محطات تربوية لبناء الإنسان

قيام الأمم والحضارات مرهون بمدى صلاح أبنائها ونبوغ أجيالها، ولا يتحقق ذلك إلا بالاهتمام بالمصادر التي يستقي منها هؤلاء ثقافتهم، ويتعلمون منها دروسهم، وطرق تفكيرهم ونظرتهم للحياة، فإذا كانت هذه المصادر صالحة فعالة، أنتجت جيلًا قادرًا على الإبداع، مؤهلًا لمواجهة الصعاب، قادرًا على التكيف مع المتغيرات.

إن الاستثمار اليوم في الموارد البشرية هو أعظم استثمار للمستقبل، وأول مراحل التطور والنهوض؛ فالإنسان هو المعتمد في البناء والأمل في النهوض، فكل الموارد لا شك تنضب وكل الثروات تنتهي، ولكن العقول والأفكار هي التي تبقى، فكم من بلد يعاني شحًّا في الموارد الطبيعية، ونقصًا في الثروات الباطنية، ولكنه اليوم يتربع على قمة الدول الصناعية الكبرى في العالم، ويملك ما لا تملكة الدول الغنية بالثروات!

وحقيقة الأمر أنه لم يصل إلى هذه المكانة إلا عندما أخذ بأسباب النجاح، وسلك الطريق الذي يوصله إلى أن يكون في مصاف الدول المتقدمة، فطوَّر مناهج التعليم، وعمل على تطوير الإنسان، ووفر له كل أسباب الإبداع.

والعكس يُقال أيضًا، فكم من بلد يقبع في باطنها أنواع المعادن والثروات، ولكن ينتشر فيها التخلف والفقر، وتقع في مصاف الدول المتأخرة صناعيًّا والمتخلفة حضاريًّا! وهذا في نظري يعود إلى الجهل وتفشي الأمية، وعدم الاهتمام بالإنسان الذي عليه تقوم الحضارات وتنهض الشعوب، فنحن في بلداننا الإسلامية لا يمكن أن نلحق بركب الشعوب المتقدمة إلا إذا أعطينا الإنسان مكانته اللائقة التي أعطاه إياها الإسلام، وشجعنا الشباب على الإبداع والابتكار، ومهدنا له الطريق للصناعة والتطوير، وهذه النتيجة لا تتحقق إلا إذا حرصنا على الاهتمام بمنابع التربية التي يتلقون فيها علومهم، ويستلهمون منها أفكارهم، وهذه المحطات العظيمة جاء الإسلام وعني بها غاية العناية، وأحاطها بسياج من الحماية والصون؛ لكي تقوم بدورها في بناء الأجيال، وتربيتهم على الدين والأخلاق، وهذه المحطات كثيرة متعددة، نذكر منها أهمها ونبرز أعظمها، فهذه المحطات إذا أُخذ بها اليوم وتم العناية بها، صلح على يدها جيل كبير، وحل نفعها في مستقبل الأيام ومتقدم الزمان، فالعمل على إصلاحها هو استصلاح للمستقبل وتنمية للحاضر، وإغفالها أو عدم العناية بها، يعقبه تفشي الجهل وينتج عنه التخلف والضياع، وهي:

الأسرة:
فالأسرة هي البيئة الأولى التي يستقي منها الأبناء تعاليم حياتهم، وتتفتح عليها عيونهم، ويتعلمون منها مبادئ الأخلاق وتعاليم الدين؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه ...))، وهي أول ما يتأثر به الأبناء، فإذا كانت الأسرة صالحة، نشأ جيل صالح، وغرست فيه البذرة الصالحة التي تثمر في مقتبل العمر الخير، ويتفرع عنها الأخلاق، وينمو فيها الإبداع، ومن هنا حرص الإسلام على اختيار الزوجة الصالحة؛ لأنها هي من يبني الجيل ويربي الأبناء، فصلاحها صلاح أمة، وبفسادها ضياع جيل:
الأم مدرسةٌ إذا أعددتَها ♦♦♦ أعددتَ شعبًا طيبَ الأعراق

ورتب الإسلام أقسى العقوبات علي من سعى في هدمها، أو عمل على إفسادها؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (( ليس منا من خبَّب امرأةً على زوجها، أو عبدًا على سيده))، وقد يكون هذا رجلًا أو امرأة أو جمعية أو معهدًا، بل إنه أحاطها بسياج متين من الحب والاحترام؛ حتى يكون المجتمع متماسكًا سعيدًا، تفيض فيه مشاعر المحبة والمودة.

فالأبناء نتاج ما يُعوَّدون، وصورة لما يُربُّون عليه، فإذا كان ما يتلقاه ينمي أفكاره، ويوسع مداركه، ويربيه على الصفات الحميدة والأخلاق النبيلة، ويغرس فيه أهمية الإبداع وفكرة الاكتشاف - فإنه سينشأ عليه، ويبحث عمَّا ينمي هذه البذرة التي زُرعت فيه، فلا يرضى إلا بأن يكون من الرواد؛ وكما قيل:
وينشأ ناشئ الفتيان منَّا ♦♦♦ على ما كان عوَّده أبوه

ثم تأتي ثاني المحطات التربوية، وهي:
المسجد:

فالمسجد في الإسلام له منزلة عظيمة وغاية سامية، ليس فقط للصلاة وينتهي دوره، بل هو مدرسة الحياة الأولى، وهو جامعة العلوم ودار البناء، ورمز للطهارة والاجتماع، فأول شيء فعله عليه الصلاة والسلام عند مقدمه المدينة يوم هاجر إليها - أن همَّ بناء المسجد؛ لإيمانه صلى الله عليه وسلم بما يقوم به في بناء الدولة، وتأسيس الناشئة، وتعليم المسلمين أمور دينهم وحياتهم، ففيه يتعلم الطالب تعاليم الإسلام الأولى، ويفتح ذهنه على أهمية الاتباع لأمر الله، والحرص على الاجتماع وعدم الفرقة، وأيضًا من المعاني التربوية العظيمة التي يشعر بها الأبناء، ويتعلمونها عمليًّا: المساواة؛ فالناس يقفون في صفوف واحدة، لا يميز بينهم شيء، أو يفصل بينهم فاصل؛ فتترسخ هذه المعاني وتنحفر هذه المشاهد في مخيلته.

ثم تأتي المحطة الثالثة في حياة الأبناء، وهي:
المدرسة:
فهي المكان الذي يتلقى فيه الأبناء علوم الحياة النافعة، ويتعلمون فيها طرق التفكير ومناهج البحث والتطوير، ففيها ينمي الأبناء أخلاقهم، ويقوِّمون ما فسد من سلوكهم.

وحيث إنه يقضي فيها الطالب ثلث يومه، ويختلط فيها بشرائح مختلفة من الأبناء، فإذا كان هذا الوقت يقضيه بما ينفعه ويعود عليه بالفائدة، فإنه بلا شك سيتحقق التمكين والنصر، ويتغير الحال الذي نعيشه اليوم إلى حال أحسن ومكانة أليق بنا؛ فالقمة تكون لمن يسعى لها أو يطمح لبلوغها، فينبغي أن يكون منهجها مؤهلًا صالحًا لبناء هذه الأجيال، والأخذ بأيديهم إلى النجاح والتفوق.

فإذا تضافرت جهود هذه المحطات الثلاثة، فإنها ستثمر جيلًا نافعًا لنفسه ولغيره، ويملك صلابة في الأخلاق، ويملك قاعدة من العلوم النافعة التي تمكنه من الانطلاق والاستكشاف، ويدفعه الطموح المشتعل؛ كي يصل إلى الإبداع ورؤية للمستقبل.
رابط الموضوع:
https://www.alukah.net/social/0/136363/#ixzz60QfLrRuR