محاضرات منتدى تراث الرمضاني الثالث
- أثر القرآن الكريم في تعزيز القيم الأخلاقية
- الحلقة الثانية


استكمالا لما بدأناه في الحلقة الماضية في الحديث عن أثر القرآن الكريم في تعزيز القيم الأخلاقية، وبعد أن ذكرنا عددًا من تلك القيم والأخلاق التي رسخها القرآن الكريم، نقول: إنَّ الأخلاق منها ما هو جِبِلِّي ومنها ما هو مكتسب؛ فالله -سبحانه وتعالى- جَبَل الإنسان على بعض الأخلاق كالهدوء والأناة والحلم، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لِأَشَجِّ عبدِ القيسِ: «إنَّ فيك خُلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلْمَ والأَناةَ»، فقال: أخُلُقَينِ تَخلَّقتُ بهِما؟ أم خُلُقينِ جُبِلتُ علَيهِما؟ فقال: «بل خُلقَينِ جُبِلتَ عليهما» فقال: الحمدُ للهِ الَّذي جبَلَني على خُلقَينِ يُحِبُّهما اللهُ ورسولُه».
فإذا كانت الخصلة الحميدة موجودة طبعا وخلقا في الإنسان، طبعه الله وجبله على هذا الخلق؛ فليحمد الله -عز وجل-، وإذا كانت هذه الخصلة لا توجد فيك، فعليك أن تجاهد نفسك على التخلق بما أمر الله -تبارك وتعالى- وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم .
خلق الصبر
من الصفات التي أثنى الله -تبارك وتعالى- على أصحابها في كتابه، الصبر؛ فالصبر خلق عظيم، حتى يؤثر عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: الصبر نصف الإيمان، وقد أثنى الله -تعالى- على هذا الخلق وقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}، وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وهذا الشهر (شهر رمضان)، سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - شهر الصبر، ذلك أن الصيام يتجلى فيه أنواع الصبر الثلاثة، وذلك أن الصيام فيه صبر على طاعة الله، ثم إنه يصبر عما حرم الله عليه، وأخيرًا فإن الصائم يصبر على ألم الجوع والعطش والتعب والإنهاك في البدن، وهذا صبر على أقدار الله المؤلمة.
ولهذا جمع بعض أهل العلم بين قول الله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وبين قوله -سبحانه وتعالى- في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا أجزي به»، لم يذكر الله -عز وجل- في الحديث القدسي شيئا معينا للصائمين، بل قال: كل الأعمال مذكورة في القرآن، الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا أجزي به، قال العلماء: في هذا إشارة إلى أن الصيام فيه أنواع الصبر الثلاثة، وقد قال ربنا -عز وجل-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}؛ فلهذا كان أجر الصائم غير محدد، وفي هذا دليل على عظم الجزاء عند الله -سبحانه وتعالى- للصابرين الصائمين.
آية جامعة لأنواع
حسن الخلق
من الآيات العظيمة الجامعة لأنواع حسن الخلق قول الله -سبحانه وتعالى- في سورة النساء: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (النساء 36)، هذه الآية بدأت بأعظم الحقوق وأحسن الأخلاق وهي خصلة التوحيد، توحيد الله -سبحانه وتعالى- الذي هو حق الله -عز وجل- على العبيد؛ فإن الله -عز وجل- حقه على عباده أن يعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئا، وإذا قاموا بهذا الحق فلهم حق على الله -عز وجل- أوجبه على نفسه، وهو ألا يُعذب من لا يشرك به شيئا، هذه بشارة عظيمة بشّر بها النبي -[- أمته: «مَن لَقِيَ اللَّهَ لا يُشْرِكُ به شيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، ومَن لَقِيَهُ يُشْرِكُ به دَخَلَ النَّارَ»؛ لأنه قام بأعظم الحقوق وأحسن الأخلاق التي هي توحيد الخالق -سبحانه وتعالى.
وبالوالدين إحسانا
وبالوالدين إحسانا عطف بهما على توحيد الله -عز وجل-؛ لأن الوالدين هما أعظم الخلق حقا عليك، والإحسان إليهما عام، بالقول، والفعل، وقضاء الحوائج، والإنفاق؛ فأحسنوا بالوالدين إحسانا برا بهما، عطفا عليهما، رحمةً بهما إذا كبرا.
{وبذي القربى}
{وبذي القربى}، أي أحسنوا إلى ذوي القربى؛ لأنهم أولى الناس ببرك وإحسانك، أختك وأخوك ثم أدناك فأدناك. وبعض الناس يُحسن إلى البعيد ويترك القريب، والواجب على المسلم أن يعظّم حق القريب، حق الإخوان والأخوات، حق الأخوال والخالات، حق الأعمام والعمات، وأبنائهم؛ لأن الله -عز وجل- أوصى بالإحسان إليهم.
{واليتامى والمساكين}
من الأخلاق التي دعا إليها القرآن الكريم، الإحسان إلى اليتامى الذين فقدوا الآباء المُعيلين وكفالتهم، وفي السنة قال - صلى الله عليه وسلم -: «أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين، وأشارَ بأصبُعَيْهِ يعني: السَّبَّابةَ والوسطى»، هذه المنزلة العظيمة لمن كفل اليتيم وتكفل بالإنفاق عليه ورحمه ومسح على رأسه وآواه، إن كان شريدا ضائعا فله بذلك أجر عظيم عند الله -عز وجل-، والمساكين الذين قصرت بهم النفقات، عندهم أعمال لكنها لا تفي بالحاجة، هذا القول الصحيح في تفسير المساكين كما قال الله -عز وجل-: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}؛ فالمسكين أحسن حالا من الفقير، فالفقير هو الذي لا مهنة له ولا عمل له، ولا تكاد تجد هذه الأخلاق إلا عند أهل الإيمان، وهذا من أخلاقهم التي دلّهم عليها القرآن.
الوصية بالجار
ثم يوصي الله -عز وجل- بالجار فيقول: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ}، الجار ذي القربى أي الذي بينك وبينه قرابة مثل أخيك أو أختك؛ فإذا كان جارك قريبا لك، فله حقان: حق الجار وحق القرابة، وإذا كان مسلما فله ثلاثة حقوق: حق الجار، وحق القرابة، وحق الإسلام، وإذا كان الجار ليس من الأقارب بل هو جنب، والجنب هنا أي البعيد (أجنبي) فله حقان: حق الجار وحق الإسلام إذا كان مسلما.
ويقول الله -سبحانه وتعالى- {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ}، الصاحب بالجنب قد يكون من يصاحبك فترة من حياتك أو فترة من يومك، أو رفيق السفر، في قول الجماعة من المفسرين الصاحب بالجنب هو من يكون بجانبك مثلا في كرسي الطائرة، أو الذي يصاحبك في الدراسة أو في الجامعة، هذا يوصي الله -سبحانه وتعالى- بالإحسان إليه.
الوصية بابن السبيل
ويوصي -سبحانه وتعالى- بابن السبيل وهو المسافر الذي انقطعت به السبل أو احتاج في سفره ولو كان غنيا في وطنه، ولا شك أن المسافر اليوم تسهلت له الأمور، ويستطيع أن يصحب ماله أينما حل وارتحل، لكن بعض أبناء السبيل قد يحتاجون، ولهذا أوصى الله -سبحانه وتعالى- بهم، هذا من شمول الإسلام وشمول دعوة القرآن في تعزيز القيم الأخلاقية حتى عند هؤلاء الغرباء المارين مرورا عابرا، لم ينسهم الله -سبحانه وتعالى- من إحسانه وذكّر بهم المسلمين.
{وما ملكت أيمانكم}
المماليك والأرقاء هم ضعفاء، ويشبههم اليوم الخدم الذين يخدمون الإنسان من الضعفاء، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في مرضه الذي توفي فيه: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم»، جعل - صلى الله عليه وسلم - يتكلم بهذا حتى فارق الدنيا، يوصي الأمة بالصلاة ويوصيهم بما ملكت اليمين من العبيد والأرقاء ومن كان في حكمهم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغضب إذا رأى أحدا يُهين عبده أو مملوكه أو يضربه، أو يعامله بشدة وعنف فيقول - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة من ضرب عبده أن يعتقه»، والرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى أبا مسعود يضرب عبدا له بالسوط -وهذا الخلق قد يكون عند بعض الناس أنه يستضعف العامل والخادم ويظلمه ويهينه ويضربه أحيانا ظلما- فغضب - صلى الله عليه وسلم - وقال: «اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا»، إذا أنت ترى في نفسك القدرة والقوة على هذا الضعيف، فالله أقدر عليك منك عليه؛ فقال أبو مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -: هو حر يا رسول الله، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: لو لم تفعل للفحتك النار، أي لأصابتك نار الآخرة، وكان يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله -تعالى- أخاه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، ويلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل ما لا يطيق أو يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه».
اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}


وقال في ختام الآية مذكرا -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}، المختال المتكبر، والفخور الذي يفخر على الناس إما بماله أو بمنصبه أو غير ذلك، ولماذا ذكر الله -سبحانه وتعالى- هذين الخُلُقين المذمومين في ختام الآية بعد أن أمر الله -سبحانه وتعالى- بجملة من الأخلاق الحسنة؟ يقول أهل العلم: لأن المتكبر الفخور لا يؤدي الحقوق التي أوجبها الله عليه، وأعظم الحقوق، التوحيد؛ ولذلك الكافر متكبر عن عبادة ربه، يأنف أن يسجد لله، يختال بنفسه، يتكبر على خلق الله، يهين هذا ويظلم هذا ويأكل حق هذا، فلا يكاد المختال الفخور يؤدي الحقوق والأخلاق الحسنة التي أمر الله -سبحانه وتعالى- بها؛ ولهذا ختم الله -عز وجل- هذه الآية بهذا الأمر والتحذير من هذا الأمر.
التعاون بين المؤمنين
ومن الأخلاق القرآنية العظيمة، التعاون فيما بين المؤمنين على ما يحب الله -سبحانه وتعالى- ويرضى، فالمؤمن يتعاون مع إخوانه ويحاول -قدر الإمكان- أن يكون عمله مع جماعة من المؤمنين؛ لأن هذا أنجح للمقصود، فالجماعة قوة، ويحصل بها ما لا يحصل بجهود الأفراد؛ ولهذا قال الله -عز وجل-: { وتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة:2).
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مثال التعاون على ما يحب الله -سبحانه وتعالى- ويرضاه مع أصحابه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان كثير المشورة مع أصحابه، وكان لا يكاد يُمضي أمرا إلا بعد أن يشاور أصحابه، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - مستغنٍ عن ذلك بالوحي، ومع ذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يحب مشاورة الصحابة، فلما أُمِر بالهجرة جلس مع أبي بكر الصديق الذي كان من أقرب الناس إليه وقال: إن الله -عز وجل- أَذِنَ لي بالهجرة، فقال له أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، وهكذا استشار أصحابه في غزوة بدر، وفي غزوة أحد، وفي غزوة الخندق، وفي كل الأمور المهمة الملمة.
ولما هاجر - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة تعاون هو وأصحابه على بناء المسجد (مسجده الشريف)، وكان ينقل معهم الحجارة -[-، لما حفر الخندق كان معهم - صلى الله عليه وسلم - يحفر ويحمل التراب حتى اغبر بدنه ولحيته - صلى الله عليه وسلم .
التعاون سبب لنجاح الأعمال
التعاون سبب لنجاح الأعمال، فجهد الجماعة يأتي بما لا يأتي به جهد الفرد؛ ولهذا لو تعاون أهل المسجد على مشروع في مسجدهم على بناء بئر، أو إصلاح مرفق من مرافق المسجد أو على الدعوة في المنطقة فإن ذلك سبب لخير عظيم، والله -تعالى- قال: {وتعاونوا على البر والتقوى} البر اسم جامع لكل ما يحبه الله -سبحانه وتعالى- ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة وحقوق الله -عز وجل- وحقوق الآدميين، فيحصل بهذا التعاون ما يحبه الله -عز وجل- ويرضاه وهو صلاح الأمور وحصول التقوى، وكذلك التعاون على إنكار المنكر، إذا حصل منكر من المنكرات وتعاون أهل الحي على إزالته زال، هذا الأمر وهذا الخلق يحبه الله -سبحانه وتعالى- ويأمر به وفيه تحقيق لمصالح عظيمة للأمة.

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي