الـعـمـل بـعـد رمـضـان





الشيخ / عبيد بن عساف الطوياوي



الحمد لله ، الذي رفع السماء بقدرته ، وبسط الأرض بمشيئته ، الحي القيوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، خلق الموت والحياة ، وقدر الهلاك والنجاة ، ابتلاء لخلقه ، أيهم أمثل لطاعته .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، لا في أسمائه ، ولا في صفاته ، ولا في ربوبيته .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، خاتم أنبيائه ورسله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته ، وسلم تسليماً كثيراً .
أ ما بعد ، أيها المسلمون :
اتقوا الله U بفعل أوامره ، وبالبعد عن مخالفة أمره ومعصيته . واعلموا ـ أحبتي في الله ـ أن الانتهاء والرحيل ، من سنن هذه الحياة ، إذ لا بقاء ولا دوام إلا لوجه الله تعالى ، يقول سبحانه : } كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ{ ويقول ـ جل جلاله : } كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { .
فحري بالمسلم ـ أيها الأخوة ـ أن يدرك ويستشعر هذه الحقيقة ، التي لا شك فيها ، ويخرج من ذلك : بمحاسبة نفسه ، وخاصة في هذه الأيام ، بعد توديع شهر رمضان ، وليكن أول ما تفهم تلك النفس ، هو أن رمضان وإن انتهى ، فإن مواسم الخير لا نهاية لها ، وما رمضان إلا مدرسة ، يتدرب فيها من وفقه الله على فعل البر ومجالات الخير ، وهذه ـ أيها الأخوة ـ فائدة من فوائد شهر رمضان .
نعم ، تعود النفس على ماكانت تحرص عليه في رمضان ، الصيام والقيام وتلاوة القرآن والإنفاق وغيره ، كل ذلك مطلوب في رمضان وفي غير رمضان . متى ما عمله المسلم ، فإن الله U يقبله ، ويثيبه عليه ، ويرفع درجاته بأسبابه .
هذا القيام ، الذي كنا نحرص عليه في رمضان ، مشروع في غير رمضان ، وهو ديدن الصالحين ، وشرف عباد الله المؤمنين ، يقول U إخبارا عن سلف هذه الأمة : } كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ { ما الذي أسهرهم ؟ متابعة القنوات الفضائية ؟ أو لعب الورق في الاستراحات ومتابعة المباريات والمسلسلات والسهرات ! لا . أسهرهم قيام الليل . أسهرهم حب الله U ، أسهرهم حب التقرب إليه U ، يقول جل جلالهم عنهم : } تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ { تتجافى جنوبهم : يعني ترتفع وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة ، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم ، وهو الصلاة في الليل ومناجاة الله جل جلاله ـ اللهم ارزقنا الإيمان ـ .
فقيام الليل ـ أيها الأخوة ـ مشروع حتى في غير رمضان ، بل كان الرسول e يحذر من تركه لمن اعتاد عليه ، فقد جاءه عبد الله بن عمرو فقال له : (( يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل )) . فحذره أن لايكون مثل هذا ـ فلان ـ الذي كان يقوم الليل فترك قيام الليل ، بطله ، مصيبة . المؤمن لا يبطل الأعمال الصالحة ، إنما يحافظ عليها ويلزم نفسه بها .
ذكر مرة عنده e رجلا نام ليلة حتى أصبح ، فقال : (( ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه )) .
الله المستعان ـ أيها الأخوة ـ كم الذين تبول الشياطين في آذانهم ؟ صارت والعياذ بالله بعض الأذان مراحيض للشياطين ، نسأل الله السلامة والعافية .
بسبب بول الشيطان ، وحب النوم ، كم الذين حرموا من مناجاة ربهم ؟ الله U ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ـ في الثلث الأخير من الليل ـ يقول : هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من سائل فأعطيه ؟
يقول جابر بن عبد الله t سمعت الرسول e يقول : (( إن في الليل لساعةً لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة )) والحديث رواه مسلم .
أين الذين أثقلت كواهلهم الديون ؟ أين الذين توالت عليهم الهموم ؟ أين ذووا الحاجات ؟
ساعة ، لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه . وهذه الساعة ليست في سنة أو شهر ؛ إنما هي في كل ليلة . فلا نامت أعين الكسالى ، أي والله لا نامت أعين الكسالى . ونسأل الله أن يخرجني وإياكم منهم .
فلنحذر يا عباد الله تثبيط الشيطان ، فإنه يجتهد ليحرمنا مثل هذا الفضل العظيم ، وقد حذرنا نبينا e من ذلك ، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة t أنه e قال : (( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب على كل عقدة ، عليك ليلٌ طويلُ فارقد . فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة ، فإن توضأ ، انحلت عقدة ، فإن صلى انحلت عقده كلُها ، فأصبح نشيطا ، طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان )) والحديث متفق عليه . وقد صدق r ، تذهب لإنجاز معاملة في مكان ما ، فتجد موظفا نفسه في رأس أنفه ، قد تسلم ولا يرد عليك السلام ، خبيث النفس ، كما قال r ، فيأخذ منك أوراقك ويضعها على الطاولة أو في الدرج ، ويعدك يوما أو يومان ، أو نهاية الدوام ، من أجل تدقيق أو توقيع ، أو إدخال معلومات ، فيقطع وقتك ، ويشق عليك ، لأنه كسلان ، ولو سألت عنه لوجدت عقده لم تحل ، فاللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد .
وقيام الليل ـ أيها الأخوة ـ من أسباب دخول الجنة ، يقول الرسول e : (( أطعموا الطعام ، وأفشوا السلام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام )) .
وقد دعا الرسول e بالرحمة للذين يقومون الليل ويوقظون أزواجهم ، ففي الحديث عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : (( رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته ، فإن أبت ، نضح في وجهها الماء . رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ، وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء )) .
ولا تنسوا الوتر ـ يا عباد الله ـ الثلاث ركعات التي كنا نختم بها صلاة الليل في رمضان ، التي كنا نقرأ بها غالبا بسور الأعلى والكافرون وقل هو الله أحد ، هذا هو الوتر ، يحبه الله عز وجل ، يقول علي بن أبي طالب t : الوتر ليس بحتم كصلاة المكتوبة ، ولكن رسول الله e قال : (( إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن )) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي e قال : (( اجعلوا آخر صلاتكم وترا )) والحديث متفق عليه . فلنحافظ على الوتر ، فقد كان النبي e يوصي به ، ويحافظ عليه في الحضر والسفر .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لاإله إلا هو تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
وكما أن القيام مشروع في غير رمضان ، فكذلك الصيام ، فإن من صام يوما في سبيل الله باعد به عن وجهه النار سبعين خريفا يوم القيامة . نسأل الله الكريم من فضله . يوم واحد ، تباعد به النار سبعين خريفا ، فضل عظيم ، وخير عميم ، يغفل عنه كثير من الناس ، وخاصة الذين لا يعرفون الصوم إلا في شهر رمضان .
فالله .. الله أبعدوا النار بالصيام عن وجوهكم ، واقتدوا بنبيكم e الذي كان من كثر صيامه يضن أنه لا يفطر .
وللصوم ـ يا عباد الله ـ فوائد عظيمة ، فصوموا يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع ، فقد كان نبيكم e يتعاهد ذلك ، ولما سأل عن صيامه لهاذين اليومين ، قال : إن الأعمال تعرض على الله كل اثنين وخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم .
وصوموا أيام البيض من كل شهر ، الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر ، ففي الحديث : (( أمرنا رسول الله e أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام البيض : ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ، وقال : هي كصيام الدهر )) ، يعني عندما تصم يا عبد الله هذه الأيام من كل شهر لك من الأجر صيام سنة كاملة .
وأفضل الصيام ، صيام نبي الله داود ، كان يصوم يوما ويفطر يوما .
جدير يا عباد الله بالمسلم أن يتحرى السنة في صيام النوافل ويصوم . جدير بأن يكون لك يا عبد الله حظ من صيام النوافل قل أو كثر :
وصم يومك الأدنى لعلك في غد
تفوز بعيد الفطر والناس صوم
أيها الأخوة المؤمنون :
وأخيرا أذكركم ـ والذكرى تنفع المؤمنين ـ بالست من شوال ، فمن صام رمضان ـ وقد صمتموه ـ وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر .
نعم أيها الأخوة ، صيام الست من شوال مع صيام رمضان كصيام الدهر ، لأن الحسنة عند الله بعشر أمثالها ، فصيام رمضان عن عشرة أشهر وستة أيام في شهر شوال عن ستين يوما أي عن شهرين فعشرة أشهر مع شهرين حول كامل .
اسأل الله أن يتقبل منا الصيام والقيام ، ويبعدنا عن المعاصي والآثام ، ويجعلنا جميعا من الفائزين بدار السلام ، إنه سميع مجيب .
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم احمي حوزة الدين ، اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين .
اللهم آمنا في أوطاننا ، واستعمل علينا خيارنا ، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العلمين .
اللهم إنا نسألك أن تغفر ذنوبنا ، وتستر عيوبنا ، وتسدد ديوننا ، وتنفس كروبنا ، وتحيي قلوبنا ، وتزكي نفوسنا ، وتشفي مرضانا ، وترحم موتانا ، وتعافي من ابتليته منا يارب العالمين .
اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم وفقنا لهداك ، واجعل عملنا في رضاك إنك سميع مجيب .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
} إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .