بأمْن القرى والبلدان، كامتنانه على أهل مصر في عهد يوسف بالأمن: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} (يوسف:٩٩)، أي: «من جميع المكاره والمخاوف، فدخلوا في هذه الحال السارّة، وزال عنهم النّصب ونكد المعيشة، وحصل السّرور والبهجة»، ومن ذلك أمْنُ الطّرقات والسّير فيها ليلا من غير خوف: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ} (سبأ:١٨)، أي: «لا تخافون عدوّا ولا جوعا ولا عطشا».

الأمن الاجتماعي في السنة النبوية
جاء معنى الأمن الاجتماعي واضحًا أشد الوضوح في حديث النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ - صلى الله عليه وسلم -: «تَرَى المُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى»، فالتراحم المراد به: أن يرحم بعضهم بعضا بأخوة الإيمان، والتواد المراد به: التواصل الجالب للمحبة كالتزاور والتهادي، والتعاطف المراد به: إغاثة بعضهم بعضا.
استعمال الرحمة للخلق كلهم
ففي هذا الحديث الشريف الحض على استعمال الرحمة للخلق كلهم كافرهم ومؤمنهم ولجميع البهائم والرفق بها، وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفر به الخطايا، فينبغي لكل مؤمن عاقل أن يرغب في الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعملها في أبناء جنسه؛ فالأمن الاجتماعي نعمة من الله -تعالى-، يبسطها في قلوب الأفراد والقرى والمجتمعات والدول، وقد امتن الله -تعالى- بهذه النعمة الضرورية لكل كائن حي، بل لكل شيء في هذه الحياة.
أصل شرعية الأمن الاجتماعي
وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بوائقه» خير دليل علي أصل شرعية الأمن الاجتماعي؛ حيث جعل عدم الأمن من وقوع الضرر سببًا لنفي دخول الجنة، فكيف إذا تحقق الضرر والشر، وفي السنة النبوية وردت أحاديث كثيرة تؤكد علي أهمية أمن الإنسان، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»؛ فالأمن على نفس الإنسان، وعلى سلامة بدنه من العلل، والأمن على الرزق، هو الأمن الشامل الذي أوجز الإحاطة به، وعرفه هذا الحديث الشريف، وجعل تحقق هذا الأمن لدى الإنسان بمثابة ملك الدنيا بأسرها؛ فكل ما يملكه الإنسان في دنياه، لا يستطيع الانتفاع به، إلا إذا كان آمناً على نفسه ورزقه.
الدعاء بتجديد الأمن
وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجدد الدعاء بتجديد الأمن كل شهر مع رؤية كل هلال، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال قال: «اللهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلامَةِ وَالْإِسْلامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ»، ونلاحظ في رواية الحديث أن الدعاء بالأمن قبل الإيمان، ولقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، عن أن يروع المسلم أخاه المسلم، فقال: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» ففيه دليل علي أنه لا يجوز ترويع المسلم ولو بما صورته صورة المزح.
عدم الخروج على ولاة الأمر
وجعل الإسلام استحقاق ولاة الأمر في المجتمع المسلم طاعة الناس، بتمسكهم بالقرآن والسنة، عقيدة وأخلاقا وتشريعًا، فلا يجوز الخروج على الأئمة، ولا منابذتهم من قبل الرعية سعيا لتحقيق الأمن الاجتماعي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: لَا، مَا صَلَّوْا» أي: من كره بقلبه وأنكر بقلبه.
الأمن الاجتماعي في الفقه الإسلامي
لقد سبقنا تراثنا الإسلامي في بيان الأصل الشرعي للأمن والسلام الاجتماعي، عندما استخدم أئمته والمصلحون فيه مصطلح (الأمن المطلق) و(الأمن العام)، والمطلق عندهم هو العام أي (الاجتماعي) في اصطلاحنا المعاصر. فمفاهيم (الأمن الاجتماعي) وآفاقه في الرؤية الإسلامية، هي مفاهيم (العمران الإنساني) وآفاقه؛ فإن علماء الإسلام في أصول الفقه قد استنبطوا من نصوص الكتاب والسنة مقومات العمران الإنساني، واضعين إياها في باب الضرورات، وفي باب الحقوق، فتحدثوا في مبحث مقاصد الشريعة عن الضرورات الخمس، التي لا قيام للدين ولا للدنيا دون تحققها؛ لأن غيابها يفضي إلى اختلال استقامة المصالح، فتتهدد الحياة الدنيا، والآخرة أيضا، وهذه الضرورات الخمس هي: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
ولقد تضمن التشريع الإسلامي، ما يكفل بيان الأصل الشرعي للأمن الاجتماعي وكيفية تحقيقه. ويظهر ذلك فيما يلي:
ـ إن الأمن الاجتماعي له أصل في فقه العبادات؛ فمثلا في فريضة الحج جعل الله من شرطه أمن الطريق؛ لأنه لا يجب دون الزاد والراحلة، ولا بقاء للزاد والراحلة دون الأمن.
ـ تشريع الزكاة التي تؤخذ من أغنياء المسلمين وترد على فقرائهم، وهو تشريع يحقق الأمن والسلام الاجتماعي، يشعر فيه القادر بأنه مسؤول عن غير القادر في الوفاء بضرورات حياته، حتى لا يشيع الحقد في المجتمع، إذا كان المال بيد الأغنياء وحدهم، ولا ينال العاجز والضعيف منه شيء.
- ومن ذلك ما أوجب الإسلام من نفقة القريب الفقير على القريب الغني، الذي يرثه، مما يقوي رباط الأسرة ويجعل المجتمع متماسكاً، يشعر فيه كل قادر بأنه مسؤول عن أقرب الناس إليه.
- يضاف إلى ذلك ما ورد في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة، في شأن الصدقة وصلة الأرحام والإحسان إلى الأيتام، وتوقير العلماء وأهل الفضل، وحض الحكام وولاة الأمر على الرفق بالناس، وتبادل النصح بين الراعي والرعية.
- وفي حكم الأمان ثبوت الأمن للكفرة فلقد كفلت أحكام الشريعة في الفقه الإسلامي أن يتمتع غير المسلم الذي يعيش في المجتمع المسلم بالأمن الاجتماعي على حياته وماله وعرضه، وهذه الحماية مستمرة، سواء أكانت من المعاهدين والمستأمنين أم من أهل الذمة، ما داموا ملتزمين بالعهد، مؤدين ما اشترطه الإسلام عليهم، فمتى منح الإمام الأمان لغير المسلم، وجب على المسلمين جميعًا احترامه، وعدم انتهاكه؛ لأن الإمام أو نائبه، صاحب الحق في ذلك، فيثبت الأمن الاجتماعي للمستأمن على حياته وماله وعرضه، ويحرم على المسلم التعرض له في نفسه وماله وولده، ويسري الأمان إلى الزوجة فتجب لهم العصمة في دار الإسلام.
- ولقد كفلت الشريعة الإسلامية، تحقيق أمن المجتمع بحد من حدود الله، يقول الله -تعالى-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة 33)، فمحاولة الإخلال بأمن المجتمع المسلم، عن طريق ارتكاب جرائم القتل أو النهب، أو حتى إرهاب الناس، ونزع الشعور بالأمن من نفوسهم، يعد من الناحية الشرعية محاربة لله ورسوله، تستوجب إقامة الحد.
- إن للشعور بالخوف الذي يعيق الأمن الاجتماعي في بعض المواضع حكم في الشرع يناسب حال الإنسان عند الخوف؛ فالخـوف من الأعذار المبيحة للتخلــف عن صلاة الجماعة، وقد يؤثر في كيفية الصلاة وصفتها، كما هي الحال في صلاة الخوف المشروعة.
وغير ذلك من الأحكام الشرعية الكثيرة في الفقه الإسلامي التي تبين موضع الأمن الاجتماعي وأهميته في المجتمع الإسلامي، وتضع الآلية السليمة لتحقيقه، والعلاج الشافي لعلله.