عفوًا.. لغتي تعني هويتي







محمد المغربي


لا أخفى عشقي، بل وشغفي بلغتنا الجميلة «لغة الضاد» والتي أطلق عليها العجم هذه التسمية؛ لصعوبة نطق حرف الضاد عندهم؛ لأنه الحرف الوحيد الذي لا يوجد بأي لغة أخرى، فيصعب على غير العربي النطق بهذا الحرف، الذي يخرج عند ارتفاع اللسان لسقف الأسنان العلوي، فيقول سيبويه: «يعتبر حرف الضاد أحد الأصوات غير المستحسنة في اللغة، ومن لا يستطيع نطق حرف الضاد بطريقة صحيحة لا يمكنه قراءة القرآن والشعر بطريقة صحيحة، فبعض العجم يخلطون بين حرفي الظاء والضاد، لذا ألف بعض اللغويين رسائل لتميز بين حرفي الضاد والظاء».



فعندما نبحر في محيط التاريخ، نجد اللغة العربية من أقدم اللغات فهي أحد اللغات السامية و التي انتشرت بشكل كبير في العالم، ويتحدث بها أكثر من أربعمائة واثنين وعشرين مليون نسمة من بلاد عربية، بل وغير عربية مثل تركيا وتشاد ومالي والسنغال، ويقال أن إسماعيل عليه السلام هو أول من كتب بالعربية، والنطق يسبق الكتابة يقول الله تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {26/192} نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ {26/193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ {26/194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } (الشعراء:192-195)، فقد حباها الله بشرف ما بعده شرف، بأن جعلها لغة القرآن، والتي يستخدمها ملايين المسلمين في أداء الصلاة، وتلاوة القرآن، وممارسة العبادات التي لا يمكن أن تمارس بدونها.

يقول الله تعالى: { قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } (الزمر:28)، قال ابن كثير: «أي هو قرآن بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه ولا انحراف».

وتعتبر من أغزر اللغات من حيث المادة اللغوية فمعجم لسان العرب لابن منظور يحتوي على أكثر من ثمانين ألف مادة، وهي من أغنى اللغات بالمفردات، والتي تساعد المبدعين من الشعراء والعلماء بل والفلاسفة أيضا من صياغة أفكارهم، فكل مرادف فيها له دلالة خاصة متباينة، فمثلا كلمة «الأسد» لها مرادفات كثيرة منها: «قسورة» لكن كل اسم له معنى يختص به في السياق.

ومن مميزاتها أيضا القدرة على «الاشتقاق» إن صح التعبير، ورغم أن هذه الميزة متوفرة في لغات أخرى إلا أن العربية أوسع وأغنى، ويعد الاشتقاق أكبر مصدر لثراء اللغة العربية، ليناسب المستجدات والمعاني المستحدثة، كما أنها لغة تتسم بالمرونة، بمعنى طواعية ألفاظها للدلالة على المعاني المقصودة، فهي لغة قائمة على جذور متناسقة قلما نجدها في لغات أخرى؛ فالفعل الماضي «ذهب» مثلا مضارعه «يذهب» وأمره «اذهب» من نبت واحد، أما مثيله في الإنجليزية فماضيه (went) ومضارعه (go) كلمتان مختلفتان كليا.

يرى علماء اللغة بأن اللغة العربية تتميز بوفرة ألفاظها، وكثرتها، وتنوع أساليبها، وعذوبة منطقها، ووضوح مخارج حروفها، بل وإمكانية إطالة حروف ألفاظها فنجد مثلا في قوله تعالى: { فَأَسْقَيْنَاكُ مُوهُ } (الحجر:22)، حرف عطف، وفعلا ماضيا، وفاعلا، ومفعولا به أول، ومفعولا به ثان، فهل توجد لغة غير العربية بهذه القوة والفصاحة والقدرة على الإطالة في حروف لفظ واحد؟

أزعم أن الباحث في معاجم اللغة العربية سوف يتعجب لما تحتويه هذه المعاجم من مفردات لغوية وألفاظ لا حصر لها.

فتميزت بالكثير من المميزات التي ضمنت لها الريادة على جميع اللغات الأخرى، بل وضمنت لها البقاء والارتقاء إلى قيام الساعة، عكس لغات أخرى ماتت بموت أممها مثل اللغة اللاتينية والسريانية.

فالعربية لغة عاشت تحت ظل القرآن، وعلى رغم التشويه والتحريف الذي طرأ على مفرادتها في اللهجات التي عرفت بالعامية إلا أن خصوصيتها أمست كما أصبحت من أربعة عشر قرنا، والدليل على ذلك أن عاشقي اللغة العربية عبر التاريخ يستطيعون فهم وتذوق تراث العرب من الشعر الجاهلي قديما وحتى عصرنا الحالي، على عكس لغات أخرى تغيرت مع مرور الأزمان.

تتميز اللغة العربية بأنها تقرأ كما تكتب، عكس اللغات الأخرى، فالإنجليزية مثلا لا تكتب كما تنطق، فحتما ستجد حروفا زائدة في كثير من كلماتها، كما تتميز بصفة «الإيجاز» وهي صفة واضحة فيها، فيقول الرسول [: «أوتيت جوامع الكلم».

وتقول العرب: البلاغة الإيجاز، و: خير الكلام ما قل ودل.

فهي لغة تخاطب المشاعر والأحاسيس من خلال شعرها ونثرها وأدبها بأساليب متباينة.

كما أن اللغة العربية تمتلك القدرة على تعريب المصطلحات الأجنبية إذا ما دعتها الضرورة لذلك.

فقد أثرت اللغة العربية في اللغات المعاصرة لظهور الإسلام تأثيرا متباينا بالإحياء تارة، وبالإبادة تارة أخرى، فساهمت في إحياء لغات مثل اللغة التركية، والفارسية، كما ساهمت في تهميش لغات أخرى مثل اللغة القبطية، والسريانية، والعبرية، وأدخلت ألفاظا من جنسها على لغات أجنبية مثل: الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية.

واللغة العربية واحدة من بين اللغات الست المعترف بها رسميا في الأمم المتحدة، وتحتوي اللغة العربية على ثمانية وعشرين حرفا ولو أضفنا الهمزة لأصبحت تسعة وعشرين حرفا أي أكثر من حروف اللغة الإنجليزية الأشهر استعمالا في العالم فهي أقل منها.

ومن أقوال المؤرخين عن «الضاد»:

- اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة ولا شيخوخة. «أرنست رينان».

- كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم، وسحرها الفريد، فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى في سحر تلك اللغة. «المستشرقة الألمانية زيغرد هونكة».

- ما جهل الناس، ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطو طاليس. «الإمام الشافعي رحمه الله».

إني أربأ بكل عربي مسلم عن الانزلاق إلى مستنقع التخلي عن الهوية العربية وتهميشها بحجة التعلق والتأثر بالحضارة الأوربية، ومن ثم الاهتمام والتباهي بإجادة اللغات الأجنبية الخاصة بها، وإهمال لغته لغة القرآن، والتي إن ضاعت فقدنا معها الهوية الإسلامية، فاللغة العربية تعتبر الحاضنة للهوية، وأهميتها أهمية الروح للجسد، وهي أهم وسائل الحفاظ على هويتنا الإسلامية والتعبير عنها.

لابد من النهوض باللغة العربية، وتطوير أساليب تدريسها، وجعلها محببة لأبنائنا الدارسين، وتطوير المنظومة التعليمية بمساعدة الأنظمة العربية، وتعاون الأسرة العربية مع أنظمتها تلك.

ولابد من استعمال اللغة العربية في حياتنا اليومية ولو بالتدريج لتجنب مشقة عدم الاعتياد على ممارسة ذلك، وتطبيق هذا الاستعمال في المساجد والمدارس والجامعات ومناهج التعليم، لتتواصل الأجيال وتترابط كالبنيان المرصوص.

لغتنا هي هويتنا، وإنما تحيا الأمة بإحياء لغتها، وتمرض بمرضها، وتموت بموتها.

يقول الشاعر مادحا لغتنا الجميلة:

لغة إذا وردت على أسماعنا

كانت لنا بردا على الأكباد

ستظل رابطة توحد بيننا

فهي الرجاء لناطق بالضاد

ويقول الشاعر أيضا:

إلى لغة الضاد كان انتمائي

وإني بميراث قومي فخور