تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: لماذا يُعاقَب من وُلِد في أسرة كافرة ومات على الكفر

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي لماذا يُعاقَب من وُلِد في أسرة كافرة ومات على الكفر

    السؤال
    نؤمن كمسلمين بالقضاء والقدر ، فإذا كان مكتوباً على الطفل أن يولد في أسرة كافرة ، فلماذا يعاقب بدخول النار إذا كبر ومات على ذلك ؟
    الجواب
    الحمد لله.
    نعم أخانا المكرم ، نحن نؤمن بالقضاء والقدر ، لكن قبل ذلك وبعده ، نحن نؤمن بكمال الله تعالى وعدله ، وتنزهه عن ظلم عباده ، أدنى ما يكون ذلك الظلم ، قال الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (يونس:44) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة ، بل فوق ذلك نعلم أن الله تعالى رفيق يحب الرفق في الأمر كله ، رحمن ، رحيم ، ذو رحمة واسعة هي أوسع من غضبه وانتقامه ، كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ ) رواه البخاري (7554)
    ومن أجل ذلك يحب أن يمهل عباده ويحلم عليهم ، ويعذر إليهم ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( .. لَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِين َ ..) رواه البخاري (7416)
    فإذا استقر عندك هذا الأصل البيِّن المحكم المنير ، الذي لا يصح لأحد إيمانه إلا بالتمكن فيه ، فرُدّ إليه – رحمنا الله وإياك – كل غبش من ظلمةِ جهل ، أو شبهة هوى ، وسرعان ما تجد قلبك قد استراح ، وقد علمت أن الله تعالى أرحم بك وبسائر عباده من الوالدة بولدها ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تحلّب ثَدْيهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قُلْنَا لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ) رواه البخاري (5999) ومسلم (2754)
    والله الرحمنُ الرحيم أرحم بهذا الذي تسألُ وتجادل عنه ، منك ومن نفسه ، فإما كان من أهل رحمة الله فستدركه إن شاء الله ، لا محالة .
    وإما كان من المحادين المعاندين فاشتغل بما ينفعك أنتَ وينجيك " ولا تكن للخائنين خصيماً "
    وأحذر أن تغفل عن ذلك الأصل طرفة عين ، ثم احذر أن تنظر في القدر قبل أن تُحكِمه ، واعلم أن باب القدر كالشمس ، متى آمنت به ، وسلمت ، على ما أتاك من خبر الله ووحيه ، استرحت ، واطمأنت نفسك ، كالذي يسير في وضح النهار .
    وأما إذا دققت وشققت ، وتعمقت وتنطعت ، فما يستفيد المحدِّق في قرص الشمس سوى تلف عينيه ؟!
    فإذا جئنا إلى ما سألت عنه ، حتى لا تظن أن ما قدمناه لك حيدةٌ عن الجواب ، فاعلم مما يَجِبُ أن الله سبحانه وتعالى قد هيأ لكل إنسان ما يمكنه من معرفة الخير والشر ، قال تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) (البلد:8) ، أي عينين يبصر بهما ، (وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ) (البلد:9) ، أي ولسانا ينطق به عما في ضميره وشَفَتَينِ يَسْتَعِين بهما على الكلام ، ( وهَدَيْنَاهُ النَّجدين ) البلد/10 ، قال ابن مسعود : الخير والشر، وقوله تعالى : ( إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الانسان:2-3) ، فقد بَيّن لله في الآيات السابقة أنه عز وجل وَهَبَ للإنسان الوسائل والآلات التي يُمْكِنُه معها معرفة طريق الخير والشر .
    ثم إنه سبحانه لم يجعل هذه الآلات حجة على عباده بمفردها ، بل فتح لهم باب العذر ، وأملى لهم في الحجة ، حتى يأتيهم نور الوحي من السماء ، قال تعالى : ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء/165 ، وقال تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) الإسراء/ 15
    ومن أجل ذلك يوبخ الله تعالى الكفار به على ما أضاعوا من عذر الله وإمهاله ، وغفلوا عن رسله وبيناته : ( َيا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُم ْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ) (الأنعام 130-131 )
    أما هذا الذي قَلّد أباه على الكفر ، ومات عليه ، فقد قال ابن القيم رحمه الله :
    " َيُفَرّق بين مُقَلّدٍ تَمَكّن من العلم ومعرفة الحق ، ومُقَلّد لم يتمكن من ذلك بِوَجْهٍ ، والقسمان واقعان في الوجود فالمُتَمَكِّن المُعْرِض ، مفرطٌ تاركٌ للواجب عليه ، لأنه لا عذر له عند الله ، وأما العاجز عن السؤال والعلم ، الذي لا يتمكن من العلم بوجه ، فهم قسمان أيضا :
    أحدهما : مُرِيدٌ للهدى مُؤْثِر له ، مُحِب له ، غير قادر عليه ، ولا على طلبه ، لعدم من يُرْشِده ، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم يبلغه الدعوة .
    الثاني : معرض لا إِرَادة له ، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه ، فالأول يقول : يا رب لو أعلم دينا خيرا مما أنا عليه لَدِنْتُ به وتركت ما أنا عليه ، والثاني راضٍ بما هو عليه ، لا يُؤْثِر غيره عليه ، ولا تَطْلُب نفسه سواه ، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته ، وكلاهما عاجز ، فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يَظْفَر به ، فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عَجْزاً وجهلاً ، والثاني كمن لم يطلبه ، بل مات على شركه " أهـ . طريق الهجرتين 678 .
    وإن كان لو طلبه لعجز عنه ، ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض ، فتأمل هذا الموضع ، والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله ، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل ، فهذا مقطوع به في جملة الخلق ، وأما كون إنسا معين قد قامت عليه الحجة أم لا ، فذلك ما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه ، وهذا في أحكام الثواب والعقاب ، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر ، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا ، لهم حكم أوليائهم "
    وهؤلاء الذين لم تبلغهم الدعوة ، ولم تقم عليهم حجة الله بالرسل ، أصح الأقوال فيهم أنهم يمتحنون في عرصات القيامة ، ويرسل إليهم هناك رسول ، فمن أطاعه دخل الجنة ، ومن عصاه دخل النار ، كما في مسند الإمام أحمد (18566) وغيره من حديث الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا وَرَجُلٌ أَحْمَقُ وَرَجُلٌ هَرَمٌ وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ رَبِّي لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ قَالَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا ) وفي رواية : ( فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا) رواه أحمد
    والله الموفق
    المصدر الاسلام سؤال وجواب

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: لماذا يُعاقَب من وُلِد في أسرة كافرة ومات على الكفر

    يقول ابن القيم - الخذلانُ -- أَنْ يخلِّي الله تَعَالَى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها ، والتوفيقُ ضدُّه أَنْ لاَ يدعَه ونفسَهُ وَلاَ يكله إِلَيْهَا ؛ بل يصنع لَهُ ، ويلطف بِهِ ، ويعينهُ ، ويدفع عَنْهُ ، ويكلؤه ، كلاءةَ الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه ؛ فمن خُلي بينه وبين نفسه فَقَدْ هلك كلَّ الهلاك .
    فالعبد مطروح بين الله وبين عدوِّه إبليس ، فإن تولاه الله لَمْ يظفر بِهِ عدُّوه ، وإن خذله وأعرض عَنْهُ افترسه الشيطان ، كَمَا يفترسُ الذئبُ الشاةَ .
    فإن قِيلَ : فَمَا ذنب الشاة إِذَا خَلَّى الراعي بين الذئب وبينها ،
    وهل يمكنها أَنْ تقوى عَلَى الذئب وتنجو منه ؟
    والجواب : إنَّ الله تَعَالَى لَمْ يجعل لهذا الذئب اللعين عَلَى هَذِهِ الشاة سلطانًا مَعَ ضعفها ، فَإِذَا أعطت بيدها ، وسالمت الذئب ، ودعاها فلبَّتْ دعوتَه ، وأجابت أمرَه ، ولم تتخلّفْ ؛ بل أقبلتْ نحوه سريعةً مطيعة ، وفارقت حِمى الراعي الَّذِي لَيْسَ للذئاب عَلَيهِ سبيل ، ودخلتْ فِي محل الذئاب - الَّذِي مَن دخلَه كَانَ صيدًا لهم - فهل الذنبُ كلّ الذنب إِلاَّ عَلَى الشاة ؟! فكيف والراعي يحذِّرُها ويخوِّفها وينذرها ، وَقَدْ أراها مصارعَ الشاة التي انفردت عن الراعي ودخلت وادي الذئاب ؟!
    وَقَدْ حذَّر الله سُبْحَانَهُ ابن آدم مِن ذئبه مرةً بَعْدَ مرة ، وَهُوَ يأبى إِلاَّ أَنْ يستجيب لَهُ إِذَا دعاه ، ويبيت معه ويصبح : وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: لماذا يُعاقَب من وُلِد في أسرة كافرة ومات على الكفر

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمدعبداللطيف مشاهدة المشاركة
    يقول ابن القيم - الخذلانُ -- أَنْ يخلِّي الله تَعَالَى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها ، والتوفيقُ ضدُّه أَنْ لاَ يدعَه ونفسَهُ وَلاَ يكله إِلَيْهَا ؛ بل يصنع لَهُ ، ويلطف بِهِ ، ويعينهُ ، ويدفع عَنْهُ ، ويكلؤه ، كلاءةَ الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه ؛ فمن خُلي بينه وبين نفسه فَقَدْ هلك كلَّ الهلاك .
    قال الشيخ صالح ال الشيخ فى شرح الطحاوية
    في معنى إضلال الله - عز وجل - من أَضَلْ، وهدايته من هَدَى.
    إذا كنا نقول إنَّ الإنسان غير مجبور على الضلال وغير مجبور على الهدى.
    فما معنى قوله {يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} وهذا من احتجاجات الجبرية؟
    ما معنى {وَمَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأنعام:39]؟
    ما معنى {مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَد}[الكهف:17]؟
    ما معنى {مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدي}[الأعراف:178]؟
    ما معنى {مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُم فِي طُغْيَانِهِم يَعْمَهُونَ}[الأعراف:186]؟
    ونحو ذلك من الآيات التي فيها لفظ الإضلال والاهتداء لله - عز وجل - وفق مشيئته سبحانه وتعالى وإرادته.
    هذه المسألة ضل فيها الناس ومن أجلها ضَلَّت الجبرية والقدرية.
    وهي مرتبطة في بيانها بمسألة التوفيق والخذلان.
    فالله - عز وجل - عَلَّقَ الإضلال بمشيئته وعلق الهداية بمشيئته.
    ونعلم أنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاء الله - عز وجل - خَلَقَهُ، الذي يشاؤه سبحانه وتعالىأن يكون فإنه يكون، والذي يشاء الله - عز وجل - ألا يكون فإنه لا يكون.
    إذا كان كذلك فإنَّ حدوث الهداية وحدوث الضلال نتيجة لأشياء.
    ولذلك جاء لفظ التوفيق والخذلان في النصوص.
    جاء لفظ التوفيق في القرآن في قوله تعالى {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بْاللهِ}[هود:88]، ونحو ذلك فالله - عز وجل - يوفّق من يشاء ويخذل سبحانه وتعالى من يشاء.
    ما معنى وَفَّقَ وخَذَلَ؟ وما صلتها بـ(يهدي الله من يشاء ويضل من يشاء)؟
    إذا تبين لك معنى التوفيق والخذلان فإنه سيَتَبَيَّن لك بوضوح معنى أنَّ الله - عز وجل - يضل من يشاء ويهدي من يشاء سبحانه وتعالى.
    * التوفيق: عند أهل السنة والجماعة هو إمداد الله - عز وجل - بعونه، إمداد الله - عز وجل - العبد بعونه -يعني بإعانته- وتسديده وتيسير الأمر وبذل الأسباب المعينة عليه.
    فإذاً التوفيق فَضْلْ لأنَّهُ إعانة.
    * وأما الخذلان: فهو سلب التوفيق، فهو سلب الإعانة.
    يعني التوفيق إعطَاءٌ، مَنٌّ، كَرَمٌ.
    وأما الخذلان فهو عَدْلٌ وسلبٌ.
    لأنَّ العبد أعطاه الله - عز وجل - القُدَرْ، أعطاه الصفات، أعطاه ما به يُحَصِّلُ الهدى، أعطاه الآلات، يَسَّرَ له، أنزل عليه الكتب، فلذلك هو بالآلات التي معه قامت عليه الحجة.
    لكِنَّ الله - عز وجل - يُنعم على من يشاء من عباده بالتوفيق فيعينهم ويسدِّدُهُم ويفتح لهم أسباب تحصيل الخير.
    ويمنع من شاء ذلك فلا يُسَدِّدُهُ ولا يُعِينُهُ ولا يفتح له أسباب الخير بل يتركه ونفسه.
    وهذا معنى أنه - عز وجل - يخذل؛ يعني لا يُعِين، يترك العبد وشأنه ونفسه.
    ومعلومٌ أنّ العبد عنده آلات يُحَصِّلُ بها الأشياء لكن هناك أشياء ليست في يده.
    هناك أشياء لا يمكن له أن يُحَصِّلَهَا، فهذه بيد من؟
    بيد الله - عز وجل -.
    لأنَّ الإنسان مرتبط قَدَرُهْ بأشياء كثيرة من الأسباب التي تفتح له باب الخير.
    مثل مثلاً أن يكون ذا أصحابٍ أو أن يُيَسَّرَ له أصحاب يعينونه على الخير.
    مثل أن لا يكون في طبعه الخَلْقِي مزيد شهوة، إما شهوة كِبِرْ من كبائر القلوب أو من كبائر البدن، هذه الأشياء موجودة فيه خَلْقاً، خارجة عن اختياره وتصرفه.
    فالله - عز وجل - يُوَفِّقْ بعض العباد بمعنى يعينهم على الأمر الذي يريدونه، إذا انفَتَحَ له بابُ خَيرٍ وأَرَادَهُ فَيُحِسُّ العبد أنه أُعين على ذلك، إذا أَرَادَ فِعْلَ أَمْرٍ ما من الخير يَسَّرَ الله - عز وجل - له أسباباً تعينه فانفتح له طريق الخير.
    وآخَرُ حَضَرَتْهُ الشياطين وغلبته على مُرَادِهِ وأَطَاعَهَا؛ لأنه لم يُزَوَّد بِوِقَايَة، بإعانة، بتوفيق يمنعه من ذلك.
    فإذاً صار عندنا أنَّ مسألة إضلال الله - عز وجل - مَن يشاء هو بخذلان الله - عز وجل - العباد.
    وهداية الله - عز وجل - من يشاء بتوفيق الله - عز وجل - بعض العباد، يعني أعان هذا وترك ذاك ونفسه.
    كونه - عز وجل - أعان هذا هو بمشيئته.
    فإذاً من يشأ الله يُضْلِلْهُ يعني: يَسْلُبُ عنه التوفيق فيَخْذُلُهُ فينتج من ذلك أنَّ الله - عز وجل - سَلَبَ عنه إعانته، سَلَبَ عنه تسديده، سَلَبَ عنه أسباب الخير، سَلَبَ عنه غَلْقْ أبواب الشر من الكفر وما دونه.
    فإذاً يكون ضالاً، لاهٍ هو بفعل نفسه؛ لأنَّهُ وُكِلَ إلى نفسه، لأنَّ الله - عز وجل - لم يَمُنْ على هذا بمزيد توفيق.
    فإذاً مسألة الإضلال في كلام أهل السنة والجماعة عدل، ومسألة الهداية فضْل.
    ولهذا أعظم الفضل والنعمة والإحسان نعمة التوفيق، الذي هو في الحقيقة نعمة الهداية.
    فإذاً نقول: إنّ ربنا - عز وجل - مَنَّ على عباده المؤمنين فوفّقهم، أَعَانَهُم، سَدَّدَهُم، هَيَّأَ لَهُمْ الأسباب التي توصلهم إلى الخير، حبَّبَ لهم العلم، حبّب لهم الجهاد، حبّب لهم الحكمة، حبّب لهم الأمر والنهي، حبّب لهم أهل الخير إلى آخره، حبّب لهم كتاب مثل ما جاء.
    وهذا التوفيق درجات أيضاً ففي البداية يكون فتح باب:
    - وبعض الناس إذا انْفَتَحَ له باب التوفيق نَفْسُهُ فيها قُبح فتنازعه للشر فيكون بين هذا وهذا.
    - وآخر نَفْسُهُ فيها خير، فَمِنَ الخير الذي معه أنَّهُ ينتقل من توفيقٍ إلى توفيقٍ أعظم منه حتى يصل بسبب عمله أنَّ الله - عز وجل - يُنْعِمْ عليه بتوفيقٍ زائد ثم بتوفيقٍ زائد ثم بتوفيقٍ زائد، مثل ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره «وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه -يعني وُفِّقَ في سمعه- الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» هذا كله توفيق، مزيد إعانة في هذه الجوارح، الجوارح هذه هي التي عليها الحساب والتي يُحَاسب العبد على ما صنعت جوارحه.
    إذاً فحقيقة إضلال الله - عز وجل - من شاء ليست جبراً، وهداية الله - عز وجل - من شاء سبحانه وتعالى ليست جبراً.
    وإنما العبد عنده آلات، خوطب بالتكليف وعنده الآلات، ولو كانت جبراً لصارت التكاليف -بعث الرسل، إنزال الكتب، الأمر والنهي، الجهاد- لكان كل ذلك عبثاً.
    والله - عز وجل - منزّه عن العبث؛ لأنَّ العبث سلب الحكمة وشر والله - عز وجل - الشر ليس إليه، لا في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته - عز وجل - {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ(17) بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ}[الأنبياء:17-18].
    فالله سبحانه وتعالى مُنَزَّهٌ عن العبث.
    يُضلِ ْجبراً ويسلب العبد الاختيار بالمرة ثم يُحَاسبه ويُنْزِل عليه الكتب ويرسل الرسل ويأمره بالتكاليف كيف يكون ذلك؟
    يكون كالغريق الذي يقال له: إياك أن تبتل بالماء.
    وهذا العياذ بالله هو حقيقة قول الجبرية الذين قال قائلهم:
    ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له ****** إيّاكَ إيّاك أن تبتلّ بالماء
    وهذا يُنَزَهُ عنه الحكيم الخبير - جل جلاله -.
    فمن عَرَفَ صفات الله - عز وجل - وعَلِمَ حكمته، فإنَّ القول بالجبر في حقيقة الأمر إبطال للتكاليف أو رجوع إلى أفعال الله - عز وجل - بأنها لعب ولا حكمة فيها ولا تُوافق غاياتٍ محمودة، والله - عز وجل - منزه عن ذلك.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: لماذا يُعاقَب من وُلِد في أسرة كافرة ومات على الكفر

    يقول ابن القيم رحمه الله
    فالشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة،
    ومن عدم إرادته والعمل به أخرى،
    فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به، وإيثار غيره عليه بعد معرفته، فلم يكن ضلالًا محضًا،
    وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه، فإذا تبين لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمة الغضبية، وبقوا مغضوبًا عليهم ضالين. ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره،
    وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق،
    والبغي يمنعه من إرادته؛
    كان العبد أحوج شيء إلى أن يسأل الله تعالى، كل وقت،
    أن يهديه الصراط المستقيم،
    تعريفًا وبيانًا وإرشادًا وإلهامًا وتوفيقًا وإعانة،
    فيعلمه ويعرفه،
    ثم يجعله مريدًا له قاصدًا لاتباعه،
    فيخرج بذلك عن طريقة المغضوب عليهم، الذين عدلوا عنه على عمد وعلم،
    والضالين الذين عدلوا عنه عن جهل وضلال.
    كان السلف يقولون:
    مَن فسد مِن علمائنا ففيه شبه من اليهود،
    ومن فسد من عُبَّادنا ففيه شبه من النصارى،
    وهذا كما قالوا، فإن من فسد من العلماء فاستعمل أخلاق اليهود، من تحريف الكلم عن مواضعه، وكتمان ما أنزل الله؛ إذا كان فيه فوات غرضه وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله، وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، ويدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذم بها اليهود من الكفر، واللي والكتمان والتحريف والتحيل على المحارم، وتلبيس الحق بالباطل، فهذا شبهه باليهود ظاهر.
    وأما من فسد من العباد فعبد الله بمقتضى هواه، لا بما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وغلا في الشيوخ فأنزلهم منزلة الربوبية، وجاوز ذلك إلى نوع من الحلول أو الاتحاد؛ فشبهه بالنصارى ظاهر.
    فعلى المسلم أن يَبْعد من هذين الشبهين غاية البعد،
    ومن تصور الشبهين والوصفين وعلم أحوال الخلق علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء، الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه، وأن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنفس؛ لأن غاية ما يقدر بفوتهما موته، وهذا يحصل له بفوته شقاوة الأبد، فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين إنه قريب مجيب

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: لماذا يُعاقَب من وُلِد في أسرة كافرة ومات على الكفر

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمدعبداللطيف مشاهدة المشاركة

    أما هذا الذي قَلّد أباه على الكفر ،
    أهل الجاهلية كان دينهم مبنياً على أصول، أعظمها التقليد،
    فهو القاعدة الكبرى لجميع الكفار من الأولين والآخرين؛
    كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} سورة الزخرف(23).
    {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} سورة البقرة(170).
    إلى غير ذلك مما يدل على أن أهل الجاهلية كانوا في ربقة التقليد لا يحكمون لهم رأياً ولا يشغلون فكراً،
    ولذلك تاهوا في أودية الجهالة،
    وعلى طريقتهم كل من سلك مسلكهم في أي عصر كان.
    فأهل الجاهلية جعلوا مدار احتجاجهم على عدم قبول ما جاءت به الرسل، أنه لم يكن عليه أسلافهم ولا عرفوه منهم،
    فانظر إلى سوء مداركهم وجمود قرائحهم.
    يقول تعالى: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}
    (مسائل الجاهلية)

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •