الشرك يخالف الفطرة والعقل (1)


الفرقان


الشركَ بالله من أقبح الذنوب وأكبرها على الإطلاق، لا يغفره الله لمن مات عليه، بل هو خالدٌ مخلدٌ في النار لِعظم جُرمه في حق الله الكبير المتعال، قال الله -تعالى-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13)، وقال -سبحانه-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48)، وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لقِي الله لا يشرك به شيئًا، دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا، دخل النار»، رواه مسلم، فدلَّت نصوص الكتاب والسنة على خطورة أمر الشرك، وعِظم المصيبة فيه، فليس هو بالأمر الهيِّن، بل هو أخطر من القتل والزنا والسرقة، لتعلُّقه بالله العظيم وبحقه في الإفراد والتوحيد.

معنى الفطرة

وقد عرف العلماء الراسخون الفطرة الواردة في القرآن والسنة بالإسلام؛ فلعله من لوازم المعنى؛ فإن الفطرة هي: (الخلقة التي خلق الله العباد عليها وجعلهم مفطورين على محبة الخير وإيثاره، وكراهية الشر ودفعه، وفطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله والتقرب إليه)، فمعنى الفطرة تؤول إلى الإسلام وعليه إجماع السلف، فلا شك إذا كان معنى الفطرة هو الإسلام أنه مخالف للشرك.

الشرك مخالف للفطرة

فالشرك مخالف للفطرة كما سيأتي بيانه، ولكن إذا كان الأصل في الإنسان أنه فُطر على الإيمان هل يعني ذلك أن الإنسان إذا ترك دون أي توجيه فسيهتدي للإسلام؟ أجاب شيخ الإسلام عن هذا السؤال بقوله: «وليس المراد أن الإنسان حين يخرج من بطن أمه يعلم هذا الدين موحدًا لله، فإن الله -تعالى- يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}، وإنما المراد: أن فطرته مقتضية وموجبة لدين الإسلام، ولمعرفة الخالق، والإقرار به، ومحبته، ومقتضيات هذه الفطرة وموجباتها تحصل شيئًا بعد شيء، وذلك بحسب كمال الفطرة وسلامتها من الموانع». فالمقصود بكون الفطرة دالة على الإيمان والتوحيد وعدم الشرك: هو سلامة القلب واستقامته على التوحيد وبراءته من الشرك بأنواعه؛ بحيث لو ترك صاحبه بلا مغير لصبغته موحدًا لربه بالألوهية، ومنخلعًا من تأله ما سواه.
معنى العقل

والعقل في الاصطلاح: له إطلاقان: 1 - القوة الفطرية: أو الاستعداد الغريزي، والملكة الناضجة التي أودعها الله -تعالى- في الإنسان وخلقه عليها متهيئًا بسببها لقبول العلم، وهذا هو محل التكليف ومناط الأمر والنهي، وبه يكون التمييز والتدبير. 2 - يراد به العلوم الضرورية والمسلمات العقلية التي يستفيدها الإنسان بتلك القوة الفطرية، وهذا هو العقل المستفاد، وإليه الإشارة في القرآن الكريم في كل موضع ذم الله -تعالى- فيه الكفار بعدم العقل. كقوله -تعالى-: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}.
إثبات أن الشرك مخالف للفطرة

لقد خلق الله ـ جل في علاه ـ عباده حنفاء مسلمين موحدين لرب العالمين بالألوهية، ومتبرئين من الشرك والتأله لما سواه، وجعل ذلك لوازم فطرهم؛ بحيث لو تركوا ودواعيها لما كانوا إلا عارفين بالله، وبتوحيده وبأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وبذلك شهدت فطرة الموحدين وعقولهم، بأن الله أهل أن يعبد، ولو لم يرسل بذلك رسولاً ولم ينزل به كتاباً، وعليه أصبحت الفطرة بينة التوحيد وشاهده في أنفس الموحدين. فلا جرم أن الفطر يقتضي: عبادة الفاطر، وأن من كان مفطورًا مخلوقًا فحري به أن يتفرغ لعبادة فاطره وخالقه ولا سيما إذا كان أمره بيده ومنتهاه إليه، قال -سبحانه-: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
استحالة الشرك في الفطر السليمة

ومن هنا استحال جواز الشرك في الفطر السليمة والعقول المستقيمة ولو لم يرد بذلك خبر، كيف وقد أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب؟ لتقرير ما استودع -سبحانه- في فطر خلقه من حسن التوحيد وحل الطيبات، ومن قبح الشرك وحرمة الخبائث، وبهذا تكون الفطرة حجة مستقلة في بطلان الشرك، فهي أسبق من الحجج الواهية كافة وسائر المعاذير الساقطة التي يتشبث بها المشركون. فالشرك مخالف للفطرة لا محالة، والذي يزيد هذا البيان وضوحًا ما يلي:
(1) لجوء الإنسان وفزعه إلى خالقه -سبحانه
لجوء الإنسان وفزعه إلى خالقه -سبحانه-، سواء كان هذا الإنسان موحدًا أم مشركًا عند الشدة والحاجة، فإن بني آدم جميعًا يشعرون بحاجتهم وفقرهم، وهذا الشعور أمر ضروري فطري؛ إذ الفقر وصف ذاتي لهم، فإذا ألمت بالإنسان ـ حتى المشرك ـ مصيبة قد تؤدي به إلى الهلاك فزع إلى خالقه والتجأ إليه وحده، واستغنى به ولم يستغن عنه، وشعور هذا الإنسان بحاجته وفقره إلى ربه تابع لشعوره بوجوده وإقراره، فإنه لا يتصور أن يشعر الإنسان بحاجته وفقره إلى خالقه إلا إذا شعر بوجوده، وإذا كان شعوره بحاجته وفقره إلى ربه أمرًا ضرورياً لا يمكنه دفعه، فشعوره بالإقرار به أولى أن يكون ضروريًا، قال الله -تعالى-: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال -تعالى-: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}، وقال -تعالى-: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}.
رجوع الإنسان وإنابته إلى ربه

فرجوع الإنسان وإنابته إلى ربه عند الشدائد دليل على أنه يقر بفطرته بخالقه وربه -سبحانه-، وأنه لا يرضى بالشرك، وهكذا كل إنسان إذا رجع إلى نفسه أدنى رجوع عرف افتقاره إلى الباري -سبحانه- في تكوينه في رحم أمه وحفظه له، وعرف كذلك افتقاره إليه في بقائه وتقلبه في أحواله كلها وتبقى هذه المعرفة في نفسه حجة قوية لأن الحاجة استلزمتها، فتكون أوضح من الأدلة الكلية مثل افتقار كل حادث إلى محدث.
(2) الفطرة مقتضية للإقرار بالخالق وتوحيده وحبه
التصريح بأن الفطرة مقتضية للإقرار بالخالق وتوحيده وحبه، ومخالفة الشرك وقبحه في الأدلة السمعية، وقد سبق معنا الأدلة الدالة على هذا القول.
(3) ورود التكليف بتوحيد العبادة أولاً
كأن هذا تذكير لما فطروا عليه من ذبح الشرك؛ فإنه لم يكن الإقرار بالله -جل وعلا- وبربوبيته فطريا، والشرك مخالف للفطرة لساغ لمعارضي الرسل عند دعوتهم لهم بقول الله -تعالى-: (فَاعْبُدُونِ) أن يقولوا: نحن لم نعرفه أصلاً فكيف يأمرنا؟ فلما لم يحدث ذلك دل على أن الفطرة مخالفة للشرك (في الربوبية)، وأن المعرفة كانت مستقرة في فطرهم؛ فإن الأمر بتوحيده في عبادته فرع الإقرار به وبربوبيته فيكون بعده.
4 - إلزام المشركين بتوحيد الربوبية ليقروا بتوحيد الألوهية
ووجه الدلالة: أنه لو لم يكن المشركون مقرين بربوبية الله وبقبح الشرك على مقتضى فطرتهم لما ألزمهم بالإقرار بألوهيته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فدل على أنه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين به … «، فهذه كلها أدلة صحيحة على أن الخلق مفطورون بالإقرار بالله -سبحانه- والشرك مخالف لهذه الفطرة الصحيحة.