كسر الأغلال في ختام رمضان!









كتبه/ نور الدين عيد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن ذنوب العبد نوع تقييد، وما أشده وأثقله؛ فاكتسابه ثقل على الكاهل، يبطِّئ السير، وقد يقطعه عن المقصود، وما أعظم حمله في الدنيا والآخرة، قال -تعالى-: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) (الأنعام:31).

فهذا مشهد الحمل الثقيل لهذا الذنب العظيم؛ فهذه صفة الذنوب يوم العرض على رب العالمين: حمل أبطأ بصاحبه في الدنيا، وتحسروا به يوم القيامة، وهم يحملون آثامهم على كواهلهم وظهورهم في ذلٍّ وحسرة، فالحصيف مَن يرعى مستقبله، وينفض عنه باطله وغيه وإثمه، حتى يستطيع أن يبصر جنة ربه، ويتجلى له موعود حبيبه -سبحانه وتعالى-.

وإن كان مِن صفات الذنوب: ثقل حملها، وإضعاف سير صاحبها؛ فإن لها صفة هي الأعظم أثرًا، والأخطر تأثيرًا، وهي "إحاطتها بصاحبها كالأغلال في رقاب الأسير"، قال -تعالى-: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:81)، فهذا الأسر مِن الخطيئة لفاعلها، يستلزم دفع عوض الفكاك، فمَن بخل بفكاك نفسه مِن الرق والأسر؛ صار ذليل الشهوة والشبهة، مسترق الهوى، ضعيف الرؤية، بل أعمى! قال -صلى الله عليه وسلم-: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْقَطِيفَةِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وان مُنِعَ سَخِطَ) (رواه البخاري، وابن حبان واللفظ له).

فالخطيئة إذا عظمت أفسدت القلب؛ فلم يبقَ له ذاك النور الذي يُبصر به، ويسمع به، ويبطش به، بل يسمع ويبصر ويبطش بباطله وهواه، قال -تعالى-: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179)، ولا يُعترض على ذلك بأن هذا خاص بالكفار أصحاب النار، بل إن عمل الكفار أصحاب النار لهم عقوبات هي عاملة فيمَن تشبه بهم فيها بنسبٍ مِن التشبه، وعلى مثل هذا قال السلف: "المعصية بريد الكفر"، فكما أن الطاعة شعبة إيمان، فالمعصية شعبة كفر، وإن لم تكن في أصله.

وفساد نية العبد وعمله يفسد سيره إلى الله، ومشتهاه ومحابه، فيظل متقلبًا في الشقاء والذنوب؛ إلا أن يصارح نفسه، ويراقب قلبه، ويصرخ في هواه وذنوبه: كفوا عني، لا تقحموني المهالك، كفاكم عبثًا بي، وتلاعبًا بمصيري، فإني على مقربةٍ مِن ربي، يكاشفني ويحاسبني ويجازيني، ولا طاقة لي بعتابه فضلًا عن عذابه، ولا يزال هذا حال التائب المنيب فتنفرج الصخور، وتكسر الأغلال غير أنه لا يزال أسيرًا، حتى يرى ربه مِن قلبه صدقًا؛ وقتها يا لسعادته، ويا بشراه بما يصدقه ربه بصدق نيته، (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنفال:70)، فلا ينفع العبد عمل بلا صدق نية، وخلاصها مِن شوائبها.


فإذا تجلت له حقيقة خبثه، وعظم جنايته؛ أشفق على نفسه، وبادر بمعالجة أمره، فيتبع ما اسودت به الصفحات بذَنوب طاعة ثم دَلو استغفار ثم بئر مَعين مِن ندم، يحمله على ما أبصر مِن لطف الله بعباده، ورحمته بخلقه، وهو يعتقهم، ويرحمهم ويغفر لهم، فيبادر لإلصاق نفسه بهم، واصطفافه معهم، حتى يصيبه ما أصابهم (هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ) (متفق عليه)، فيستشعر قرب ربه منه، وحبه له، ورأفته به، وأن الله هو معينه وحبيبه، وسيده وحده لا شريك له، فيرى أساور الحديد تتطاير مِن حوله، ويبصر الضياء ينتشر في دربه، ويشم بأنفه عبير الرحمات، ويرى بقلبه مغفرة السيئات، ويبصر بعينه تزاحم المعونات، حتى إذا ما نادى سمع المجيب، وإذا ما ناجى شعر بالقريب (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:186)، فيكثر مِن بكائه، ومناجاته لربه بعد أن أراه توبته عليه وصدقه على صدق نيته، فهذا حالي وحالك مِن الذنوب وتأثيرها؛ فهل يا ترى نحقق التوبة والصدق حتى نرى ما رأى التائبون؟!

فالله أسأل أن يتوب علينا، وأن يرزقنا الصدق والقبول، وأن يعتقنا مع مَن أعتق، ويرحمنا مع مَن رحم، إنه رءوف رحيم، جواد كريم.
والحمد لله رب العالمين.