" إعلامُ الملا بمعنى حديث :".. من يجدِّدُ لها أمر دينها" .
عن أبي هريرة _رضى الله عنه _ مرفوعاً : " إنَّ الله يبعث لهذه الأمة ، على رأس مائة سنةٍ ، من يُجدد لها دينها " .
هذا الحديث أخرجه أبو داود في "سننه" (4219) ، وغيره ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، والعراقي ، وابن حجر ، والسخاوي ، والسيوطي ، وعلى القاري ،والعجلوني ، والألباني .
شرح الحديث
قوله:" إن الله يبعث لهذه الأمة " المراد بالآمة _هنا_ أمة الإجابة ، فإن الإشارة "لهذه" ، تدلُ على أنب المراد هو بالأمة المعنية ، التي هي محل للبعث ، ويحتمل أيضاً ، أمة الدعوة . ومال المُناوي إلى أن المراد ؛ أمة الدعوة بدليل ، إضافة الدين إليهم ، في قوله "أمر دينها" .وقال القاري في "فيض القدير" (1/14): " إن الله يبعث لهذه الآمة " ، قال : أمة الإجابة ، ويحتمل أمة الدعوة " .
قوله :"على رأس مائة سنة" : أي : عند انتهائه ، أو ابتدائه ، إذا يحتمل الحديث : الأول والثاني .
قال شمس الحق العظيم آبادي في "عون المعبود" (11/389): " والدليلُ الواضح على أن المراد برأس المائة ؛ هو آخرها لا أولها ، لأن الزهري ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهما من الآئمة المتقدمين والمتآخرين ؛ اتفقوا على أن من المجددين على رأس المائة الأولى : عمر بن عبد العزيز _رحمه الله _ ، وعلى رأس المائة الثانية : الإمام الشافعي _رحمه الله _ ، وقد توفي عمر بن عبد العزيز ؛ سنة إحدى ومائة ن وله أربعون سنة ، ومدة خلافته : سنتان ونصف ، وتوفي الشافعي ؛ سنة أربعٍ وثمانين ، وله أربع وخمسون سنة " .
إلى أن قال : فلو لم يكن من رأس المائة آخرها ؛ بل كان المراد أولها ، لما عدوا عمر بن عبد العزيز ، من المجددين على رأس المائة الأولى ، ولا الإمام الشافعي ، على رأس المائة الثانية ؛ لأنه لم يكن ولادة عمر بن عبد العزيز ، على رأس المائة الأول ، فضلاً عن أن يكون مجدداً عليه ، وكذلك لم يكن ولادة الشافعي ، على رأس المائة الثانية ، فكيف يصح كونه مجدداً عليه ؟!" .
قوله :"إن الله يبعث" فيه : أن المجدد ، يبعثه اله عند اندراس العلم وذهابه ونقصه ، ليعيد للآمة دينها، ويجدد لها مجدها ، فالمجددون ورثوا النبوة ، فالأنبياء كانوا يبعثون عند اندراس العلم وذهابه ، فال المُناوي : "أمر دينها ، أي ما اندرس من أحكام الشريعة ، وما ذهب من معالم السنن ، وخفي من العلوم الدينية الظاهرة والباطنة ، حسبما نطق به الخبر الآتي ، وهو : "إن الله يبعث.." .
وقال القاري في "مرقاة المفاتيح" (1/507) :"إذا قلَّ العلم والسنة ، وكثر الجهل والبدعة" .
قوله :"رأس كل مائة سنة" :
اختلف العلماء بالمراد برأس المائة هنا ، هل هي من ابتداء مولده _عليه الصلاة والسلام_ أو ببعثته ، أو الهجرة ، أو الوفاة ؟ .
والذي يظهر _والله أعلم_ أنه من الهجرة ،إذ بالهجرة يؤرخ التأريخ الإسلامي .
قال السيوطي في "التنبئة" (ص:65) :"راس كل مائة ، ما يؤرخ بها في مدة الملة " .
وقال المُناوي في "فيض القدير" (1/14) : "يحتمل من المولد النبوي ، أو البعثة ، أو الهجرة ، أو الوفاة ، ولو قيل :بأقربيه الثاني لم يبعد " .
قوله : "من يجدِّدُ لها دينها" :
قوله :"من" : قد يُفهمُ منه أن المجد في رأس كل سنة ، شخصٌ واحدٌ ، وليسوا جماعة ، أو جماعات .
والحقُ ؛ أن لفظة "مَن" : يصلح للفرد ، كما يصلح للجماعة ، وأن المراد به جماعة متعددون ، قال الحافظ في "الفتح" (13/295) :" إنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحدٌ فقط ، بل يكونُ الأمر فيه ؛ كما ذكر في الطائفة ، وهو متجهٌ ، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها ، لا ينحصر في نوعٍ من أنواع الخير ، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخصٍ واحدٍ ، إلَّا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز ، فإنه كان القائم بالأمر ، على رأس المائة الأولى ، باتصافه بجميع صفات الخير ، وتقدمه فيها ...فعلى هذا ؛ كل من كان متصفاً بشيءٍ من ذلك عند راس المائة ؛ هو المرادُ سواءً أتعدد ام لا " .
وقال ابن الأثير في "جامع الأصول" (11/320): " ولا يلزم منه ؛ أن يكون المبعوث على رأس المائة ؛ رجلاً واحداً ، وإنما يكونُ واحداً ، وقد يكونُ أكثر منه ، فإن لفظة "من " ، تقع على الواحد والجميع ".
وقال الدكتور محمود الطحان _بعد أن عرَّف التجديد_ قال :"العودة بالمسلمين إلى ما كان عليه الرعيل الأول من المسلمين ، على يد خليفة من الخلفاء الراشدين ، أو على يد عددٍ من المصلحين ، كلُّ واحدٍ منهم في ناحيته ، أو على يد جماعةٍ مصلحةٍ ، تُقوِّم الإعوجاج الذي حصل ، وتنفض الغبار الذي ألم بواقع المسلمين من انحرافٍ ، عن منهج الله القويم ، ويكون ذلك ؛ كل مائة سنةٍ من الزمان ، لأنها مدةٌ طويلةٌ ، يعود الناس فيها ، إلى الإعوجاج ، وتظهر في تللك المدة ؛ الانحرافات عن دين الله سبحانه " .
وفيه أيضاً : أن المجددين ليسوم من مكان واحدٍ ، بل يجوز أن يجتمعوا في بلدٍ واحدٍ ، ويجوز أن يكونوا في بلاد شتى ، كما يجوز أن يكونوا في زمنٍ واحدٍ ، وأزمان متباعدة .
قال النووي في "المنهاج شرح مسلم " (13/69) :" ولا يلزمُ أن يكونوا مجتمعين في بلدٍ واحدٍ ، بل يجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد ،وأن يكونوا في بعضٍ منه دون بعضٍ ، ويجوز إخلاء الآرض كلها من بعضهم ، أولاً فأولاً ، إلى أن لا يبقى إلَّا فرقة واحدة ، ببلدٍ واحدٍ ، فإذا انقرضوا جاء أمر الله " .
كما دل الحديثُ أيضاً على أن المجدد ؛ ليس شخصاً واحداً ، حوى كل العلوم والمعارف الإسلامية ، من تخصصٍ دقيقٍ في العقيدة ، والحديث ومصلطحه ، والفقه وأصوله ، والتفسير وأصوله ،وعلوم الآلة ، فإن هذا غير ممكنٍ في شخصٍ واحدٍ ، بعد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ، بل يجوز أن يكونوا في جماعةٍ ، كل منهم مجدد في علم ٍ من العلوم ، ومعرفة من المعارف الإسلامية .
قال النووي في "المنهاج" (13/69) :" يجوزُ أن تكون الطائقة ؛ جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ، ما بين شُجاعٍ ، وبصير بالحرب ، وفقيهٍ ومحدثٍ ، ومفسرٍ ، وقائم بالآمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وزاهدٌ وعابدٌ " .
وقال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (19/42) :" وقد ادَّعى كل قومٍ في أمامهم ، أنه المراد بهذا الحديث ، والظاهرُ _والله أعلم_ أنه يعمُّ حملة العلم العاملين به ، من كل طائفةٍ ، ممن عمله مأخوذٌ من الشارع ، أو ممن هو موافقٌ من كلِّ طائفةٍ ، وكل صنفٍ من أصناف العلماء ، من : مفسرين ، ومحدِّثين ، وقراء ، وفقهاء ، ونُحاة ، ولُغويين ، إلى غير ذلك من أصناف العلوم النافعة " .
وقال أيضاً :" وقد ذكر طائفةٌ من العلماء ، في رأس كل مائة سنة ، عالماً من علمائهم ، يُنزِّلون هذا الحديث عليه ، وقال طائفةٌ من العلماء : بل الصحيح ؛ أن الحديث ، يشملُ كل فردٍ من آحاد العلماء ، من هذه الأعصار ،ممن يقوم بفرض الكفاية ، في أداء العلم عمَّن أدرك من السلف ، إلى من يُدركه من الخلف ".
وقال الطِّيبي في "شرح المشكاه"(1/400) :" وقد تكلم العلماء في تأويله وكلُّ واحدٍ ، أشار إلى القائم الذي هو من مذهبه ، وحمل الحديث عليه ، والآولى : الحملُ على العموم ؛ فإن لفظة "من " يقعُ على الواحد والجمع ، ولا يختصُ أيضاً ؛ الفقهاء ، فإن انتفاع الأمة بهم ، وإن كان كثيراً .." . انظر : مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية "العدد الثامن والستون" (1/22)
يتبع _ إن شاء الله _