ارتباط قوله تعالى في سورة البقرة: (حافظوا على الصلوات) بما قبله وما بعده
فضيلة الشيخ أختر أحسن الإصلاحي
نقله إلى العربية: عمار الإصلاحي
كان بعض طلبة العلم الذين لهم شغف بتدبر كتاب الله عز وجل قد سألني عن قوله تعالى في سورة البقرة: (حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى وقوموا لله قانتين) ما موقعه في السورة، وكيف ارتباطه بالسابق واللاحق؟ فإن الآيات التي قبل الآية المذكورة فيها بيانٌ لأحكام الطلاق، والآيات التي بعدها فيها أحكام النسوة المتوفى أزواجُهن. فما مناسبة ذكر الصلاة ـ ولا سيما صلاة الخوف ـ بين هذه المسائل؟
فكتبت هذا المقال إجابةً عن السؤال المذكور.
يظهر في بادي النظر أن هذه الآية ليس لها علاقة بما قبلها وما بعدها. ولهذا السبب يستدلُّ بهذه الآية وأمثالها على عدم وجود النظام في القرآن، لكن بعد التأمل والتفكير يتضح ارتباط هذه الآية. وسورة البقرة كلُّها من ناحية نظامها بيّنة واضحة، وإن كانت في الظاهر كأنها تشتمل على أجزاء غير مرتبة وغير مترابطة.
ولسنا هنا بصدد الكلام على نظام السورة كلها. ومن أراد معرفته فلينتظر صدور مقدمة شيخنا الإمام العلامة الفراهي رحمه الله لسورة البقرة، وفيها كلام مفصل على الآية المسؤول عنها أيضاً([1]).
ونحن نكتفي هنا ببعض الإشارات الضرورية، التي يُرجى أن تساعد في الإجابة عن هذا السؤال.
لكي نفهم المسألةيجب علينا أن نلقي نظرة عامة على مطالب السورة من أولها إلى الآية المسؤولة عنها.
هذه السورة عن إثبات نبوة محمد ، ولذلك جاءت مطالبها مطابقة كل المطابقة لدعوة إبراهيم عليه السلام، التي دعا بها عند بناء بيت الله (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) البقرة: 39.
في هذا الدعاء ذكرت أربعة أوصاف للرسول الذي دعا إبراهيم عليه السلام ببعثته:
1-تلاوة الآيات.
2-تعليم الكتاب.
3-تعليم الحكمة.
4-تزكية النفس.
ومما يجب التنبيه عليه أن وصف «تزكية النفس» في هذا الموضع مؤخر عن «تعليم الكتاب والحكمة». في حين أنه في أكثر المواقع مقدم. قال تعالى في سورة الجمعة: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) الجمعة: 2.
وسر تأخيره هنا أن التزكية هي المقصود الأصلي، وهو وإن كان في العمل مؤخر فإنه في الإرادة مقدم. فقُدّم في موضع باعتبار الإرادة والقصد. وأُخّر في الموضع الآخر باعتبار العمل. كما أن الطبيب إذا قام بإجراء عملية لمريض كان مقصوده الصحة التي هي مقدّمة في الإرادة والنية. لكنك إذا نظرت إلى العمل وجدت آلات الجراحة والقطع هي المقدَّمة. وهكذا حال التزكية. فهي باعتبار النية مقدمة، لكنها باعتبار العمل مؤخرة. وقد أشار القرآن إلى هذا السر بمجرد التغيير في نظم الآيات الأخرى، فافهم.
ترتيب هذه السورة مطابق لهذه الأوصاف تماماً. فالباب الأول من هذه السورة في تلاوة الآيات. وهذا الباب في إثبات دلائل نبوة محمد . وخلاصته: أن القرآن كتاب سماوي أُنزل لهداية الخلق وفلاحهم، وأنه ظهور لذلك الميثاق الإلهي القديم المستمر من عهد آدم عليه السلام (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 38.
ثم خوطب بنو إسرائيل وذُكِّروا بالعهد الذي أخذ منهم عن طريق موسى عليه السلام والذي يستوجب الإيمانَ بهذا القرآن وهذه النبوة.
ثم سرد وقائع نقضهم العهد، وأعقبها بذكر العهد الجديد الذي دعا به إبراهيم عليه السلام، وأخرجت له أمة جديدة.
هذا الكلام من بداية السورة إلى الآية 151.
والآية الكريمة: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) البقرة: 152 خاتمة هذا الباب.
وفيها ذكر العهد الذي أُخذ من الأمة الجديدة أعني الأمة المسلمة.
وعبّر عن هذا العهد بكلمتين «الذكر والشكر» لأنهما أصل جميع أحكام الشريعة.
ثم يأتي باب التزكية وافتتحه بقوله: (استعينوا بالصبر والصلاة) البقرة: 153.
قد مرّ آنفاً أن التزكية هي المقصود الأصلي، فلها ارتباط بجميع الشريعة، سواء كانت من مسائل الإيمان أو العبادات أو الأخلاق. لكن لما كانت العبادات المذكورة في هذا الباب تعلقها بالقلب أكثر من الجوارح، وإصلاح القلب أول خطوة في طريق التزكية، لأن صحة جميع الأعمال موقوفة على صلاح القلب = استقلّ هذا الباب بأمر التزكية.
وقد افتتح هذا الباب بالصلاة لأنها جامعة لجميع الأحكام والعبادات، وصورة عملية للذكر والشكر. وانتهى الباب بآية (176).
من الآية الكريمة (177) يبدأ الباب الثالث باب الشرائع. وهو يشتمل على الأحكام المتعلقة بسياسة المدن وتدبير المنزل، وهو ينتهي بالآية (237).
وبعد هذا الباب الآيتان اللتان سأل عنهما السائل.
هاتان الآيتان (238-239) خاتمة الباب، وفيهما ذكرت الصلاة. وهذه هي الصلاة التي ذكرت في فاتحة الباب الثاني.
وفي القرآن أمثلة كثيرة على أنه إذا افتتح الكلام بشيء فإنه يختتم به. ونقتصر هنا على بعض الأمثلة خشية الإطالة.
تأمل في الآيات (22-39) من سورة الإسراء، في البداية ذُكر التوحيد وبالتوحيد ختم.
وكذا في الآيات (22-34) من سورة المعارج ابتدئ بالصلاة وبعد بضع آيات ختم بالصلاة.
وهذا الأسلوب نفسه في بداية سورة المؤمنون.
وفي التوراة أيضاً في كتاب الخروج باب 20 لما ذكر الأحكام العشرة افتتحها بالتوحيد وختمها بالتوحيد.
وسبب اختيار هذا الأسلوب في الحقيقة أن الصلاة هي الأصل، وجميع العبادات والشرائع من فروعها. وكأن الصلاة هي عبارة عن دائرة تحيط بهذه الأشياء كلها. وبترك هذه الصلاة وحدها ينهدم الدين كله، وأصوله وشرائعه جميعاً. وقول عمر رضي الله عنه شاهد على هذا: «إن أهم أموركم عندي الصلاة من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع».
ومما يدل على هذه النكتبة أيضاً أنه في جميع هذه المواضع التي ختمت بالصلاة استعمل فيها لفظ المحافظة.
فإذا كانت الصلاة قد بلغت من الأهمية أن بقاء الشريعة كلها متوقف على المحافظة عليها لم يجز تركها في حال من الأحوال، حتى في حال القتال والخوف، بيد أنه يُكتفى في هذا الحال بالذكر الذي هو روح الصلاة، ولا يبقى شكلها الظاهر.
ولهذا قال بعد (حافظوا على الصلوات): (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) البقرة: 239.
وبقي سؤال، وهو أن آيات الأحكام (240-242) التي وردت بعد آية الصلاة، بماذا ارتباطها؟ الجواب أنها متعلقة بباب الشرائع هذا، لكن بما أنها نزلت لبيان ما سبق من الآيات التشريعية فصلت عن آيات هذا الباب، ووضعت بينها آية الخاتمة لكي تتميز آيات الباب الأصلية عن الآيات الملحقة.
وهذا النوع من الآيات هي التي تسمى الآيات المبينات، وهي التي وعد الله تعالى بتنزيلها في سورة القيامة فقال: (إن علينا بيانه).
ويقصد بهذه الآيات تعميم حكم أو تخصيصه أو تكميله أو تخفيفه أو رفع حرج منه.
وقد وضعت هذه الآيات في بعض المواضع بعد الآية التي جاءت لبيانها.
كما في سورة الأنفال قال تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) الأنفال: 66.
وقد وضعت أحياناً في آخر السورة، مثلاً الآية الأخيرة من سورة النساء: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) إلخ النساء: 176 بيان للآية الثانية عشرة منها: (وإن كان رجل يورث كلالة) إلخ ولكنها وضعت في آخر السورة.
وهكذا في آخر سورة المزمل آية مبينة جاءت لتخفيف الأحكام التي وردت في أولها.
والآيات المبينة في القرآن كثيرة. وقد يصرّح في آخرها بلفظ التبيين. فلا يخفى أمرها.
فالآية التي تتعلق ببحثنا جاء في آخرها (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) البقرة: 242.
وهكذا في آخر سورة النساء (يبين الله لكم أن تضلوا).
وفي سورة البقرة آية 187: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث) وفي آخرها (كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون).
خلاصة القول أن الآية الكريمة: (حافظوا على الصلوات) آية الخاتمة. التي وضعت في آخر باب الشرائع. والمقصود منها الدلالة على أهمية الصلاة وأنها جماع الأحكام.
والآية التي بعدها تؤكد أيضاً أهمية الصلاة، وأنه لا يجوز تركها في حال من الأحوال حتى في مواطن الخوف.
والآيات التي بعد هاتين الآيتين آيات مبيِّنات، ولذلك وضعت منفصلة عن آيات الباب. والله أعلم بالصواب.
[نشر أصل هذا المقال باللغة الأردية في مجلة الإصلاح، عدد أبريل 1936م، الصادرة عن مدرسة الإصلاح بأعظم كره – الهند.
وصاحب المقال من أخص تلامذة العلامة عبد الحميد الفراهي، وتوفي سنة 1958م].


([1]) قال الفراهي رحمه الله: «الآيتان (238-239): هذه خاتمة الباب بالصلاة والذكر، كما بدأ بها القسم العملي. ولهذا الأسلوب أمثلة في القرآن، وسميته «العود»: سورة البقرة (40 و122)، والمؤمنون (2 و9)، وبني إسرائيل (22 و39)، والحشر (1 و24)، والممتحنة (1 و13)، والمعارج (22-23 و34).
واتصال هذه الآية بالتي قبل الأسئلة، وهي آية (214): ژ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ژ الآية. والمقصود منه تنبيه على أصل الأمر وأهمه. ولما كان عهدنا الصلاة والذكر أكّد عليها.
وهكذا فعل في التوراة. والباب العشرون من كتاب خروج يبتدئ بالأحكام العشرة، فبدأ بالتوحيد وختم به. ثم كان القربان صورة عهدهم، كما أنَّ الصلاة لنا، فختم به كلقيات أحكامهم. هذا حسب ظاهر التوراة. وأما القرآن فظاهره يدل على أن الصلاة كانت لهم، كما هي لنا أصل العهد: المائدة 12، ويونس 87.
والتوفيق بأن صلاتهم في عهد موسى u كانت في شكل القربان والنذور، كما لا يخفى على الناظر المتأمل في التوراة. وبسط القول في تفسير سورة المائدة.
وفي ذكر الصلاة هاهنا أيضاً تنبيه على كونها أهمَّ مقاصد الجهاد. فإن أصل الدين كما علمت: ذكر الله، والإحسان بالخلق، وأصله: السلم. فالقتال لا يجوز إلا لهذين الأمرين. ولذلك وجبت المحافظة على الصلاة للنصرة. والشاهد على هذه الأمور الثلاث قوله تعالى: ژ ? ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ چ چ چ چﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ? ? ژ ژ ? ? ? ? ? ?گ گ گ گ ﮖ ژ الحج: 40 - 41 وآي أخر، كما مرّ في القسط الأول.
وكذلك ترى أبا بكر t أعلم هذه الأمة بالقرآن، لما أرسل أول سريّة أوصاهم بالرحمة، والتجنب عن الفساد وإهلاك الحرث والنسل، ليعلموا أن الله تعالى ينصر المصلح ويخذل المفسد، وأن الجهاد ليس إلا لرفع الفساد. وبالصلاح يستحقون الخلافة والوراثة، فهي واسطة بين ما قبلها وما بعدها.
وكذلك وصّى عمر رضي الله عنه بالصلاة، فقال: «من ضيَّعها فلغيرها أضيع». فإن الصلاة هي الأصل، ولها استخلفوا واستحقّوا وراثة الأرض.
انظر: نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان 1/104.