شهر رمضان وحدة مجتمعية نأمل استمرارها
كمال عبدالمنعم محمد خليل







يأتي شهرُ رمضان كلَّ عامٍ ببشرياته التي لا نستطيع إحصاءها، فهي فرصةٌ حقيقية للمسلم كي يتحصَّل فيها على أبوابٍ للخير، قد لا تتهيأ له في غيرِه، يساعد على ذلك الهمةُ العالية التي يُرزق بها، فتجده مُقبلًا على العبادات بفرضها ونَفْلها، كما تجده ينأى بنفسه عن مواطن الزلل والأماكن التي تأكَّد له أنها من الأبواب التي تجرُّه إلى المُهلِكات، إلا أننا نُلاحِظ - وبشكل واضح - ما يكون عليه المجتمع مِن وحدة يندرُ أو يقل أن توجد في باقي العام، في مظهر تكافلي نابعٍ من تعاليم ديننا الحنيف، وتوجيهات النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.



اجتماع على العبادة:

الإسلام يجمع ولا يُفرِّق، حتى في التكاليف الشرعية التي أمر بها ربُّ العالَمين، وتجد صنوفَ هذه التجمُّعات على مستوى الحي الذي تسكنه، ثم نفس هذه التجمُّعات على مستوى المدينة، ثم على مستوى الدولة، وبعد ذلك التجمُّع على مستوى العالَم الإسلامي، في مَشاهدَ وَقَف أمامها غيرُ المسلمين في دهشة وإعجاب لا يكاد يفارقهم، سطَّره المنصفون منهم في كتبهم، وتكلموا عن ذلك ضمن محاسن الإسلام التي لا تجدها في ملة أخرى؛ فموعد بَدْءِ الصوم وموعد نهايتِه في حد ذاته مظهرٌ قوي على هذه الوحدة، فقد جاء الأمر بالصيام للأمة في صيغة الجمع مِن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليبرهن على أنه لا يخاطب دولة دون أخرى، بل المسلمين في شتى بقاع العالم.



روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صُومُوا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)).



فالصوم وإن كان العبادة المخصوصة في هذا الشهر الفضيل، إلا أن تجمُّع المسلمين فيه على الصلوات الخمس لا تجد له نظيرًا في باقي شهور العام، وإن كنا نأمل مِن الله تعالى أن يرزقنا جميعًا الحفاظ على فريضةِ الصلاة في شهر رمضان وفي غيره.



كذلك الاجتماع على عبادة صلاة التراويح، فيه ما فيه من مظهر اجتماعي فريد، ورافد إيماني تعلو به الهمة، فهي صلاة خاصة بهذا الشهر الفضيل، يتسابق الجميع إلى أدائها وتحصيل الأجر العظيم منها، زيادةً على ذلك هذه الحلقات القرآنية، والدروس العلمية، التي يتجمَّع المسلمون فيها لتدارُسِ القرآن، وتعلُّم أمور دينهم، وكلهم في شوق للاستماع دون كلل أو ملل.



التكافل الاجتماعي أبرز دليل على الوحدة المجتمعية:

إن قوة المجتمع ووَحْدته الحقيقية لا نستطيع الحكم عليها من خلال الشعائر التعبدية فقط، بل إن سلوك أفرادِ هذا المجتمع وتعاملاتهم مع بعضهم البعض، وتكافلهم في السرَّاء والضراء - هو الذي يُعطِي الحكم الصحيح على هذا المجتمع، ولا يتَّضِح ذلك إلا من خلال التكافل الاجتماعي لهذا المجتمع في شهر رمضان وفي غيره.



وقد أعطانا القرآن الكريم نموذجًا لمجتمع قويٍّ متماسك، يتسابق أفرادُه إلى هذا التكافل، وذلك في قصة كفالةِ مريم التي لم ترَ أباها، فقد مات وهي في المهد، فأراد زكريا عليه السلام أن يضمَّها إليه بصفته زوجَ خالتها؛ كما ذكر ابن إسحاق وابن جرير - وقيل: زوج أختها - إلا أن أفرادَ المجتمع يومها تسابَقوا إلى كفالة مريم، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44].



قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾؛ أي: ضمَّها إليه؛ لأن زكريا عليه السلام ضمَّها إليه بإيجاب الله تعالى له، ضمَّها إليه بالقرعة التي أخرجها الله له، والآية التي أظهرها لخصومه فيها، فجعله بها أولى منهم؛ إذ قَرَع فيها من شاحَّه (نافَسَه) فيها؛ وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومه في مريم إذ تنازعوا فيها أيهم تكون عنده، وتساهموا بقداحِهم، ورموا بها في نهر الأردنِّ، فقال بعض أهل العلم: وثب (أي: انتصب وثبت) قدح زكريا، فقام ولم يجرِ به الماء، وجرى بقداح الآخرين، فجعل الله لزكريا أنه أحقُّ المتنازعين في مريم"؛ اهـ.



والتنازع هنا معناه التسابقُ إلى هذه الكفالة لتلك البنتِ اليتيمة، فما أقوى ترابطَ مثل هذا المجتمع الذي يدلُّ عليه هذا الصنيع! والأصل في هذا التكافل وتلك الوحدة أن توجد في شهر رمضان وفي غيره، إلا أن المؤكد والمعلوم للقاصي والداني أن مظاهر التكافل تزدادُ وتتنوَّع في شهر رمضان لتعطي نموذجًا فريدًا من نوعه لهذا المجتمع الإسلاميِّ، لو تخيلت وجوده طوال العام ما وُجِد بين المسلمين مسكينٌ أو محروم.



إفطار يوحد أُسَرنا:

قلَّ أن تجد مَن يُفطِر بمفرده أو حتى يَرغَب في ذلك، فالجمعُ الأسري لا غنى عنه، سواء كان ذلك على مستوى الأسرة الصغيرة التي تضمُّ الزوجين والأبناء، أو على المستوى العائلي الذي يشمل العائلة بأُسَرها المتعدِّدة، وهو فرصة للتلاقي والتزاور أيضًا بين الناس، فمظهرُ تبادل الزيارات في إطارها الشرعي بين العائلات والأسر - يساعد في زيادة الترابط، ويؤكِّد على أواصر المودة والمحبة.



والموعد الآخر للتجمُّع الأسري على وجبة السحور أيضًا، وما أجمل أن تجتمع الأسرة على قراءة القرآن وتدارُسِه، أو مشاهدة برنامج هادف، أو إدارة حوارٍ حول أمر يخصها! بعيدًا عن الخوض في أعراض الناس، أو تناولهم بالهمز واللمز، وغير ذلك مما ينقص من ثواب الصيام، أو يُوقِع صاحبه في مأثم.



نفس مهيَّأة للتسامح:

(داخل علينا شهر رمضان)، جملةٌ يستخدمها مَن يتعثر عليه حل مشكلة بين متخاصمين، هذه الجملة تلقى قَبولًا من سامعيها، فتذوب الخلافات، وتزول الخصومات، ويحلُّ التسامحُ والوفاق، فتأثير شهر رمضان على النفوس لا نظير له، فتجد المسلم يهش ويبش ويرحب بكل مساعي الخير والإصلاح، فيُقبِل المخطئ على الاعتراف والاعتذار، ويلاقيه صاحبُه بالقَبول والتسامح والغفران.

ومن خلال مخالطة الناس تجد أكثر المشكلات تعقيدًا تُحلُّ في شهر رمضان بأقلِّ مجهود، فسبحان الله العظيم الذي يهيِّئ النفوسَ لقَبول الخير، فالصديق يقطع خصامَه الطويل لصديقه واصلًا إياه، والجار يُحسِن إلى جاره الذي طالت إساءته له، والأخ يتصل بأخيه ويذهب إليه مهنئًا إياه بقدوم الشهر الفضيل، بعد أن فرَّقتهما مشكلات تافهة، والأَولى بالوصال والتسامح معهما الوالدانِ؛ فالخصام في حقِّهما جريمةٌ كبرى، وقطيعتهما لا غفران لها إلا بوصالِهما، وخفض الجناح لهما؛ رجاءَ نَيْل رضاهما، وبالتالي نَيْل رضا الرحمن سبحانه وتعالى.



هل نحقق الوحدة المنشودة؟

إننا لا نريد وحدةً مجتمعية تتحقَّق في شهر واحد في العام، بل نتطلع إلى وحدة للأمَّة لا تنفكُّ عنها؛ لتكون مصدرًا لقوتِها وتماسُكِها كما كانت من قبل، إنَّ الوحدة الإسلاميَّة تجعل الشعوبَ العربية والإسلامية كالجسد الواحد، والبنيان المرصوص الذي لا يستطيع اختراقَه أحدٌ، بينما يُمثِّل التشرذمُ والتفرُّق علامةَ الضعف والهزيمة والفشل؛ لذلك عندما كان المسلمون أقوياء كانوا موحَّدين، ولم يستطع أعداء الأمة تحقيقَ ما أرادوه إلا عندما تفرَّق المسلمون وتشتَّتت أهدافهم، وما صمد المسلمون في الماضي تجاه أعدائهم إلا بهذه الوحدة، التي كانت لا تفرِّق بين قطر وآخر، فهي وحدة لا تعرف الحدودَ السياسية، والتاريخُ يُنبِّئنا أنه صدَّ همجية التتار بهذه الوحدة، واستعاد بيت المقدس بهذه الوحدة، فالوحدة بين المسلمين هي عنوان التكافل والتضامن.



ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بمَعزِلٍ عن المجتمع، فلا بد إذًا من مخالطة الناس، والتعاون معهم على كل خير وبرٍّ وهدى، عند ذلك تنهض الأمة وتُحقِّق ريادتها المنشودة، وإذا كان شهر رمضان يعطينا نموذجًا لهذه الوحدة المجتمعية، فالمطلوب والمرجوُّ أن يتحقق ذلك على الدوام، وفي كافة أنحاء عالَمِنا الإسلامي، عند ذلك تنهض أمَّتُنا وتتبوَّأ الصدارة، كما كان ذلك في سالف عهدها في كافة المجالات العلمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية.



وإذا كنا نتكلم عن الوحدة المجتمعية في شهر رمضان وفي غيره، فإننا نُحذِّر من الفُرْقة والاختلاف؛ فإنها مِعْوَل شديد لهدمِ المجتمعات، وأساس هذا الخلاف ومصدره التنافسُ على هذه الدنيا الفانية والمهلكة، قال الله تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].



فالفُرقة ذلٌّ وهوان، والتنازع نذير الفشل والهلاك؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث عمرو بن عوفٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فواللهِ ما الفقرَ أخشَى عليكم، ولكن أخشَى عليكم أن تُبسطَ الدنيا عليكم كما بُسِطَت على مَن كان قبلَكم، فتنافسُوها كما تنافسُوها، وتُهلِكَكم كما أهلكَتْهم))، فالاعتصامَ الاعتصام، والوحدةَ الوحدة؛ استجابةً لأمر ربنا سبحانه وتعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103].