الشعر ودوره في البناء العام


د. نزار نبيل أبو منشار





راجت فنون الشعر في المجتمعات في عصورها المختلفة، لما يتمتع به الشعر من المحاكاة للواقع، وتبيان للمواقف، وتأصيل للفهم، ونضوج في التصور.

والشاعر عنصر من التركيبة المجتمعية، شأنه شأن السياسي والمفكر والتاجر، يجري عليه ما يجري عليهم، فهم في السراء والضراء وحين البأس سواء، لا تختلف حالته والتأثيرات والضغوط والحوافز عن هؤلاء وأقرانهم؛ إلا من حيث البعد الشخصي وآثاره التي تطبع في ذاته.

مؤدى الكلام: أن الشاعر يخامر أدوار المجتمع، وأنه يتجرع كأس الواقع كغيره، ولكنه يبرز عنهم بما لديه من ملكة النظم وصرف القوافي، فإن رأى خيراً أصاب أمته، هاج قلمه؛ وراح يرسي الدعائم، ويضع الأوصاف بحكمته الموروثة والذاتية، وإن مر به زمن رخاء، ترى اليراع بين أنامله يهتز شوقاً لتقبيل الصفحات، ليجود في كلا الحالتين بلاغة وأدباً وحكمة.

والشاعر الحر الذي صدق ولاؤه وإنتماؤه إلى دينة ووطنه وقضيته، وتواصلت جذوره، وسلمت إلى أعماق أرضه، تراه ينتفض ليواجه التحدي، ويُلهب الحماس، ويؤجج المشاعر، ويوحد الصفوف، وينسج من بحر كلماته راية موحِّدة تلتقي تحت ظلالها محافل الثائرين.

لا يقتصر الأمر على الحرب فحسب، بل إن الشاعر يتقلب في فيض أحاسيسه ومشاعره في حالات السلم، فهو لا يلوذ تلقاء الصمت إن خرست الأسنة والحراب، بل إنه بنضوجه وتوثّبه الدائم يتصف بالجاهزية الدائمة، ترى يراعه مسنوداً إلى الصحائف، وعيونه ترقب التصرفات بخيرها وشرها، وآذانه تسمع ما يدور بين الناس من تصورات وأطروحات.

فمن تذوق الشعر بكل منابعه، عرف حجم العبء، ومقدار التكليف، فترى الشاعر يجوب باحات علم الاجتماع، ويطرق أبواب السياسة، ويعلق على أحداث الحكم والرعية، وهو بذلك يشكل درع الشعب ولسانه الناطق، فإن عاب على أمر حَشَدَ ضده الحِكَمَ والأمثال والكلمات ومجريات الأمور، ليشنع هذا الأمر ويدع كل صاحب عقل يستقبحه، وإن وجَد من الأمر ما استلهم كل المدح وحروف الشكر، أمتدح العمل الإيجابي وكرّم صانعه كائناً من كان.

بالتالي؛ فإن الشاعر من بحر قصائده يؤكد القيم والثوابت الإيجابية على مختلف الأصعدة، وينفي وينكر ويسل صمصامه في وجه كل فكرة أو عمل أو شخص يتجرأ بمساس ثابت من ثوابت مجتمعه، أو مقدس في الفكر والتصور المعتقد.


ومن نظرة الناس إلى الشاعر؛ بكونه صاحب رسالةٍ ومكانة، فقد أخذت الأشعار البناءة دورها في صياغة أبجديات الجيل، وصارت موضوعات مدعّمة بالحكمة والشواهد، تدرّس في المدارس، ويتلقفها الناشئة والفتيان والشيب والشبان على حد سواء.

بذا؛ ساهم الشعر في تأجيج مراحل التقدم ورفدها بمعين من الحكمة لا ينضب، فكانوا في العلم والتربية والتوجيه سادة، وفي السياسة والاقتصاد قادة، وساسوا الناس بأشعارهم لييمموا بهم شطر السعادة.