حَجُّ القلوبِ وسِرُّ النُسك

أيمن الشعبان


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
الحج ركنٌ من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره العظام، وعبادة اجتمعت فيها العديد من الحِكم والنفحات، والفوائد والتجليات، والأسرار والروحانيات، والمنافع والعظات، وموسمٌ استثنائي من مواسم الخيرات، والمنافسة في الطاعات، وتحصيل البركات، وتكثير الحسنات وتكفير السيئات.
بعيداً عن صفة الحج وأنواع النسك وتفاصيلها، وما يتعلق بها من شروط وأركان وواجبات ومستحبات ومنهيات ومحظورات، فقد أطنب العلماء والفقهاء فيها وأكثروا من المؤلفات والتصنيفات، والأكثر يحرصون ويهتمون بأعمال البدن والهدي الظاهر مع أهميتها، ولكن أعمال القلوب مقدمة على أعمال الجوارح.
لذلك سأركز في حديثي وأسلط الضوء على قضية غاية في الأهمية، لها ارتباط في المقصد الأسمى والغاية العظمى، لهذه الفريضة والقُربة، بل هي غاية جميع العبادات وروحها وثمرتها، ومن دقائق الأسرار والمقاصد التي ينبغي أن يتفطن لها الحجيج ومن باب أولى الدعاة والمصلحون والمرشدون في حملات الحج.
إن تحقيق التقوى التي محلها القلب، هي غاية كل غاية، وثمرة كل عبادة، ومقصد كل طاعة وقربة، قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}} [البقرة:21].
والتقوى باختصار: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وغضبه وقاية، والتقوى تخلية وتحلية، والتخلية بالترك مُقدمة على التحلية بالفعل، لذلك فإن الصحابة – رضوان الله عليهم- التزموا بكلمة التقوى التي هي "لا إله إلا الله" وأثنى الله عليهم بقوله: {{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا}} [الفتح:26]، وكلمة التوحيد فيها نفي وإثبات، وتخلية وتحلية، وترك وفعل، قال تعالى: {{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}} [البقرة:256].
وهكذا في حكمة وثمرة الصلاة قدم الترك على الفعل، قال سبحانه: {{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}} [العنكبوت:45]، وكذلك في الصيام قال تعالى مبينا غايته الكبرى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}} [البقرة:183]، وفي إخراج الزكاة أيضا من أعظم غاياتها أنها تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة، فيكون فعلها يؤدي إلى الترك والتخلص من تبعات وآصار الخطايا، قال تعالى: {{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}} [التوبة:103].
اجتمع في شعيرة الحج جميع أنواع العبادات القلبية والمالية والبدنية والقولية:
- فمن العبادات القلبية: الإخلاص والمحبة والتوكل والخوف والرجاء والتعظيم والخضوع والافتقار والتوبة والإنابة والخشوع والرضا والصبر وغيرها.
- ومن العبادات المالية: الذبح والصدقات والنفقات.
- ومن العبادات البدنية: الصلاة والطواف والسعي.
- ومن العبادات القولية: الذكر والدعاء وتلاوة القرآن والاستعانة والاستغاثة.
ولمّا كانت الثمرة الجامعة للطاعات والعبادات تحقيق التقوى، ودواعي تحصيلها في الحج أقوى، والتخلية والترك - المبنية على سرعة الاستجابة والتسليم التام والانقياد الكامل- مقدمة على التحلية والفعل، كان لزاماً على العاقل الكيس الفطن الذكي، الذي يحسن استثمار الفرص والمواسم، أن يركز على حج القلوب لا مجرد الأبدان، وأعظم الثمار والعوائد والوصايا لا مجرد الهبات والهدايا، من مغفرة الذنوب وتكفير الخطايا.
يقول ابن القيم في مدارج السالكين (1/340): "فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِصُوَرِهَا وَعَدَدِهَا، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ، فَتَكُونُ صُورَةُ الْعَمَلَيْنِ وَاحِدَةً، وَبَيْنَهُمَا فِي التَّفَاضُلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالرَّجُلَانِ يَكُونُ مَقَامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا، وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ".
ويقول ابن القيم في بدائع الفوائد (3/193): "من تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح".
فالحج حجّان: حج القلوب وحج الأبدان، حج الباطن وحج الظاهر، حج حقيقي وحج صوري، حج غاية وحج وسيلة، حج كامل وحج ناقص، حج نتيجة وثمرة وحج مقدمة وسبب، لذلك فالعناية والرعاية الكبرى بحال القلب الذي هو محل الأجر والنظر والأثر، تكون ابتداءً بتخليته من الأدران والشوائب حتى يتحلى بالخشوع وصفاء الاعتقاد ونقاوة التوحيد وبلسم الإيمان، وحسن التوكل والتسليم وسرعة الاستجابة.
لكل عبادة وقربة وفريضة أثر عظيم في تقويم الأخلاق وتهذيب النفوس وإصلاح القلوب، وسرُّ النُّسك وجوهرة الحج ودُرَّة الشعائر، في كبح جماح النفس عن التمادي في غيها وشهواتها، وكسر جمود وقسوة القلب في سرعة الاستجابة والانقياد لأحكام الشريعة!
إن فريضة الحج مدرسة كبرى لتزكية النفوس، وفرصة عظيمة لتهذيبها، ومعسكر فريد لتأهيلها، ودورة تدريبية لتطويعها، والسرُّ في ذلك هو الانعكاس الإيجابي والأثر الحقيقي لجميع هيئات وحركات وأفعال الحاج، على واقعه وتطبيقاته العملية، وفحوى ذلك وخلاصته في ترك ما اعتاده من محرمات ومنكرات وخطايا وآثام، قلبية وقولية وعملية، فلا يرجع بنفس القلب الذي بدأ فيه المناسك، بذلك يحقق الحج المبرور الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "ليس له جزاء إلا الجنة".
والحج المبرور مرتبط بالدرجة الأساس وسلم الأولويات، في أمور الترك التي اعتادها وألِفها العبد في حياته، لأن معيار الحج في تجديد الحياة الإيمانية وقطع الصلة بما علق بالنفس من شوائب الإثم، أو الانحراف عن الجادة، والتحلل من المظالم.
ومن إشارات وإلماحات معاني الترك والإقلاع والاجتناب والتخلية، المترتبة على أفعال الحج التي قد يغفلها كثير منا، ما ورد في القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر، مع أهمية التأمل والتدبر لكل ما يتعلق بهذه المناسك والأحكام:
1- قال تعالى: {{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}} [الحج:26]، فذكر الله سبحانه بأن أعظم مقصد من بناء البيت والحج إليه، نبذ الشرك بجميع مظاهره، وتطهير البيت من الظلم والفواحش والفسق وجميع الخصال السيئة.
قال ابن عاشور (17/241): وَالْمَعْنَى: وَأَمَرْنَاهُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَبَعْدَ أَنْ بَنَاهُ قُلْنَا لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ.
فإن أعظم مقصد من مقاصد الحج، إخلاص العبودية لله وإفراده بالتوحيد، ولن يتحقق ذلك إلا بترك جميع أشكال ومظاهر الشرك التي تناقض التوحيد.
2- بعد أن ذكر الله سبحانه المناسك في سورة الحج قال: {{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}} [الحج:30]، فالحج ليس مجرد أقوالٍ أو أفعالٍ وحركات، بل هو تعظيم لحرمات الله، واتقاء المعاصي واجتناب المحرمات.
وجاء في التفسير الوسيط (9/305): والحرمة كل ما أمر الله- تعالى- باحترامه، ونهى عن قوله أو فعله، ويدخل في ذلك دخولا أوليا ما يتعلق بمناسك الحج كتحريم الرفث والفسوق والجدال والصيد، وتعظيم هذه الحرمات يكون بالعلم بوجوب مراعاتها، وبالعمل بمقتضى هذا العلم.
وختم الآية مؤكداً سر النسك وثمرته العظيمة في ضرورة العناية بالتخلية والترك، فقال سبحانه: {{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}} [الحج:30].
قال السعدي في تفسيره ص537: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} أي: جميع الأقوال المحرمات، فإنها من قول الزور الذي هو الكذب، ومن ذلك شهادة الزور.
3- قال تعالى: {{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}} [الحج:34].
والإخبات هو الخشوع والتواضع، والمخبت: هو الخاضع لربه المستسلم لأمره المتواضع لعباده، وجاء في معنى المخبتين كما في تفسير ابن كثير، قال عمرو بن أوس: الْمُخْبِتُونَ: الَّذِينَ لَا يَظلمون، وَإِذَا ظُلموا لَمْ يَنْتَصِرُوا.
وترك الظلم وعدم الانتصار للنفس، تخلية عظيمة تحتاج إلى مجاهدة واستجابة وانقياد.
4- من مظاهر التزكية العظيمة في فريضة الحج، ترك العوائد وآفات اللسان الكثيرة المتنوعة، منذ أن يُحرم الحاج، مروراً بجميع مراحل المناسك، فهذه فرصة عظيمة لتوطين النفس وضبط اللسان، من خلال الكف عن كل قبيح وفاحش وبذيء!
قال تعالى: {{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}} [البقرة:197]، فهذه آية جامعة لما ينبغي تركه حال إحرامه، فتعتاد النفس وتتدرب على تركه بعد التحلل والرجوع إلى الديار.
ومما جاء في معنى الرفث: اللغو من الكلام والفحش والقول القبيح، والفسوق هو جميع المعاصي، والجدال هو المماراة والمخاصمة والمنازعة والمغاضبة.
5- أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».
قيل الرفث: الجماع أو مقدماته، وقيل: اسم للفحش من القول.
والفسوق: هو الخروج عن حدود الشريعة من قول أو فعل، وهو كل مخالفة تخرجه عن طاعة الله كبيرة كانت أو صغيرة.
في الحديث توكيد واستحضارٌ لسر النُّسك العظيم، في توطين النفس لترك المحظورات والمحرمات، والتي منها بالأصل مباحات – كالجماع ومقدماته-، لكن أصبحت ممنوعة في حال الإحرام، لاعتياد ترك سائر المحرمات لاستدامة ثمرة الترك إلى ما بعد الحج، بذلك يكون القلب نقيا طاهرا مهيأ لكل عمل صالح.
وهنالك معنى دقيق من خلال النهي عن الفسق في الحج مع أنه ممنوع في كل حال وفي كل حين، لزيادة تقبيح فاعله، وللتنبيه على أن الحجَّ أبعد الأعمال عن الفسق، لأنه مدرسة الترك وثمرة النُّسك، الذي يترتب عليه تكفير الذنوب وتنقية الخطايا والآثام.
6- أخرج الترمذي والنسائي وصححه الألباني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ".
الحج المبرور قيل: هو الذي لا يخالطه شيء من المآثم، أو هو المُتقبَّلُ الخالصُ الخالي مِنَ الرِّياءِ والسُّمعةِ، وقد تَحقَّقتْ فيه أركانُه وواجباتُه.
فجماع الفضائل وقمة الأجور وكمال النُّسك، لا يكون إلا بامتثال الترك، من أمراض القلوب كالرياء، وآفات اللسان كالفحش من القول، وخطايا الجوارح من سماع محرم أو نظر محرم أو فعل محرم.
لذلك فطن السلف لهذه الحقيقة وخشعت قلوبهم، فكانوا أصدق الناس في حجهم، فكان الواحد منهم إذا لبّى تغير وجهه تعظيماً لله سبحانه، وتعظيما لشعائره، ورجعوا بعد الحج بقلوب غير القلوب التي كانت قبله.
7- من الإشارات المهمة في ثمرة الترك العظيمة، أن الحاج ابتداءً ترك جميع محبوباته من أهل وذرية ومال وقرابة وغيرها، تلبية لنداء الرحمن، وهذه المتروكات من المباحات، لتكون توطئة ومقدمة لترك المنهيات من باب أولى!
ثم لو نظرنا إلى ترك أصناف اللباس المألوفة حال الإحرام، لاستشعار التسليم والاستجابة لأمر الله تعبداً في ترك المباحات، والتي ينبغي أن يصاحبها ترك جميع المحظورات، فالعزيمة تقوى والهمة ترتفع.
الخلاصة: أن الحج المبرور هو حج القلوب لا مجرد سير وتنقل وهيئات الجوارح والأبدان، يقول ابن رجب في مجموع رسائله (4/415): فأفضل الناس من سلك طريق النَّبيّ صلّى الله عليه وسلم وخواص أصحابه في الاقتصاد في العبادة البدنية والاجتهاد في الأحوال القلبية، فإنَّ سفر الآخرة يقطع بسير القلوب لا بسير الأبدان.