تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 22 من 23 الأولىالأولى ... 121314151617181920212223 الأخيرةالأخيرة
النتائج 421 إلى 440 من 441

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #421
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
    المجلد العاشر
    صـ 3721 الى صـ 3735
    الحلقة (420)



    [ ص: 3721 ] وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 19 - 20 ] ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز .

    ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز الخطاب للرسول صلوات الله عليه ، والمراد به أمته . أو لكل أحد من الكفرة لقوله (يذهبكم) والرؤية رؤية القلب .

    وفي الآية وجهان من التأويل : أحدهما : أنها سيقت لبيان قدرته تعالى على معاد الأبدان يوم القيامة ، بأنه خلق السماوات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس . أي : أفليس الذي قدر على هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وعظمتها وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات والآيات الباهرات ، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد وبراري وقفار وبحار وأشجار ونبات وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير

    وقال تعالى : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم

    [ ص: 3722 ] الوجه الثاني : ترهيب المشركين بأنهم غير معجزين ، أي : إن يشأ يهلككم إذا خالفتم أمره ويخلف قوما خيرا منكم ، كقوله تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم وقوله : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا

    وقوله تعالى : بالحق أي : بالحكمة المنزهة عن العبث كقوله : ربنا ما خلقت هذا باطلا وقوله : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا وقوله : ما خلق الله ذلك إلا بالحق وذلك ليتفكر في خلقها ويستدل بها على وجود بارئها وقدرته ووحدته .

    ثم أخبر تعالى عن تخاصم المجرمين في المحشر وتبرئهم من بعضهم ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [21] وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص .

    وبرزوا لله جميعا أي : اجتمعوا لحسابه وقضائه يوم القيامة في براز من الأرض ، [ ص: 3723 ] وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحدا ، أو برزوا من قبورهم ، أي : ظهروا لذلك : فقال الضعفاء وهم الأتباع : للذين استكبروا أي : على الرسل وهم قادتهم - توبيخا لهم : إنا كنا لكم تبعا أي : تابعين ، مهما أمرتمونا ائتمرنا : فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء أي : بعض الإغناء : قالوا أي : المستكبرون : لو هدانا الله لهديناكم إحالة لضلالهم وإضلالهم ، على مقامه سبحانه ، أو لو هدانا باهتدائنا ، ولكن زغنا فأزاغنا ، كما قال تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص أي : منجى ومهرب من العذاب . ونظير الآية قوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين

    واستظهر ابن كثير هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها لآية : وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار

    ولا يخفى أن الآية في هذه السورة تصدق بالتخاصم في الموقف وفي النار ; لإفادتها أن ذلك أثر بروزهم ، وهو صادق بما ذكرنا ، فلا قرينة فيها ; لكون ذلك في النار فقط ، كما ادعاه . وربما كان قوله : وبرزوا يدل للموقف بمعناه المتقدم . ثم إن هذا التخاصم يجوز أن يكون متعدد المواطن لظاهر قوله : عند ربهم وقوله : في النار ويجوز أن يكون مرة واحدة . والمراد بالنار العذاب ووقوفهم عند ربهم ، واليأس محيط بهم ، وجهنم ترقبهم ، عذاب وأي عذاب ! .

    [ ص: 3724 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [22] وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم .

    وقال الشيطان لما قضي الأمر وهو الحكم بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء : إن الله وعدكم وعد الحق أي : على ألسنة رسله بأن في إتباعهم النجاة والسلامة ، أي : فوفى به وأنجز : ووعدتكم فأخلفتكم أي : ووعدتكم وعد الباطل ، وهو أن لا بعث ولا جزاء . ولئن كان، فالأصنام شفعاؤكم. ولم يصرح ببطلانه لدلالة قوله : فأخلفتكم عليه . والإخلاف مستعار لعدم تحقق ما أخبر به وكذبه ، أو مشاكلة . وفي الآية من الإيجاز البليغ شبه الاحتباك . حيث حذف أولا (فوفى به) لدلالة قوله بعد : فأخلفتكم عليه لأنه مقابله ، وحذف ثانيا (وعد الباطل) لدلالة : وعد الحق

    وما كان لي عليكم من سلطان أي : حجة وبرهان : إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي أي : أسرعتم لطاعتي بمجرد ذلك ، أي : وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاؤوكم به ، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه : فلا تلوموني أي : بوعدي إياكم ، إذ لم يكن بطرق القسر : ولوموا أنفسكم أي : حيث استجبتم لي باختياركم ، حين دعوتكم بلا حجة ولا دليل . ولم تستجيبوا ربكم ، إذ دعاكم دعوة الحق المقرونة بالبراهين والحجج .

    قال القاشاني : لما ظهر سلطان الحق على شيطان الوهم وتنور بنوره ، أسلم وأطاع وصار محقا ، عالما بأن الحجة لله في دعوته للخلق إلى الحق لا له . ودعوته إلى الباطل بتسويل الحكام [ ص: 3725 ] وتزيين الحياة الدنيا عليهم واهية فارغة من الحجة . وأقر بأن وعده تعالى بالبقاء بعد خراب البدن والثواب والعقاب عند البعث حق قد وفى به . ووعدي بأن ليس إلا الحياة الدنيا باطل اختلقته . فاستحقاق اللوم ليس إلا لمن قبل الدعوة الخالية عن الحجة فاستجاب لها وأعرض عن الدعوة المقرونة بالبرهان فلم يستجب لها . انتهى .

    وحكي في (" الإكليل ") عن ابن الفرس : أن بعضهم انتزع من هذا إبطال التقليد في الاعتقاد . قال : وهو انتزاع حسن ; لأنهم اتبعوا الشيطان بمجرد دعواه ، ولم يطلبوا منه برهانا . فحكى الله تقبيحا لذلك الفعل منهم . انتهى .

    ما أنا بمصرخكم أي : بمغيثكم ومنجيكم من العذاب : وما أنتم بمصرخي أي : مما أنا فيه . قال ابن الأعرابي : الصارخ : المستغيث ، والمصرخ : المغيث ، يقال : صرخ فلان إذا استغاث وقال : واغوثاه ! وأصرخته : أغثته. فالهمزة للسلب ، يعني أزلت صراخه ، وهو مد الصوت إني كفرت بما أشركتمون من قبل أي : كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم - أي : في الدنيا - يعني : جحدت أن أكون شريكا لله عز وجل ، وتبرأت منه ومنكم ، فلم يبق بيني وبينكم علاقة كقوله تعالى : ويوم القيامة يكفرون بشرككم وقوله : وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وقوله : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا إن الظالمين لهم عذاب أليم ابتداء كلام منه تعالى ، أو تتمة كلام الشيطان .

    قال الزمخشري : وإنما حكى الله عز وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت ; ليكون لطفا للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بد لهم من الوصول إليه ، وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول ، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم .

    ولما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال ، عطف بمآل السعداء بقوله سبحانه :

    [ ص: 3726 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [23] وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام .

    وأدخل الذين آمنوا أي : بالله ورسوله وكتابه : وعملوا الصالحات أي : الطاعات : جنات تجري من تحتها الأنهار أي : من تحت مساكنها وشجرها ، أنهار الخمر والماء والعسل واللبن : خالدين فيها بإذن ربهم متعلق بـ (أدخل) أي : أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره : تحيتهم فيها سلام أي : تحييهم وتكرمهم الملائكة بالسلام عليهم، كقوله تعالى: وقال لهم خزنتها سلام عليكم وقوله : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم

    ولما بين تعالى ما أعد للمشركين والمؤمنين من المآل الأخروي ، ضرب مثلا للشرك والإيمان - بأن مآل الثاني الثبات والاستقرار ; لأنه الذي ينفع الناس ، ومآل الأول إلى الدمار والاندحار - فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [24-25] ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون .

    ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت يعني في الأرض ضارب بعروقه فيها : وفرعها أي : أعلاها ورأسها : في السماء تؤتي أكلها [ ص: 3727 ] أي : ثمرها : كل حين بإذن ربها أي : بإرادته وتكوينه : ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون أي: لأن فيها زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني المعقولة بالصور المحسوسة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [26] ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار .

    ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت أي : استؤصلت وأخذت جثتها بالكلية : من فوق الأرض أي : لأن عروقها قريبة منه : ما لها من قرار أي : استقرار .

    تنبيه :

    لحظ في الممثل به - أعني الشجرة - أوصاف جليلة لتلحظ في جانب الممثل له . فمنها : كونها طيبة ، أعم من طيب المنظر والصورة والشكل ومن طيب الريح وطيب الثمرة وطيب المنفعة . وكون أصلها ثابتا أي : راسخا باقيا في أمن من الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء ليعظم الفرح به والسرور . وكون فرعها في السماء فدل على كمال حال تلك الشجرة من جهة ارتفاع أغصانها وقوتها في التصاعد ، مما يبرهن على ثبات الأصل ورسوخ العروق ، وجهة بعدها عن العفونات والأقذار فتكون ثمرتها نقية طاهرة طيبة عن جميع الشوائب ، وكون ثمرتها تجتنى كل حين فلا تنقطع بركاتها وخيراتها . ولا ريب أن وجود هذه الأوصاف مما يدل على فخامة الموصوف وإنافة فضله . ولا تخفى مطابقة هذا الممثل به للممثل له - أعني الحق - وهو الإسلام الذي جاء به خاتم الأنبياء عليهم السلام .

    ولما كان المثل مضروبا للحق والباطل في الثبات وعدمه ، والقصد أهلهما ; صرح بهما فذلك له ، فقال في أهل المثل الأول :

    [ ص: 3728 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [27] يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء .

    يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة القول الثابت : هو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة وهو الحق . و (بالقول) جوزوا تعلقه بـ (يثبت) و (آمنوا ) . والمعنى على الأول : ثبتهم بالبقاء على ذلك ، أو ثبتهم في سؤال القبر به ، وعلى الثاني فالباء سببية ، والمعنى : آمنوا بالتوحيد الخالص فوحدوه ونزهوه عما لا يليق بجنابه . و(في الحياة) متعلق بـ (يثبت) أو بـ (الثابت) كما قاله أبو البقاء . واقتصر الزمخشري وأتباعه على الأول حيث قال :

    القول الثابت الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه فاعتقده واطمأنت إليه نفسه . وتثبيتهم به في الدنيا ، أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا ، كما ثبت أصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم لم يتلعثموا ولم يبهتوا ولم تحيرهم أهوال الحشر . وقيل : معناه : الثبات عند سؤال القبر . فعن البراء بن عازب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، قال : فذلك قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت » رواه الشيخان وأهل السنن .

    [ ص: 3729 ] وعليه ، فتفسير الآخرة بالقبر ; لكون الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا .

    وقال في أصحاب المثل الثاني :

    ويضل الله الظالمين أي : يخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم ، ووصفهم بالظلم لوضعهم الشيء في غير موضعه ، أو لظلمهم أنفسهم حيث بدلوا فطرة الله التي فطر الناس عليها : ويفعل الله ما يشاء أي : من التثبيت والإضلال حسبما تقتضيه حكمته البالغة .

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [28-30] ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار .

    ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا يعني كفار مكة ، أتتهم نعمة الله ، وهي التوحيد والإيمان والهداية ببعثة رسول من أنفسهم ، فبدلوا شكرها كفرا عظيما وغمصا لها : وأحلوا قومهم أي : ممن أضلوه وصدوه عن الهدى فتابعهم : دار البوار أي : الهلاك .

    جهنم عطف بيان لها : يصلونها وبئس القرار وجعلوا لله أندادا أي : من الأوثان فعبدوها : ليضلوا عن سبيله أي : عن عبادته وحده : قل أي : تهديدا لأولئك الضالين المضلين : تمتعوا أي : بشهوات الحياة الدنيا : فإن مصيركم إلى النار

    [ ص: 3730 ]
    لقول في تأويل قوله تعالى :

    [31] قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال .

    قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم وهو يوم القيامة : لا بيع فيه أي : ليتدارك به التقصير ، أو يفتدى به : ولا خلال أي : مخالة . مصدر بمعنى المصاحبة ; أي : لا مفاداة فيه ولا خلة أحد بمغنية شيئا من شفاعة أو مسامحة بمال يفتدي به ، كما قال تعالى : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون

    قال الزمخشري : فإن قلت : كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال ؟ قلت : من قبل أن الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات فيعطون بدلا ليأخذوا مثله ، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها ، أو خيرا منها . وأما الإنفاق لوجه الله خالصا ، فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص ، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في اليوم : لا بيع فيه ولا خلال أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله . انتهى .

    قال أبو السعود : والظاهر أن (من) متعلقة بـ ( أنفقوا ) وتذكير إتيان ذلك اليوم لتأكيد مضمونه ، من حيث أن كلا من فقدان الشفاعة وما يتدارك به التقصير ; معاوضة وتبرعا ، وانقطاع آثار البيع والخلال الواقعين في الدنيا وعدم الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الإنفاق في سبيله تعالى . أو من حيث إن ادخار المال وترك إنفاقه ، إنما يقع غالبا للتجارات والمهاداة . فحيث لا يمكن [ ص: 3731 ] ذلك في الآخرة ، فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت .

    وتخصيص التأكيد بذلك لميل الطباع إلى المال ، وكونها مجبولة على حبه والفتنة به . ولا يبعد أن يكون تأكيدا لمضمون الأمر بإقامة الصلاة أيضا، من حيث إن تركها، كثيرا ما يكون بالاشتغال بالبيوع والمخالات. كما في قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ولما ذكر أحوال الكافرين لنعم الله تعالى ، وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكرا لنعمه ; شرع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام ، حثا للمؤمنين عليها وتقريعا للكفرة المخلين بها ، الواضعين موضعها الكفر والمعاصي ، فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [32] الله الذي خلق السماوات والأرض وأنـزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار .

    الله الذي خلق السماوات والأرض وأنـزل من السماء أي : المزن : ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم أي : تعيشون به : وسخر لكم الفلك أي : السفن : لتجري في البحر بأمره أي : بإرادته : وسخر لكم الأنهار أي : فتجري حيث تشاؤون من شرب وسقي وسواهما .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [33] وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار .

    وسخر لكم الشمس والقمر دائبين أي : يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما [ ص: 3732 ] الظلمات وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات : وسخر لكم الليل والنهار أي : يتعاقبان خلفه ، لمعاشكم وسباتكم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [34] وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار .

    وآتاكم من كل ما سألتموه أي : ما تحتاجون إليه مما تصلح أحوالكم ومعايشكم به ، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال.

    وقال القاشاني : من كل ما سألتموه بألسنة استعداداتكم ، فإن كل شيء يسأله بلسان استعداده ، كما لا يفيض عليه مع السؤال بلا تخلف وتراخ : وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها لعدم تناهيها : إن الإنسان لظلوم أي: بوضع نور الاستعداد ومادة البقاء في ظلمة الطبيعة ومحل الفناء وصرفه فيها. أو بنقص حق الله أو حق نفسه بإبطال الاستعداد كفار أي : بتلك النعم التي لا تحصى ، باستعمالها في غير ما ينبغي أن تستعمل ، وغفلته عن المنعم عليه به ، واحتجابه بها عنه . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [35] وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام .

    وإذ قال إبراهيم أي : اذكر وقت قوله صلوات الله عليه .

    قال أبو السعود : والمقصود من تذكيره ، تذكير ما وقع فيه من مقالاته عليه السلام على نهج التفصيل . والمراد به تأكيد ما سلف من تعجبه عليه السلام ببيان فن آخر من جناياتهم ، حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم ، بعد ما كفروا بالنعم العامة . وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام [ ص: 3733 ] حيث أسكنهم بمكة شرفها الله تعالى لإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى . وسأله تعالى أن يجعله بلدا آمنا ويرزقهم من الثمرات ، وتهوي قلوب الناس إليهم من كل أوب سحيق . فاستجاب الله دعاءه ، وجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء . فكفروا بتلك النعم العظام ، واستبدلوا بالبلد الحرام دار البوار . وجعلوا لله أندادا وفعلوا ما فعلوا .

    رب اجعل هذا البلد يعني البلد الحرام ، مكة المكرمة : آمنا أي : ذا أمن . أو آمنا أهله واجنبني وبني أي : بعدني وإياهم : أن نعبد الأصنام
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [36] رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم .

    رب إنهن أضللن كثيرا من الناس أي : كن سببا في إضلالهم . كما يقال فتنتهم الدنيا وغرتهم ، إشارة إلى أنه افتتن بالأصنام خلائق لا تحصى. والجملة تعليل لدعائه. وإنما صدره بالنداء إظهارا لاعتنائه به، ورغبته في استجابته : فمن تبعني أي: على ملتي وكان حنيفا مسلما مثلي : فإنه مني ومن عصاني أي : فخالف ملتي : فإنك غفور رحيم أي : فإنك ذو الأسماء الحسنى ، والمجد الأسمى ، الغني عن الناس أجمعين . وتخصيص الاسمين إشارة إلى سبق الرحمة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [37] ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون .

    ربنا إني أسكنت من ذريتي أي : بعض أولادي . وهم إسماعيل ومن ولد منه : [ ص: 3734 ] بواد هو وادي مكة : غير ذي زرع أي : لا يكون فيه زرع : عند بيتك المحرم أي : الذي حرمت التعرض له والتهاون به : ربنا ليقيموا الصلاة أي : لكي يأتوا بعبادتك مقومة في ذلك الموضع . وهو متعلق بـ : أسكنت أي : ما أسكنتهم هذا الوادي إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وحدك . وتكرير النداء وتوسيطه ; لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة .

    فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم أي : تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقا ، فيأنسوا ويتعارفوا فيتآلفوا ويعودوا على بعضهم بالمنافع : وارزقهم من الثمرات أي : فتجلبها إليهم التجار : لعلهم يشكرون أي : نعمة إقامتهم عند بيتك المحرم بالصلاة فيها ، على كمال الإخلاص والتوحيد ، مع فراغ القلب .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [38] ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء .

    ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء لأن الكل خلقه : ألا يعلم من خلق

    قال الزمخشري : المعنى : إنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا. وأنت أرحم بنا منا بأنفسنا ولها ، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب . وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك ، وتخشعا لعظمتك ، وتذللا لعزتك ، وافتقارا إلى ما عندك ، واستعجالا لنيل أياديك ، وولها إلى رحمتك . وكما يتملق العبد بين يدي سيده رغبة في إصابة معروفه ، مع توفر السيد على حسن الملكة .

    [ ص: 3735 ] وعن بعضهم : أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح ، فأراد أن يذكره فقال : مثلك لا يذكر استقصارا ولا توهما للغفلة عن حوائج السائلين ، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها . انتهى .

    وجوز في قوله تعالى : وما يخفى على الله من شيء إلخ ، أن يكون من كلامه تعالى ، تصديقا لإبراهيم ، أو من كلامه عليه السلام .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [39] الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء .

    الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق أي : ليقوما مقامي في الدعوة إليه تعالى وبث الحنيفية وإقامة الصلاة بعد ذهابي : إن ربي لسميع الدعاء أي : مجيبه .

    قال الزمخشري : وإنما ذكر حال الكبر ، لأن المنة بهبة الولد فيها أعظم ، من حيث إنها حال وقوع اليأس من الولادة ، والظفر بالحاجة على عقب اليأس ، من أجل النعم وأحلاها في نفس الظافر .






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #422
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ اَلْحِجْرِ
    المجلد العاشر
    صـ 3736 الى صـ 3750
    الحلقة (421)



    القول في تأويل قوله تعالى :

    [40] رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء .

    رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء أي : عبادتي ، كذا في (" التنوير ") .

    [ ص: 3736 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [41] ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب .

    ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب أي: مجازاة العباد على أعمالهم. قرئ {ولوالدي } بالإفراد ، وكأن هذا قبل تبين أمره له عليه السلام .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [42] ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار .

    ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون يعني مشركي أهل مكة . أي : لا تحسبه ، إذا أنظرهم وأجلهم ، أنه غافل عنهم ، مهمل لهم ، لا يعاقبهم على عملهم ، بل هو يحصيه عليهم ويعده عليهم عدا . وفيه تسلية للرسول صلوات الله عليه ، ووعد له أكيد ، ووعيد للكفرة وسائر الظالمين شديد .

    إنما يؤخرهم أي : بإمهالهم متمتعين بشهواتهم ، ولا يعجل عقوبتهم : ليوم تشخص فيه الأبصار أي : ترتفع فيه أبصار أهل الموقف ، لهول ما يرون . فلا تقر أعينهم في أماكنها ولا تطرف .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [43] مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء .

    مهطعين أي : مسرعين إلى الداعي الذي يدعوهم إلى المحشر . وهذا بيان لكيفية قيامهم من قبورهم ، وعجلتهم إلى المحشر ، كقوله تعالى : مهطعين إلى الداع وقوله : يوم يخرجون من الأجداث سراعا

    [ ص: 3737 ] مقنعي رءوسهم أي : رافعيها إلى السماء : لا يرتد إليهم طرفهم أي : لا يطرفون ، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان : وأفئدتهم هواء أي : لا قوة فيها ولا ثبات ; لشدة الفزع .

    قال الزمخشري : الهواء : الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ، فوصف به . فقيل : قلب فلان هواء ، إذا كان جبانا لا قوة في قلبه ولا جراءة . ويقال للأحمق أيضا : قلبه هواء . والمعنى : أن القلوب يومئذ زائلة عن أماكنها والأبصار شاخصة ، والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته وخوف ما يقع فيه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [44] وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال .

    قوله : وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب يعني يوم القيامة : فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا أي : ردنا إلى الدنيا وأمهلنا : إلى أجل قريب أي : أمد من الزمان قريب : نجب دعوتك أي : إلى الإقرار بتوحيدك وأسمائك الحسنى : ونتبع الرسل أي : دعونا إليه من الشرائع .

    أولم تكونوا أقسمتم على إضمار القول . أي : فيقال لهم توبيخا وتبكيتا تكونوا تحلفون : من قبل يعني في الدنيا : ما لكم من زوال أي : من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء . كقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت

    [ ص: 3738 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [45] وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال .

    وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم كعاد وثمود : وتبين لكم كيف فعلنا بهم أي : بما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم ، وما تواتر عندكم من أخبارهم : وضربنا لكم الأمثال أي : صفات ما فعلوا وما فعل بهم . أي : ومع ذلك فلم يكن لكم فيهم معتبر ولا مزدجر .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [46] وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال .

    وقد مكروا أي : بالنبي صلوات الله عليه : مكرهم أي : العظيم ، أي : الذي استفرغوا فيه جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل : وعند الله مكرهم أي : جزاء مكرهم : وإن كان مكرهم أي : في العظم والشدة : لتزول منه الجبال أي : مسوى ومعدا لإزالة الجبال عن مقارها ، لتناهي شدته .

    وجوز في {إن} كونها نافية واللام مؤكدة له . والمعنى : ومحال أن تزول الجبال بمكرهم ، على أن الجبال مثل (أي : استعارة تمثيلية) لآيات الله وشرائعه ; لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتا وتمكنا . وينصره قراءة ابن مسعود: {وما كان مكرهم } وقرئ {لتزول} بلام الابتداء أي : هو من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها .

    [ ص: 3739 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [47] فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام .

    فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله أي : من نصرهم المبين في قوله تعالى : إنا لننصر رسلنا كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية .

    واستظهر أبو السعود : أن المعنى بالوعد هنا عذابهم الأخروي المتقدم في قوله تعالى : إنما يؤخرهم ليوم إلخ ، ولا يخفى أن الوعد قد بين في مثل الآية الأخيرة والأوليين في معناها . والبيان يرفع اللبس. وإنما أوثر تقديم المفعول الثاني ، أعني (وعده ) على الأول وهو (رسله) للإيذان بالعناية به . فإن الآية في سياق الإنذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله به على ألسنة الرسل . فالمهم في التهديد ذكر الوعيد . كذا في (" الانتصاف ") .

    وفي (" الكشف ") تقديمه للاعتناء به وكونه المقصود بالإفادة . وما ذكره ممن وقع الوعد على لسانه ، إنما ذكر بطريق التبع للإيضاح ، والتفصيل بعد الإجمال . وهو من أسلوب الترقي كما في قوله : رب اشرح لي صدري و : إن الله عزيز أي : غالب لا يماكر : ذو انتقام من أعدائه ، نصرا لأوليائه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [48] يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار .

    يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وذلك أنه تسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى ، فلا يرى فيها عوج ولا أمت . وتبدل السماوات [ ص: 3740 ] بانتثار كواكبها ، وكسوف شمسها ، وخسوف قمرها ، وانشقاقها ، وكونها أبوابا و (يوم) بدل من (يوم يأتيهم ) أو ظرف للانتقام أو مقدر بـ (اذكر) أو ( لا يخلف وعده) .

    وبرزوا أي : الخلائق أو الظالمون من أجداثهم : لله الواحد القهار أي : لحسابه وجزائه .

    قال أبو السعود : والتعرض للوصفين لتهويل الخطب وتربية المهابة وإظهار بطلان الشرك وتحقيق الانتقام في ذلك اليوم على تقدير كونه ظرفا له . وتحقيق إتيان العذاب الموعود على تقدير كونه بدلا من (يوم يأتيهم العذاب ) فإن الأمر إذا كان لواحد غلاب ; كان في غاية الشدة والصعوبة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [49] وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد .

    وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد جمع (مقرن) وهو من جمع في قرن (بفتحتين) الوثاق الذي يربط به . أي : قرن بعضهم مع بعض حسب اقترانهم في الجرائم والفساد . فيجمع بين النظراء والأشكال منهم ، كل صنف إلى صنف . كما قال تعالى : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وقال : وإذا النفوس زوجت أو : قرنوا مع الشياطين ، لقوله تعالى : لنحشرنهم والشياطين أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال . وقوله تعالى : في الأصفاد أي : القيود أو الأغلال ، جمع صفد بفتحتين بمعنى القيد أو الغل . والقيد هو الذي يوضع في الرجل . والغل * بالضم * ما في اليد والعنق وما يضم به اليد والرجل إلى العنق . والجار متعلق بـ : { مقرنين } أو حال من ضميره أي : مصفدين ، وقوله تعالى :

    [ ص: 3741 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [50] سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار .

    سرابيلهم من قطران تشبيه لهم بأكره ما يوجد منظرا عند العرب ، وهو الإبل الجربى التي تطلى بالقطران . وإعلام بأن لهم أعظم ما ينال الجلد داء وهو تقرحه بالجرب. وأخبث ما يكون دواء لقبحه لونا وريحا ، وهو القطران ، فإنه أسود منتن الريح .

    قال الزمخشري : تطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل ، وهي القمص لتجتمع عليهم الأربع : لذع القطران ، وحرقته ، وإسراع النار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الريح ، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين . وكل ما وعده الله وأوعد به في الآخرة فبينه وبين ما نشاهده من جنسه ما لا يقادر قدره ، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة . فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه. ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه . انتهى .

    ويؤيد ما بيناه من أن في الآية إشارة إلى ابتلائهم بجرب جهنم : ما رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة على الميت ، والنائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب » .

    وقد وقفت على رسالة لشمس البلغاء الخوارزمي أنفذها لمن شكا إليه داء الجرب ، جاء منها قوله : الجرب حكة مادتها يبوسة وحرارة ، ووقود والتهاب ، وعسكر من عساكر البلاء تمده القذارة ، كما تزيد فيه اليبوسة والحرارة ، وعلة تدل على تضييع واجب النفس من التعهد ، [ ص: 3742 ] وعلى التفريط في العلاج والتفقد ، تنطق بأن صاحبها ضعيف المنة في التوقي ، أسير في يد الحرص والتشهي ، غاش لنفسه ، قليل البقيا على روحه . وهذه العلة تكسب صاحبها خزيا وحياء ، وتورثه خجلا واسترخاء ، ينظر إلى الناس بعين المريب ، ويتستر عنهم كتستر المعيب . تنفر عنه الطباع ، وتستقذره النفوس ، وتنبو عن مواكلته العيون . وأقل ما يصيبه أنه يحرم آلة المطاعم وهي يداه ، وآلة اللقاء والزيارة وهي رجلاه . ولو لم يكن من دقائق آفاتها ومن عجيب هباتها. إلا أنها تشيخ الفتيان، وتمسخ الإنسان ، وتجعله أميا بعد أن كان غير أمي ، وأعجميا وليس بأعجمي . تنفر عن نفسه نفسه ، وتهرب من فراشه عرسه ، ويتباعد عنه أقرب الناس منه . ثم هي ربع من أرباع الخذلان وقسم من أقسام الحرمان . قال الشاعر :


    أعاذك الله من أشياء أربعة: الموت والعشق والإفلاس والجرب


    وما الظن بداء قد سارت به الأمثال وقيلت فيه دون سائر الأدواء الأقوال .

    قال أبو تمام :


    لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب


    [ ص: 3743 ] وقال لبيد :


    ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب


    فجعله رأس الأدواء ، ووصفه بأنه غاية البلاء . انتهى . وقوله تعالى :

    وتغشى وجوههم النار أي : تعلوها وتحيط بها النار التي تمس جسدهم المسربل بالقطران . وتخصيص الوجوه ; لكونها أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه ، كالقلب في باطنه ، ولذلك قال : تطلع على الأفئدة ولكونها مجمع الحواس التي خلقت لإدراك الحق . وقد أعرضوا عنه ، ولم يستعملوها في تدبره . كما أن الفؤاد أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة ، قد ملؤوها بالجهالات . أفاده الزمخشري وأبو السعود .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [51] ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب .

    ليجزي الله كل نفس ما كسبت الجار متعلق بمحذوف . أي : يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي ، إلخ . و (النفس) مخصوصة بالنفس المجرمة بقرينة المقام . أو عام للبرة والفاجرة . وعليه فيجوز تعلقه بقوله : وبرزوا وما بينهما اعتراض أو بـ (ترى ) : إن الله سريع الحساب أي : محاسبة الخلائق يوم القيامة ; لأنه لا يشغله شأن عن شأن . وجميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم ، كقوله : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة أو المعنى : سريع حسابه ، أي : مجيئه كقوله : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون وقوله تعالى:
    [ ص: 3744 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [52] هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب .

    هذا إشارة إلى القرآن أو السورة وقوله : بلاغ للناس أي : كفاية لهم لما فيه من العظة والتذكير . وقوله : ولينذروا به أي : ليخوفوا وليوعظوا به عن الجرائم التي أخذ بها الأولون : وليعلموا أنما هو إله واحد أي : يستدلوا بما فيه من الحجج والدلائل على أنه لا إله إلا هو . وإنما قدم إنذارهم ; لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به ; دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد; لأن الخشية أم الخير كله؛ أفاده الزمخشري : وليذكر أولو الألباب أي : ليتعظ به ذوو العقول ، فيقبلوا على ما فيه نجاتهم وسعادتهم .
    [ ص: 3745 ] سُورَةُ اَلْحِجْرِ

    سُمِّيَتْ بِهَا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ اَلْحِجْرِ اَلْمُرْسَلِينَ ، إِلَى قَوْلِهِ: مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ اَلدَّالِّ عَلَى مُؤَاخَذَتِهِمْ لِمُجَرَّدِ تَكْذِيبِ اَلرُّسُلِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اَللَّهِ، بِأَدْنَى وُجُوهِ اَلْمُؤَاخَذَةِ ، مَعَ غَايَةِ تَحَصُّنِهِمْ. فَفِيهِ غَايَةُ تَعْظِيمِ اَلرُّسُلِ وَالْآيَاتِ. وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ اَلْقُرْآنِ: أَفَادَهُ الْمَهَايِمِيُّ . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا تِسْعٌ وَتِسْعُونَ.

    [ ص: 3746 ] بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ

    اَلْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

    [1] الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ .

    الر تَقَدَّمَ اَلْكَلَامُ فِي مِثْلِهِ : تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ اَلْإِشَارَةُ إِلَى : الر لِأَنَّهُ اِسْمٌ لِلسُّورَةِ ، أَيْ : تِلْكَ اَلسُّورَةُ اَلْعَظِيمَةُ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْكَامِلِ وَآيَاتُ قُرْآنٍ عَظِيمِ اَلشَّأْنِ ، مُبَيِّنٍ لِلْحُكْمِ وَالْأَحْكَامِ وَلِسَبِيلِ اَلرُّشْدِ وَالْغَيِّ . مِنْ (أَبَانَ) اَلْمُتَعَدِّي . أَوِ اَلظَّاهِرُ مَعَانِيهِ أَوْ أَمْرُ إِعْجَازِهِ، وَكَوْنُهُ آيَةً قَاهِرَةً مِنْ (أَبَانَ) اَللَّازِمِ . أَوِ اَلْإِشَارَةُ إِلَى آيَاتِ اَلسُّورَةِ، أَوْ إِلَى جَمِيعِ آيَاتِ اَلْقُرْآنِ. وَتَعْرِيفُ اَلْكِتَابِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ ، كَتَنْكِيرِ ( قُرْآنٍ) . وَقَوْلُهُ :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [2] ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين .

    ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بظهور دينه . وأنه سوف يأتي أيام يتمنى الكافرون بها أن لو سبق لهم الإسلام فكانوا من السابقين; لما يرون من إعلاء كلمة الدين وظهوره على رغم الملحدين ; لأن من تأخر إسلامه منهم ، وإن ناله من الفضل ما وعد به الحسنى ، ولكن لا يلحق السابقين : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة وفيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم على الصدع بالدعوة والصبر عليها ; لما أن العاقبة له . وإنما جيء بصيغة التقليل جريا على مذهب العرب في قولهم : لعلك ستندم على فعلك ، ترفعا واستغناء عن التصريح بالغرض بناء على ادعاء ظهوره .

    [ ص: 3747 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [3] ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون .

    ذرهم يأكلوا ويتمتعوا أي: بدنياهم وتنفيذ شهواتهم : ويلههم الأمل أي : يشغلهم عن التوبة والتذكير ، أمل استقامة الحال . وأن لا يلقوا إلا خيرا في المآل : فسوف يعلمون أي : لمن تكون له العقبى .

    قال الزمخشري : فيه تنبيه .
    ثم بين تعالى سر تأخير عذابهم بقوله :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [4] وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم .

    وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم أي : أجل مقدر ليتأمل في أسباب الهلاك ليتخلص عنها ، وذلك بما قام من الحجة عليها ، بتقدم الإنذار وتكرره على سمعهم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [5] ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون .

    ما تسبق من أمة أجلها أي : لا تهلك قبله : وما يستأخرون أي : عنه ; للزوم الحجة وارتفاع الأعذار. ثم أخبر تعالى عن عتوهم في كفرهم بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [6] وقالوا يا أيها الذي نـزل عليه الذكر إنك لمجنون .

    وقالوا يا أيها الذي نـزل عليه الذكر إنك لمجنون أي : يا أيها المدعي ذلك ! إنك لمجنون في دعائك إيانا إلى اتباعك ، وترك ما وجدنا عليه آباءنا . أو في دعواك تنزيل الذكر . أو نادوه بذلك استهزاء وتهكما . أو هو من كلامه تعالى تبرئة له عما نسبوه إليه من أول الأمر .

    [ ص: 3748 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [7-8] لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننـزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين .

    لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين أي : هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك كقوله : لولا أنـزل إليه ملك فيكون معه نذيرا وقول فرعون : فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين

    ثم أشار إلى جواب مقالهم ، ورد مقترحهم بقوله تعالى : ما ننـزل الملائكة أي : عليهم فيأتونهم ويشاهدونهم : إلا بالحق أي : الحكمة التي جرت بها السنة الإلهية ، وهو العذاب : وما كانوا إذا منظرين أي : مؤخرين . كقوله تعالى : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنـزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا

    ثم أشار إلى رد إنكارهم التنزيل مع تسلية وبشارة عظيمة ، بقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [9] إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون .

    إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون أي : من كل من بغى له كيدا . فلا يزال نور ذكره يسري ، وبحر هداه يجري ، وظلال حقيته في علومه تمتد على الآفاق ، [ ص: 3749 ] ودعائم أصوله الثابتة تطاول السبع الطباق ، رغما عن كيد الكائدين ، وإفساد المفسدين : يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون وفي إيراد الجملة الثانية اسمية ; دلالة على دوام الحفظ .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [10-11] ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون .

    ولقد أرسلنا أي : رسلا : من قبلك في شيع الأولين أي : فرقهم وطوائفهم . جمع ( شيعة) وهي الفرقة المتفقة على مذهب وطريقة. و الأولين نعت لمحذوف . أي : الأمم . أو الكلام من إضافة الصفة للموصوف .

    وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون أي : كما يفعله هؤلاء المشركون .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [12-13] كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين .

    كذلك نسلكه أي : الذكر المنزل : في قلوب المجرمين أي : الكافرين. وقوله : لا يؤمنون به أي: بالذكر حال من ضمير ( نسلكه ) أي : مكذبا مستهزأ به غير مقبول .

    قال الزمخشري : كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام . تعني مثل هذا الإنزال أنزلها بهم ، مردودة غير مقضية. وقيل: الجملة بيان لما قبلها. وجوز في ضمير (نسلكه ) أن يعود إلى الاستهزاء والتكذيب المعلوم. وقوله تعالى: [ ص: 3750 ] وقد خلت سنة الأولين استئناف جيء به تكملة للتسلية ، وتصريحا بالوعيد والتهديد . أي : قد مضت السنة فيهم من هلاكهم ، وزهوق باطلهم ، ونصر الرسل وغلبة جنود المؤمنين عليهم واستعمارهم ديارهم ،
    ثم بين تعالى أنهم لا يتركون الاستهزاء بالرسل وإن أتتهم الآيات التي تشبه الملجئة لقوة عنادهم وبغيهم ، بقوله تعالى :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [14-15] ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون .

    ولو فتحنا عليهم أي : على هؤلاء المستهزئين : بابا من السماء فظلوا أي : فصاروا طول نهارهم : فيه يعرجون أي : يصعدون مستوضحين لما يرونه فيها من العجائب .

    لقالوا إنما سكرت أبصارنا أي : حيرت أو حبست من الإبصار ، وما نراه شيء نتخايله لا حقيقة له : بل نحن قوم مسحورون





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #423
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ اَلْحِجْرِ
    المجلد العاشر
    صـ 3751 الى صـ 3765
    الحلقة (422)



    قال الناصر في (" الانتصاف ") : المراد ، والله أعلم ، يعني من الآيتين : إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها ، كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين . فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء ، كل على علم وفهم : ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإعجاز كما فهمها من آمن . فأعلمهم الله تعالى من الآن ، وهم في مهلة وإمكان ; أنهم ما كفروا إلا على علم ، معاندين باغين غير معذورين ، والله أعلم . ولذلك عقبه تعالى بقوله : ولو فتحنا عليهم الآية ، أي : هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه ، وولج ذلك في قلوبهم ووقر ، ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسيمتهم اللدد ، حتى لو سلك بهم [ ص: 3751 ] أوضح السبيل وأدعاها إلى الإيمان بضرورة المشاهدة ، وذلك بأن يفتح لهم باب في السماء ، ويعرج بهم إليه حتى يدخلوا منها نهارا .

    وإلى ذلك الإشارة بقوله : فظلوا لأن الظلول إنما يكون نهارا ; لقالوا بعد هذا الإيضاح العظيم المكشوف : إنما سكرت أبصارنا وسحرنا محمد. وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها . فأسجل عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم في التكذيب ، من عدم سماع ووعي ووصول إلى القلوب وفهم ، كما فهم غيرهم من المصدقين ; لأن ذلك كله حاصل لهم . وإنما بهم العناد واللدد والإصرار لا غيره . والله أعلم .
    ثم بين تعالى دلائل وحدته وعظمته وقدرته الباهرة ، بقوله سبحانه :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [16-18] ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين .

    ولقد جعلنا في السماء بروجا جمع (برج) يطلق على القصر والحصن وعلى المنازل الاثني عشر التي تنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية .

    وقد فسرت البروج في الآية بالنجوم وبالمنازل المذكورة وبالقصور ، على التشبيه بحصون الأرض وقصورها . فإن النجوم هياكل فخيمة عظيمة : وزيناها أي : السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والأضواء المرئية : للناظرين أي : إلى حركاتها وأضوائها . أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بها على قدرة موجدها ووحدانيته .

    وحفظناها من كل شيطان رجيم

    إلا من استرق أي : اختلس : السمع أي : من الملائكة السماوية : فأتبعه أي : تبعه ولحقه : شهاب مبين أي : لهب محرق ظاهر ، فيرجع أو فيحترق .

    [ ص: 3752 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [19] والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون .

    والأرض مددناها أي : بسطناها: وألقينا فيها رواسي أي : جبالا ثوابت : وأنبتنا فيها من كل شيء موزون أي : وزن بميزان الحكمة ، وقدر بمقدار تقتضيه ، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان ، أو بمعنى مستحسن متناسب ، من قولهم : كلام موزون .

    وقد ذكر الشريف المرتضى في (" الدرر ") أن العرب استعملته بهذا المعنى ، كقول عمر ابن أبي ربيعة .


    وحديث ألذه هو مما تشتهيه النفوس يوزن وزنا
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [20-21] وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننـزله إلا بقدر معلوم .

    وجعلنا لكم فيها معايش أي : ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرهما ، مما تقتضيه ضرورة الحياة : ومن لستم له برازقين أي : من الأنعام والدواب وما أشبهها . قال القاضي : وفذلكة الآية الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين ، مختلفة الأجزاء في الوضع ، محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة ، مع جواز أن لا يكون كذلك ، على كمال قدرته وتناهي حكمته. والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك; ليوحدوه ويعبدوه . ثم بالغ في ذلك وقال : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننـزله إلا بقدر معلوم

    [ ص: 3753 ] أي : وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه . شبه اقتداره على كل شيء وإيجاده بالخزائن المودعة فيها الأشياء ، المعدة لإخراج ما يشاء منها وما يخرجه إلا بقدر معلوم ، استعارة تمثيلية . أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد ، استعارة مكنية ، ومعنى: ننـزله أي : نوجده ونخرجه في عالم الشهادة . والقدر المعلوم : الأجل المعين له ، حسبما تقتضيه الحكمة ، وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [22-23] وأرسلنا الرياح لواقح فأنـزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون .

    وأرسلنا الرياح لواقح أي : تلقح السحاب ، أي : تجعلها حوامل بالماء ، وذلك أن السحاب بخار يصير ، بإصابته الهواء البارد حوامل للماء . قاله المهايمي. فاللواقح عليه جمع (ملقح) بحذف الزوائد . أو تلقح الشجر بجري مائها فيه ، أو تنميته ليثمر ويزهو . وجوز كون اللواقح جمع ( لاقح ) وهي الناقة الحامل . فشبهت الريح التي تجيء بالمزن الممطرة بها ، كما يشبه ما لا تكون كذلك بـ ( العقيم) فقيل : ريح عقيم فأنـزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين أي : بقادرين على إيجاده وإنزاله . و (الخزن) اتخاذ الخزائن يستعار للقدرة ، كما مر ، أو بحافظين له في أمكنة ينابيعه ، من سهول وجبال وعيون وآبار ، بل هو تعالى وحده الذي حفظه وسلكه ينابيع في الأرض وجعله عذبا ورحم بسقياه .

    وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون أي : الباقون بعد هلاك الخلق كله . وقيل للباقي: وارث، استعارة من (وارث الميت ) لأنه يبقى بعد فنائه . ومنه قوله صلوات الله عليه في دعائه : « واجعله الوارث منا » . كذا في (" الكشاف ") .

    [ ص: 3754 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [24-25] ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم .

    ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين أي : من تقدم ولادة وموتا ، ومن تأخر من الأولين والآخرين. أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد. أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر . لا يخفى علينا شيء من أحوالكم . وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته ، فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه ، وفي تكرير قوله : ولقد علمنا من كمال التأكيد ما لا يخفى .

    وإن ربك هو يحشرهم أي : الأولين والآخرين على كثرتهم : إنه حكيم أي : يدبر أمرهم في الحشر على وفق الحكمة : عليم أي : بكل ما فيهم من خفايا الصفات الذميمة : سيجزيهم وصفهم

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [26-27] ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم .

    ولقد خلقنا الإنسان يعني آدم : من صلصال أي : طين يابس مصوت : من حمإ صفة لصلصال ، أي : كائن من طين متغير مسود : مسنون أي : مصور ، من (سنة الوجه) وهي صورته . أو مصبوب ، من (سن الماء ) صبه . أي : مفرغ على هيئة الإنسان . كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم صيره جسدا ولحما ونفخ فيه من روحه .

    والجان خلقناه من قبل أي : من قبل الإنسان .

    من نار السموم أي : من نار الريح الشديد الحر .

    [ ص: 3755 ] قال أبو السعود : ومساق الآية ، كما هو ، للدلالة على كمال قدرته تعالى ، وبيان بدء خلق الثقلين ; فهو التنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر ، وهو قبول المواد للجمع والإحياء .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [28-29] وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين .

    وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته أي : عدلت خلقته وأكملتها : ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين أي : تحية له وتعظيما .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [30-33] فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون .

    فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون

    يعني : وقد خلقتني من نار ، فأنا خير منه ، كما صرح به في آية غيرها . وفي تكرير قوله : من صلصال إلخ تذكير للإنسان بأصله هذا المفضول ; ليكون كابحا من جماح غوايته ، وشدة تمرده .

    [ ص: 3756 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [34-38] قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم .

    قال فاخرج منها أي : من زمرة الملائكة المعززين : فإنك رجيم أي: مطرود من كل خير وكرامة . فإن من يطرد يرجم بالحجارة . أو شيطان يرجم بالشهب ، وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته . فإن من عارض النص بالقياس فهو رجيم ملعون . أفاده أبو السعود .

    وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين أي : الجزاء . وهو يوم القيامة .

    قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم البعث .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [39-41] قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم .

    قال رب بما أغويتني لأزينن لهم أي : المعاصي : في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين أي : الذين أخلصتهم لطاعتك وجردتهم بالتوجه إليك . وقرئ بكسر اللام ، أي : الذين أخلصوا دينهم لك وأعمالهم من غير حظ لغيرك فيها .

    [ ص: 3757 ] قال هذا صراط علي مستقيم أي : حق نهجه ومراعاته لا اعوجاج فيه . وهو أن لا سلطان لك على عبادي المخلصين ، إلا الذين يناسبونك في الغواية والبعد عن صراطي فيتبعونك ، كما قال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [42-44] إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم .

    إن عبادي ليس لك عليهم سلطان أي : قهر على الإغراء .

    إلا من اتبعك من الغاوين أي : المطبوعين على الغواية .

    وإن جهنم لموعدهم أجمعين قال المهايمي: لأن غوايتهم إنما كانت بترك متابعة الدليل مع متابعة الأهوية الباطلة ; لغلبتها عليهم .

    لها سبعة أبواب لكل باب منهم أي : الغواة : جزء مقسوم أي : حزب معين مفرز من غيره ، حسبما يقتضيه استعداده .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [45-48] إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونـزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين .

    إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها أي : يقال لهم ادخلوها : بسلام أي : سالمين أو مسلما عليكم : آمنين أي : من الآفات والزوال .

    ونـزعنا ما في صدورهم من غل [ ص: 3758 ] أي : حقد كان في الدنيا ، لبعضهم على بعض : إخوانا حال من فاعل : { ادخلوها } أو الضمير في (آمنين) : على سرر أي : مراتب عالية : متقابلين لتساوي درجاتهم وتقارب مراتبهم . فيتلذذ بعضهم برؤية وجه بعض : متقابلين لا يمسهم فيها نصب أي : تعب : وما هم منها بمخرجين لسرمدية مقامهم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [49-52] نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون .

    نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم أي : لمن تاب وآمن وعمل صالحا .

    وأن عذابي هو العذاب الأليم أي : لمن لم يتب من كفره . والجملة فذلكة لما سلف من الوعد والوعيد وتقرير له .

    ونبئهم عن ضيف إبراهيم أي : عن نبئه . والضيف كالزور ، يقع على الواحد والجمع .

    قال في " الكشاف " : عطف : ونبئهم على : نبئ عبادي ليتخذوا ما أحل من العذاب بقوم لوط ، عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين ، ويتحققوا عنده أن عذابه هو العذاب الأليم .

    إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون أي : خائفون ، وذلك لما رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه .

    [ ص: 3759 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [53-56] قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون .

    قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر أي: مع مس الكبر بأن يولد لي، والكبر مانع منه : فبم تبشرون قال الزمخشري : هي (ما) الاستفهامية دخلها معنى التعجب. كأنه قال : فبأي أعجوبة تبشروني . أو أراد إنكم تبشرونني بما هو غير متصور في العادة ، فبأي شيء تبشرون ؟ يعني لا تبشروني في الحقيقة بشيء ; لأن البشارة بمثل هذا ، بشارة بغير شيء .

    قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين أي : الآيسين من ذلك.

    قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون يعني لم أستنكر ذلك قنوطا من رحمته ، ولكن استبعادا له في العادة التي أجراها الله تعالى ، والتصريح برحمة الله في أحسن مواقعه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [57-60] قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين .

    قال أي : إبراهيم ، بعد أن ذهب عنه الروع : فما خطبكم أي : أمركم الخطير [ ص: 3760 ] الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة : أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين أي : إلى إهلاكهم . يعنون قوم لوط .

    إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين أي : الباقين مع الكفرة ، لتهلك معهم . وإسناد التقدير له مجازي من باب قول خواص الملك (دبرنا كذا وأمرنا بكذا ) وإنما يعنون دبر الملك وأمر . هذا إذا كان ( قدرنا ) بمعنى أردنا وقضينا . وإن كان بمعنى علمنا ، فلا غرو في علم الملائكة ذلك ، بإخباره تعالى إياهم به .

    ومن الناس من يجعل ( قدرنا ) من كلامه تعالى ، غير محكي عن الملائكة . قال في ("الانتصاف ") : وهو الظاهر لاستغنائه عن التأويل .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [61-64] فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون .

    فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون أي : لا أعرفكم ولا أدري من أي الأقوام أنتم وما أقدمكم .

    وقال المهايمي : أي : يخاف منكم تارة وعليكم أخرى . والظاهر أنه قال ذلك لهم بعد معاناته الشدائد من قومه لأجلهم ، كما فصل في سورة هود .

    قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون أي : العذاب الذي كنت تتوعدهم به ، فيمرون به ويكذبونك.

    وأتيناك بالحق أي : اليقين مع هلاكهم : وإنا لصادقون

    [ ص: 3761 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [65-67] فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين وجاء أهل المدينة يستبشرون .

    فأسر بأهلك أي : فاذهب بهم في الليل : بقطع من الليل أي : في طائفة منه ، وهي آخره : واتبع أدبارهم أي : كن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على حالهم : ولا يلتفت منكم أحد أي : لينظر ما وراءه ، فيرى من الهول ما لا يطيقه : وامضوا حيث تؤمرون

    وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين أي : يستأصلون عن آخرهم ، حال كونهم داخلين في الصبح .

    وجاء أهل المدينة أي : مدينة لوط ، وهي سدوم : يستبشرون أي : بأضيافه ، طمعا فيهم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [68-77] قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين .

    [ ص: 3762 ] قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون أي : بالإساءة إليهم ، فإن الإساءة إليهم فضيحة للمضيف .

    واتقوا الله ولا تخزون

    قالوا أولم ننهك عن العالمين أي : عن أن تجير أحدا منهم ، أو تدفع عنهم ، أو تمنع بيننا وبينهم ، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد . وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المنكر والحجر بينهم وبين المتعرض له . فأوعدوه وقالوا : لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين أفاده الزمخشري .

    قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين تقدم الكلام عليه في سورة هود مفصلا .

    لعمرك قسم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم ، اعترض به تعبا من شدة غفلتهم وتكريما للمخاطب : إنهم لفي سكرتهم أي : غفلتهم التي ذهبت معها أحلامهم : يعمهون أي : يترددون فلا يفهمون ما يقال لهم . ولما لم يسمعوا منه النصيحة المبقية لهم ; أسمعهم الله الصيحة المهلكة لهم .

    فأخذتهم الصيحة أي : صيحة العذاب : مشرقين أي : داخلين في وقت شروق الشمس .

    فجعلنا أي : من تلك الصيحة المحركة للأرض : عاليها سافلها قال المهايمي : لجعلهم الرجال العالين كالنساء السافلات .

    وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل أي : طين متحجر ; لرجمهم على لواطهم .

    إن في ذلك لآيات للمتوسمين أي : الناظرين بطريق في الآيات .

    وإنها يعني [ ص: 3763 ] مدينة قوم لوط المدمرة : لبسبيل مقيم أي : ثابت يسلكه الناس ، لم يندرس بعد ، وهم يبصرون تلك الآثار .

    قال الزمخشري : وهو تنبيه لقريش ، كقوله : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون

    إن في ذلك لآية للمؤمنين أي : في هلاكهم لعبرة لهم .

    تنبيهان :

    الأول : قال ابن القيم في " أقسام القرآن " : أكثر المفسرين من السلف والخلف ، بل لا يعرف السلف فيه نزاعا - أن هذا - يعني قوله تعالى : لعمرك قسم من الله بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم . وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الرب عز وجل بحياته . وهذه مزية لا تعرف لغيره .

    ولم يوفق الزمخشري لذلك ، فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط وإنه من قول الملائكة .

    فقال : هو على إرادة القول أي : قالت الملائكة للوط عليه السلام : لعمرك الآية ، وليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين ، بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على أن ما فهمه السلف أطيب ، لا أهل التعطيل والاعتزال .

    قال ابن عباس رضي الله عنهما : لعمرك أي : حياتك ، قال : وما أقسم الله تعالى بحياة نبي غيره . والعمر والعمر واحد ، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإثبات الأخف ; لكثرة دور الخلف على ألسنتهم . وأيضا فإن العمر حياة مخصوصة ، فهو عمر شريف عظيم أهل أن يقسم به ; لمزيته على كل عمر من أعمار بني آدم . ولا ريب أن عمره وحياته من أعظم النعم والآيات ، فهو أهل أن يقسم به . والقسم به أولى من القسم بغيره من المخلوقات . ثم [ ص: 3764 ] قال ابن القيم : وإنما وصف الله سبحانه اللوطية بالسكرة ; لأن للعشق سكرة مثل سكرة الخمر كما قال القائل :


    سكران" سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقة من به سكران


    الثاني : قوله تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين قال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل في الفراسة . أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعا : « اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله » ، ثم قرأ هذه الآية . وقد كان بعض قضاة المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام ، جريا على طريق إياس بن معاوية . انتهى .

    وقد أجاد الكلام في الفراسة الراغب الأصفهاني في كتاب (" الذريعة ") حيث قال في الباب السابع : وأما الفراسة ، فالاستدلال بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله ، على أخلاقه وفضائله ورذائله .

    وربما يقال : هي صناعة صيادة لمعرفة أخلاق الإنسان وأحواله . وقد نبه الله تعالى على صدقها بقوله : إن في ذلك لآيات للمتوسمين وقوله : تعرفهم بسيماهم وقوله : ولتعرفنهم في لحن القول ولفظها من قولهم ( فرس السبع الشاة ) فكأن الفراسة اختلاس المعارف ، وذلك ضربان : ضرب يحصل للإنسان عن خاطر لا يعرف سببه ، وذلك ضرب من الإلهام ، بل ضرب من الوحي ، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : « المؤمن [ ص: 3765 ] ينظر بنور الله » وهو الذي يسمى صاحبه : المروع والمحدث . وقال عليه الصلاة والسلام : « إن يكن في هذه الأمة محدث فهو عمر » .

    وقيل في قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب الآية ، إنما كان وحيا بإلقائه في الروع ، وذلك للأنبياء كما قال عز وجل : نـزل به الروح الأمين على قلبك وقد يكون بإلهام في حال اليقظة ، وقد يكون في حال المنام . ولأجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام : « الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة » .

    والضرب الثاني من الفراسة يكون بضاعة متعلمة وهي معرفة ما بين الألوان والأشكال ، وما بين الأمزجة والأخلاق والأفعال الطبيعية . ومن عرف ذلك كان ذا فهم ثاقب بالفراسة . وقد عمل في ذلك كتب ، من تتبع الصحيح منها اطلع على صدق ما ضمنوه . والفراسة ضرب من الظن . وسئل بعض محصلة الصوفية عن الفرق بينهما فقال : الظن بتقلب القلب ، والفراسة بنور الرب . ومن قوي فيه نور الروح المذكور في قوله تعالى : ونفخت فيه من روحي وكان ممن وصفه بقوله : أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه وكان ذلك النور شاهدا ; أصاب فيما حكم به . ومن الفراسة قوله عليه السلام في المتلاعنين : « إن أمرهما بين ، لولا حكم الله » .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #424
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ اَلنَّحْلِ
    المجلد العاشر
    صـ 3766 الى صـ 3780
    الحلقة (423)


    [ ص: 3766 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [78-81] وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين .

    وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين ( إن ) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف . أي : وإن الشأن كان أصحاب الأيكة ، وهم قوم شعيب عليه السلام . كانوا يسكنون أيكة ، وهي بقعة كثيرة الأشجار ، فظلموا بأنواع من الظلم ، من شركهم بالله وقطعهم الطريق ونقصهم المكيال والميزان . فبعث الله إليهم شعيبا عليه السلام فكذبوه .

    فانتقمنا منهم أي : بعذاب الظلة ، وهي : سحابة أظلتهم بنار تقاذفت منها ، فأحرقتهم : وإنهما يعني قرى قوم لوط والأيكة : لبإمام مبين أي : طريق واضح . وقد كانوا قريبا من قوم لوط ، بعدهم في الزمان ومسامتين لهم في المكان . ولهذا لما أنذرهم شعيب قال : وما قوم لوط منكم ببعيد

    ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين يعني ثمود، كذبوا صالحا عليه السلام . ومن كذب واحدا من الأنبياء عليهم السلام ، فقد كذب الجميع ; لاتفاقهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار . و ( الحجر ) : واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه معروف ، يجتازه ركب الحج الشامي .

    وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين يعني بالآيات ما دلهم على صدق دعوى نبيهم ، كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء ، وكانت تسرح في بلادهم : [ ص: 3767 ] لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فلما عتوا وعقروها ، قال : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [82-87] وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم .

    وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين أي : من حوادث الدهر .

    فأخذتهم الصيحة مصبحين أي: وقت الصباح من اليوم الرابع . وفي سورة الأعراف : فأخذتهم الرجفة أي : الزلزلة ، وهي من توابع الصيحة . أو هي مجاز عنها .

    فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون أي : ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة ، حتى عقروها ; لئلا تضيق في المياه ، فما دفعت عنهم تلك الأموال لما جاء أمره تعالى .

    وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق أي : إلا خلقا متلبسا بالحق والحكمة الثابتة ، التي لا تقبل التغير . وهي الاستدلال بها على الصانع وصفاته [ ص: 3768 ] وأسمائه وأفعاله ليعرفوه فيعبدوه ، بحيث لا يلائم استمرار الفساد . ولذلك اقتضت الحكمة إرسال الرسل مبشرين ومنذرين : وإن الساعة لآتية أي : فيجزي كلا بما كانوا يعملون : فاصفح الصفح الجميل أي : عاملهم معاملة الصفوح الحكيم ، كقوله : فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون

    وقوله تعالى : إن ربك هو الخلاق العليم تقرير للمعاد ، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة . فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء ، العليم بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض ، كقوله تعالى : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم

    ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم قال الرازي : إنه تعالى لما صبره على أذى قومه وأمره بأن يصفح الصفح الجميل ; أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خصه بها ; لأن الإنسان إذا تذكر نعم الله عليه ، سهل عليه الصفح والتجاوز .

    و(السبع المثاني ) هو القرآن كله كما قاله ابن العباس في رواية طاوس; لقوله تعالى : كتابا متشابها مثاني والواو في قوله : والقرآن العظيم لعطف الصفة ، كقول الشاعر :


    إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم


    و (السبع ) : يراد بها الكثرة في الآحاد ، كالسبعين في العشرات . و ( المثاني) جمع مثنى بمعنى التثنية أو الثناء ، فإنه تكرر قراءته أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه . أو مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز . أو مثنى على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى .

    [ ص: 3769 ] وقد روي عن بعض السلف تفسير السبع بالسور الطوال الأول، وهذا لم يقصد به ، إلا أن اللفظ الكريم يتناولها ، لا أنها هي المعنية . كيف لا وهذه السورة مكية وتلك مدنيات ؟ كالقول بأنها الفاتحة سواء. وأما حديث : « الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته » عند الشيخين ; فمعناه أنها من السبع ، لعطف قوله : « والقرآن العظيم الذي أوتيته » ولو كان القصر على بابه ، لناقضه لمعطوف ; لاقتضائه أنها هو لا غيره . وبداهة بطلانه لا تخفى .

    وسر الإخبار بأنها السبع ، كون الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن . وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها ، كما بينه الإمام مفتي مصر في (" تفسير الفاتحة ") فراجعه . هذا ما ظهر لي الآن في تحقيق الآية .

    وللأثري الواقف مع ظاهر ما صح من الأخبار ، الجازم بأن السبع في الآية هي الفاتحة لظاهر الحديث ، أن يجيب عن القصر بأن المراد بالمعطوف القرآن بمعنى المقروء ، لا بمعنى الكتاب كله . والله أعلم .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [88-90] لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين كما أنـزلنا على المقتسمين .

    لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم يعني : قد أوتيت النعمة العظمى ، [ ص: 3770 ] التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ، وهي القرآن العظيم . فعليك أن تستغني ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به من زخارف الدنيا وزينتها أصنافا من الكفار متمنيا لها . فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته . وفي التعبير عما أوتوه ( بالمتاع ) إنباء عن وشك زوالها عنهم .

    ولا تحزن عليهم أي : لعدم إيمانهم ، المرجو بسببه تقوي ضعفاء المسلمين بهم : واخفض جناحك للمؤمنين أي : تواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم ، وطب نفسا عن إيمان الأغنياء والأقوياء .

    وقل إني أنا النذير المبين أي : المنذر المظهر للعذاب لمن لم يؤمن .

    كما أنـزلنا على المقتسمين أي : مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين . أو إنذارا مثل ما أنزلنا. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : المقتسمون أصحاب صالح عليه السلام، الذين تقاسموا بالله : لنبيتنه وأهله فأخذتهم الصيحة ، كما مر . فالاقتسام من (القسم) لا من القسمة.

    وهذا التأويل اختاره ابن قتيبة .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [91-93] الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون .

    الذين جعلوا القرآن عضين أي : أجزاء ، جمع (عضة) يعني كفار مكة . قالوا : سحر . وقالوا : كهانة . وقالوا: أساطير الأولين . وهو مبتدأ خبره : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون أي : من التقسيم فنجازيهم عليه . وجوز تعلق (كما) بقوله : [ ص: 3771 ] لنسألنهم أي: لنسألنهم أجمعين مثل ما أنزلنا . فيكون (كما) رأس آية و (المقتسمون) حينئذ : إما من تقدم ، أو المشركون . ويعني بالإنزال عليهم إنزال الهداية التي أبوها. وجوز جعل الموصول مفعولا أول للنذير، أو لما دل عليه من أنذر، أي: النذير. أو أنذر المعضين الذين يجزئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير ، مثل ما أنزلنا على المقتسمين . وجوز جعل ( كما ) متعلقا بقوله تعالى : ولقد آتيناك أي : أنزلنا عليك كما أنزلنا على أهل الكتاب الذين جزؤوا القرآن إلى حق وباطل . حيث قالوا : قسم منه حق موافق لما عندنا . وقسم باطل لا يوافقه . أو القرآن هو مقروؤهم . أي : قسموا ما قرؤوا من كتبهم وحرفوه ، فأقروا ببعضه وكذبوا ببعضه . والله أعلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [94-96] فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون .

    فاصدع بما تؤمر أمر من ( الصدع ) بمعنى الإظهار والجهر ، من (انصداع الفجر) . أو من ( صدع الزجاجة ) ونحوها وهو تفريق أجزائها . أي : افرق بين الحق والباطل : وأعرض عن المشركين أي : الذين يرومون صدك عن التبليغ ، فلا تبال بهم .

    إنا كفيناك المستهزئين أي : حفظناك من شرهم ، فلا ينالك منهم ما يحذر . وهذا ضمان منه تعالى ، له صلوات الله عليه ; لينهض بالصدع نهضة من لا يهاب ولا يخشى . كما قال تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس

    [ ص: 3772 ] الذين يجعلون مع الله إلها آخر وصفهم بذلك ; تسلية له عليه الصلاة والسلام ، وتهوينا للخطب عليه ، بأنهم أصحاب تلك الجريمة العظمى ، التي هي أكبر الكبائر ، التي سيخذلون بسببها . كما قال : فسوف يعلمون أي : عاقبة أمرهم . وقد جوز في الموصول أن يكون صفة ( للمستهزئين) ومنصوبا بإضمار فعل. ومرفوعا بتقدير (هم) . وفي الآية وعيد شديد لمن جعل معه تعالى معبودا آخر . وقد أشار كثير من المفسرين إلى أن قوله تعالى : إنا كفيناك المستهزئين عنى به ما عجله من إهلاكهم . كما روى ابن إسحاق عن عروة : أن عظماء المستهزئين كانوا خمسة نفر ، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم : من بني أسد أبو زمعة ، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه ، فقال : « اللهم أعم بصره ، وأثكله ولده » ومن بني زهرة الأسود ، ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة ، ومن بني سهم العاص بن وائل ، ومن خزاعة الحارث . فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء ; أنزل الله تعالى : فاصدع بما تؤمر إلى قوله : فسوف يعلمون قال ابن إسحاق عن عروة : إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت ، فقام وقام رسول الله إلى جنبه ، فمر به الأسود ، فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه . ومر به الوليد فأشار إلى أثر جراح بأسفل كعب رجله كان أصابه قبل ذلك بسنتين فانتقض به فقتله . ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص قدمه ، فخرج على حمار يريد الطائف ، فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه . ومر به الحارث فأشار إلى رأسه فامتخط قيحا فقتله . انتهى .

    ومثله ما رواه ابن مسعود : قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي في ظل الكعبة ، [ ص: 3773 ] وناس من قريش وأبو جهل قد نحروا جزورا في ناحية مكة ، فبعثوا فجاؤوا بسلاها وطرحوه بين كتفيه وهو ساجد . فجاءت فاطمة فطرحته عنه ، فلما انصرف قال : « اللهم ! عليك بقريش وبأبي جهل وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط » .

    قال ابن مسعود رضي الله عنه : فلقد رأيتهم قتلى في قليب بدر
    .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [97-99] ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين .

    ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين لما ذكر تعالى أن قومه يهزأون ويسفهون ; أعلمه بما يعلمه سبحانه منه ، من ضيق صدره وانقباضه بما يقولون ; لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك . ثم أعلمه بما يزيل ضيق الصدر والحزن ، وذلك أمره من التسبيح والتحميد والصلاة ، كما قال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وقال : ألا بذكر الله تطمئن القلوب ومعلوم أن في الإقبال على ما ذكر ، استنزال الإمداد الرباني بالنصر والمعونة ; لقوله : إن الله مع الصابرين وقوله : فاذكروني أذكركم وقوله : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون

    [ ص: 3774 ] وقد روي في شمائله صلوات الله عليه ; أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، تأويلا لما ذكر.

    قال أبو السعود : وتحلية الجملة بالتأكيد; لإفادة تحقيق ما تضمنته من التسلية. وفي التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من إظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام ، والإشعار بعلة الحكم ، أعني الأمر بالتسبيح والحمد. والمراد من (الساجدين) المصلين ، من إطلاق الجزء على الكل. و (اليقين): الموت فإنه متيقن اللحوق بكل حي مخلوق . وإسناد الإتيان إليه ; للإيذان بأنه متوجه إلى الحي طالب للوصول إليه . والمعنى : دم على العبادة ما دمت حيا . كقوله تعالى في سورة مريم : وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا

    وقيل : المراد بـ (اليقين) : تعذيب هؤلاء وأن ينزل بهم ما وعده . ولا ريب أنه من المتيقن ، إلا أن إرادة الموت منه أولى ، يدل له قوله تعالى إخبارا عن أهل النار : قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين وما في الصحيح عن أم العلاء امرأة من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات ، قالت أم العلاء : رحمة الله عليك أبا السائب ! فشهادتي عليك : لقد أكرمك الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وما يدريك أن الله أكرمه ؟ » فقلت : بأبي وأمي يا رسول الله ! فمن ؟ فقال : « أما هو فقد جاءه اليقين ، وإني لأرجو له الخير » .

    [ ص: 3775 ] تنبيه :

    قال الحافظ ابن كثير : يستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين على أن العبادة ، كالصلاة ونحوها ، واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا ، كما في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب . ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين : المعرفة . فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم . وهذا كفر وضلال وجهل . فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم ، أعلم الناس بالله ، وأعرفهم بحقوقه وصفاته ، وما يستحق من التعظيم ، وكانوا مع هذا أعبد الناس وأكثرهم مواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة . انتهى .
    [ ص: 3776 ] سُورَةُ اَلنَّحْلِ

    سُمِّيَتْ بِهَا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ ، اَلْمُشِيرِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْهِمَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَعْضَ خَوَاصِّ عِبَادِهِ، أَنْ يَسْتَخْرِجُوا اَلْفَوَائِدَ اَلْحُلْوَةَ اَلشَّافِيَةَ مِنْ هَذَا اَلْكِتَابِ. بِحَمْلِ كَلِمَاتِهِ عَلَى مَوَاضِعِ اَلشَّرَفِ. وَعَلَى اَلْمَعَانِي اَلْمُثْمِرَةِ، وَعَلَى اَلتَّصَرُّفَات ِ اَلْعَالِيَةِ. مَعَ تَحْصِيلِ اَلْأَخْلَاقِ اَلْفَاضِلَةِ وَسُلُوكِ سَبِيلِ اَلتَّصْفِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ . وَهَذَا أَكْمَلُ مَا يُعْرَفُ بِهِ فَضَائِلُ اَلْقُرْآنِ وَيُدْرَكُ بِهِ مَقَاصِدُهُ. قَالَهُ الْمَهَايِمِيُّ .

    وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَسْمِيَةُ اَلسُّورَةِ بِذَلِكَ تَسْمِيَةً بِالْأَمْرِ اَلْمُهِمِّ. لِيَتُفَطَّنَ اَلْغَرَضُ اَلَّذِي يُرْمَى إِلَيْهِ. كَـ (الْجُمُعَةِ) لِأَهَمِيَّةِ اَلِاجْتِمَاعِ اَلْأُسْبُوعِيّ ِ وَمَا يَنْجُمُ عَنْهُ مِنْ مَصَالِحِ اَلْأُمُورِ اَلْعَامَّةِ، وَالْحَدِيدِ لِمَنَافِعِهِ اَلْعَظِيمَةِ. وَ (النَّحْلِ) . وَ (الْعَنْكَبُوتِ) . وَ (النَّمْلِ) . لِلتَّفَطُّنِ لِصِغَارِ اَلْحَيَوَانَات ِ اَلْحَكِيمَةِ اَلصَّنَائِعِ. وَهَكَذَا. وَسَيَأْتِي طَرَفٌ مِنْ حِكْمَةِ اَلنَّحْلِ وَأَسْرَارِهِ عِنْدَ آيَتِهِ فِي هَذِهِ اَلسُّورَةِ.

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. وَاسْتَثْنَى اِبْنُ عَبَّاسٍ آخِرَهَا. وَعَنِ اَلشَّعْبِيِّ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ عَاقَبْتُمُ، اَلْآيَاتِ وَعَنِ اَلشَّعْبِيِّ: إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اَللَّهِ ، اَلْآيَاتِ. وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَثَمَانٌ وَعِشْرُونَ.

    وَعَنْ قَتَادَةَ: تُسَمَّى سُورَةَ اَلنِّعَمِ. وَذَلِكَ لِمَا عَدَّدَ اَللَّهُ فِيهَا مِنَ اَلنِّعَمِ عَلَى عِبَادِهِ.

    [ ص: 3777 ] بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ

    اَلْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

    [1] أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ .

    أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ تَقَرَّرَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ ، أَنَّ اَلْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ مَا وُعِدُوا مِنْ قِيَامِ اَلسَّاعَةِ أَوْ إِهْلَاكِهِمْ ، كَمَا فُعِلَ يَوْمَ بَدْرٍ ، اِسْتِهْزَاءً وَتَكْذِيبًا بِالْوَعْدِ . فَقِيلَ لَهُمْ : أَتَى أَمْرُ اللَّهِ أَيْ : مَا تُوعَدُونَهُ مِمَّا ذُكِرَ . وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِـ : { أَمْرُ اَللَّهِ } ; لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّهْوِيلِ . وَلِلْإِيذَانِ بِأَنَّ تَحَقُّقَهُ فِي نَفْسِهِ وَإِتْيَانَهُ مَنُوطٌ بِحُكْمِهِ اَلنَّافِذِ وَقَضَائِهِ اَلْغَالِبِ. وَإِتْيَانُهُ عِبَارَةٌ عَنْ دُنُوِّهِ وَاقْتِرَابِهِ ، عَلَى طَرِيقَةِ نَظْمِ اَلْمُتَوَقَّعِ فِي سَلْكِ اَلْوَاقِعِ . أَوْ عَنْ إِتْيَانِ مَبَادِيهِ اَلْقَرِيبَةِ ، عَلَى نَهْجِ إِسْنَادِ حَالِ اَلْأَسْبَابِ إِلَى اَلْمُسَبِّبَات ِ . وَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ وَقَوْلِهِ : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَقَوْلِهِ : وَيَسْتَعْجِلُو نَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّ هُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ شِرْكِهِمْ بِهِ غَيْرَهُ ، وَعِبَادَتِهِمْ مَعَهُ مَا سِوَاهُ ، مِنَ اَلْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ ، اَلَّذِي أَفْضَى بِهِمْ إِلَى اَلِاسْتِهْزَاء ِ وَالْعِنَادِ ، وَاعْتِقَادِهِم ْ أَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ إِذَا جَاءَ اَلْمِيعَادُ .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [2] ينـزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون .

    ينـزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون [ ص: 3778 ] رد لاستبعادهم النبوة ، بأن ذلك سنة له تعالى . ولذا ذكر صيغة الاستقبال ، كقوله تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده وقوله تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس والروح هو الوحي ، الذي من جملته القرآن ; لقوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا والتعبير عنه بالروح على نهج الاستعارة . فإنه يحيي القلوب الميتة بالجهل . و : من أمره بيان للروح ، أو حال منه ، أو صفة ، أو متعلق بـ (ينزل) و ( من) للسببية . و : أن أنذروا بدل من الروح . أي : أخبروهم بالتوحيد والتقوى . فقوله : فاتقون من جملة المنذر به . أو هو خطاب للمستعجلين ، على طريقة الالتفات ، والفاء فصيحة ، أي : إذا كانت سنته تعالى ذلك ، فاتقون ، بما ينافيه من الإشراك وفروعه من الاستعجال .

    قال الزمخشري : ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو ، بما ذكر ، مما لا يقدر عليه غيره ، من خلق السماوات والأرض ، وخلق الإنسان وما يصلحه ، وما لا بد له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه ، وجر أثقاله وسائر حاجاته ، وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه . ومثله متعال عن أن يشرك به غيره ، بقوله سبحانه :

    [ ص: 3779 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [3-6] خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون .

    خلق السماوات والأرض بالحق أي : بالحكمة ، كما تقدم : تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة أي : مهينة ضعيفة : فإذا هو بعد تكامله بشرا : خصيم مبين أي : مخاصم لخالقه مجادل ، يجحد وحدانيته ويحارب رسله . وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا.

    والأنعام خلقها لكم أي : لمصالحكم ، وهي الأزواج الثمانية المفصلة في سورة الأنعام .

    قال الزمخشري : وأكثر ما تقع على الإبل .

    فيها دفء أي: ما يدفئ ، أي : يسخن به من صوف أو وبر أو شعر ، فيقي البرد ومنافع أي : من نسلها ودرها وركوب ظهرها : ومنها تأكلون ولكم فيها جمال أي : زينة : حين تريحون أي : تردونها من مراعيها إلى مراحها ( بضم الميم ) وهو مقرها في دور أهلها بالعشي : وحين تسرحون أي : تخرجونها بالغداة إلى المراعي .

    قال الزمخشري : من الله بالتجمل بها كما من بالانتفاع بها ; لأنه من أغراض أصحاب المواشي ، بل هو من معاظمها ; لأن الرعيان ، إذا روحوها بالعشي ، وسرحوها بالغداة ، فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء ; أنست أهلها وفرحت أربابها ، وأجلتهم في عيون الناظرين إليها ، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس . ونحوه : لتركبوها وزينة يواري سوآتكم وريشا

    [ ص: 3780 ] فإن قلت : لم قدمت الإراحة على التسريح ؟ قلت : لأن الجمال في الإراحة أظهر ، إذا أقبلت ، ملأى البطون ، حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر لأهلها . انتهى .

    ثم أشار إلى فائدة جامعة للحاجة والزينة فقال :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [7-8] وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون .

    وتحمل أثقالكم أي : أحمالكم : إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس بكسر الشين المعجمة وفتحها ، قراءتان ، وهما لغتان في معنى ( المشقة ) أي : لم تكونوا بالغيه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة ، فضلا عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم : إن ربكم لرءوف رحيم أي : حيث سخرها لمنافعكم .

    ثم أشار إلى ما هو أتم في دفع المشقة وإفادة الزينة ، فقال :

    والخيل والبغال والحمير عطف على ( الأنعام ) : لتركبوها وزينة عطف محل ( لتركبوها ) فهي مفعول له ، أو مصدر لمحذوف . أي : وتتزينوا بها زينة ، أو مصدر واقع موقع الحال من فاعل ( تركبوها ) أو مفعوله . أي : متزينين بها ، أو متزينا بها . وسر التصريح باللام في المعطوف عليه ، دون المعطوف ; هو الإشارة إلى أن المقصود المعتبر الأصلي في الأصناف ; هو الركوب . وأما التزين بها فأمر تابع غير مقصود قصد الركوب . فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة للتعليل ; تنبيها على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين . وتجرد التزين منها تنبيها على تبعيته أو قصوره عن الركوب. والله أعلم . كذا في (" الانتصاف ") .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #425
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ اَلنَّحْلِ
    المجلد العاشر
    صـ 3781 الى صـ 3795
    الحلقة (424)



    تنبيه :

    استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل ، قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على [ ص: 3781 ] أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها. قالوا : ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام. فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل . قالوا : ولو كان أكل الخيل جائزا ; لكان ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب ; لأنه أعظم فائدة منه . وأجاب المجوزون لأكلها ، بأنه لا حجة في التعليل بالركوب ; لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره .

    ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب . وأيضا لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل ; لدلت على تحريم الحمر الأهلية ، وحينئذ لا يكون ثم حاجة لتجديد التحريم لها عام خيبر . وقد قدمنا أن هذه السورة مكية .

    والحاصل : أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل . فلو سلمنا أن هذه الآية متمسكا للقائلين بالتحريم ; لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال ، ودافعة لهذا الاستدلال . وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل ، أحاديث منها ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء قالت : نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا ، فأكلناه . وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والترمذي وصححه ، والنسائي وغيرهم عن جابر قال : أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية . وأخرج أبو داود [ ص: 3782 ] نحوه . وثبت أيضا في الصحيحين من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في الخيل .

    وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث خالد بن الوليد قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير. ففي إسناده صالح بن يحيى ، فيه مقال . ولو فرض صحته لم يقو على معارضة أحاديث الحل . على أنه يمكن أن يكون متقدما على يوم خيبر ، فيكون منسوخا . كذا في " فتح البيان " .

    وفي (" الإكليل ") : أخذ المالكية ، من الاقتران المذكور ، ردا على الحنفية في قولهم بوجوب الزكاة فيها . أي: الخيل. وقوله تعالى :

    ويخلق ما لا تعلمون أي : من المخلوقات في القفار والبحار ، وصيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار . أو لاستحضار الصورة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [9] وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين .

    وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين في الآية فوائد :

    الأولى : قال ابن كثير : لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية, [ ص: 3783 ] نبه على الطرق المعنوية الدينية ، وكثيرا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية الدينية ، كقوله تعالى : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى وقال تعالى : يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير

    ولما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها ، التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم ، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة ; شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه ، فبين أن الحق منها موصلة إليه ، فقال : وعلى الله قصد السبيل كقوله تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقال : هذا صراط علي مستقيم انتهى . وقوله سبحانه : إن علينا للهدى

    الثانية : قال أبو السعود : (القصد): مصدر بمعنى الفاعل . يقال : سبيل قصد وقاصد : أي : مستقيم . على طريقة الاستعارة أو على نهج إسناد حال سالكه إليه ، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه . أي : حق عليه سبحانه وتعالى ، بموجب رحمته ووعده المحتوم ، بيان الطريق المستقيم الموصل لمن يسلكه إلى الحق ، الذي هو التوحيد : بنصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه . أو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل . قاله أبو البقاء . أي : عليه ، عز وجل ، تقويمها وتعديلها . أي : جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق . لكن لا بعد ما كانت في نفسها منحرفة عنه ، بل إبداعها ابتداء كذلك على نهج ( سبحان من صغر البعوض ، وكبر الفيل) . وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة . وقد فعل ذلك حيث أبدع هذه البدائع التي كل واحد منها لاحب يهتدى بمناره ، وعلم يستضاء بناره ، وأرسل [ ص: 3784 ] رسلا مبشرين ومنذرين ، وأنزل عليهم كتبا من جملتها هذا الوحي الناطق بحقيقة الحق ، الفاحص عن كل ما جل من الأسرار ودق ، الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلة المفضية إلى معالم الهدى ، المنجية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى .

    الثالثة : الضمير في : ومنها جائر للسبيل . فإنها تؤنث . أي : وبعض السبيل مائل عن الحق ، منحرف عنه ، لا يوصل سالكه إليه . وهو طرق الضلالة التي لا يكاد يحصى عددها ، المندرج كلها تحت الجائر ، كقوله تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله

    قال أبو السعود ، بعد ما تقدم ، أي : وعلى الله تعالى بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق وتعديله ، بما ذكر من نصب الأدلة ليسلكه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصد . وهذا هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب ، لا الهداية المستلزمة للاهتداء البتة . فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى . لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته ، بل هو مخل بحكمته ، حيث يستدعي تسوية المحسن والمسيء ، والمطيع والعاصي ، بحسب الاستعداد . وإليه أشير بقوله تعالى : ولو شاء لهداكم أجمعين أي : لو شاء أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد ، هداية موصلة إليه البتة ، مستلزمة لاهتدائكم أجمعين ; لفعل ذلك ، ولكن لم يشأه ; لأن مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها . ولا حكمة في تلك المشيئة ; لما أن الذي عليه يدور فلك التكليف ، وإليه ينسحب الثواب والعقاب ، إنما هو الاختيار الذي عليه يترتب الأعمال ، التي بها نيط الجزاء.

    ولما كان أشرف أجسام العلم السفلي ، بعد الحيوان ، النبات ، تأثر ما مر من الإنعام بالأنعام والدواب ، التي يستدل بها على وحدته تعالى ، بذكر عجائب أحوال النبات ، للحكمة نفسها ، فقال سبحانه :

    [ ص: 3785 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [10-11] هو الذي أنـزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون .

    هو الذي أنـزل من السماء أي : المزن : ماء لكم منه شراب يسكن حرارة العطش : ومنه شجر أي : ومنه يحصل شجر . والمراد به : ما ينبت من الأرض ، سواء كان له ساق أو لا فيه تسيمون أي : ترعون أنعامكم.

    ينبت أي : الله عز وجل : لكم به الزرع أي : الذي فيه قوت الإنسان : والزيتون أي : الذي فيه إدامه. : والنخيل والأعناب أي : اللذين فيهما ، مع ذلك ، مزيد التلذذ : ومن كل الثمرات أي : يخرجها بهذا الماء الواحد ، على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها . ولهذا قال : إن في ذلك أي : في إنزال وإنبات ما فصل : لآية لقوم يتفكرون أي : دلالة وحجة على وحدانيته تعالى . كما قال سبحانه : أمن خلق السماوات والأرض وأنـزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون

    قال أبو السعود: وأصله للرازي في شرح كون ما ذكره حجة ; فإن من تفكر في أن الحبة أو النواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض ، وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع ، ويخرج منه ساق فينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع ، وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر ، لا إلى نهاية ، [ ص: 3786 ] مع اتحاد المواد واستواء نسبة الطبائع السفلية والتأثيرات العلوية ، بالنسبة إلى الكل ; علم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال ، فضلا عن أن يشاركه أخس الأشياء في أخص صفاته ، التي هي الألوهية واستحقاق العبادة . تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وحيث افتقر سلوك هذه الطريقة إلى ترتيب المقدمات الفكرية، قطع الآية الكريمة بالتفكر. انتهى . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [12] وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون .

    وسخر لكم الليل والنهار أي : لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها : والشمس والقمر لإصلاح ما نيط بهما صلاحه من المكونات : والنجوم ليهتدى بها في ظلمات البر والبحر . وقوله تعالى : مسخرات بأمره حال من الجميع ، على معنى جعلها مسخرات ; لأن في التسخير معنى (الجعل) فصحت على أنه تجريد. أو على أن التسخير لهم نفع خاص.

    فمعناه : نفعكم حال كونها مسخرات لما خلقت له ، مما هو طريق لنفعكم . فـ (سخر) بمعنى (نفع ) على الاستعارة أو المجاز المرسل ; لأن النفع من لوازم التسخير. أو على أن ( مسخرات ) مصدر ميمي، منصوب على أنه مفعول مطلق . وسخرها مسخرات ، على منوال ضربته ضربات، أو يجعل قوله : مسخرات بأمره بمعنى مستمرة على التسخير بأمره الإيجادي ; لأن الإحداث لا يدل على الاستمرار . وقرئ بنصب الليل والنهار وحدهما ، ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر . وقرئ : والنجوم مسخرات بالرفع مبتدأ وخبر ، وما قبله بالنصب : إن في ذلك أي : تسخير ما ذكر : لآيات لقوم يعقلون

    ولما نبه تعالى على معالم السماوات ، نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة ، [ ص: 3787 ] والأشياء المختلفة ، من الحيوانات والمعادن والنباتات والجمادات ، على اختلاف ألوانها وأشكالها ، وما فيها من المنافع والخواص ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [13] وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون .

    وما ذرأ عطف على قوله تعالى : والنجوم رفعا ونصبا ، على أنه مفعول (لجعل ) أي : وما خلق : لكم في الأرض أي : من حيوان ونبات: مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون

    ثم نبه تعالى ممتنا على تسخيره البحر ، وتعداد النعم به إثر امتنانه بنعم البر ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [14] وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون .

    وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا هو السمك .

    قال الزمخشري : ووصفه بالطراوة ; لأن الفساد يسرع إليه ، فيسارع إلى أكله ، خيفة الفساد عليه .

    قال الناصر : فكأن ذلك تعليم لأكله ، وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يتناول إلا طريا . والأطباء يقولون : إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون . والله أعلم . انتهى .

    [ ص: 3788 ] قال الشهاب : ففيه إدماج لحكم طبي . وهذا لا ينافي تقديده وأكله مخللا ، كما توهم . انتهى .

    أقول : الأظهر في سر وصفه بالطراوة : هو التنبيه على حسنه ولطفه ، وعلى التفكير في باهر قدرته وعجيب صنعه سبحانه ، في خلقه إياه ، على كيفية تباين لحوم حيوانات البر ، مع اشتراكهما في الحيوانية .

    وتستخرجوا منه حلية كاللؤلؤ والمرجان : تلبسونها أي : تلبسها نساؤكم ، والإسناد إليهم ; لأنهن من جملتهم في الخلطة والتابعية ، ولأنهن إنما يتزين بها من أجلهم ، فكأنها زينتهم ولباسهم . أو معنى ( تلبسون ) تتمتعون وتلتذون ، على طريق الاستعارة والمجاز . ولو جعل من مجاز البعض لصح . أي : تلبسها نساؤكم .

    قال الناصر : ولله در مالك رضي الله عنه ، حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها . وذلك مقدر بالزائد على الثلث ; لحقه فيه بالتجمل . فانظر إلى مكانة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن ، حتى جعل حظ المرأة من مالها وزينتها حلية له . فعبر عن حظه في لبسها بلبسه ، كما يعبر عن حظها سواء .

    قال الشهاب : فإن قلت : الظاهر أن يقال تحلونهن ، أو تقلدونهن كما قال :


    تروع حصاه حالية العذارى فتلمس جانب العقد النظيم


    وهي للنساء دون الرجال . قلت : أما الأول فسهل ; لأن المراد لازمه . أي : تحلونهن . والثاني على فرض تسليمه : هم يتمتعون بزينة النساء ، فكأنهم لابسون . وإذا لم يكن تغليبا ، فهو مجاز ، بمعنى : تجعلونها لباسا لبناتكم ونسائكم .

    ونكتة العدول: أن النساء [ ص: 3789 ] مأمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم . فأخفي التصريح به ليكون اللفظ كالمعنى . انتهى .

    وناقش صاحب (" فتح البيان ") ما قدروه في الآية حيث قال : وظاهر قوله تعالى : تلبسونها أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان ، أي : يجعلونهما حلية لهم كما يجوز للنساء . ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله : تلبسونها بقولهم : تلبسها نساؤهم. لأنهن من جملتهم ، أو لكونهن يلبسنها لأجلهم . وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ، ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة . فإن ذلك ممنوع ، ورد الشرع بمنعه ، من جهة كونه تشبها بهن ، لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان . انتهى .

    قال السيوطي في (" الإكليل ") : في الآية دليل على إباحة لبس الرجال الجواهر ونحوها . واستدل بها من قال بحنث الحالف لا يلبس حليا بلبس اللؤلؤ ; لأنه تعالى سماه (حليا) واستدل بها بعضهم على أنه لا زكاة في حلي النساء . فأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر ، أنه سئل : هل في حلي النساء صدقة ؟ قال : لا ، هي كما قال : حلية تلبسونها انتهى .

    قال في (" فتح البيان ") : وفي هذا الاستدلال نظر . والذي ينبغي التعويل عليه : أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم . وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف . ولم يرد في الجواهر ، على اختلاف أصنافها ما يدل على وجوب الزكاة فيها. وقوله تعالى: وترى الفلك أي : السفن : مواخر فيه أي : جواري جمع ( ماخرة ) بمعنى جارية . وأصل معنى (المخر) : الشق ; لأنها تشق الماء بمقدمها : ولتبتغوا من فضله عطف على محذوف ، أي : لتنتفعوا بذلك : ولتبتغوا من فضله أي : من سعة رزقه ، بركوبها للتجارة : ولعلكم تشكرون أي : فتصرفون ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله.

    [ ص: 3790 ] قال أبو السعود : ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر ، من حيث إن فيها قطعا لمسافة طويلة ، مع أحمال ثقيلة ، في مدة قليلة، من غير مزاولة أسباب السفر . بل من غير حركة أصلا . مع أنها في تضاعيف المهالك . وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر ; للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معا .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [15-16] وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون .

    وألقى في الأرض رواسي أي : جبالا ثوابت : أن تميد بكم أي : تضطرب : وأنهارا أي : جعل فيها أنهارا تجري من مكان إلى آخر ، رزقا للعباد : وسبلا أي : طرقا يسلك فيها من بلاد إلى غيرها ، حتى في الجبال ، كما قال تعالى : وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلكم تهتدون أي : بها إلى مآربكم .

    وعلامات أي : دلائل يستدل بها المسافرون من جبل ومنهل وريح ، برا وبحرا ، إذا ضلوا الطريق : وبالنجم هم يهتدون أي : في الظلام برا وبحرا . والعدول عن سنن الخطاب إلى الغيبة ; للالتفات. وتقديم ( بالنجم ) للفاصلة، وتقديم الضمير للتقوي. وهذا أولى من دعوى الزمخشري ; أن التقديم للتخصيص بقوم هم قريش لكونهم أصحاب رحلة وسفر ، وذلك لأن الخطاب في الآيات السابقة عاما فكذا يكون في لاحقها .

    تنبيه :

    قال في (" الإكليل ") : هذه الآية أصل لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق .

    [ ص: 3791 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [17-18] أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم .

    أفمن يخلق أي : كل شيء ، لا سيما تلك المصنوعات العظيمة المذكورة ، وهو الله الواحد الأحد : كمن لا يخلق أي : شيئا ما، وهو ما يعبدون من دونه، وهذا تبكيت للمشركين وإبطال لإشراكهم بإنكار أن يساويه ويستحق مشاركته ما لا يقدر على خلق شيء من ذلك ، بل على إيجاد شيء ما .

    وزعم الزمخشري ومتابعوه ; أن قضية الإلزام أن يقال : ( أفمن لا يخلق كمن يخلق ) ثم تكلموا في سره . وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى : وليس الذكر كالأنثى فجدد به عهدا : أفلا تذكرون أي : فتعرفوا فساد ذلك ، فإنه لوضوحه لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر .

    ثم نبه ، سبحانه وتعالى ، على كثرة نعمه عليهم وإحسانه بما لا يحصى ; إشارة إلى أن حق عبادته غير مقدور ، بقوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها أي: لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم ، فضلا أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر : إن الله لغفور رحيم أي : حيث يتجاوز عن التقصير في أداء شكرها ، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم ، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها . قاله الزمخشري .

    ولاحظ ابن جرير ; أن مغفرته تعالى ورحمته لهم ، إذا تابوا وأنابوا . أي : فيتجاوز عن تقصيرهم بشكرها الحقيقي ، ولا يعذبهم بعد توبتهم وإنابتهم إلى طاعته .

    لطيفة :

    قال أبو السعود : كان الظاهر إيراد هذه الآية عقيب ما تقدم من النعم المعددة ، تكملة [ ص: 3792 ] لها على طريقة قوله تعالى : ويخلق ما لا تعلمون ولعل فصل ما بينهما بقوله : أفمن يخلق للمبادرة إلى إلزام الحجة ، وإلقاء الحجر ، إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل ، التي هي أدلة الوحدانية .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [19-21] والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون .

    والله يعلم ما تسرون وما تعلنون أي : من أعمالكم وسيجزيكم عليه .

    والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أي : فأنى تستحق الألوهية ، وقد نفي عنها أخص صفاتها ؟ فإنها ذوات مفتقرة إلى الإيجاد . أو المعنى : أن الناس يخلقونها بالنحت والتصوير . وهم لا يقدرون على نحو ذلك ، فهم أعجز من عبدتهم . كما قال الخليل عليه السلام : أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون

    ثم أكد ذلك بأن أثبت لهم ما ينافي الألوهية بقوله :

    أموات غير أحياء أي : هي جمادات لا أرواح فيها ، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل . وقوله : غير أحياء تأكيد أو تأسيس ، لأن بعض الأموات مما يعتريه الحياة ، سابقا أو لاحقا ، كأجساد الحيوان ، والنطف التي ينشئها الله تعالى حيوانا . فلذا احترز عنه بقوله : غير أحياء أي : لا يعتريها الحياة أصلا . فهي أموات على الإطلاق ، حالا ومآلا : وما يشعرون أي : تلك الأصنام المعبودة : أيان يبعثون أي : متى يكون [ ص: 3793 ] بعثها . وقد روي أنها تبعث ، ويجعل فيها حياة ، فتبرأ من عابديها ، ثم يؤمر بها وبهم جميعا إلى النار .

    وجوز عود الضمير إلى عابديها . أي: وما تشعر الأصنام متى يبعث عبدتهم تهكما بحالها ; لأن شعور الجماد محال . فكيف بشعور ما لا يعلمه إلا الله ؟ وفيه إشعار بأن معرفته وقت البعث من لوازم الألوهية ، وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [22-23] إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين .

    إلهكم إله واحد تصريح بالمدعى ، وتمحيض للنتيجة ، غب إقامة الدليل . كما أفاده أبو السعود : فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة أي : لوحدانيته تعالى ، جاحدة لها ، كما أخبر عنهم ، متعجبين من ذلك بقوله : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وقال تعالى : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون وقوله تعالى : وهم مستكبرون أي : عن عبادته تعالى .

    لا جرم أي : حقا : أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين أي : عن التوحيد ، وهم المشركون ، أو عن الحق مطلقا فيتناول هؤلاء . وهذا كما قال تعالى : إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين

    [ ص: 3794 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [24-25] وإذا قيل لهم ماذا أنـزل ربكم قالوا أساطير الأولين ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون .

    وإذا قيل لهم ماذا أنـزل ربكم قالوا أساطير الأولين أي : لم ينزل شيئا . إنما هذا الذي يتلى علينا أحاديث الأولين ، استمدها منها . كما قال تعالى : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا

    ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم أي : قالوا ذلك ليحملوا أوزارهم الخاصة بهم ، وهي أوزار ضلالهم في أنفسهم ، وبعض أوزار من أضلوهم ، كقوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون فاللام في قوله : ليحملوا لام العاقبة ; لأن ما ذكر مترتب على فعلهم . ولا باعثا إما مجازا ، وإما حقيقة ، على معنى أنه قدر صدوره منهم ليحملوا . وقد قيل : إنها للتعليل وإنها لام أمر جازمة . والمعنى : إن ذلك متحتم عليهم . فيتم الكلام عند قوله : أساطير الأولين كذا في (" العناية ") . وقوله تعالى : بغير علم قال الزمخشري : حال من المفعول : أي : من لا يعلم أنهم ضلال. وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه ، وإن لم يعلم ; لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل . فجهله لا يعذره : ألا ساء ما يزرون أي : ألا بئس ما يحملون . ففيه وعيد وتهديد .

    [ ص: 3795 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [26] قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون .

    قد مكر الذين من قبلهم أي : بأنبيائهم : فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم أي : قلع بنيانهم من قواعده وأسسه فهدمه عليهم حتى أهلكهم و (الإتيان) يتجوز به عن ( الإهلاك ) كقوله تعالى : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ويقال : أتي فلان من مأمنه ، أي : جاءه الهلاك من جهة أمنه . وأتى عليه الدهر : أهلكه وأفناه . ومنه الأتو وهو الموت والبلاء . يقال أتى على فلان أتو ، أي: موت أو بلاء يصيبه. وقد جوز في الآية إرادة حقيقة هلاكهم. كالمحكي عن قوم لوط وصالح عليهما السلام ، فيما تقدم . أو مجازه على طريق التمثيل ; لإفساد ما أبرموه من هدم دينه تعالى . شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد ، للإيقاع بالرسل عليهم السلام . وفي إبطاله تعالى تلك الحيل ، وجعله إياها أسبابا لهلاكهم ، بحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين . فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت ، فسقط عليهم السقف فهلكوا . ووجه الشبه : أن ما عدوه سبب بقائهم ، عاد سبب استئصالهم وفنائهم ، كقولهم : من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا . وقوله : من فوقهم متعلق بـ ( خر ) . و (من) لابتداء الغاية ، أو متعلق بمحذوف على أنه حال من (السقف) مؤكدة . وقيل : إنه ليس بتأكيد ; لأن العرب تقول : خر علينا سقف ووقع علينا حائط ، إذا انهدم في ملكه وإن لم يقع عليه : وأتاهم العذاب أي : الهلاك والدمار : من حيث لا يشعرون أي : لا يحتسبون .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #426
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ اَلنَّحْلِ
    المجلد العاشر
    صـ 3769 الى صـ 3810
    الحلقة (425)





    [ ص: 3796 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [27] ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين .

    ثم يوم القيامة يخزيهم أي : يذلهم ويهينهم بعذاب الخزي . لقوله تعالى : ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم أي : تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم . وفيه تقريع وتوبيخ بالقول ، واستهزاء بهم ; إذ أضاف الشركاء إلى نفسه لأدنى ملابسة ، بناء على زعمهم ، مع الإهانة بالفعل المدلول عليها بقوله : يخزيهم أي : ما لهم لا يحضرونكم ليدفعوا عنكم ! لأنهم كانوا يقولون: إن صح ما تقول فالأصنام تشفع لنا . فهو كقوله : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون وقيل : حكي عن المشركين زيادة في توبيخهم قال الذين أوتوا العلم وهم الأنبياء أو العلماء ، الذين كانوا يدعونهم إلى الحق فيشاقونهم : إن الخزي اليوم والسوء أي : الفضيحة والعذاب : على الكافرين أي : المشركين به تعالى . ما لا يضرهم ولا ينفعهم . وإنما قال : الذين أوتوا العلم هذا شماتة بهم ، وزيادة إهانة بالتوبيخ بالقول ، وتقريرا لما كانوا يعظونهم ، وتحقيقا لما أوعدوهم به .
    [ ص: 3797 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [28-29] الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين .

    الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين هذا إخبار عن حال المشركين الظالمي أنفسهم بتبديل فطرة الله ، عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم ، بأنهم يلقون السلم ، أي : ينقادون ويسالمون ويتركون المشاقة. والعدول إلى صيغة الماضي ; للدلالة على تحقق الوقوع . وأصل الإلقاء في الأجسام فاستعمل في إظهار الانقياد ; إشعارا بغاية خضوعهم واستكانتهم. وجعل ذلك كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب على الاستعارة . وقوله تعالى : ما كنا نعمل من سوء منصوب بقول مضمر ، حال . أي : قائلين ذلك . أو هو تفسير ( للسلم ) الذي ألقوه ; لأنه بمعنى القول ; بدليل الآية الأخرى : فألقوا إليهم القول كما يقولون يوم المعاد : والله ربنا ما كنا مشركين يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ثم أخبر تعالى أن الملائكة تجيبهم بقوله: بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون أي : فلا يفيد الإنكار والكذب على الأنفس : فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها أي : مقدرا خلودكم .

    قال ابن كثير : وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم ، وينال أجسادهم في قبورها , [ ص: 3798 ] من حرها وسمومها . فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم ، وخلدت في نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كما قال تعالى : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وقوله : فلبئس مثوى المتكبرين أي : بئس المقيل والمقام لمن كان متكبرا عن آيات الله واتباع رسله. فذكرهم بعنوان التكبر; للإشعار بعليته لثوائهم فيها . ولما أخبر عن الأشقياء بأنهم قالوا في جواب : ماذا أنـزل ربكم هو : أساطير الأولين فجحدوا رحمته وكفروا نعمته ; تأثره بالإخبار عن السعداء الذين اعترفوا بخيره ورحمته ، بقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [30] وقيل للذين اتقوا ماذا أنـزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين .

    وقيل للذين اتقوا وهم المؤمنون: ماذا أنـزل ربكم قالوا خيرا أي : أنزل خيرا ، أي : رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به . ثم أخبر سبحانه عما وعد به عباده بقوله: للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير أي: لمن أحسن عمله ، مكافأة في الدنيا بإحسانهم ، ولهم في الآخرة ما هو خير منها . فقوله : { في هذه الدنيا } متعلق بـ : { حسنة } كتعلقه بـ : { أحسنوا } . قال الشهاب : والحسنة التي في الدنيا : الظفر وحسن السيرة وغير ذلك . وهذه الآية كقوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون وقوله : فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وقال تعالى : وما عند الله خير للأبرار [ ص: 3799 ] وقال : والآخرة خير وأبقى ثم وصف تعالى الدار الآخرة بقوله : ولنعم دار المتقين
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [31-32] جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون .

    جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كقوله تعالى : وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين كذلك يجزي الله المتقين

    ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار ، في مقابلة أولئك ، بقوله سبحانه :

    الذين تتوفاهم الملائكة طيبين أي : طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي وكل سوء : يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون أي : لتدخل أرواحكم الجنة ، فإنها في نعيم برزخي إلى البعث . أو المراد بشارتهم بأنهم يدخلونها كقوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنـزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون الآيات .

    ثم أشار إلى تقريع المشركين ، وتهديدهم على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا بقوله تعالى :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [33-34] هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون .

    هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أي: لقبض أرواحهم بالعذاب : أو يأتي أمر ربك أي : العذاب المستأصل . أو يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال : كذلك أي : مثل فعل هؤلاء من الشرك والاستهزاء : فعل الذين من قبلهم أي : فتمادوا في ضلالهم حتى ذاقوا بأس الله : وما ظلمهم الله فيما أحل بهم في عذابه الآتي بيانه . وذلك لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم : بإرسال رسله وإنزال كتبه : ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

    فأصابهم سيئات ما عملوا جزاء سيئات أعمالهم من الشرك وإنكار الوحدانية وتكذيب الرسل ونحوها : وحاق بهم أي : أحاط بهم : ما كانوا به يستهزئون من العذاب الذي توعدتهم به الرسل . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [35-36] وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين .

    وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا [ ص: 3801 ] حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين

    يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه واعتذارهم عنه بالاحتجاج بالقدر ; تكذيبا للرسول صلوات الله عليه ، وطعنا في الرسالة ، وذلك قولهم : لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء أي : من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ، مما لم ينزل الله به سلطانا . ثم أعلم تعالى مشاكلتهم لمن تقدمهم ، بقوله : كذلك فعل الذين من قبلهم أي : من الشرك والتحريم ، متمسكين بمثل هذه الشبهة .

    قال ابن كثير : مضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارها لما فعلنا ، لأنكره علينا بالعقوبة ، ولما مكننا منه. قال الله تعالى رادا عليهم شبههم : فهل على الرسل إلا البلاغ المبين أي : ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم. بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار، ونهاكم عنه آكد النهي ، وبعث في كل أمة، أي : في كل قرن وطائفة من الناس ، رسولا . وكلهم يدعو إلى عبادة الله ، وينهى عن عبادة ما سواه : أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وهو ما يعبد من دونه سبحانه . فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم ، من عهد نوح أول رسول إلى أهل الأرض ، إلى زمن خاتم النبيين صلوات الله عليه وعليهم . ودعوة الكل واحدة كما قال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وكما أخبر هنا في هذه الآية . فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول : لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ؟ [ ص: 3802 ] فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية ; لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله . وأما مشيئته الكونية، وهي تمكينهم من ذلك قدرا ، فلا حجة لهم فيها . أي : لأنها من سر القدر الذي حظر الخوض فيه . ثم إنه تعالى أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا ، بعد إنذار الرسل ، بقوله : فمنهم من هدى الله الآية . وقد تقدم لنا في سورة الأنعام نقل ما للأئمة في مثل هذه الآية . ونسوق هنا أيضا ما قرأته للإمام ابن تيمية ، عليه الرحمة ، في أول الجزء الثاني من (" منهاج السنة ") مما يتعلق بالآية ، وإن يكن سبق لنا نقل عنه أيضا ، فإن الآية من معارك الأفهام ، فلا علينا أن نجلو عن الشبه فيها صدأ الأوهام . قال عليه الرحمة : هذا مقام يكثر خوض النفوس فيه . فإن كثيرا من الناس ، إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدر وقال : حتى يقدر الله ذلك أو يقدرني الله على ذلك ، أو حتى يقضي الله ذلك . وكذلك إذا نهي عن فعل ما حرم الله قال : الله قضاه علي بذلك ، ونحو هذا الكلام . والاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة، باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين. والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة ، إذا احتج بها في ظلم ظلمه إياه وترك ما يجب عليه من حقوقه . بل يطلب منه ما له عليه ، ويعاقبه على عدوانه عليه . وإنما هو من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم . فكأنك تعلم فسادها بالضرورة . وإن كانت تعرض كثيرا للكثير من الناس ، حتى قد يشك في وجود نفسه ، وغير ذلك من المعارض الضرورية . فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتى يظن أنها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب، وغير ذلك ، وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك . ولكن تعلم القلوب بالضرورة أن هذه شبهة باطلة. ولهذا لا يقبله أحد عند التحقيق ولا يحتج بها أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله ، فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة ، وهو المأمور ، وهو الذي ينبغي فعله ولم يحتج بالقدر . وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله ، أو ليس بمصلحة ، أو ليس هو مأمورا به ; لم يحتج بالقدر . بل إذا كان متبعا لهواه [ ص: 3803 ] بغير علم ، احتج بالقدر . ولهذا لما قال المشركون : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء قال الله تعالى: هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة وباطلة. فإن أحدهم لو ظلم الآخر أو حرج في ماله أو فرج امرأته أو قتل ولده أو كان مصرا على الظلم فنهاه الناس عن ذلك فقال: لو شاء الله لم أفعل هذا; لم يقبلوا منه هذه الحجة، ولا هو يقبلها من غيره. وإنما يحتج بها المحتج دفعا للوم بلا وجه. فقال الله تعالى : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله، وأنه مصلحة ينبغي فعله: إن تتبعون إلا الظن فإنه لا علم عندكم بذلك ، إن تظنون ذلك إلا ظنا : وإن أنتم إلا تخرصون وتفترون . فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم ، ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدره . فإن مجرد المشيئة والقدر لا تكون عمدة لأحد في الفعل ، ولا حجة لأحد على أحد ولا عذرا لأحد ; إذ الناس كلهم مشتركون في القدر . فلو كان هذا حجة وعمدة لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق والكاذب والعالم والجاهل والبر والفاجر. ولم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال ما يفسدهم وما ينفعهم وما يضرهم . وهؤلاء المشركون المحتجون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رسله من توحيده ، والإيمان به ; لو احتج به بعضهم على بعض في سقوط حقوقه ومخالفة أمره، لم يقبله منه. بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضا ويعادي بعضهم بعضا ويقاتل بعضهم بعضا على فعل من يريد تركا لحقهم ، أو ظلما. فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى حق الله على عباده وطاعة أمره ، واحتجوا بالقدر ; فصاروا يحتجون بالقدر على ترك حق ربهم ومخالفة [ ص: 3804 ] أمره، بما لا يقبلونه ممن ترك حقهم وخالف أمرهم . وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يا معاذ بن جبل ! أتدري ما حق الله على عباده ؟ ! حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ حقهم عليه أن لا يعذبهم » .

    فالاحتجاج بالقدر حال الجاهلية الذين لا علم عندهم بما يفعلون ويتركون : { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } وهم إنما يحتجون به في ترك حق ربهم ومخالفة أمره ، لا في ترك ما يرونه حقا لهم ولا في مخالفة أمرهم . ولهذا تجد المحتجين والمستندين إليه من النساك والصوفية والفقراء والعامة والجند والفقهاء وغيرهم ; يفرون إليه عند اتباع الظن وما تهوى الأنفس . فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلا . بل يعتمدون عليه لعدم الهدى والعلم ، وهذا أصل شريف ، من اعتنى به علم منشأ الضلال والغي لكثير من الناس . ولهذا تجد المشايخ والصالحين المتبعين للأمر والنهي ، كثيرا ما يوصون أتباعهم بالعلم بالشرع . فإنه كثيرا ما يعرض لهم إرادات في أشياء ومحبة لها فيتبعون فيها أهواءهم ظانين أنه دين الله تعالى ، وليس معهم إلى الظن والذوق والوجدان الذي يرجع إلى محبة النفس وإرادتها . فيحتجون تارة بالقدر وتارة بالظن والخرص، وهم متبعون أهواءهم في الحقيقة. فإذا اتبعوا العلم ، وهو ما جاء به الشارع صلى الله عليه وسلم خرجوا عن الظن وما تهوى الأنفس ، واتبعوا ما جاءهم من ربهم وهو الهدى ، كما قال تعالى : فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى عن المشركين في سورة الأنعام والنحل والزخرف كما قال تعالى : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون فتبين أنه لا علم لهم بذلك، إن هم إلا [ ص: 3805 ] يخرصون . وقال في سورة الأنعام : قل فلله الحجة البالغة إرسال الرسل وإنزال الكتب كما قال تعالى: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ثم أثبت القدر بقوله : فلو شاء لهداكم أجمعين فأثبت الحجة الشرعية وبين المشيئة القدرية وكلاهما حق. وقال في النحل : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين فبين سبحانه وتعالى أن هذا الكلام تكذيب للرسل فيما جاءوهم به ، ليس حجة لهم . فلو كان حجة لاحتج به على تكذيب كل صدق وفعل كل ظلم . ففي فطرة بني آدم أنه ليس حجة صحيحة . بل من احتج به احتج لعدم العلم واتباع الظن . كفعل الذين كذبوا الرسل بهذه المدافعة. بل الحجة البالغة لله بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه . ولا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن » . فبين أنه سبحانه يحب المدح وأن يعذر ويبغض الفواحش ، فيحب أن يمدح بالعدل والإحسان ، وألا يوصف بالظلم . ومن المعلوم أنه من قدم إلى أتباعه بأن افعلوا كذا ولا تفعلوا. وبين لهم وأزاح علتهم ، ثم تعدوا حدوده وأفسدوا أمورهم ; كان له أن يعذبهم وينتقم منهم . فإذا قالوا: أليس الله قدر علينا هذا ؟ لو شاء الله ما فعلنا هذا . قيل لهم : أنتم لا حجة لكم ولا عندكم ما تعتذرون به ، وتبين أن ما فعلتموه كان حسنا ، أو كنتم معذورين فيه . فهذا الكلام غير مقبول منكم .

    [ ص: 3806 ] وقد قامت الحجة عليكم بما تقدم من البيان والإعذار . ولو أن ولي أمر أعطى قوما مالا ليوصلوه إلى بلد، فسافروا به وتركوه في البرية ليس عنده أحد وباتوا في مكان بعيد منه، وكان ولي الأمر قد أرسل جندا يغزون بعض الأعداء ، فاجتازوا تلك الطريق، فرأوا ذلك المال فظنوه لقطة ليس له أحد فأخذوه وذهبوا ; لكان يحسن منه أن يعاقب الأولين لتفريطهم وتضييعهم حفظ ما أمرهم به . ولو قالوا له : أنت لم تعلمنا أنك تبعث بعدنا جندا حتى يحترز المال منهم ! قال : هذا لا يجب علي ، ولو فعلته لكان زيادة إعانة لكم . لكن كان عليكم أن تحفظوا ذلك كما تحفظون الودائع والأمانات . وكانت حجته عليهم قائمة ولم يكن يدعى فيهم ظالما، وإن كان لم يعنهم بالإعلام بذلك الجند ، لكن عمل المصلحة في إرسال الأولين والآخرين . والله سبحانه وتعالى ، وله المثل الأعلى، حكم عدل في كل ما جعله ، ولا يخرج شيء عن مشيئته وقدرته . فإذا أمر الناس بحفظ الحدود وإقامة الفرائض لمصلحتهم ; كان ذلك من إحسانه إليهم وتعريفهم ما ينفعهم . وإذا خلق أمورا أخرى، فإذا فرطوا واعتدوا بسبب خلقه الأمور الأخرى ، كان عادلا حكما في خلق هذا وخلق هذا ، والأمر بهذا والأمر بهذا. وإن كان لم يمد الأولين بزيادة يحترسون بها من التفريط والعدوان ، لا سيما مع علمه بأن تلك الزيادة ، لو خلقها للزم منها تفويت مصلحة أرجح ، فإن الضدين لا يجتمعان . والمقصود هنا أنه لا يحتج أحد بالقدر إلا حجة تعليل ; لدعم اتباع الحق الذي بينه العلم. فإن الإنسان حي حساس متحرك بالإرادة . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أصدق الأسماء الحارث وهمام » فالحارث : الكاسب العامل . والهمام : المتحرك الهم . والهم مبدأ الإرادة والقصد . فكل إنسان حارث همام ، وهو المتحرك بالإرادة ، وذلك لا يكون إلا بعد الحس والشعور . فإن الإرادة مسبوقة بالشعور بالمراد ، فلا يتصور إرادة ولا حب ولا شوق ولا [ ص: 3807 ] اختيار ولا طلب إلا بعد الشعور وما هو من جنسه . كالحس والعلم والسمع والبصر والشم والذوق واللمس ونحو هذه الأمور . فهذا الإدراك والشعور هو مقدمة الإرادة والحب والطلب . والحي مفطور على حب ما ينفعه ويلائمه ، وبغض ما يكرهه ويضره . فإذا تصور الشيء الملائم النافع ، أراده وأحبه . وإن تصور الشيء الضار أبغضه ونفر عنه . لكن ذلك التصور قد يكون علما وقد يكون ظنا وخرصا . فإذا كان عالما بأن مراده هو النافع ، وهو المصلحة وهو الذي يلائمه ; كان على الهدى والحق . وإذا لم يكن معه علم بذلك ، كان متبعا للظن وما تهوى نفسه . فإذا جاءه العلم والبيان بأن هذا ليس مصلحة ، أخذ يحتج بالقدر ، حجة لدد وتفريج ، لا حجة اعتماد على الحق والعلم . فلا يحتج أحد في باطنه أو ظاهره بالقدر ، إلا لعدم العلم بما هو عليه الحق . وإذا كان كذلك كان من احتج بالقدر على الرسل مقرا بأن ما هو عليه ليس معه به علم ، وإنما تكلم بغير علم . ومن تكلم بغير علم كان مبطلا في كلامه ، ومن احتج بغير علم كانت حجته داحضة . فإما أن يكون جاهلا، فعليه أن يتبع العلم . وإما أن يكون قد عرف الحق واتبع هواه ، فعليه أن يتبع الحق ويدع هواه . فتبين أن المحتج بالقدر متبع لهواه بغير علم : ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله انتهى . وله تتمة سابغة الذيل لا بأس بالوقوف عليها .

    وقال القاشاني في هذه الآية: إنما قالوا ذلك عنادا وتعنتا عن فرط بالجهل وإلزاما للموحدين بناء على مذهبهم . إذ لو قالوا ذلك عن علم ويقين لكانوا موحدين لا مشركين بنسبة الإرادة والتأثير إلى الغير ; لأن من علم أنه لا يمكن وقوع شيء بغير مشيئة من الله ، علم أنه لو شاء كل من في العالم شيئا ، لم يشأ الله ذلك ; لم يمكن وقوعه . فاعترف بنفي القدرة والإرادة عما عدا الله تعالى ، فلم يبق مشركا ، قال الله تعالى : ولو شاء الله [ ص: 3808 ] ما أشركوا وقوله تعالى : كذلك فعل الذين من قبلهم أي : في تكذيب الرسل بالعناد . انتهى .

    وقال الإمام مفتي مصر في تفسير سورة العصر ، من هذا البحث ما مثاله : فالعقل والشرع والحس والوجدان متضافرة على أن فعل العبد فعله . وكون جميع الأشياء راجعة إلى الله تعالى ووجود الممكنات ، إنما هو نسبتها إليه . ولا يتصور اعتبارها موجودة إلا إذا اعتبرت مستندة إليه ، مما قام عليه الدليل بل كاد يصل إلى البداهة كذلك . ومثل هذا يقال في عظم قدرة الله تعالى . وإنه إن شاء سلبنا من القدرة والاختيار ما وهبنا . فهو أمر نشاهده كل يوم ، ندبر شيئا ، ثم يأتي من الموانع من تحقيقه ما لم يكن في الحسبان ، ونتناول عملا ثم تنقطع قدرتنا عن تتميمه . كل ذلك لا نزاع فيه . شمول علم الله لما كان ولما يكون قام عليه الدليل . ولا شبهة فيه عند المليين، فوجب على المسلم أن يعتقد بأن الله خالق كل شيء على النحو الذي يعلمه ، وأن يقرر بنسبة عمله إليه كما هو بديهي عنده . ويعلم بما أمره به ويجتنب ما نهاه عنه باستعمال ذلك الاختيار الذي يجده من نفسه . وليس عليه بعد ذلك أن يرفع بصره إلى ما وراءه . فقد نعى الله على المشركين قولهم : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ووردت الأحاديث متواترة المعنى في النهي عن الخوض في القدر وسره . فلو صبر العبد حق الصبر ; لوقف عند ما حد الله له ، ولم ينزع بنفسه إلى تعدي حدود الله التي ضربها لعباده . ولست أحب التكلم في هذه المسألة بأكثر من هذا. وإلا خرجت من الصابرين ، وخضت في القدر مع الخائضين. ومن ثار به الهوس فتوهم أن علينا أن نعتقد أن العبد لا فعل له ، فقد خالف كتاب الله وعصى رسول الله . وقد أقول - واعتمادي على الله فيما أقول - : إن من يقول ذلك ، يخرج عن دين الله ، ويعطل شرع الله ، فليحذر مؤمن بالله أن يقول ذلك . انتهى .

    [ ص: 3809 ] وقال في موضع آخر : الاحتجاج على ترك العمل بالقدر من عقائد الملحدين. وقد جاء الكتاب الكريم بتشنيع اعتقادهم والنعي عليهم فيه . وقد حكى لنا ما كانوا يقولون من نحو : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء فلا يسوغ لأحد منا ، وهو يدعي أنه مؤمن بالقرآن ; أن يحتج بما كان يحتج به المشركون . انتهى . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [-1] إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

    إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل أي : من يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره : وما لهم من ناصرين أي : ينصرونهم في الهداية، أو يدفعون العذاب عنهم . ثم بين تعالى نوعا آخر من أباطيلهم . وهو إنكارهم البعث بقوله :

    وأقسموا بالله جهد أيمانهم أي : جاهدين فيها فـ : { جهد } مصدر في موقع الحال : لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي : أنه يبعثهم ، فيبتون القول بعدمه ! وإنه (وعدا) عليه حق ، فيكذبونه ; وذلك لجهلهم بشؤون الله عز شأنه من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال . وبما يجوز عليه وما لا يجوز ، وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه . وعلى أن البعث مما تقتضيه الحكمة . أفاده أبو السعود .

    ثم ذكر حكمته تعالى في المعاد ، وحشر الأجساد يوم التناد ، بقوله سبحانه :

    [ ص: 3810 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [39-40] ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون .

    ليبين لهم الذي يختلفون فيه وهو الحق ، وأنهم كانوا على الضلالة قبله : وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين أي : في أباطيلهم . لا سيما في إيمانهم بعدم البعث . ولذا تقول لهم الزبانية يوم القيامة : هذه النار التي كنتم بها تكذبون ثم بين عظيم قدرته ، وأنه لا يعجزه شيء ما ، بقوله سبحانه :

    إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون أي: فيوجد على ما شاء تكوينه ، كقوله تعالى : وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر وقوله : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة

    قال الزمخشري : (قولنا ) مبتدأ ، و ( أن نقول) خبره ، و (كن فيكون) من (كان) التامة التي بمعنى الحدوث والوجود . أي : إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له : احدث ، فهو يحدث عقيب ذلك ، لا يتوقف. وهذا مثل; لأن مرادا لا يمتنع عليه، وأن وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف ، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل . ولا قول ثم . والمعنى : إن إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة . فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو في شق المقدورات ؟ . انتهى .

    قال الشهاب : فسقط ما قيل : إن ( كن ) إن كان خطابا مع المعدوم فهو محال . وإن كان مع الموجود كان إيجادا للموجود . وفي الآية كلام لطيف مضى في سورة البقرة . فارجع إليه .

    ثم أخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين الذين فارقوا الدار والأهل والخلان ; رجاء ثوابه وابتغاء مرضاته ، بقوله :


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #427
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ اَلنَّحْلِ
    المجلد العاشر
    صـ 3811 الى صـ 3825
    الحلقة (426)

    [ ص: 3811 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [41] والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون .

    والذين هاجروا في الله أي : مخلصين لوجهه ، أو في حقه ، وهم إما مهاجرة الحبشة الذين اشتد أذى قومهم بمكة ، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبش بأمره صلى الله عليه وسلم ، وذلك مخافة الفتنة وفرارا إليه تعالى بدينهم ، وكانوا ثلاثة وثمانين رجلا سوى صغار أبنائهم ، وهي أول هجرة في الإسلام . ويؤيده كون السورة مكية .

    أو هم مهاجرة المدينة ، أخبر به قبل وقوعه أو بعده ، إلا أنها ألحقت بالمكية . وقوله تعالى : من بعد ما ظلموا أي : أوذوا ، وأريد فتنتهم عن الدين : لنبوئنهم في الدنيا حسنة يعني بالغلبة على من ظلمهم ، وإيراثهم أرضهم وديارهم : ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون يعني مضطهديهم وظالميهم . وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه ، يقول : " خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة أفضل " . ثم وصفهم تعالى بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [42-44] الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنـزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نـزل إليهم ولعلهم يتفكرون .

    الذين صبروا أي : على ما أوذوا في سبيل الله : وعلى ربهم يتوكلون أي : فلا [ ص: 3812 ] يخشون أحدا غيره . والوصفان المذكوران : الصبر والتوكل ، من أمهات الصفات التي يجب على الداعي إلى الحق ، والمدافع عنه ، أن يكونا خلقا له ؛ إذ لا ظفر بغاية إلا بهما . ولما عجبوا من إيحاء الله لرسوله ، واصطفائه برسالته ؛ قيل في درء شبهتهم .

    وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون يعني أهل الكتاب أو علماء الأحبار ؛ ليعلموكم أنه لم يرسل للدعوة العامة ملك من أهل السماء . فالذكر : إما بمعنى الكتاب لما فيه من الذكر والعظة ، كقوله : إن هو إلا ذكر أو بمعنى الحفظ لأخبار الأمم السالفة . وفي الآية دليل على وجوب الرجوع إلى العلماء فيما لا يعلم . واستدل بها بعضهم على جواز التقليد في الفروع للعامي . وفي ذلك بحث طويل في " إيقاظ الهمم " للفلاني ، فارجع إليه إن شئت . وأشار إلى طرف منه في " فتح البيان " .

    وقوله تعالى : بالبينات والزبر أي : بالآيات المبرهنة على صدقهم والكتب المرشدة إلى مصالح الخلق . والجار متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله ، أي : أرسلناهم . أو بـ (ما أرسلنا) . أو بـ (نوحي) أو بـ (لا تعلمون) ، على أن الشرط للتبكيت والإلزام : وأنـزلنا إليك الذكر أي : القرآن المذكر والموقظ من سنة الغفلة : لتبين للناس ما نـزل إليهم أي : مما أمروا ونهوا ووعدوا وأوعدوا : ولعلهم يتفكرون أي : ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين . أو يتأملون ما فيه من العبر فيحترزون عما أصاب الأولين . ولذا تأثره بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [45] أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون .

    أفأمن الذين مكروا السيئات أي : المسكرات السيئات التي قصت عنهم . فهي [ ص: 3813 ] صفة لمصدر محذوف أو مفعول لـ ( مكروا ) بتضمينه معنى ) عملوا ) : أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون

    أي : من جهة لا يعلمون بها ، كما لا يشعر الممكور بقصد الماكر .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [46-48] أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون .

    أو يأخذهم في تقلبهم أي : سعيهم في المعايش واشتغالهم بها : فما هم بمعجزين أي : لا يعجزون ربهم على أي حال كانوا .

    أو يأخذهم على تخوف أي : توقع للهلاك ومخافة له ، فإنه يكون أبلغ وأشد . أو ننقص في أبدانهم وأموالهم وثمارهم حتى يهلكوا . يقال : تخوفه : تنقصه وأخذ من أطرافه : فإن ربكم لرءوف رحيم أي : حيث يحلم عنكم ولا يعاجلكم بالعقوبة . ثم أخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه بانقياد سائر مخلوقاته : جمادات وحيوانات ومكلفين من الجن والإنس والملائكة له سبحانه ، بقوله : أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء أي : جسم قائم له ظل : يتفيأ ظلاله أي : يرجع شيئا فشيئا : عن اليمين والشمائل أي : عن جانبي كل واحد منها ، بكرة وعشيا : سجدا لله أي : منقادة له على حسب مشيئته في الامتداد والتقلص وغيرهما ، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له : وهم داخرون أي : صاغرون . وغلب في جمعها من يعقل ، فأتى بالواو . أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء . فهو إما تغليب أو استعارة ، وكذا ضمير ( هم ) أيضا ؛ لأنه مخصوص بالعقلاء ، فيجوز أن يعتبر ما ذكر فيه ، ويجعل ما بعده جاريا على المشاكلة .

    [ ص: 3814 ] لطيفة :

    لابن الصائغ في سر توحيد اليمين وجمع الشمائل توجيه لطيف ، وملخصه : أنه نظر إلى الغاية فيهما ؛ لأن ظل الغداة يضمحل بحيث لا يبقى منه إلا اليسير ، فكأنه في جهة واحدة . وهو في العشي على العكس ، لاستيلائه على جميع الجهات . فلحظت الغايتان . هذا من جهة المعنى .

    وأما من جهة اللفظ فجمع ليطابق ( سجدا ) المجاور له ، كما أفرد الأول لمجاورة ضمير ( ظلاله ) وقدم الإفراد لأنه أصل أخف . و ( عن اليمين ) متعلق بـ ( يتفيأ ) أو حال . كذا في (" العناية ") .
    ثم بين سجود سائر المخلوقات سواء كانت لها ظلال أم لا ، بقوله تعالى :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [49] ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون .

    ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم أي : الملائكة ، مع علو شأنهم : لا يستكبرون أي : عن عبادته والسجود له .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [50] يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون .

    يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون أي : من الطاعات والتدبير . واستدل بقوله : من فوقهم على ثبوت الفوقية والعلو له تعالى . وقد صنف في ذلك الحافظ الذهبي كتاب (" العلو ") وابن القيم كتاب (" الجيوش الإسلامية ") وغيرهما . وأطنب فيها الحكيم ابن رشد في (" مناهج الدولة ") فليرجع إليها . وكلهم متفقون على أنه علو بلا تشبيه ولا تمثيل . وانفرد السلف بخطر التأويل والتعطيل . وقوله :
    [ ص: 3815 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [51] وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون .

    وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون إعلام بنهيه الصريح عن الإشراك . وبأمره بعبادته وحده ، وإنما خصص هذا العدد ؛ لأنه الأقل ، فيعلم انتفاء ما فوقه بالدلالة . فإن قيل : الواحد والمثنى نص في معناهما ، لا يحتاج معهما إلى ذكر العدد ، كما يذكر مع الجميع . أي : في نحو رجال ثلاثة ، وأفراس أربعة ؛ لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص ، فلم ذكر العدد فيهما ؟ أجيب بأن العدد يدل على أمرين : الجنسية والعدد المخصوص . فلما أريد الثاني صرح به للدلالة على أنه المقصود الذي سيق له الكلام وتوجه له النهي دون غيره . فإنه قد يراد بالمفرد الجنس ، نحو : نعم الرجل زيد . وكذا المثنى كقوله :


    فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها الكلام


    وقيل : ذكر العدد للإيماء بأن الاثنينية تنافي الألوهية . فهو في معنى قوله : لو كان [ ص: 3816 ] فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فلذا صرح بها ، وعقبت بذكر الوحدة التي هي من لوازم الألوهية .

    قال الشهاب : ولا حاجة إلى جعل الضمير للمعبود بحق المراد من الجلالة على طريق الاستخدام .

    وقوله تعالى : وقال الله معطوف على قوله : ولله يسجد أو على قوله : وأنـزلنا إليك الذكر وقيل : إنه معطوف على : ما خلق الله على أسلوب :


    علفتها تبنا وماء باردا


    [ ص: 3817 ] أي : أولم يروا إلى ما خلق الله ولم يسمعوا ما قال الله ؟ ولا يخفى تكلفه . وفي قوله : فإياي فارهبون التفات عن الغيبة ، مبالغة في الترهيب . فإن تخويف الحاضر مواجهة ، أبلغ من ترهيب الغائب ، لا سيما بعد وصفه بالوحدة والألوهية المقتضية للعظمة والقدرة التامة على الانتقام . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [52-55] وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون .

    وله ما في السماوات والأرض معطوف على قوله : إنما هو إله واحد أو على الخبر ، أو مستأنف وله الدين واصبا أي : العبادة لازمة له وحده . ولزومها له ينافي خوف الغير ؛ إذ يقتضي تخصيصه تعالى بالرهبة والخشية ، وهذا كقوله : أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون

    أفغير الله تتقون أي : وهو مالك النفع والضر . 50 وما بكم من نعمة فمن الله أي فمن فضله وإحسانه : ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون أي : لا تتضرعون إلا إليه ؛ لعلمكم أنه لا يقدر على كشفه إلا هو سبحانه . والجؤار : رفع الصوت . يقال : جأر إذا أفرط في الدعاء والتضرع ، وأصله صياح الوحش .

    ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون أي : بنسبة النعمة إلى غيره ورؤيتها منه . وكذا بنسبة الضر إلى الغير ، وإحالة الذنب في ذلك عليه ، [ ص: 3818 ] والاستعانة في رفعه به . وذلك هو كفران النعمة ، والغفلة عن المنعم المشار إليهما بقوله :

    ليكفروا بما آتيناهم أي : من نعمة الكشف عنهم . واللام للعاقبة والصيرورة : فتمتعوا فسوف تعلمون أي : وبال ذلك الكفر . وفيه إشعار بشدة الوعيد ، وأنه إنما يعلم بالمشاهدة ، ولا يمكن وصفه ، فلذا أبهم .

    وللقاشاني وجه آخر ، قال : أو فسوف تعلمون ، بظهور التوحيد ، أن لا تأثير لغير الله في شيء .
    ثم بين تعالى من مثالب المشركين بقوله :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [56-57] ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون .

    ويجعلون لما لا يعلمون أي : لآلهتهم التي لا علم لها ؛ لأنها جماد : نصيبا مما رزقناهم أي : من الزرع والأنعام وغيرهما تقربا إليها : تالله لتسألن عما كنتم تفترون أي : من أنها آلهة يتقرب إليها . ومر نظير الآية في سورة الأنعام في قوله سبحانه : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا الآية ، فانظر تفصيلها ثمة .

    ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون هذا بيان لعظيمة من عظائمهم ، وهو جعلهم الملائكة الذين هم عباد الرحمن بنات لله ، فنسبوا له تعالى ولدا ولا ولد له . واجترءوا على التفوه بمثل ذلك ، وعلى نسبة أدنى القسمين له من الأولاد ، وهو البنات ، وهم لا يرضونها لأنفسهم ؛ لأنهم يشتهون الذكور ، أي : يختارونهم لأنفسهم ويأنفون من البنات . وقد نزه مقامه الأقدس عن ذلك بقوله : سبحانه أي : عن إفكهم وقولهم . وفيه تعجب من جراءتهم على التفوه بهذا المنكر من القول ، ومن مقاسمتهم لجلاله بالاستئثار كما قال سبحانه : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا [ ص: 3819 ] قسمة ضيزى وقال تعالى : ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون ثم أشار إلى شدة كراهتهم للإناث ، بما يمثل عظم تلك النسبة إلى الجناب الأقدس وفظاعتها ، بقوله سبحانه وتعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [58-59] وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون .

    وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه أي : صار أو دام النهار كله : مسودا أي : متغيرا من الغم والحزن والغيظ والكراهية التي حصلت له عند هذه البشارة . وسواد الوجه وبياضه يعبر عن المساءة والمسرة ، كناية أو مجازا وهو كظيم أي : مشتد الغيظ على امرأته ؛ لأنه بزعمه ، حصل له منها ما يوجب أشد الحياء ، حتى أنه : يتوارى من القوم أي : يستخفي منهم : من سوء ما بشر به أي : من أجله وخوف التعيير به . ثم يفكر فيما يصنع به ، وهو قوله تعالى : أيمسكه على هون أي : محدثا نفسه متفكرا في أن يتركه على هوان وذل ، لا يورثه ولا يعتني به ، ويفضل ذكور ولده عليه :أم يدسه في التراب أي : يخفيه ويدفنه فيه حيا : ألا ساء ما يحكمون أي : حيث يجعلون الولد الذي هذا شأنه من الحقارة والهون عندهم ، لله تعالى وتقدس ، ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف . وقوله تعالى :
    [ ص: 3820 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [60] للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم .

    للذين لا يؤمنون بالآخرة أي : مثل من ذكرت مساوئهم : مثل السوء أي : صفات الذل من الحاجة إلى الأولاد وكراهية الإناث ووأدهن ، خشية الإملاق ، المنادى كل ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ . ووضع الموصول موضع الضمير ؛ للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة : ولله المثل الأعلى أي : الوصف العالي الشأن ، وهو الغني عن العالمين ، والكمال المطلق والتقدس عن سمات المخلوقين : وهو العزيز الحكيم

    ثم أخبر تعالى عن حلمه بخلقه ، مع ظلمهم ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [61-62] ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون .

    ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم أي : بكفرهم ومعاصيهم التي منها ما عدد من المساوئ المتقدمة : ما ترك عليها أي : على الأرض المدلول عليها بالناس ، وبقوله تعالى : من دابة أي : لأهلكها بالمرة بشؤم ظلم الظالمين : ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى [ ص: 3821 ] أي : وقت معين تقتضيه الحكمة . يستغفر منهم من يستغفر فيغفر له ، ويصر من يصر فيزداد عذابا : فإذا جاء أجلهم أي : المسمى : لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون

    ويجعلون لله أي : ينسون إليه : ما يكرهون أي : من البنات ومن الشركاء . وهم يأنفون من الأولى كما يكرهون مشاركة أحد لهم في مالهم . وهو تكرير لما سبق ، تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى :

    وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى أي : يجعلون لله ذلك ، مع دعواهم أن لهم العاقبة الحسنى عند الله ، إن كان ثم معاد ، كما قصه تعالى عنهم بقوله : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى يعني جمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني المحال ، بأن يجازوا على ذلك حسنا .

    وقد روي أنه وجد في أحد أحجار الكعبة لما جددت مكتوبا ) تعملون السيئات وتجزون الحسنات . أجل . كما يجتبى من الشوك العنب ) و : أن لهم إلخ بدل من (الكذب ) أو بتقدير بأن لهم .

    قال الشهاب : قوله تعالى : قوله : وتصف ألسنتهم الكذب من بليغ الكلام وبديعه كقولهم : (عينها تصف السحر ) أي : ساحرة . وقدها يصف الهيف ، أي : هيفاء .

    قال أبو العلاء المعري :


    سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا


    [ ص: 3822 ] ثم رد كلامهم وأثبت ضده بقوله سبحانه : لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون أي : معجلون إليها ومقدمون . من ( الفرط ) وهو السابق إلى الورد . يقال : أفرطته في طلب الماء إذا قدمته . أو متروكون منسيون في النار . من ( أفرطته ) بمعنى تركته ونسيته ، على ما حكاه الفراء ، كقوله تعالى : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وقرأ نافع (مفرطون ) بكسر الراء . اسم فاعل من ( أفرط ) إذا تجاوز ، أي : متجاوزو الحد في معاصي الله . وقرأ أبو جعفر بكسر الراء المشددة من ( فرط في كذا ) إذا قصر . ويقرب من الآية ما قص عنهم في قوله تعالى : ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ وقال تعالى : ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا

    ثم ذكر تعالى نعمته في إرسال الرسل وتكذيب أممهم ؛ ليتأسى صلوات الله عليه بهم بقوله سبحانه :

    [ ص: 3823 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [63-64] تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنـزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون .

    تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم أي : من الكفر والتكذيب والعناد : فهو وليهم اليوم أي : قرينهم ، يغويهم . أو المراد باليوم : يوم القيامة . والولي بمعنى الناصر . وجعله ناصرا فيه ، مع أنهم لا ينصرون ؛ مبالغة في نفيه وتهكم ، على حد ( عتابه السيف ) : ولهم عذاب أليم وما أنـزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه أي : فالقرآن هو الفرقان الفاصل بين الحق والباطل ، وكل ما يتنازع فيه : وهدى أي : للقلوب : ورحمة لقوم يؤمنون ثم أشار إلى عظيم قدرته في آياته الكونية الدالة على وحدانيته ، إثر قدرته في إحياء القلوب الميتة بالكفر ، بما أنزله من وحيه وهداه ورحمته ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [65-66] والله أنـزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين .

    والله أنـزل من السماء أي : المزن : ماء فأحيا به الأرض بعد موتها أي : [ ص: 3824 ] بالنبات والزرع ، بعد جدبها ويبسها : إن في ذلك لآية لقوم يسمعون أي : هذا التذكير ، ويعقلون وجه دلالته .

    وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث وهو ما في الكرش من الثفل : ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين أي : سهل المرور في حلقهم .

    بين تعالى آيته في الأنعام بما ذكر ؛ ليستدل به على وحدانيته وانفراده بالألوهية ، وليستدل به أيضا على الحشر . فإن العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والتراب . فقلب الطين نباتا وعشبا ، ثم تبديله دما في جوف الحيوان ، ثم تحويله إلى لبن ؛ أعظم عبرة على قدرته تعالى على قلب هذه الأجسام الميتة من صفة إلى صفة . وإنما ذكر الضمير في بطونه هنا ، وأنثه في سورة المؤمنين ؛ لكون الأنعام اسم جمع ، فيذكر ويفرد ضميره ، باعتبار لفظه . ويؤنث ويجمع باعتبار معناه .

    وقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [67] ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون .

    ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون بيان لآيته تعالى في الثمرات المذكورة ، ومنته في المشروب منها والمطعوم . و ( السكر ) : مصدر سمي به الخمر . فهو بمعنى السكر كالرشد والرشد .

    قال الفراء : السكر : الخمر نفسها . والرزق الحسن : الزبيب والتمر وما أشبههما ، ولا يقال : الخمر محرمة ، فكيف ذكرها الله في معرض الإنعام ؟ لأن هذه السورة مكية ، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة . وكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة . وأجاب الرازي بجواب ثان .

    [ ص: 3825 ] وهو : أنه لا حاجة إلى التزام هذا النسخ ، وذلك لأنه تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع ، وخاطب المشركين بها ، والخمر من أشربتهم ، فهي منفعة في حقهم .

    قال : ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية أيضا على تحريمها . وذلك لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر ، فوجب أن لا يكون السكر رزقا حسنا . ولا شك أنه حسن بحسب الشهوة فوجب أن يقال : الرجوع عن كونه حسنا بحسب الشريعة . وهذا إنما يكون كذلك إذا كانت محرمة . انتهى .

    تنبيه :

    قال ابن كثير : دلت الآية على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب كما هو مذهب الجمهور .

    وفي (" فتح البيان ") قد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يشتد إلى حد السكر . كما في (" الكشاف ") .

    قالوا : إنما يمتن الله على عباده بما أحله لا بما حرمه عليهم . وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر . انتهى .

    وليس هذا موضع بسط ذلك . قال ابن كثير : وقد ناسب ذكر العقل ها هنا في قوله تعالى : لقوم يعقلون فإنه أشرف ما في الإنسان . ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة ؛ صيانة لعقولها . انتهى .

    ولما بين تعالى أن إخراج الألبان من النعم ، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب ، دلائل قاهرة وبينات باهرة ، على أن لهذا العالم إلها واحدا قادرا مختارا حكما ؛ أرشد إلى آيته الساطعة في النحل أيضا بقوله سبحانه :


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #428
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ اَلنَّحْلِ
    المجلد العاشر
    صـ 3826 الى صـ 3840
    الحلقة (427)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [68-69] وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون .

    وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون المراد من الوحي : الإلهام والهداية إلى بنائها تلك البيوت العجيبة المسدسة ، من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض ، مما لا يمكن مثله للبشر إلا بأدوات وآلات . وقد أرشدها تعالى إلى بنائها بيوتا تأوي إليها في ثلاثة أمكنة : الجبال . والشجر . وبيوت الناس ، حيث يعرشون ، أي : يبنون العروش ، جمع ( عرش ) وهو البيت الذي يستظل به كالعريش . وليس للنحل بيت في غير هذه الأمكنة : الجبال والشجر وبيوت الناس . وأكثر بيوتها ما كان في الجبال ، وهو المتقدم في الآية ، ثم في الشجر دون ذلك ، ثم في الثالث أقل .

    فالنحل إذا نوعان : جبلية تسكن في الجبال والفيافي لا يتعهدها أحد من الناس . وأهلية تأوي إلى البيوت وتتعهد في الخلايا . ومن بديع الإلهام فيها اتخاذها البيوت قبل المرعى . فهي تتخذها أولا . فإذا استقر لها بيت خرجت منه ، فرعت ، وأكلت من الثمرات ، ثم أوت إلى بيوتها . وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله : ثم كلي من كل الثمرات أي : من كل ثمرة تشتهيها ، حلوها ومرها . فالعموم عرفي ، أو لفظ ( كل ) للتكثير ، أو هو عام مخصوص بالعادة . ولو أبقي الأمر على ظاهره لجاز ؛ لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها ؛ لأن الأمر للتخلية والإباحة .

    [ ص: 3827 ] لطيفة :

    إنما أوثر ( من ) في قوله تعالى : من الجبال إلخ ، على ( في ) دلالة على معنى التبعيض . وأن لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ، ولا في كل مكان منها . نبه عليه الزمخشري .

    قال الناصر : ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه في تبعيض ( من ) المتعلقة باتخاذ البيوت ، بإطلاق الأكل . كأنه تعالى وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها ، فلم يحجر عليها فيه ، وإن حجر عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض ؛ لأن مصلحة الآكل حاصلة على الإطلاق باستمرار مشتهاها منه . وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع . ولهذا المعنى دخلت ( ثم ) لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت ، والإطلاق لها في تناول الثمرات . كما تقول : راع الحلال فيما تأكله ، ثم كل أي شيء شئت . فتوسط ( ثم ) لتفاوت الحجر والإطلاق . فسبحان اللطيف الخبير .

    وقوله تعالى : فاسلكي سبل ربك ذللا أي : الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل . فالسبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها ، أو على حقيقتها . أي : إذا أكلت الثمار في المواضع النائية ، فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك ، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها . و ( ذللا ) جمع ذلول ، حال من ( السبل ) أي : مذللة ذللها الله لك وسهلها . فهي تسلك من هذا الجو العظيم ، والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة . ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة . وقوله تعالى : يخرج من بطونها شراب استئناف ، عدل به عن خطاب النحل ؛ لبيان ما يظهر منها من عجيب صنعه تعالى ؛ تعديدا للنعم ، وتنبيها على العبر ، وإرشادا إلى الآيات العظيمة من هذا الحيوان الضعيف . وسمي العسل شرابا ؛ لأنه يشرب مع الماء وغيره : مختلف ألوانه أي فمنه أبيض وأصفر وأحمر ؛ لاختلاف ما يؤكل من النور أو مزاجها : فيه شفاء للناس لأنه من جملة الأشفية والأدوية في بعض الأمراض . وله دخل في أكثر ما به الشفاء والمعاجين ، وقل [ ص: 3828 ] معجون من المعاجين ، لم يذكر الأطباء فيه العسل . وقد قام الآن مقامه السكر ، لكثرته بالنسبة إليه . وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه فقال : « اسقه عسلا » فذهب فسقاه عسلا ، فقال : يا رسول الله ! سقيته عسلا ما زاده إلا استطلاقا . قال : « اذهب فاسقه عسلا » فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يا رسول الله ! ما زاده إلا استطلاقا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « صدق الله وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلا . فذهب فسقاه عسلا فبرأ » .

    قال ابن كثير : قال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات . فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع ، فزاده إسهالا ، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره ، وهو مصلحة لأخيه ، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ، ثم سقاه فكذلك ، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن ، استمسك بطنه ، وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته صلى الله عليه وسلم . انتهى .

    وفي (" العناية ") للشهاب هنا ، قصة عن طبقات الأطباء فيها تأييد لقصة الأعرابي فانظرها .

    إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون أي : فيعتبرون ويستدلون على وحدانيته سبحانه ، وانفراده بألوهيته ، وأنه هو الذي ألهم هذه الدواب الضعيفة فعلمت مساقط الأنداء ، من وراء البيداء ، فتقع على كل حرارة عبقة ، وزهرة أنقة ، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضابا ، وتلفظه شرابا .

    [ ص: 3829 ] قال الحجة الغزالي (" في الإحياء ") : انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتا . وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل . وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء . ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار ، واحترازها من النجاسات والأقذار ، وطاعتها لواحد من جملتها وهو أكبرها شخصا وهو أميرها ، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والإنصاف بينها ، حتى أنه ليقتل منها على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة ؛ لقضيت من ذلك العجب إن كنت بصيرا في نفسك ، وفارغا من هم بطنك وفرجك ، وشهوات نفسك في معاداة أقرانك ، وموالاة إخوانك . ثم دع عنك جميع ذلك ، وانظر إلى بنيانها بيتا من الشمع ، واختيارها من جميع الأشكال الشكل المسدس ، فلا تبني بيتها مستديرا ولا مربعا ولا مخمسا ، بل مسدسا لخاصية في الشكل المسدس ، يقصر فهم المهندس عن درك ذلك . وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير وما يقرب منه . فإن المربع تخرج منه زوايا ضائعة . وشكل النحل مستدير مستطيل . فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة . ثم لو بناها مستديرة لبقي خارج البيوت فرج ضائعة ، فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة ، ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير . ثم تتراص الجملة منه بحيث لا تبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس . وهذه خاصية هذا الشكل . فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل ، على صغر جرمه ، ذلك ؛ لطفا به وعناية بوجوده فيما هو محتاج إليه ؛ ليهنأ عيشه . فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه . وفي طبعه أنه يهرب بعضه من بعض ويقاتل بعضه بعضا في الخلايا ويلسع من دنا من الخلية . وربما هلك الملسوع . وإذا أهلك شيء منها داخل الخلايا أخرجته الأحياء إلى خارج . وفي طبعه أيضا النظافة . فلذلك يخرج رجيعه من الخلية ؛ لأنه منتن الريح . وهو يعلم زماني الربيع والخريف . والذي يعمله في الربيع أجود . والصغير أعمل من الكبير ، وهو يشرب من الماء ما كان صافيا عذبا ، يطلبه حيث كان . ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعة . وإذا قل العسل في الخلية ، قذفه بالماء ليكثر ، خوفا على نفسه من نفاده ؛ لأنه إذا نفد أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور . وربما قتلت ما كان منها هناك .

    [ ص: 3830 ] قال حكيم من اليونان لتلامذته : كونوا كالنحل في الخلايا . قالوا : وكيف النحل في الخلايا ؟ قال : إنها لا تترك عندها بطالا إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية ، لأنه يضيق المكان ، ويفني العسل ، ويعلم النشيط الكسل .

    والنحل يسلخ جلده كالحيات . وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة ، ويضره السوس . ودواؤه أن يطرح له في كل خلية كف ملح . وأن يفتح في كل شهر مرة ، ويدخن بأخثاء البقر . وفي طبعه أنه متى طار من الخلية ، يرعى ثم يعود ، فتعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه . كذا في (" حياة الحيوان ") .

    وذكر الإمام الغزالي أيضا في كتاب (" الحكمة في خلق المخلوقات ") : أن الله تعالى جعل للنحل رئيسا تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها . فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه ؛ قتل أحدهما الآخر ، وذلك لمصلحة ظاهرة ، وهو خوف الافتراق ؛ لأنهما إذا كانا أميرين ، وسلك كل واحد منهما فجا ، افترق النحل خلفهما . ثم إنها ألهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار . فيستحيل في أجوافها عسلا . فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد ، من شراب فيه شفاء للناس ، كما أخبر سبحانه وتعالى . وفيه غذاء وملاذ للعباد . وفيه من أقوات فضلات عظيمة جعلت لمنافع بني آدم . فهي مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم وأقواتها . وما فضل من ذلك ففيه من البركة والكثرة ما ينتفع به الناس . ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها ، لتوعي فيه العسل وتحفظه . فلا تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل من الشمع في الأجناح . فانظر في هذه الذبابة ، هل في علمها وقدرتها جمع الشمع مع العسل ؟ أو عندها من المعرفة بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة باستقراره في الشمع وصيانته في الجبال والشجر في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيها ! ثم انظر لخروجها نهارا لرعيها ورجوعها عشية إلى أماكنها وقد حملت ما يقوم بقوتها ويفضل عنها ، ولها في ترتيب بيوتها من الحكمة في بنائها حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل ، [ ص: 3831 ] ولها جهة أخرى تجعل فيها برازها مباعدا عن مواضع العسل . وفيها غير هذا مما انفرد الله بعلمه .

    قال أبو السعود : ولما ذكر سبحانه من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل ؛ أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته فيما بين ذلك . وقد ضبطوا مراتب العمر في أربع : الأولى : سن النشوء والنماء . والثانية : سن الوقوف وهي سن الشباب . والثالثة : سن الانحطاط القليل وهي سن الكهولة . والرابعة : سن الانحطاط الكبير وهي سن الشيخوخة ، فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [70-71] والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون .

    والله خلقكم أي : أنشأكم من العدم : ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر أي : أضعفه وأردئه وهو الهرم . وقوله تعالى : لكي لا يعلم بعد علم شيئا اللام للصيرورة والعاقبة . أي : فيصير ، إن كان عالما جاهلا ، فيريكم من قدرته أنه كما قدر على نقله من العلم إلى الجهل ، أنه قادر على إحيائه بعد إماتته .

    قال في (" العناية ") : وكونه غير عالم بعد علمه ، كناية عن النسيان ؛ لأن الناسي يعلم الشيء ثم ينساه ، فلا يعلم بعد ما علم . أو العالم بمعنى الإدراك والتعقل ، والمعنى : لا يترقى في إدراك عقله وفهمه ؛ لأن الشاب في الترقي ، والشيخ في التوقف والنقصان .

    وفي (" الكشاف ") : ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في النسيان . وأن يعلم شيئا ثم [ ص: 3832 ] يسرع في نسيانه ، فلا يعلمه إن سئل عنه . وقيل : لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئا . وقيل : لئلا يعلم زيادة علم على علمه الأول . و ( شيئا ) منصوب على المصدرية أو المفعولية . وجوز فيه التنازع بين ( يعلم ) و ( علم ) وكون مفعول ( علم ) محذوفا لقصد العموم . أي : لا يعلم شيئا ما بعد علم أشياء كثيرة إن الله عليم قدير والله فضل بعضكم على بعض في الرزق أي : جعلكم متفاوتين فيه ، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم ، وهم بشر مثلكم : فما الذين فضلوا أي : في الرزق ، وهم الملاك : برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم أي : بمعطيهم إياه : فهم فيه سواء أي : فيستووا مع عبيدهم في الرزق .

    والآية مثل ضرب للذين جعلوا له تعالى شركاء . أي : أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ، ولا تجعلونهم فيه شركاء ، ولا ترضون ذلك لأنفسكم . فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي شركاء في الإلهية والتعظيم ؟ كما قال في الأخرى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم

    أفبنعمة الله يجحدون أي : فيشركون معه غيره وهو المنعم عليهم . أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج البالغة بعد ما أنعم بها عليهم ؟ ! فإنه لا نعمة على العالم أجل من إقامة الحجج وإيضاح السبل بإرسال الرسل .

    [ ص: 3833 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [72-74] والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون .

    والله جعل لكم من أنفسكم أي : في جنسكم وشكلكم إناثا أزواجا لتأنسوا بها وتحصل المودة والألفة والرحمة : وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة أي : بنات وأولاد أولاد : ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وهو منفعة الأصنام وشفاعتها : وبنعمت الله هم يكفرون أي : في إضافة نعمه إلى الأصنام ، أو في تحريم ما أحل لهم .

    ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا أي : من مطر أو نبات و ( شيئا ) نصب على المفعولية من ( رزق ) إن كان مصدرا ، وإن جعل اسما للمرزوق فـ ( شيئا ) بدل منه بمعنى قليلا . و ( من السماوات ) متعلق بـ ( يملك ) على كون الرزق مصدرا . أو هو صفة لـ ( رزقا ) : ولا يستطيعون أي : أن يتملكوه . أو لا استطاعة لهم أصلا . أو الضمير للمشركين . أي : ولا يستطيعون مع أنهم أحياء متصرفون فكيف بالجماد ؟ ! .

    فلا تضربوا لله الأمثال أي : فلا تجعلوا له أندادا وأمثالا . والضرب للمثل فيه معنى الجعل . والأمثال جمع ( مثل ) بكسر فسكون على هذا ، وقيل : جمع ( مثل ) بفتحتين ، والآية استعارة تمثيلية للإشراك به . حيث جعل المشرك به الذي يشبهه بخلقه ، بمنزلة ضارب المثل . [ ص: 3834 ] فإن المشبه المخذول يشبه صفة بصفة ، وذاتا بذات . كما أن ضارب المثل كذلك . فكأنه قيل : ولا تشركوا . وعدل عنه لما ذكر ؛ دلالة على التعميم في النهي عن التشبيه وصفا وذاتا . وفي لفظة ( الأمثال ) لمن لا مثال له ، نعي عظيم على سوء فعلهم . كذا في (" شرح الكشاف ") .

    إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون أي : يعلم قبح ما تشركون وأنتم لا تعلمونه . ولو علمتموه لما جرأتم عليه ، فهو تعليل للنهي . أو يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمونه ، فدعوا رأيكم وقياسكم دون نصه . ولما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك ؛ عقبه بالكشف لذي البصيرة ، عن حالهم في تلك الغفلة ، وحال من تابعهم ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [75] ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون .

    ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون يعني أن مثل هؤلاء في إشراكهم ، مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف ، وبين حر مالك يتصرف في ماله كيف يشاء ، ولا مساواة بينهما ، مع أنهما سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى . فما الظن برب العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات ؟ ! وإيثار قوله : ومن رزقناه إلخ على ( مالكا ) للتنبيه على أن ما بيده ، هو من فضل الله ورزقه ، وعلى تذكيره الإنفاق منه في السر والجهر ، ليكون عاملا بأمر الله فيه .

    [ ص: 3835 ] وقوله تعالى : الحمد لله أي : على ما هدى أولياءه . وأنعم عليهم من التوحيد . أو الحمد كله له لا يستحقه شيء من الأصنام . أو الحمد لله على قوة هذه الحجة وظهور المحبة وأكثرهم لا يعلمونها ، مع أنها في غاية ظهورها ونهاية وضوحها .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [76] وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم .

    وضرب الله مثلا أي : مثلا آخر يدل على ما دل عليه المثل السابق على وجه أوضح : رجلين أحدهما أبكم أي : أخرس : لا يقدر على شيء أي : مما يقدر عليه المنطيق المفصح عما في نفسه : وهو كل على مولاه أي : ثقيل على من يلي أمره ، لعدم اهتمامه بإقامة مصالح نفسه : أينما يوجهه لا يأت بخير أي : حيث يرسله في أمر لا يأت بنجحه وكفاية مهمه : هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل أي : ومن هو بليغ منطيق ذو كفاية ورشد لينفع الناس ، بحثهم على العدل الشامل لجميع الفضائل .

    { وهو } أي : في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام : على صراط مستقيم أي : على سيرة صالحة ودين قويم ، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي وأسهله .

    قال الأزهري : ضرب تعالى مثلا للصنم الذي عبدوه وهو لا يقدر على شيء ، فهو كل على مولاه ؛ لأنه يحمله إذا ظعن فيحوله من مكان إلى مكان . فقال الله تعالى : هل يستوي هذا الصنم الكل ، ومن يأمر بالعدل ؟ استفهام معناه التوبيخ ، كأنه قال : لا تسووا بين الصنم وبين الخالق جل جلاله . انتهى .

    [ ص: 3836 ] وإليه أشار الزمخشري بقوله : وهذا مثل ضربه الله لنفسه ، ولما يفيض على عباده ويشملهم مع آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية . وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع . انتهى .

    وناقش الرازي في حمله على الصنم بأن الوصف بالرجل وبالبكم وبالكل وبالتوجه في جهات المنافع ، يمنع من حملها على الوثن . وكذا الوصف في الثاني بأنه على صراط مستقيم ، يمنع من حمله على الله تعالى . انتهى .

    وقد يقال في جوابه : بأن الأوصاف الأول ، وإن كانت ظاهرة في الإنسان ) والأصل في الإطلاق ما يتبادر وهو الحقيقة ) إلا أن المقام صرفها إلى الوثن ؛ لأن الآيات في بيان حقارة ما يعبد من دونه تعالى ، وكونه لا يصلح للألوهية بوجه ما ؛ لما فيه من صفات النقص . وأما الوصف في قوله : على صراط مستقيم فكقوله تعالى : إن ربي على صراط مستقيم فصح الحمل .

    ثم رأيت للإمام ابن القيم في (" أعلام الموقعين ") ما يؤيد ما اعتمدناه حيث قال في بحث أمثال القرآن ، في هذين المثلين ما صورته :

    فالمثل الأول : يعني قوله تعالى : ضرب الله مثلا عبدا مملوكا الآية ، ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان . فالله سبحانه هو المالك لكل شيء . ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا وليلا ونهارا . يمينه ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار . والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء ، فكيف يجعلونها شركاء إلي ويعبدونها من دوني ، مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين ؟ هذا قول مجاهد وغيره .

    وقال ابن عباس : هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه حسنا ، فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا . والكافر بمنزلة عبد مملوك [ ص: 3837 ] عاجز لا يقدر على شيء ؛ لأنه لا خير عنده . فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء ؟ والقول الأول أشبه بالمراد ، فإنه أظهر في بطلان الشرك ، وأوضح عند المخاطب ، وأعظم في إقامة الحجة ، وأقرب نسبا بقوله : ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ثم قال : ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد ممن رزقه منه رزقا حسنا . والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء . فهذا مما ينبه عليه المثل وأرشد إليه . فذكره ابن عباس منبها على إرادته ، لا أن الآية اختصت به . فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن . فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره ، فيحكيه قوله .

    وأما المثل الثاني ، فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبدون من دونه أيضا . فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق . بل وهو أبكم القلب واللسان ، قد عدم النطق القلبي واللساني ، مع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة . وعلى هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير ، ولا يقضي لك حاجة . والله سبحانه حي قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم . وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد . فإن أمره بالعدل ، وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به معلم له ، راض به آمر لعباده به ، محب لأهله لا يأمر بسواه ، بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل . بل أمره وشرعه عدل كله . وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه . وهم المجاورون له عند يمينه ، على منابر من نور . وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني . وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه . كما في الحديث الصحيح : « اللهم إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك » . فقضاؤه [ ص: 3838 ] هو أمره الكوني : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فلا يأمر إلا بحق وعدل . وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل . وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم ، فالقضاء غير المقضي ، والقدر غير المقدر . ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم ، وهذا نظير قول رسوله شعيب : إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم وقوله : ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها نظير قوله ( ناصيتي بيدك ) وقوله : إن ربي على صراط مستقيم نظير قوله ( عدل في قضاؤك ) فالأول ملكه ، والثاني حمده . وهو سبحانه له الملك وله الحمد . وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ، ولا يأمر إلا بالعدل ، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل . فهو على الحق في أقواله وأفعاله . فلا يقضي على العبد بما يكون ظالما به ولا يؤخذ بغير ذنبه . ولا ينقصه من حسناته شيئا . ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ، ولم يتسبب إليها شيئا . ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ، ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة . فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله .

    قال محمد بن جرير الطبري : وقوله : إن ربي على صراط مستقيم يقول : إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته ، لا يظلم أحدا منهم ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به .

    ثم حكي عن مجاهد من طريق شبل بن أبي نجيح عنه : إن ربي على صراط مستقيم قال : الحق . وكذلك رواه ابن جريج عنه .

    [ ص: 3839 ] وقالت فرقة : هي مثل قوله : إن ربك لبالمرصاد وهذا اختلاف عبارة . فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .

    وقالت فرقة : في الكلام حذف تقديره : إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه . وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها . فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر . وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم . وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم ، فقد أصابوا .

    وقالت فرقة أخرى : معنى كونه على صراط مستقيم : أن مرد العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها . وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك . وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه ، فهو حق .

    وقالت فرقة أخرى : معناه كل شيء تحت قدرته وقهره في ملكه وقبضته ، وهذا وإن كان حقا فليس هو معنى الآية . وقد فرق شعيب بين قوله : ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وبين قوله : إن ربي على صراط مستقيم فهما معنيان مستقلان .

    فالقول قول مجاهد . وهو قول أئمة التفسير . ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه .

    وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز :


    أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم


    وقد قال تعالى : من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم [ ص: 3840 ] وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله . وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره ، فصراطه الذي هو سبحانه عليه ، هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قوله الحق وفعله ، وبالله التوفيق .

    وفي الآية قول ثان مثل الآية الأولى سواء : إنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر . وقد تقدم ما في هذا القول ، وبالله التوفيق . انتهى بحروفه . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [77] ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير .

    ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير

    الآية إما جواب لاستعجالهم ما يوعدون ، أو لاستبطائهم الساعة ، أو لبيان كماله في العلم والقدرة ؛ تعريضا بأن معبوداتهم عرية منهما . فأشار إلى الأول بقوله : ولله غيب السماوات والأرض أي : يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه ، أو غيبهما : هو يوم القيامة ، فإن علمه غائب عن أهلهما ، لم يطلع عليه أحد منهم ، وأشار إلى الثاني بقوله : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب و ( الساعة ) : الوقت الذي تقوم فيه القيامة . و ( اللمح ) : النظر بسرعة . أي : كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها ) أو هو أقرب ) من ذلك ، أي : أسرع زمانا ، بأن يقع في بعض زمانه . وفيه من كمال تقرير قدرته تعالى ما لا يخفى . وقوله : إن الله على كل شيء قدير تعليل له ، إشارة إلى أن مقدوراته تعالى لا تتناهى ، وأن ما يذكر بعض منها . وقوله تعالى :


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #429
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ اَلنَّحْلِ
    المجلد العاشر
    صـ 3841 الى صـ 3855
    الحلقة (428)


    [ ص: 3841 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [78-79] والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون .

    والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا عطف على قوله تعالى : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا منتظم معه في سلك أدلة التوحيد من قوله تعالى : والله أنـزل من السماء ماء وقوله تعالى : والله خلقكم وقوله تعالى : والله فضل بعضكم على بعض أفاده أبو السعود . و ( شيئا ) منصوب على المصدرية أو مفعول ( تعلمون ) والنفي منصب عليه . أي : لا تعلمون شيئا أصلا من حق المنعم وغيره .

    وجعل لكم السمع أي : فتدركون به الأصوات : والأبصار فتحسون المرئيات : والأفئدة أي : العقول : لعلكم تشكرون أي : لتصرفوها فيما خلقت له من التوحيد والاعتبار بها ، والمشي على السنن الكونية . ثم نبه تعالى على آيته في خلقه الطير بقوله :

    ألم يروا إلى الطير مسخرات أي : مذللات : في جو السماء ما يمسكهن إلا الله أي : ما يمسكهن في الجو من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل إلا هو سبحانه : إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون قال الحجة الغزالي في " الحكمة في خلق المخلوقات " ، في حكمة الطير ، في هذه الآية ، ما مثاله :

    اعلم رحمك الله أن الله تعالى خلق الطير وأحكمه حكمة تقتضي الخفة للطيران . ولم يخلق فيه ما يثقله . وخلق فيه ما يحتاج إليه وما فيه قوامه وصرف غذائه ، فقسم لكل عضو منه ما يناسبه . فإن كان رخوا أو يابسا أو بين ذلك ، انصرف إلى كل عضو من غذائه ما هو لائق به . [ ص: 3842 ] فخلق للطير الرجلين دون اليدين لضرورة مشيه وتنقله ، وإعانة له في ارتفاعه عن الأرض وقت طيرانه ، واسعة الأسفل ليثبت في موطن على الأرض وهي خف فيه . أو بعض أصابع مخلوقة من جلد رقيق صلب من نسبة جلد ساقيه . وجعل جلد ساقيه غليظا متقنا جدا ليستغني به عن الريش في الحر والبرد . وكان من الحكمة ، خلقه على هذه الصفة ؛ لأنه في رعيه وطلب قوته لا يستغني عن مواضع فيها الطين والماء ، فلو كسيت ساقاه بريش لتضرر ببلله وتلويثه . فأغناه سبحانه عن الريش في موضع لا يليق به حتى يكون مخلصا للطيران . وما خلق من الطير ذا أرجل طوال جعلت رقبته طويلة لينال غذاءه من غير حرج بها . إذ لو طالت رجله وقصر عنقه لم يمكنه الرعي في البراري ولا في البحائر حتى ينكب على صدره . وكثيرا ما يعان بطول المنقار أيضا مع طول العنق ؛ ليزداد مطلبه عليه سهولة . ولو طال عنقه وقصرت رجلاه أثقله عنقه واختل رعيه . وخلق صدره ودائره ملفوفا على عظم كهيئة نصف دائرة ، حتى يخرق في الهواء بغير كلفة ، وكذلك رؤوس أجنحته مدورة إعانة له على الطيران . وجعل لكل جنس من الطير منقارا يناسب رعيه ويصلح لما يغتذي به من تقطيع ولقط وحفر وغير ذلك . فمنه مخلب لتقطيع خص به الكواسر وما قوته اللحم . ومنه عريض مشرشر جوانبه تنطبق على ما يلتقطه انطباقا محكما . ومنه معتدل اللقط وأكل الخضر . ومنه طويل المنقار جعله صلبا شديدا شبه العظم وفيه ليونة ، وما هي في العظم ؛ لكثرة الحاجة إلى استعماله . وهو مقام الأسنان في غير الطير من الحيوان . وقوى سبحانه أصل الريش وجعله قصبا منسوبا فيما يناسبه من الجلد الصلب في الأجنحة ولأجل كثرة الطيران ، ولأن حركة الطيران قوية فهو محتاج إلى الإتقان لأجل الريش . وجعل ريشه وقاية مما يضره من حر أو برد . ومعونة متخللة الهواء للطيران . وخص الأجنحة بأقوى الريش وأثبته وأتقنه ؛ لكثرة دعاء الحاجة إليه . وجعل في سائر بدنه ريشا غيره كسوة ووقاية وجمالا له . وجعل في ريشه من الحكمة ، أن البلل لا يفسده والأدران لا توسخه . فإن أصابه ماء كان أيسر انتفاض [ ص: 3843 ] يطرد عنه بلله ، فيعود إلى خفته . وجعل له منفذا واحدا للولادة وخروج فضلاته لأجل خفته . وخلق ريش ذنبه معونة له على استقامته في طيرانه ، فلولاه لما مالت به الأجنحة في حال الطيران يمينا وشمالا ، فكان له بمنزل رجل السفينة الذي يعدل بها سيرها . وخلق في طباعه الحذر وقاية لسلامته . ولما كان طعامه يبتلعه بلعا بلا مضغ ، جعل لبعضه منقارا صلبا يقطع به اللحم ويقوم له مقام ما يقطع بالمدية . وصار يزدرد ما يأكله صحيحا . وأعين بفضل حرارة في جوفه تطحن الطعام طحنا يستغني به عن المضغ وثقل الأسنان . واعتبر ذلك بحب العنب وغيره . فإنه يخرج من بطون الحيوان صحيحا ، وينسحق في أجواف الطير . ثم إنه خلقه يبيض ولا يلد ، لئلا يثقل عن الطيران . فإنه لو خلقت فراخه في جوفه حتى يكمل خلقها لثقل بها وتعوق عن النهوض للطيران . أفلا ترى كيف دبر كل شيء من خلقه بما يليق به من الحكمة ؟ ! انتهى ملخصا .
    ثم بين تعالى نعمته على البشر ليستدل به على وحدانيته ، بقوله ، عطفا على ما مر :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [80] والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين .

    والله جعل لكم من بيوتكم سكنا أي : موضعا تسكنون فيه وتأوون إليه لما لا يحصى من وجوه منافعكم : وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا أي : بيوتا أخرى وهي الخيام والفساطيط والقباب المتخذة من الجلود نفسها ، أو من الوبر والصوف [ ص: 3844 ] والشعر أيضا . فإنها من حيث كونها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها أو الجلود مجاز عن المجموع : تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم أي : تجدونها خفيفة المحمل وقت ترحالكم ووقت نزولكم في مراحلكم . لا يثقل عليكم ضربها . أو هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جميعا . قيل : والأول أولى ؛ لأن ظهور المنة في خفتها إنما يتحقق في حال السفر . وأما المستوطن فغير مثقل : ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أي : وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز : أثاثا ومتاعا إلى حين الأثاث ما يتخذ للاستعمال بلبس أو فرش . والمتاع ما يتخذه للتجارة . وقيل هما بمعنى . ومعنى ( إلى حين ) أي : إلى أن تقضوا منه أوطاركم . أو إلى أن يبلى ويفنى . أو إلى أن تموتوا .

    تنبيه :

    استدل بالآية على طهارة جلود المأكولات وأصوافها وأوبارها وأشعارها ، إذا خرجت في الحياة أو بعد التذكية .

    واستدل بعموم الآية من أباحها مطلقا ولو من غير مذكاة . كذا في (" الإكليل ") .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [81] والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون .

    والله جعل لكم مما خلق أي : من الشجر والجبال والأبنية وغيرها : ظلالا أي : أفياء تستظلون بها من حر الشمس : وجعل لكم من الجبال أكنانا أي : بيوتا ومعاقل وحصونا تستترون بها : وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر جمع سربال ، وهو كل [ ص: 3845 ] ما يلبس من القطن والصوف ونحوها . وإنما خص الحر ؛ اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر . أو لأن الوقاية من الحر أهم عند العرب ؛ لشدته بأكثر بلادهم وخصوصا قطان الحجاز وهم الأصل في هذا الخطاب . قيل : يبعده ذكر وقاية البرد سابقا في قوله : لكم فيها دفء وهو وجه الاقتصار على الحر هنا ، لتقدم ذكر خلافه : وسرابيل تقيكم بأسكم كالدروع من الحديد والزرد ونحوها ، التي يتقى بها سلاح العدو في الحرب : كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون أي : إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرة والباطنة والأنفسية والآفاقية ، فتسلموا وجوهكم إليه تعالى ، وتؤمنوا به وحده .

    قال أبو السعود : وإفراد النعمة ، إما لأن المراد بها المصدر ، أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياء شيء قليل . وقرئ ( تسلمون ) بفتح اللام أي : من العذاب أو الجراح .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [82-84] فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون .

    فإن تولوا أي : بعد هذا البيان وهذا الامتنان : فإنما عليك البلاغ المبين

    يعرفون نعمت الله أي : التي عددت ، وأنها بخلقه : ثم ينكرونها أي : بعبادتهم غير المنعم بها ، وقولهم : هي من الله ، ولكنها بشفاعة آلهتنا : وأكثرهم الكافرون

    [ ص: 3846 ] ثم أخبر تعالى عن شأنهم في معادهم بقوله :

    ويوم نبعث من كل أمة شهيدا وهو نبيها يشهد عليها بما أجابته من إيمان وكفر فيما بلغها : ثم لا يؤذن للذين كفروا أي : في الاعتذار ؛ لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه ، كقوله : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ولا هم يستعتبون أي : لا يطلب منهم العتبى . أي : إزالة عتب ربهم وغضبه . ) والعتبى ) بالضم : الرضا وهو الرجوع عن الإساءة إلى ما يرضي العاتب . يقال : استعتبه : أعطاه العتبى بالرجوع إلى مسرته . والعتب : لومك الرجل على إساءة كانت له إليك ، والمرء إنما يطلب العتاب من خصمه ؛ ليزيل ما في نفسه عليه من الموجدة والغضب ويرجع إلى الرضا عنه ، فإذا لم يطلب العتاب منه ، دل ذلك على أنه ثابت على غضبه عليه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [85-86] وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون .

    وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون أي : يؤخرون .

    وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم يعني أوثانهم التي عبدوها : قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك أي : أربابا أو نعبدها : فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون أي : أجابوهم بالتكذيب في تسميتهم شركاء وآلهة ؛ تنزيها لله عن الشرك . أو بالتكذيب في دعواهم أنهم حملوهم على عبادتهم .

    قال أبو مسلم الأصفهاني : مقصود المشركين إحالة هذا الذنب على هذه الأصنام . وظنوا [ ص: 3847 ] أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم . فعند هذا تكذبهم بتلك الأصنام . وهذه الآية كقوله تعالى : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وقال تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [87] وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون .

    وألقوا أي : وألقى الذين ظلموا : إلى الله يومئذ السلم أي : الاستسلام لحكمه بعد إبائهم في الدنيا : وضل عنهم ما كانوا يفترون

    أي من أن لله شركاء ، وأنهم يشفعون لهم عند الله تعالى . فإن قيل : قد جاء إنكارهم كقوله تعالى : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم والجواب ( كما قال القاشاني ) : إن ذلك بحسب المواقف . فالإنكار في الموقف الأول وقت قوة هيئات الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة وغاية البعد عن النور الإلهي ، للاحتجاب بالحجب الغليظة والغواشي المظلمة حتى لا يعلم أنه كان يراه ويطلع عليه . ونهاية تكدر نور الفطرة حتى يمكنه إظهار خلاف مقتضاه ، والاستسلام في الموقف الثاني بعد مرور أحقاب كثيرة من ساعات اليوم ، الذي كان مقداره خمسين ألف سنة ، حين زالت الهيئات ورقت ، وضعفت شراشر النفس في رذائلها ، وقرب من عالم النور ، لرقة الحجب ولمعان نور فطرته الأولى ، فيعترف وينقاد . هذا إذا كان الاستسلام والإنكار لنفوس بعينها . وقد يكون الاستسلام للبعض الذين لم ترسخ هيئات رذائلهم ولم تغلظ حجبهم ولم ينطفئ نور استعدادهم . [ ص: 3848 ] والإنكار لمن رسخت فيه الهيئات وقويت وغلبت عليه الشيطنة واستقرت ، وكثف الحجاب وبطل الاستعداد ، والله أعلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [88-89] الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين .

    الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون أي : يضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا كفرهم بصدهم غيرهم عن الإيمان ، كقوله تعالى : وهم ينهون عنه وينأون عنه وفي الآية دليل على تفاوت الكفار في عذابهم ، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم . كما قال تعالى : لكل ضعف ولكن لا تعلمون

    ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وهو نبيهم : وجئنا بك شهيدا على هؤلاء أي : اذكر ذلك اليوم ، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع . وما يلحق الكافرين فيه من تمني كونهم ترابا ، لهول المطلع .

    وقد ذكر ذلك في آية النساء في قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول [ ص: 3849 ] لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا وقوله تعالى : ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين مستأنف ، أو حال بتقدير ( قد ) .

    قال الرازي : وجه تعلق هذا الكلام بما قبله ، أنه تعالى لما قال : وجئنا بك شهيدا على هؤلاء بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا . فلا حجة لهم ولا معذرة .

    وقال ابن كثير في وجه ذلك : إن المراد ، والله أعلم ، إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك ، سائلك عن ذلك يوم القيامة : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب وقال تعالى : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد أي : إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن أداء ما فرض عليك . هذا أحد الأقوال ، وهو متجه حسن . انتهى .

    و ( التبيان ) من المصادر التي بنيت على هذه الصيغة ؛ لتكثير الفعل والمبالغة فيه . أي : تبيينا لكل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي وكل حلال وحرام ، وما الناس محتاجون إليه في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم : وهدى أي : هداية لمن استسلم وانقاد لسلامة فطرته إلى كماله : ورحمة أي : له بتبليغه إلى ذلك الكمال بالتربية والإمداد ، ونجاته من العذاب ، وبشارة له بالسعادة الأبدية . وقوله تعالى :

    [ ص: 3850 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [90] إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .

    إن الله يأمر أي : فيما نزله تبيانا لكل شيء : بالعدل وهو القسط والتسوية في الحقوق فيما بينكم . وترك الظلم وإيصال كل ذي حق حقه : والإحسان أي : التفضيل بأن يقابل الخير بأكثر منه ، والشر بأن يعفو عنه : وإيتاء ذي القربى أي : إعطاء القرابة ما يحتاجون إليه : وينهى عن الفحشاء أي : عما فحش من الذنوب وأفرط قبحها ، كالزنى : والمنكر أي : كل ما أنكره الشرع : والبغي أي : العدوان على الناس : يعظكم أي : بما يأمركم وينهاكم : لعلكم تذكرون أي : تتعظون بمواعظ الله ، فتعملون بما فيه رضا الله تعالى .

    وروى ابن جرير عن ابن مسعود : إن أجمع آية في القرآن ، لخير وشر ، هذه الآية . وروى الإمام أحمد : أن عثمان بن مظعون مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس بفناء بيته . فكشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له : « ألا تجلس ؟ » فقال : بلى . فجلس . ثم أوحي إليه هذه الآية فقرأها عليه . قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم .

    ولما تليت الآية على أكثم بن صيفي قال لقومه : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى [ ص: 3851 ] عن ملائمها . فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذنابا . وعن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له : يا ابن أخي ! أعد علي ، فأعادها . فقال له الوليد : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر .

    وقد نقل أن بني أمية كانوا يسبون عليا ، كرم الله وجهه ، في خطبهم . فلما آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، أسقط ذلك منها ، وأقام هذه الآية مقامه . وهو من أعظم مآثره .

    قال الناصر : ولعل المعوض بهذه الآية عن تلك الهنات ، لاحظ التطبيق بين ذكر النهي عن البغي فيها ، وبين الحديث الوارد في أن المناصب لعلي باغ . حيث يقول صلى الله عليه وسلم لعمار ( وكان من حزب علي ) : « تقتلك الفئة الباغية » . فقتل مع علي يوم صفين. انتهى .

    ولما فيها أيضا من العدل والإحسان إلى ذوي القربى ، وكونها أجمع آية ؛ لاندراج ما ذكر فيها . والله أعلم .

    ثم بين تعالى أمره بالوفاء بالعهد والميثاق ، والمحافظة على الأيمان المؤكدة بقوله :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [91] وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون .

    وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون

    [ ص: 3852 ] روى ابن جرير عن بريدة قال : نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم . كان من أسلم بايع النبي على الإسلام ، فأمروا بالوفاء بهذه البيعة وأن لا ينقصوها بعد توكيدها بالأيمان . أي : لا يحملنكم قلة المؤمنين وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام . وظاهر أن العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه ، مما يلتزمه المرء باختياره ، كالمبايعة على الإسلام ، وعهد الجهاد ، وما التزمه من نذر وما أكده بحلف . وعلى هذا ، فتخصيص اليمين بالذكر ؛ للتنبيه على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية . و ( التوكيد والتأكيد ) ، لغتان فصيحتان . والأصل الواو ، والهمزة بدل منها . والواو في قوله : وقد جعلتم الله عليكم كفيلا للحال من فاعل : تنقضوا أو من فاعل المصدر وإن كان محذوفا . ومعنى : كفيلا شهيدا رقيبا . و ( الجعل ) مجاز ، فإن من حلف به تعالى وهو مطلع عليه فكأنه جعله شاهدا . قال الشهاب : ولو أبقى ( الكفيل ) على ظاهره ، وجعل تمثيلا لعدم تخلصهم من عقوبته ، وأنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله ، كما يقال : ( من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه ) تنبيها على أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب ؛ لكان معنى بليغا جدا . وقوله تعالى : إن الله يعلم ما تفعلون كالتفسير لما قبله . وفيه ترغيب وترهيب .

    تنبيه :

    في الآية الحث على البر في الأيمان . وجلي أنها فيما فيه طاعة وبر وتقوى . وأما فيما عدا ذلك فالخير في نقضها . وقد دل عليه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال : « إني ، والله ، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها ، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها » . وفي رواية : « وكفرت عن يميني » . فالحديث في معنى ، والآية في معنى آخر . فلا تعارض ، كما وهم . وقوله تعالى :

    [ ص: 3853 ]

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [92] ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون .

    ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تأكيد لوجوب الوفاء وتحريم النقص . أي : لا تكونوا في نقص الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها ، بعد أن أحكمته وأبرمته ، فجعلته أنكاثا ، أي : أنقاضا ، جنونا منها وحمقا .

    ففي التمثيل إشارة إلى أن ناقض يمينه خارج من الرجال الكمل ، داخل في زمرة النساء . بل في أدناهن ، وهي الخرقاء .

    وقوله تعالى : تتخذون أيمانكم دخلا بينكم حال من الضمير في : { ولا تكونوا } أي : لا تكونوا مشابهين لامرأة هذا شأنها ، حال كونكم متخذين أيمانكم مفسدة بينكم : أن تكون أمة هي أربى من أمة أي : سبب أن تكون جماعة ، كقريش ، هي أزيد عددا وأوفر مالا من جماعة كالمؤمنين : إنما يبلوكم الله به أي : يعاملكم معاملة من يختبركم بكونهم أربى ؛ لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم ، وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم ؟ : وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون أي : فيتميز المحق من المبطل ، بما يظهر من درجات الثواب والعقاب . وهو إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام .

    تنبيه :

    قال أبو علي الزجاجي ، من أئمة الشافعية : في هذه الآية أصل لما يقوله أصحابنا ، من إبطال الدور ؛ لأن الله تعالى ذم من أعاد على الشيء بالإفساد بعد إحكامه . نقله في (" الإكليل ") .

    [ ص: 3854 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [93] ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون .

    ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة أي : حنيفة مسلمة: ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون أي : في الدنيا ، سؤال تبكيت ومجازاة ، لا استفسار وتفهم . وهو المنفي في غير هذه الآية . أو في موقف دون موقف كما مر .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [94] ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم .

    ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم تصريح بالنهي عنه ، بعد أن نهى عنه ضمنا ، لأخذه فيما تقدم قيدا للمنهي عنه ، تأكيدا عليهم ومبالغة في قبح المنهي : فتزل قدم بعد ثبوتها أي : فتزل أقدامكم عن محجة الحق ، بعد رسوخها فيه : وتذوقوا السوء أي : ما يسوءكم في الدنيا : بما صددتم أي : بصدودكم عن الوفاء ، أو بصدكم غيركم : عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم أي : في الآخرة .

    لطيفة :

    تنكير (قدم) للإيذان بأن زلل قدم واحدة عظيم ، فكيف بأقدام كثيرة ؟ وأشار في (" البحر ") إلى نكتة أخرى : قال : الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع فيؤتى بما هو له مجموعا . وتارة يلاحظ فيه كل فرد فرد فيفرد ماله كقوله : وأعتدت [ ص: 3855 ] لهن متكأ أي : لكل واحدة منهن متكئا . ولما كان المعنى : لا يفعل هذا كل واحد منكم ؛ أفرد : { قدم } مراعاة لهذا المعنى . ثم قال : وتذوقوا مراعاة للفظ الجمع .

    قال الشهاب : هذا توجيه للإفراد من جهة العربية ، فلا ينافي النكتة الأولى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [95] ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون .

    ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا أي : لا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسوله عرضا من الدنيا يسيرا . وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم ، إن ارتدوا : إنما عند الله هو خير لكم أي : من إظهاركم في الدنيا وإثابتكم في الآخرة : إن كنتم تعلمون أي : من ذوي العلم والتمييز . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [96] ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .

    ما عندكم ينفد وما عند الله باق تعليل للخيرية بطريق الاستئناف . أي : ما عندكم مما تتمتعون به ، يفرغ وينقص ، فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه . وما عنده تعالى من ثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع له . فإنه دائم لا يحول ولا يزول : ولنجزين الذين صبروا أجرهم أي : على أذى المشركين ومشاق الإسلام : بأحسن ما كانوا يعملون أي : بجزاء أحسن من أعمالهم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #430
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ اَلنَّحْلِ
    المجلد العاشر
    صـ 3856 الى صـ 3870
    الحلقة (429)




    القول في تأويل قوله تعالى :

    [97] من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .

    من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون هذا وعد منه تعالى لمن عمل صالحا . وهو العمل التابع لكتاب الله وسنة رسوله ، من ذكر أو أنثى ، وهو ثابت على إيمانه إلى الموت ، بأن يحييه الله تعالى حياة طيبة .

    قال المهايمي : أي : فيتلذذ بعمله في الدنيا فوق تلذذ صاحب المال والجاه ، ولا يبطل تلذذه إعساره ؛ إذ يرضيه الله بقسمته فيقنعه ويقل اهتمامه بحفظ المال وتنميته . والكافر لا يهنأ عيشه بالمال والجاه ؛ إذ يزداد حرصا وخوف فوات . ويجزون بالأحسن في الآخرة . فلا يقال لهم : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا بل يكمل جزاء أعمالهم الأدنى بحيث يلحق بالأعلى . انتهى .

    وعندي أن الحياة الطيبة هي الحياة التي فيه ثلج الصدور بلذة اليقين وحلاوة الإيمان والرغبة في الموعود والرضا بالقضاء . وعتق الروح مما كانوا يستعبدون له . والاستكانة إلى معبود واحد ، والتنور بسر الوجود الذي قام به ، وغير ذلك من مزاياه المقررة في مواضعها . هذا في الدنيا . وأما في الآخرة ، فله الجزاء الأحسن والثواب الأوفى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [98-100] فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون .

    فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان [ ص: 3857 ] على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون

    لما كان القرآن هو الذكر الحكيم والحق المبين ، وكان لكل حق محارب وهو شيطان الجن أو الإنس يثير الشبهات بوساوسه ، ويفسد القلوب بدسائسه ؛ أمر صلى الله عليه وسلم بأن يستعيذ بالله ويلتجئ إليه ، عند تلاوة القرآن ، من وسوسته ؛ لأن قوة الإنسان تضعف عن دفعه بسهولة ، فيحتاج إلى الاستعانة عليه بالله واللياذ بجواره منه . وقد بينت آية : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم أن هذه عادة الشيطان إثر ما يتلوه كل نبي على أمته من الأحكام المتجددة التي يوحى بها لسعادة البشر ، أنه يحول عنها الأنظار ، ويسعى لهدم ما أقيمت لأجله . وإن الله يحكم آياته وينسخ شبه الشيطان ؛ ليحق الحق ويبطل الباطل . فلما كانت هذه عادته ، ولها من الأثر ما لها ، احتيج إلى الاستعاذة به تعالى منها ، عند قراءة الوحي ونشر تعاليمه .

    ثم بين تعالى أن أثر وسوسته إنما يكون فيمن له سلطان عليهم . أي : تسلط وولاية من أوليائه المتبعين خطواته . وأما الذين آمنوا وتوكلوا على ربهم ، فصبروا على المكاره ولم يبالوا بما يلقون في سبيل الجهاد بالحق من العثرات ؛ فليس له عليهم سلطان . فهم يضادون أمانيه ويهدمون كل ما يلقيه ؛ لأن إيمانهم يفيدهم النور الكاشف عن مكره ، والتوكل على الله يفيدهم التقوية بالله ، فيمنع من معاندة الشيطان وقوة تأثيره . و ( الرجيم ) من أوصاف الشيطان الغالبة ، أي : الملعون المرجوم باللعنة أو المطرود أو المرجوم بالكواكب . والضمير في ( به ) لربهم والباء للتعدية ، أو للشيطان ، والباء للسببية ، أي : بسببه وغروره ووسوسته . ورجح باتحاد الضمائر فيه . وأشار بعضهم إلى أن المعنى : أشركوه في عبادة الله تعالى ، وكله مما يحتمله اللفظ الكريم ويصح إرادته .

    [ ص: 3858 ] تنبيه :

    في الآية مشروعية الاستعاذة قبل القراءة ، وهو شامل لحالة الصلاة وغيرها . وقال قوم بوجوبها لظاهر الأمر . وسرها في غيره صلى الله عليه وسلم : التحصن به تعالى أن لا يلبس الشيطان القراءة ، وأن لا يمنع من التدبر والتذكر .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [101-102] وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينـزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نـزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين .

    وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينـزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نـزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين

    التبديل : رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، فتبديل الآية : رفعها بآية أخرى . والأكثرون : على أن المعنى نسخ آية من القرآن لفظا أو حكما بآية أخرى غيرها ؛ لحكمة باهرة أشير إليها بقوله : والله أعلم بما ينـزل من ناسخ قضت الحكمة أن يتبدل المنسوخ الأول به . وذهب قوم إلى أن المعنى تبديل آية من آيات الأنبياء المتقدمين ، كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونية الآفاقية ، بآية أخرى نفسية علمية ، وهي كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل إذا تنبه لها وجرى على نظامه الفطري . وذلك لاستعداد الإنسان وقتئذ ؛ لأن يخاطب عقله ويستصرخ فمه ولبه . فلم يؤت من قبل الخوارق الكونية ويدهش بها كما كان لمن سلف . فبدلت تلك بآية هو كتاب العلم والهدى من نبي أمي لم يقرأ ولم [ ص: 3859 ] يكتب . وكون الكتاب بين الصدق قاطع البرهان ناصع البيان بالنسبة لمن أوتي ورزق الفهم . وهذا التأويل الثاني يرجحه على الأول ؛ أن السورة مكية ، وليس في المكي منسوخ بالمعنى الذي يريدونه . وللبحث تفصيل في موضع آخر . وقد أشرنا إلى ذلك في آيتين من سورة البقرة في قوله تعالى : وإن كنتم في ريب مما نـزلنا إلخ ، وقوله : ما ننسخ من آية والمقصود أنه تعالى ، لما رحم العالمين وجعل القرآن مكان ما تقدم ، نسبوا الموحى إليه به إلى الافتراء ؛ ردا للحق ، وعنادا للهدى ، وتوليا للشيطان ، وتعبدا لوسوسته ، وما ذاك إلا لجهلهم المتناهي ، كما قال : بل أكثرهم لا يعلمون واعتراض قوله : والله أعلم بما ينـزل لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم .

    ثم أمره تعالى بأن يصدع بالحق في شأنه بقوله : قل نـزله أي : القرآن المدلول عليه بالآية : روح القدس يعني جبريل عليه السلام . أضيف إلى القدس وهو الطهر ، كما يقال : ( حاتم الجود ، وزيد الخير ، وخبر السوء ، ورجل صدق ) والمراد : الروح المقدس ، وحاتم الجود ، وزيد الخير ، والخبر السيئ ، والرجل الصادق . وإنما أضافوا الموصوف إلى مصدر الصفة للمبالغة في كثرة ملابسته له واختصاصه به . والمقدس : المطهر من الأدناس البشرية . وإضافة ( الرب ) إلى ضميره صلوات الله عليه في قوله تعالى : من ربك ؛ للدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية . وقوله : بالحق أي : متلبسا بالحق الثابت الموافق للحكمة التي اقتضاها دور عصره . وقوله تعالى : ليثبت الذين آمنوا أي : على الحق ونبذ وساوس الشياطين . وفي قوله تعالى : وهدى وبشرى للمسلمين تعريض بحصول أضداد هذه الصفات لغيرهم .

    [ ص: 3860 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [103] ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين .

    ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين

    يخبر تعالى عن المشركين في قولهم غير ما نقل عنهم قبل من المقالة الشنعاء ، وكذبهم وبهتهم أن الرسول إنما يعلمه هذا الذي يتلوه من القرآن ، بشر . يعنون رجلا أعجميا كان بين أظهرهم يقرأ في الكتب المتقدمة . ربما يتحدث معه النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا . وإنما لم يصرح ؛ باسمه للإيذان بأن مدار خطئهم ليس بنسبته صلوات الله عليه إلى التعلم من شخص معين بل من البشر ، كائنا من كان . ثم أشار تعالى وضوح بطلان بهتهم ، بأن لسان الرجل الذي ينسبون إليه التعليم أعجمي غير مبين . وهذا القرآن الكريم لسان عربي مبين ، ذو بيان وفصاحة . ومن أين للأعجمي أن يذوق بلاغة هذا التنزيل ، وما حواه من العلوم ، فضلا أن ينطق به ، فضلا أن يكون معلما له ! . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [104-105] إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون .

    إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم تهديد لهم على كفرهم بالقرآن ، بعد ما أماط شبهتهم ورد طعنهم فيه .

    وقوله تعالى : إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله رد لقولهم : إنما أنت مفتر وقلب للأمر عليهم ، ببيان [ ص: 3861 ] أنهم هم المفترون لا هو . يعني : إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن ، لأنه لا يخاف عقابا يردعه عنه . وقوله تعالى : وأولئك هم الكاذبون إشارة إلى الذين لا يؤمنون ، ويدخل فيهم قريش دخولا أوليا . أي : الكاذبون في الحقيقة ونفس الأمر . أو الكاملون فيه ؛ لأنه لا كذب أعظم من تكذيب آياته تعالى ، والطعن فيها بأمثال هاتيك الأباطيل . ولا يخفى ما في الحصر ، بعد القصر ، من العناية بمقامه صلوات الله عليه . وقد كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا ، معروفا بالصدق في قومه ، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يدعى بينهم إلا بـ ( الأمين محمد ) . ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها ، من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان فيما قال له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا . فقال هرقل : ما كان ليدع الكذب على الناس ، ويذهب فيكذب على الله تعالى .

    تنبيه :

    في هذه الآية دلالة قوية على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش . والدليل عليه : أن كلمة : { إنما } للحصر . والمعنى : أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله ، وإلا من كان كافرا . وهذا تهديد في النهاية .

    وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : هل يكذب المؤمن ؟ قال : لا . ثم قرأ هذه الآية . أفاده الرازي . وقوله تعالى :

    [ ص: 3862 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [106-109] من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون .

    من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون

    لما بين تعالى فضل من آمن وصبر على أذى المشركين ، في المحاماة عن الدين ، تأثره ببيان ما للردة وإيثار الضلال على الهدى ، من الوعد الشديد ، بهذه الآيات . واستثنى المكره المطمئن القلب بالإيمان بالله ورسوله ؛ فإنه إذا وافق المشركين بلفظ ، لإيلام قوي وإيذاء شديد وتهديد بقتل ، فلا جناح عليه . إنما الجناح على من شرح بالكفر صدرا ، أي : طاب به نفسا واعتقده ، استحبابا للحياة الدنيا الفانية ، أي : إيثارا لها على الآخرة الباقية ، فذاك الذي له [ ص: 3863 ] من الوعيد ما بينته الآيات الكريمة ، من غضب الله عليهم أولا ، وعذابه العظيم لهم ، وهو عذاب النار ثانيا . وعدم هدايتهم باختيارهم الكفر ثالثا . ورابعا بالطبع على قلوبهم بقساوتها وكدورتها . فلم ينفتح لهم طريق الفهم ، وعلى سمعهم وأبصارهم بسد طريق المعنى المراد من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب . فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض العلم وإشراق النور . ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع . وخامسا بكونهم هم الغافلين بالحقيقة ، لعدم انتباههم بوجه من الوجوه . وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب . وجلي ، أن كل نقمة من هذه الخمس ، على انفرادها ، من أعظم الحواجز عن الفوز بالخيرات والسعادات . فكيف بها كلها ! .

    قال الرازي : ومعلوم أنه إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة . فإذا حصلت هذه الموانع عظم خسرانه . فلهذا قال : لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون أي : الذين ضاعت دنياهم التي استنفدوا في تحصيلها وسعهم ، وأتلفوا في طلبها أعمارهم ، وليسوا من الآخرة في شيء إلا في وبال التحسرات .

    تنبيهات :

    الأول : ( من ) في قوله تعالى : من كفر موصول مبتدأ خبره : فعليهم غضب وقوله : إلا من أكره استثناء مقدم من حكم الغضب . وقوله : ولكن من شرح بالكفر صدرا رجوع إلى صدر الآية وحكمها ، بأسلوب مبين لمن كفر ، موضح له . بمثابة عطف البيان أو عطف التفسير . وهذا الوجه من الإعراب لم أره لأحد ، ولا يظهر غيره لمن ذاق حلاوة أسلوب القرآن .

    الثاني : استدل بالآية على أن المكره غير مكلف . وأن الإكراه يبيح التلفظ بكلمة [ ص: 3864 ] الكفر ، بشرط طمأنينة القلب على الإيمان . واستدل العلماء بالآية على نفي طلاق المكره وعتاقه ، وكل قول أو فعل صدر منه ، إلا ما استثنى . أفاده السيوطي في " الإكليل " .

    الثالث : روي عن ابن عباس : أنها نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم فوافقهم مكرها . ثم جاء معتذرا . قال ابن جرير : أخذ المشركون عمارا فعذبوه ، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا . فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : « كيف تجد قلبك ؟ » قال : مطمئنا بالإيمان . قال صلى الله عليه وسلم : « إن عادوا فعد » .

    وقال ابن إسحاق : إن المشركين عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه . فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين . فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش . وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر . يفتنونهم عن دينهم . فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه . ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم . وكان بلال رضي الله عنه عبدا لبعض بني جمح ، يخرجه أمية بن خلف ، إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره . ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى . فيقول ( وهو في ذلك البلاء ) : أحد ، أحد ، حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه .

    وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه ، رضي الله عنهم ، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة ، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : « صبرا آل ياسر ، موعدكم الجنة » فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام .

    [ ص: 3865 ] قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟ قال : نعم . والله ! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ، حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به ، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة . حتى يقولوا له : اللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم . حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له : هذا الجعل إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم ؛ افتداء منهم ، مما يبلغون من جهده .

    وقد ذكر ابن هشام في (" السيرة ") في بحث (" عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة ") غرائب في هذا الباب ، فانظره .

    قال ابن كثير : ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي ؛ إبقاء لمهجته . ويجوز له أن يأبى ، كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ، وهم يفعلون به الأفاعيل ، وهو يقول : أحد ، أحد . ويقول : والله ! لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقلتها . رضي الله عنه وأرضاه . وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري ، لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول : نعم . فيقول : أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول : لا أسمع . فلم يزل يقطعه إربا إربا ، وهو ثابت على ذلك .

    وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي ، أحد الصحابة ، أنه أسرته الروم ، فجاءوا به إلى ملكهم . فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي . فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب ، على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ، ما فعلت . فقال : إذا أقتلك . فقال : أنت وذاك . فأمر به فصلب . وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه ، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى . ثم أمر به فأنزل .

    [ ص: 3866 ] ثم أمر بقدر فأحميت . وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر ، فإذا هو عظام تلوح ، وعرض عليه فأبى . فأمر به أن يلقى فيها . فرفع بالبكرة ليلقى فيها فبكى . فطمع فيه ودعاه ، فقال : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة ، تلقى في هذا القدر الساعة . فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي ، نفس تعذب هذا العذاب في الله .

    وفي بعض الروايات : أنه سجنه ومنعه الطعام والشراب أياما . ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه . ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل ؟ فقال : أما هو فقد حل لي . ولكن لم أكن لأشمتك في . فقال له الملك : فقبل رأسي وأنا أطلقك وأطلق جميع أسارى المسلمين . قال : فقبل رأسه . وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده . فلما رجع قال عمر بن الخطاب : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [110] ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم .

    ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم بيان للذين كانوا مستضعفين بمكة ، مهانين في قومهم ، وافقوهم على الفتنة ظاهرا ، ثم أمكنهم الخلاص بالهجرة ، فتركوا بلادهم وأهاليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وجاهدوا الكافرين وصبروا على مشاق الجهاد . أخبر تعالى أن هؤلاء من بعد الفتنة المذكورة ، أي : إجابتهم إليها : لغفور رحيم فيغفر لهم ما فرط منهم ويرحمهم بالجزاء الحسن .

    والجار في قوله : للذين متعلق بالخبر على نية التقديم والتأخير ، والخبر لـ ( إن ) الأولى . والثانية مكررة للتأكيد . أو للثانية وخبر الأولى مقدر ، وشمل قوله : هاجروا [ ص: 3867 ] من هاجر إلى الحبشة من مكة فرارا بدينه من الفتنة ، ومن هاجر بعد إلى المدينة كذلك . كما شمل قوله : جاهدوا في بث الحق ونشر كلمة الإيمان والدفاع عنه . أو قاتلوا في سبيل الله ، ولأجل هذا الاحتمال في الفعلين قيل : الآية مدنية ، وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [111] يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون .

    يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها منصوب بـ ( رحيم ) أو بـ ( اذكر ) واليوم يوم القيامة . ومعنى : تجادل أي : تحاج وتسعى في خلاصها . لا يهمها إلا ذاتها وشأنها . ولا يغني عنها مال ولا أب ولا ابن ولا شيء ما : وتوفى كل نفس ما عملت أي : من خير وشر : وهم لا يظلمون في ذلك . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [112-113] وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون .

    وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون

    اعلم أنه لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة ، أنذرهم بنقمته في الدنيا أيضا بالجوع والخوف . ومعنى [ ص: 3868 ] قوله تعالى : وضرب الله مثلا قرية أي : جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم . فأبطرتهم النعمة ، فكفروا وتولوا ، فأنزل الله بهم نقمته . فيدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا ، أو لقوم معينين ، وهم أهل مكة . والقرية إما مقدرة بهذه الصفة غير معينة ؛ إذ لا يلزم وجود المشبه به . أو معينة من قرى الأولين . وقد ضمن ( ضرب ) معنى ( جعل ) و ( مثلا ) مفعول ثان ، و ( قرية ) مفعول أول .

    قال أبو السعود : وتأخير ( قرية ) مع كونها مفعولا أول ؛ لئلا يحول المفعول الثاني بينها وبين صفتها وما يترتب عليها ؛ إذ التأخير عن الكل مخل بتجاذب أطراف النظم وتجاوبها . ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس ترقبا لوروده ، وتشوقا إليه . لا سيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه . فإن المثل مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوال ما هو مثل . فيتمكن المؤخر عند وروده لديها فضل تمكن . والمراد بالقرية : أهلها مجازا ، أو بتقدير مضاف . ومعنى كونها : آمنة مطمئنة أنه لا يزعجها خوف . و ( الرغد ) الواسع . و ( الأنعم ) جمع نعمة .

    وفي قوله تعالى : فأذاقها الله لباس الجوع والخوف شبه أثر الجوع والخوف وضررهما المحيط بهم ، باللباس الغاشي للابس . فاستعير له اسمه ، وأوقع عليه الإذاقة المستعارة ؛ لمطلق الإيصال المنبئة عن شدة الإصابة ، بما فيها من اجتماع إدراكي اللامسة والذائقة ، على نهج التجريد . فإنها لشيوع استعمالها في ذلك ، وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة .

    قال ابن كثير : هذا مثل أريد به أهل مكة . فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة ، يتخطف الناس من حولها ، ومن دخلها كان آمنا لا يخاف ، كما قال تعالى : وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل [ ص: 3869 ] شيء رزقا من لدنا وهكذا قال ها هنا ، و : يأتيها رزقها رغدا أي : هنيئا سهلا : من كل مكان فكفرت بأنعم الله أي : جحدت آلاء الله عليها ، وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، كما قال تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما ، فقال : فأذاقها الله لباس الجوع والخوف أي : ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها من كل مكان ، وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه ، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم ، فأكلوا العلهز : ) هو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحر ) وقوله : والخوف وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة ، من سطوته وسراياه وجيوشه ، وجعل كل ما لهم في دمار وسفال . حتى فتحها الله عليهم . وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم . وامتن به عليهم في قوله : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية . وقوله تعالى : فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنـزل الله إليكم ذكرا رسولا وقوله : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة إلى قوله : ولا تكفرون وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن ، وجاعوا بعد الرغد ؛ بدل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا ، ورزقهم بعد العيلة ، وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم . انتهى .
    [ ص: 3870 ] ثم بين تعالى ضلال المشركين في تحريم ما أحل الله من البحائر والسوائب وغيرها ، مفصلا ما حرمه مما ليس فيه كانوا يحرمونه بأهوائهم . وهو مأذون بأكله كما قال :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [114] فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون .

    فكلوا مما رزقكم الله أي : من الحرث والأنعام : حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون أي : تريدون عبادته فاستحلوها ، فإن عبادته في تحليلها . واشكروه فإنه المنعم المتفضل بذلك وحده .

    ثم ذكر ما حرمه عليهم ، مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [115] إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم .

    إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل لغير الله به أي : ذبح على اسم غيره تعالى : فمن اضطر أي : أجهد إلى ما حرم الله : غير باغ ولا عاد أي : متعد قدر الضرورة وسد الرمق : فإن الله غفور رحيم أي : فلا يؤاخذه بذلك .

    وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية . فأغنى عن إعادته .

    ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم ، في البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغيرها ، مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم ، فقال :



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #431
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    المجلد العاشر
    صـ 3871 الى صـ 3885
    الحلقة (430)


    [ ص: 3871 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [116-117] ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم .

    ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم

    أي : لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله . فـ ( الكذب ) مفعول ( تقولوا ) وقوله : هذا حلال وهذا حرام بدل من ( الكذب ) واللام صلة للقول ، كما يقال : لا تقل للنبيذ إنه حلال ، أي : في شأنه وحقه . فهي للاختصاص . وفيه إشارة إلى أنه مجرد قول باللسان ، لا حكم مصمم عليه . أو : هذا حلال مفعول ( تقولوا ) و ( الكذب ) مفعول ( تصف ) واللام في : لما تصف تعليلية ، و ( ما ) مصدرية . ومعنى تصف : تذكر . وقوله : لتفتروا بدل من التعليل الأول . أي : لا تقولوا : هذا حلال وهذا حرام لأجل وصف ألسنتكم الكذب ، أي : لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة . وليس بتكرار مع قوله : لتفتروا على الله الكذب لأن هذا لإثبات الكذب مطلقا ، وذلك لإثبات الكذب على الله . فهو إشارة إلى أنهم ، لتمرنهم على الكذب ، اجترؤوا على الكذب على الله ، فنسبوا ما حللوه وحرموه إليه . وعلى هذا الوجه - كون الكذب مفعول ( تصف ) - ففي وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب ؛ لجعله عين الكذب . ترقى عنها إلى أن خيل أن ماهية الكذب كانت مجهولة ، [ ص: 3872 ] حتى كشف كلامهم عن ماهية الكذب وأوضحها ، فـ ( تصف ) بمعنى توضح . فهو بمنزلة الحد والتعريف الكاشف عن ماهية الكذب . فالتعريف في الكذب للجنس . كأن ألسنتهم إذا نطقت كشفت عن حقيقته ، وعليه قول المعري :


    سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا


    ونحوه : ( نهاره صائم ) إذا وصف اليوم بما يوصف به الشخص ؛ لكثرة وقوع ذلك الفعل فيه . و ( وجهها يصف الجمال ) لأن وجهها لما كان موصوفا بالجمال الفائق ، صار كأنه حقيقة الجمال ومنبعه ، الذي يعرف منه . حتى كأنه يصفه ويعرفه ، كقوله :


    أضحت يمينك من جود مصورة لا بل يمينك منها صور الجود


    فهو من الإسناد المجازي . أو نقول : إن وجهها يصف الجمال بلسان الحال . فهو استعارة مكنية . كأنه يقول : ما بي هو الجمال بعينه ، ومثله ورد في كلام العرب والعجم . هذا زبدة ما في (" شروح الكشاف ") .

    وما في الآية أبلغ من المثال المذكور ، لما سمعت . أفاده في " العناية " . واللام في : لتفتروا لام الصيرورة والعاقبة المستعارة من التعليلية ؛ إذ ما صدر منهم ليس لأجل هذا ، بل لأغراض آخر يترتب عليها ما ذكر . وجوز كونها تعليلية ، وقصدهم لذلك غير بعيد . وفي قوله تعالى : إن الذين يفترون الآية . وعيد شديد بعدم ظفرهم وفوزهم بمطلوب يعتد له لا في الدنيا ولا في الآخرة . أما في الدنيا ، فلأن ما يفترون لأجله متاع قليل ينقطع عن قريب . وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم ، كما قال : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ

    تنبيه :

    قال الحافظ ابن كثير : يدخل في الآية كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي [ ص: 3873 ] أو حلل شيئا مما حرم الله . أو حرم شيئا مما أباح الله ، بمجرد رأيه وتشهيه .

    أخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال : قرأت هذه الآية في سورة النحل ، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا .

    قال في (" فتح البيان ") : صدق رحمه الله . فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله ، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما يقع كثيرا من المؤثرين للرأي المقدمين له على الرواية ، أو الجاهلين بعلم الكتاب والسنة .

    وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال : عسى رجل يقول : إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا . فيقول الله عز وجل : كذبت ، أو يقول : إن الله حرم كذا وأحل كذا : فيقول الله له : كذبت .

    قال ابن العربي : كره مالك وقوم أن يقول المفتي : هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية ، وإنما يقال ذلك فيما نص الله عليه ، ويقال في المسائل الاجتهادية : إني أكره كذا وكذا ، ونحو ذلك .

    ولما ذكر تعالى ما حرمه علينا من الميتة والدم إلخ ، بين ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم مما ليس فيه أيضا شيء مما حرمه المشركون ؛ تحقيقا لافترائهم بأن ما حظروه لا سند له في شريعة سابقة ولا لاحقة ، فقال سبحانه :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [118-119] وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم .

    وعلى الذين هادوا يعني اليهود : حرمنا ما قصصنا عليك من قبل أي : [ ص: 3874 ] في سورة الأنعام في قوله تعالى : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما الآية وما ظلمناهم أي : فيما حرمنا عليهم : ولكن كانوا أنفسهم يظلمون أي : فاستحقوا ذلك . كقوله : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وقد سلف لنا ما ذكروه في تفسيرها مما يجيء هنا ، فتذكر . قالوا : في الآية تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم . فإن هذه الأمة لم يحرم عليها إلا ما فيه مضرة لها . وغيرهم قد يحرم عليهم ما لا ضرر فيه ، عقوبة لهم بالمنع ، كاليهود .

    ثم بين تعالى عظيم فضله في قبول توبة من تاب من العصاة بقوله :

    ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا أي : العمل فيما بينهم وبين ربهم : إن ربك من بعدها أي : التوبة : لغفور رحيم

    ثم نوه تعالى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، دعاء لهم إلى سلوك طريقته في التوحيد ، ورفض الوثنية ، وتبرئة لمقامه ، مما كانوا يفترون عليه ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [120-121] إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم .

    إن إبراهيم كان أمة أي : إماما يقتدى به ، كقوله تعالى : إني جاعلك للناس إماما أو كان وحده أمة من الأمم ؛ لاستجماعه كمالات لا توجد في غيره : قانتا لله أي : خاشعا مطيعا له ، قائما بما أمره : حنيفا أي : مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق : ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه أي : قائما بشكر نعم الله عليه ، مستعملا لها على [ ص: 3875 ] الوجه الذي ينبغي ، كقوله تعالى : وإبراهيم الذي وفى أي : قام بجميع ما أمره الله تعالى به : اجتباه أي : اختاره واصطفاه للنبوة : وهداه إلى صراط مستقيم وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، على شرع مرضي .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [122-123] وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين .

    وآتيناه في الدنيا حسنة أي : من الذكر الجميل ، كما قال : وجعلنا لهم لسان صدق عليا ومن الصلاة والسلام عليه ، كما قال : وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم ومن تمتيعه بالحظوظ ليتقوى على القيام بحقوق العبودية : وإنه في الآخرة أي : في عالم الأرواح : لمن الصالحين أي : المتمكنين في مقام الاستقامة ، بإيفاء كل ذي حق حقه ، الذين لهم الدرجات العليا في الجنة .

    ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين أي : بعد هذه الكرامات والحسنات التي أعطيناه إياها في الدارين ، شرفناه وكرمناه بأمرنا ، باتباعك إياه في التوحيد وأصول الدين التي لا تتغير في الشرائع . كأمر المبدأ والمعاد والحشر والجزاء وأمثالها ، لا في فروع الشريعة وأوضاعها وأحكامها ، فإنها تتغير بحسب المصالح واختلاف الأزمنة والطبائع ، وما عليه أحوال الناس من العادات والخلائق . قاله القاشاني .

    وفي (" الإكليل ") : استدل أصحابنا بهذه الآية على وجوب الختان ، وما كان من شرعه ، ولم يرد به ناسخ .

    [ ص: 3876 ] لطيفة :

    قال الزمخشري : في : { ثم } هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجلال محله ، والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم من الكرامة ، وأجل ما أولي من النعمة ؛ اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته ، من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة ، من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها .

    قال الناصر : وإنما تفيد ذلك : { ثم } لأنها في أصل وضعها لتراخي المعطوف عليه في الزمان ، ثم استعملت في تراخيه عنه في علو المرتبة ، بحيث يكون المعطوف على رتبته أشمخ محلا مما عطف عليه . فكأنه بعد أن عدد مناقب الخليل عليه السلام ، قال تعالى وها هنا ما هو أعلى من ذلك كله قدرا ، وأرفع رتبة ، وأبعد رفعة ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم الأمي ، الذي هو سيد البشر ، متبع لملة إبراهيم ، مأمور باتباعه بالوحي ، متلوا أمره بذلك في القرآن العظيم . ففي ذلك تعظيم لهما جميعا . لكن نصيب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التعظيم أوفر وأكبر ، على ما مهدناه . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [124] إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون .

    إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه يعني اليهود ، فرض عليهم تقديسه وإراحة أنفسهم ودوابهم فيه من الأعمال . فاعتدوا فيه واحتالوا لحله .

    قال القاشاني : أي : ما فرض عليك ، إنما فرض عليهم . فلا يلزمك اتباع موسى في ذلك ، بل اتباع إبراهيم ، وقوله تعالى : وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أي : بالمجازاة على اختلافهم ، يعني إفسادهم وزيغهم عن طريق الحق .
    ثم بين تعالى أدب الدعوة إلى دينه الحق ، بقوله :

    [ ص: 3877 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [125] ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين .

    ادع إلى سبيل ربك بالحكمة أي : بالمقالة المحكمة الصحيحة . وهو الدليل الموضح للحق ، المزيح للشبهة : والموعظة الحسنة أي : العبر اللطيفة والوقائع المخيفة ، ليحذروا بأسه تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن أي : جادل معانديهم بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة ، من الرفق واللين ، وحسن الخطاب ، من غير عنف ، فإن ذلك أبلغ في تسكين لهبهم . وقوله تعالى : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين أي : عليك البلاغ والدعوة بالصفة المبينة ، فلا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات ، فإنه ليس عليك هداهم ؛ لأنه هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدي إليه ، فيجازي كلا منهما بما يستحقه . أو المعنى : اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة . فإن الله تعالى هو أعلم بحال من لا يرعوي عن الضلال بموجب استعداده المكتسب . وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء لما فيه من خير جبلي . فما شرعه لك في الدعوة ، هو الذي تقتضيه الحكمة . فإنه كاف في هداية المهتدين وإزالة عذر الضالين . أفاده أبو السعود .

    تنبيه :

    دل قوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن على الحث على الإنصاف في المناظرة ، واتباع الحق ، والرفق والمداراة ، على وجه يظهر منه أن القصد إثبات الحق وإزهاق الباطل ، وأن لا غرض سواه .

    وقوله تعالى :

    [ ص: 3878 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [126] وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين .

    وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين أي : الزموا سيرة العدالة ، لا تجاوزوها . فإنها أقل درجات كمالكم . فإن كان لكم قدم في الفتوة ، وعرق راسخ في الفضل والكرم والمروءة ؛ فاتركوا الانتصار والانتقام ممن جنى عليكم ، وعارضوه بالعفو مع القدرة ، واصبروا على الجناية ، فإنه : لهو خير للصابرين ألا تراه كيف أكده بالقسم واللام في جوابه ، وترك المضمر إلى المظهر حيث ما قال : ( لهو خير لكم ) بل قال : لهو خير للصابرين للتسجيل عليهم بالمدح والتعظيم بصفة الصبر . فإن الصابر ترقى عن مقام النفس وقابل فعل نفس صاحبه بصفة القلب . فلم يتكدر بظهور صفة النفس . وعارض ظلمة نفس صاحبه بنور قلبه . فكثيرا ما يندم ويتجاوز عن مقام النفس . وتنكسر سورة غضبه فيصلح . وإن لم يكن لكم هذا المقام الشريف ، فلا تعاقبوا المسيء بسورة الغضب بأكثر مما جنى عليكم فتظلموا ، أو تتورطوا بأقبح الرذائل وأفحشها ، فيفسد حالكم ويزيد وبالكم على وبال الجاني . أفاده القاشاني .

    تنبيهات :

    الأول : في (" الإكليل ") : قال ابن العربي : في الآية جواز المماثلة في القصاص خلافا لمن قال : لا قود إلا بالسيف . ويستدل بها لمسألة الظفر ، كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين والنخعي ؛ أنهما استدلا بها عليها . ولفظ النخعي : سئل عن الرجل يخون الرجل ثم يقع له في يده الدراهم ؟ قال : إن شاء ذهب من دراهمه بمثل ما خانه . ثم قرأ هذه الآية . ولفظ ابن سيرين : إن أخذ منكم رجل شيئا ، فخذوا مثله .

    [ ص: 3879 ] قال ابن كثير : وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم ، واختاره ابن جرير . فعمومها يشمل العدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق .

    الثاني : قال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة النحل كلها بمكة . وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد ، حين قتل حمزة رضي الله عنه ومثل به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلا منهم » . فلما سمع المسلمون ذلك قالوا : والله ! لئن أظهرنا الله عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط . فأنزل الله الآية هذه ، إلى آخر السورة .

    قال الحافظ ابن كثير : هذا مرسل وفيه مبهم لم يسم . ورواه الحافظ البزار من وجه آخر موصولا عن أبي هريرة رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، حين استشهد ، فنظر إلى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه ، وقد مثل به . فقال : « رحمة الله عليك . إن كنت لما علمت ، لوصولا للرحم ، فعولا للخيرات . والله لولا حزن من بعدك عليك ، لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع . ( أو كلمة نحوها ) . أما والله ! على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك » . فنزلت هذه الآية . فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني عن يمينه ، وأمسك عن ذلك .

    قال ابن كثير : وهذا إسناد فيه ضعف ؛ لأن صالحا ( أحد رواته ) هو ابن بشير المري ، ضعيف عند الأئمة . وقال البخاري : هو منكر الحديث . وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه عن أبي بن كعب ، قال : لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا ومن المهاجرين ستة ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنمثلن بهم . فلما كان يوم الفتح قال رجل : لا تعرف قريش بعد اليوم . فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمن الأسود والأبيض إلا فلانا وفلانا - ناسا سماهم - فنزلت الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نصبر ولا نعاقب » .

    [ ص: 3880 ] أقول : بمعرفة ما قدمنا من معنى سبب النزول - في مقدمة التفسير - يعلم أن لا حاجة إلى الذهاب إلى أنها مدنية ألحقت بالسورة ؛ ولا إلى ما روي من هذه الآثار ؛ إذ به يتضح عدم التنافي ، والتقاء الآثار مع الآية فتذكره .

    الثالث : قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن ، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل ، كما في قوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها ثم قال : فمن عفا وأصلح فأجره على الله الآية . وقال : والجروح قصاص ثم قال : فمن تصدق به فهو كفارة له انتهى .

    ثم أكد تعالى الأمر بالصبر ، ليقوي الثبات والاحتمال ، لكل ما يلاقيه في سبيل الحق ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [127-128] واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .

    واصبر وما صبرك إلا بالله أي : بمعونته وتوفيقه : ولا تحزن عليهم أي : على الكافرين ، أي : على كفرهم وعدم هدايتهم : ولا تك في ضيق مما يمكرون أي : في ضيق صدر مما يمكرون من فنون المكايد

    إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون تعليل لما قبله . أي : فإنه تعالى كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك بهم ؛ لأنه تعالى مع المتقين والمحسنين بالمعونة والنصر والتأييد ، فيحفظهم ويكلؤهم ويظهرهم على أعدائهم . قال ابن كثير : [ ص: 3881 ] هذه معية خاصة كقوله تعالى : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا وقوله لموسى وهارون : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى وأما المعية العامة فالسمع والبصر والعلم كقوله تعالى : وهو معكم أين ما كنتم وقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا

    قال أبو السعود : تكرير الموصول للإيذان بكفاية كل من الصلتين في ولايته سبحانه ، من غير أن تكون إحداهما تتمة للأخرى . وإيراد الأولى فعلية للدلالة على الحدوث . كما أن إيراد الثانية اسمية لإفادة كون مضمونها شيمة راسخة فيهم . وتقديم التقوى على الإحسان لما أن التخلية متقدمة على التحلية . والمراد بالموصولين إما جنس المتقين والمحسنين ، وهو صلى الله عليه وسلم داخل في زمرتهم دخولا أوليا . وإما هو صلى الله عليه وسلم ومن شايعه . عبر عنهم بذلك ، مدحا لهم وثناء عليهم بالنعتين الجميلين . وفيه رمز إلى أن صنيعه صلى الله عليه وسلم مستتبع لاقتداء الأمة به ، كقول من قال لابن عباس رضي الله عنهما ، عند التعزية بأبيه العباس :


    اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الرأس


    وبعد هذا البيت :


    خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس


    قال ابن عباس : ما عزاني أحد من تعزيته .

    وعن هرم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضار : أوص . قال : إنما الوصية من المال ، فلا مال لي . وأوصيكم بخواتيم سورة النحل . . .
    [ ص: 3882 ] سورة الإسراء

    وتسمى سورة بني إسرائيل وسورة سبحان، ولم يحك خلاف في كونها مكية.

    نعم استثنى بعضهم منها: ويسألونك عن الروح وآية وإن كادوا ليفتنونك إلى قوله تعالى إن الباطل كان زهوقا وآية قل لئن اجتمعت الإنس والجن الآية ، وقوله وما جعلنا الرؤيا الآية ، وقوله إن الذين أوتوا العلم من قبله لما ذكروه في أسباب نزولها. ويأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى، وآياتها مائة وإحدى عشرة.

    [ ص: 3883 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [1] سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير .

    سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير

    يمجد تعالى نفسه بقوله : سبحان وينزه ذاته العلية عما لا يليق بجلاله ، ويعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه فلا إله غيره . وقوله تعالى : الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام أي : سيره منه ليلا . و ( أسرى ) بمعنى ( سرى ) يقال : أسراه وأسرى به وسرى به . فهمزة ( أسرى ) ليست للتعدية ، ولذا عدي بالباء . وفرق بعضهم بين أسرى وسرى بالمبالغة في ( أسرى ) لإفادة السرعة في السير ، ولذا أوثر على ( سرى ) .

    والإسراء سير الليل كله ، كأسرى ، فقوله تعالى : ليلا للتأكيد أو للتجريد عن بعض القيود . مثل : أسعفت مرامه . مع أن الإسعاف قضاء الحاجة . أو للتنبيه على أنه المقصود بالذكر . وقد استظهره الناصر في " الانتصاف " قال : ونظيره في إفراد أحد ما دل عليه اللفظ المتقدم مضمونا لغيره ، قوله تعالى : لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية ، وكذلك المفرد . فأريد التنبيه على أن أحد المعنيين ، وهو التثنية ، مراد مقصود ، وكذلك أريد الإيقاظ ؛ لأن الوحدانية هي المقصودة في قوله : إنما هو إله واحد ولو اقتصر على قوله : { إنما هو إله } لأوهم أن المهم إثبات الإلهية له . والغرض من الكلام ليس إلا إثبات الوحدانية .

    [ ص: 3884 ] وقيل : سر قوله : { ليلا } إفادة تقليل الوقت الذي كان الإسراء والرجوع فيه . أي : أنه كان في بعض الليل ، أخذا من تنكيره . فقد نقل عن سيبويه أن الليل والنهار إذا عرفا كانا معيارا للتعميم ، فلا تقول : أرقت الليل ، وأنت تريد ساعة منه ، إلا أن تقصد المبالغة . بخلاف المنكر فإنه لا يفيد ذلك . فلما عدل عن تعريفه هنا ، علم أنه لم يقصد استغراق السرى ، وهذا هو المراد من البعضية . وجوز بعضهم أن يكون ( أسرى ) من ( السراة ) وهي الأرض الواسعة . وأصله من الواو ، أسرى مثل أجبل وأتهم ، أي : ذهب به في سراة من الأرض ، وهو غريب . وفي تخصيص الليل إعلام بفضله ؛ لأنه وقت السر والنجوى والتجلي الأسمى ، ولذلك كان أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل . والمراد ( بعبده ) خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم . وفي ذكره بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف والتنويه والتنبيه على اختصاصه به عز وجل وانقياده لأوامره - ما لا يخفى .

    والعبد لغة : الإنسان مطلقا والمملوك والعبودية الذل والخضوع والرق والطاعة ، كالعبادة والعبودة .

    قال ابن القيم في (" طريق الهجرتين ") : أكمل الخلق أكملهم عبودية . وأعظمهم شهودا . لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه ، وعدم استغنائه عنه طرفة عين . ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم : « أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك » .

    ثم قال : ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة ، وأعظمهم عنده جاها ، وأرفعهم عنده منزلة ؛ لتكميله مقام العبودية والفقر . وكان يقول : « أيها الناس ! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي ، إنما أنا عبد » . وكان يقول : « لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله » . وذكره سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته : مقام [ ص: 3885 ] الإسراء ، ومقام الدعوة ، ومقام التحدي . فقال : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وقال : وأنه لما قام عبد الله يدعوه وقال : وإن كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا وفي حديث الشفاعة : أن المسيح يقول لهم : اذهبوا إلى محمد ، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . فنال ذلك بكمال عبوديته لله ، وبكمال مغفرة الله له . انتهى .

    وقوله تعالى : من المسجد الحرام يعني مسجد مكة المكرمة . سمي حراما ، كبلده ، لكونه لا يحل انتهاكه بقتال فيه ، ولا بصيد صيده ، ولا بقطع شجره ولا كلئه . وقوله سبحانه : إلى المسجد الأقصى هو مسجد بيت المقدس ، وكان يعرف بهيكل سليمان ؛ لأنه الذي بناه وشيده و : الأقصى بمعنى الأبعد . سمي بذلك لبعده عن مكة ، وقوله تعالى : الذي باركنا حوله أي : جوانبه ببركات الدين والدنيا ؛ لأن تلك الأرض المقدسة مقر الأنبياء ومهبط وحيهم ومنمى الزروع والثمار . فاكتنفته البركة الإلهية من نواحيه كلها . فبركته إذن مضاعفة ؛ لكونه في أرض مباركة ، ولكونه من أعظم مساجد الله تعالى . والمساجد بيوت الله . ولكونه متعبد الأنبياء ومقامهم ومهبط وحيه عليهم ، فبورك فيه بركتهم ويمنهم أيضا .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #432
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    المجلد العاشر
    صـ 3886 الى صـ 3900
    الحلقة (431)


    وقيل في خصائص ( الأقصى ) : إنه متعبد الأنبياء السابقين ، ومسرى خاتم النبيين ، ومعراجه إلى السماوات العلى والمشهد الأسمى . بيت نوه الله به في الآيات المفصلة ، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة . لأجله أمسك الله الشمس على يوشع أن تغرب ليتيسر فتحه على من وعدوا به ويقرب . وهو قبلة الصلاة في الملتين ، وفي صدر الإسلام بعد الهجرتين . وهو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين . لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه ، [ ص: 3886 ] ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه . انتهى . ومن فضائله ما رواه الإمام أحمد والنسائي والحاكم صححه ، عن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثا ، فأعطاه اثنتين وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة » .

    سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه .

    وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه .

    وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد - يعني ببيت المقدس - خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه .

    قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ونحن نرجو أن يكون الله أعطاه ذلك » .

    وروي أن ابن عمر كان إذا دخله لا يشرب من مائه ؛ تجريدا لقصد الصلاة .

    وقال الشيرازي في (" عرائس البيان ") : كان بداية المعراج الذهاب إلى الأقصى ؛ لأن هناك الآيات الكبرى من أنوار تجليه تعالى لأرواح الأنبياء وأشباحهم . وهناك بقربه طور سينا ، وطور زيتا ، ومقام إبراهيم وموسى وعيسى في تلك الجبال ، مواضع كشوف الحق ، لذلك قال : باركنا حوله انتهى .

    والالتفات في : { باركنا } لتعظيم ما ذكر ؛ لأن فعل العظيم يكون عظيما ، لا سيما إذا عبر عنه بصيغة التعظيم . والنكتة العامة تنشيط السامعين .

    [ ص: 3887 ] وقوله تعالى : لنريه من آياتنا إشارة إلى حكمة الإسراء . أي : لكي نري محمدا صلى الله عليه وسلم من آياتنا العظيمة التي من جملتها ذهابه في برهة من الليل ، مسيرة شهر ، ومشاهدة بيت المقدس ، وتمثل الأنبياء له ، ووقوفه على مقاماتهم العلية .

    قيل : أراد تعالى أن يريه صلى الله عليه وسلم من الآيات الحسية بعد ما أراه الآيات العقلية ؛ لأن الآيات الحسية أكبر في قطع الشبهة ودفع الوساوس من العقلية ؛ إذ لا يشك أحد فيما كان سبيل معرفته الحس والعيان . وقد تعترض الشبهة والوساوس في العقليات ؛ لأنه لا يشك أحد في نفسه أنه هو . فشاء عز وجل أن يري رسوله آيات حسية فتدفع المنصفين إلى قبولها والإيمان بها والإقرار له بالرسالة ؛ إذ ليس ذلك عمل سحر ولا افتراء ولا أساطير الأولين ، كذا يستفاد من " التأويلات " لأبي منصور .

    وما أحسن ما قاله ابن إسحاق : كان في مسراه صلى الله عليه وسلم وما ذكر منه بلاء وتمحيص ، وأمر من أمر الله في قدرته وسلطانه . فيه عبرة لأولي الألباب ، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن بالله وصدق . وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقين . فأسرى به سبحانه وتعالى كيف شاء ليريه من آياته ما أراد . حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم ، وقدرته التي يصنع بها ما يريد . انتهى .

    وقوله تعالى : إنه هو السميع البصير أي : السميع لأقوال عباده وأفعالهم ، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .

    تنبيهات :

    الأول : دلت هذه الآية على ثبوت الإسراء ، وهو سير النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ليلا . وأما العروج إلى السماوات وإلى ما فوق العرش ، فهذه الآية لا تدل عليه . [ ص: 3888 ] ومنهم من يستدل عليه بأول سورة النجم . والكلام عليه ثمة .

    الثانية : ذهب الأكثرون إلى أن الإسراء كان بعد المبعث ، وأنه قبل هجرته بسنة . قاله الزهري وابن سعد وغيرهما . وبه جزم النووي ، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه . وقال : كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة .

    وفي " إنسان العيون " : أن تلك الليلة كانت ليلة سبع عشرة . وقيل : سبع وعشرين خلت من ربيع الأول ، وقيل : ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان ، وقيل : سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر ، وقيل : من رجب . واختار هذا الأخير الحافظ عبد الغني المقدسي ، قال : وعليه عمل الناس . والله أعلم .

    الثالث : في (" زاد المعاد ") لابن القيم : كان الإسراء مرة واحدة . وقيل : مرتين : مرة يقظة ومرة مناما . وأرباب هذه القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله « ثم استيقظت » وبين سائر الروايات . ومنهم من قال : بل كان هذا مرتين : مرة قبل الوحي ؛ لقوله في حديث شريك ( وذلك قبل أن يوحى إليه ) ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر الأحاديث . ومنهم من قال : بل ثلاث مرات : مرة قبل الوحي ، ومرتين بعده . وكل هذا خبط ، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل ، الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات ، جعلوه مرة أخرى . فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع . والصواب الذي عليه أئمة النقل ؛ أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة . ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مرارا ! كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلوات خمسين ، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا ، ثم يقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى الخمسين ثم يحطها عشرا عشرا ؟ ! .

    الرابع : قال القاضي عياض ، عليه الرحمة ، في (" الشفا ") : اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده ؟ على ثلاث مقالات : فذهبت طائفة على أنه إسراء بالروح ، وأنه رؤيا منام ، مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء حق ووحي . وإلى هذا ذهب معاوية ، وحكي عن [ ص: 3889 ] الحسن ( والمشهور عنه خلافه ) وإليه أشار محمد بن إسحاق . وحجتهم قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك وما حكوا عن عائشة : ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله « بينا أنا نائم » ، وقول أنس : ( وهو نائم في المسجد الحرام ) وذكر القصة ، ثم قال في آخرها : ( فاستيقظ وأنا بالمسجد الحرام ) .

    وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة . وهذا هو الحق ، وهذا قول ابن عباس وجابر وأنس وحذيفة وعمر وأبي هريرة ومالك بن صعصعة وأبي حبة البدري وابن مسعود والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة وابن المسيب وابن شهاب وابن زيد والحسن وإبراهيم ومسروق ومجاهد وعكرمة وابن جريج . وهو دليل قول عائشة . وهو قول الطبري وابن حنبل وجماعة عظيمة من المسلمين . وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين .

    وقالت طائفة : كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس . وإلى السماء بالروح ، واحتجوا بقوله : سبحان الذي أسرى بعبده فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة والتمدح بتشريف النبي وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه . قال هؤلاء : ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره ، فيكون أبلغ في المدح .

    ثم اختلفت هاتان الفرقتان : هل صلى ببيت المقدس أم لا ؟ ففي حديث أنس وغيره صلاته فيه . وأنكر ذلك حذيفة وقال : والله ! ما زالا عن ظهر البراق حتى رجعا .

    ثم قال القاضي عياض : والحق في هذا والصحيح ، إن شاء الله ، أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها . وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار . ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل ، إلا عند الاستحالة ، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة ؛ إذ لو كان مناما لقال : ( بروح عبده ) ولم يقل ( بعبده ) وقوله : ما زاغ البصر وما طغى ولو كان [ ص: 3890 ] مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة ، ولما استبعده الكفار ولا كذبوه ، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به ؛ إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر . بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته ، إلى ما ذكر في الحديث ، من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس في رواية أنس ( أو في السماء ) على ما روى غيره ، وذكر مجيء جبريل له بالبراق وخبر المعراج واستفتاح السماء فيقال : ومن معك ؟ فيقول : محمد . ولقائه الأنبياء فيها وخبرهم معه وترحيبهم به وشأنه في فرض الصلاة ومراجعته مع موسى في ذلك .

    وفي بعض هذه الأخبار : « فأخذ ، يعني جبريل ، بيدي ، فعرج بي إلى السماء » إلى قوله : « ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام » ، وأنه وصل إلى سدرة المنتهى ، وأنه دخل الجنة ورأى فيها ما ذكره . قال ابن عباس : هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم ، لا رؤيا منام .

    وعن الحسن فيه : « بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بعقبه فقمت ، فجلست فلم أر شيئا ، فعدت لمضجعي » . ذكر ذلك ثلاثا ، فقال في الثالثة : « فأخذ بعضدي فجرني إلى باب المسجد ، فإذا بدابة » ، وذكر خبر البراق .

    وعن أم هانئ : ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي تلك الليلة . صلى العشاء الآخرة ونام بيننا . فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما صلى الصبح وصلينا قال : يا أم هانئ ! لقد صليت معكم العشاء الآخرة ، كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ، ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترون . وهذا بين في أنه بجسمه .

    وعن أبي بكر ( من رواية شداد بن أوس عنه ) أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به : طلبتك يا رسول الله البارحة في مكانك فلم أجدك . فأجابه : أن جبريل حمله إلى المسجد الأقصى .

    وعن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « صليت ليلة أسري بي في مقدم المسجد ثم دخلت الصخرة » ، وهذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة ، فتحمل على ظاهرها .

    [ ص: 3891 ] وعن أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : « فرج سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ثم أخذ بيدي فعرج بي » .

    وعن أنس : « أتيت فانطلقوا بي إلى زمزم » . وعن أبي هريرة : « لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء لم أثبتها ، فكربت كربا ما كربت مثله قط ، فرفعه الله لي أنظر إليه » . ونحوه عن جابر .

    وقد روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الإسراء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : « ثم رجعت إلى خديجة وما تحولت عن جانبها » .

    ثم قال القاضي عياض (" في إبطال حجج من قال : إنها نوم ") : احتجوا بقوله : وما جعلنا الرؤيا فسماها ) رؤيا ) . قلنا : قوله : سبحان الذي أسرى بعبده يرده ؛ لأنه لا يقال في النوم ( أسرى ) .

    وقوله : فتنة للناس يؤيد أنها رؤيا عين وإسراء شخص ؛ إذ ليس في الحلم فتنة ، ولا يكذب به أحد ؛ لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في ساعة واحدة في أقطار متباينة . على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية . فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في قصة الحديبية وما وقع في نفوس الناس من ذلك . وقيل غير هذا .

    وأما قولهم : إنه قد سماها في الحديث مناما ، وقوله في حديث آخر : « بين النائم واليقظان » . وقوله أيضا : وهو نائم . وقوله : « ثم استيقظت » ، فلا حجة فيه ؛ إذ يحتمل أن أول وصول الملك إليه كان وهو نائم . أو أول حلمه والإسراء به وهو نائم . وليس في الحديث أنه كان نائما في القصة كلها إلا ما يدل عليه : « ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام » فلعل قوله « استيقظت » بمعنى أصبحت . أو استيقظ من نوم آخر بعد وصوله بيته . ويدل عليه : أن مسراه لم يكن طول ليلة ، وإنما كان في بعضه . وقد يكون قوله : « استيقظت وأنا في المسجد الحرام » لما كان غمره من عجائب ما طالع من ملكوت السماوات والأرض ، وخامر بطنه من [ ص: 3892 ] مشاهدة الملأ الأعلى ، وما رأى من آيات ربه الكبرى . فلم يستفق ويرجع إلى حال البشرية إلا وهو بالمسجد الحرام . ووجه ثالث : أن يكون نومه واستيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه ، ولكنه أسري بجسده وقلبه حاضر ، ورؤيا الأنبياء حق . تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم .

    وقد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو من هذا . قال : تغميض عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله ، ولا يصح هذا أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء ، ولعله كانت له في هذا الإسراء حالات .

    ووجه رابع : وهو أن يعبر بالنوم ها هنا عن هيئة النائم من الاضطجاع . ويقويه قوله في رواية عبد بن حميد عن همام : « بينا أنا نائم » ، وربما قال « مضطجع » ، وفي رواية هدبة عنه « بينا أنا في الحطيم » ، وربما قال « في الحجر مضطجع » . وقوله في الرواية الأخرى : « بين النائم واليقظان » فيكون سمى هيئته بالنوم لما كانت هيئة النائم غالبا . وذهب بعضهم إلى أن هذه الزيادات من النوم ، وذكر شق البطن ، ودنو الرب ، الواقعة في هذا الحديث ، إنما هي من رواية شريك عن أنس . فهي منكرة من روايته . انتهى كلام عياض . وبقيت له بقية من شاء فليراجعها .

    الخامس : جملة الأقوال في الإسراء والمعراج ، على ما حكاه ابن القيم في (" زاد المعاد ") ستة : بروحه وجسده وهو الذي صححوه ، وقيل : كان ذلك مناما ، وقيل : بل يقال أسري به ولا يقال يقظة ولا مناما ، وقيل : كان الإسراء إلى بيت المقدس يقظة وإلى السماء مناما ، وقيل : كان الإسراء مرتين ، مرة يقظة ومرة مناما . وقيل : بل أسري به ثلاث مرات . وكان ذلك بعد البعث بالاتفاق . وأما ما وقع في حديث شريك أن ذلك قبل أن يوحى إليه ، فقيل : هو غلط ، وقيل : الوحي هنا مقيد وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة . والمراد : قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء ، فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام ، وقد قدمنا أن عائشة ومعاوية والحسن ، نقل الأكثرون عنهم ؛ أنها رؤيا منام . وكذا حكى ابن جرير عن حذيفة ، [ ص: 3893 ] إلا أن ابن القيم نبه على دقيقة غريبة . قال رحمه الله : نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا : إنما كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده . ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك . ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال : كان الإسراء مناما ، وبين أن يقال : كان بروحه دون جسده . وبينهما فرق عظيم . وعائشة ومعاوية لم يقولا كان مناما ، وإنما قالا : أسري بروحه ولم يفقد جسده . وفرق بين الأمرين . فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة . فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء ، أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض ، وروحه لم تصعد ولم تذهب . وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال . والذين قالوا عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان : طائفة قالت : عرج بروحه وبدنه . وطائفة قالت : عرج بروحه ولم يفقد بدنه . وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناما . وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها وعرج بها حقيقة . وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماء سماء ، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة ، فتقف بين يدي الله عز وجل . فيأمر فيها بما يشاء ، ثم تنزل إلى الأرض . فالذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة . ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم . لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام خرق العوائد حتى شق بطنه وهو حي لا يتألم ؛ كذلك عرج بذات روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة . ومن سواه صلى الله عليه وسلم ، لا تنال ذات روحه الصعود إلى السماء إلا بعد الموت والمفارقة . فالأنبياء إنما استقرت أرواحهم هناك بعد مفارقة الأبدان . وروح رسول الله صلى الله عليه وسلم صعدت إلى هناك في حال الحياة ثم عادت . وبعد وفاته استقرت في الرفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء . ومع هذا فلها إشراف على البدن ، وإشراق وتعلق به . بحيث يرد السلام على من سلم عليه . وبهذا التعلق رأى موسى قائما يصلي في قبره ، ورآه في السماء السادسة . ومعلوم أنه لم يعرج بموسى من قبره ثم رد إليه ، وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها ، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها . فرآه يصلي في قبره ، ورآه في السماء السادسة . كما أنه صلى الله عليه وسلم في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقرا هناك ، [ ص: 3894 ] وبدنه في ضريحه غير مفقود . وإذا سلم عليه المسلم ، رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ، ولم يفارق الملأ الأعلى . ومن كثف إدراكه وغلظت طباعه عن إدراك هذا ؛ فلينظر إلى الشمس في علو محلها وتعلقها وتأثيرها في الأرض ، وحياة النبات والحيوان بها . هذا ، وشأن الروح فوق هذا . فلها شأن وللأبدان شأن . وهذه النار تكون في محلها ، وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها . مع أن الارتباط والتعلق الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم . فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف .


    فقل للعيون الرمد إياك أن تري سنا الشمس فاستغشي ظلام اللياليا


    انتهى كلام ابن القيم .

    وقال العلامة سعدي في (" حواشي البيضاوي ") : والمعراج بروحه في اليقظة - وهو الذي أشار إليه ابن القيم - خارق أيضا للعادة . انتهى .

    وتعقب العلامة القنوي له : بأنه نوع مراقبة وانسلاخ ، والذي ذهب إليه الصوفية ساقط ؛ لأنه فوقه بكثير . بل غيره كما تبين قبل . وبالجملة ، فالذي فهمه الأكثرون من قول عائشة ومعاوية وحذيفة والحسن ؛ أن ذلك رؤيا منام . وما ذكره ابن القيم من أنه إسراء بالروح ؛ فيحتمله اللفظ المأثور عنهم .

    ونظيره قول بعضهم : إن ذلك كان أمرا إعجازيا . والحقيقة أنه كشف روحاني . وقد قرروا في عدم استحالة كونه يقظة بالروح والجسم ؛ أن خالق العالم قادر على كل الممكنات . وحصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسده صلى الله عليه وسلم ممكن . فوجب كونه تعالى قادرا عليه . وغاية ما في الباب أنه خلاف العادة . والمعجزات كلها كذلك . وفي (" العقائد النسفية وحواشيها ") : الخرق والالتئام على السماوات جائز ؛ لأن الأجسام كلها متماثلة في تركبها من الجواهر الفردة ، فيصح على كل ما يصح على الآخر . فالأجسام العنصرية قابلة للخرق والالتئام . وكذا الأجسام الفلكية . والله تعالى قادر على الممكنات كلها . فيكون قادرا على الخرق في السماوات ؛ لأنه ممكن فيها . وفي الرازي براهين أخر . فانظرها .

    [ ص: 3895 ] جاء في كتاب (" إظهار الحق ") : أن بعض أهل الكتاب مارى في المعراج ، فبكت بأن صعود الجسم العنصري إلى الأفلاك صرحت به التوراة الموجودة لديهم في ( أخنوخ ) . وأنه نقل حيا إلى السماء لئلا يرى الموت . كما في الفصل الخامس من سفر التكوين . وصرحت في صعود ( إيليا ) في الفصل الثاني من سفر الملوك . وفي إنجيل مرقس في الفصل السادس عشر التصريح برفع المسيح عليه السلام إلى السماء . انتهى .

    أقول : أخنوخ : هو إدريس عليه السلام ، المنوه به في قوله تعالى : ورفعناه مكانا عليا وإيليا : نبي أرسل إلى آحاب أحد ملوك اليهود الكفرة ، الذين شهروا عبادة بعل وغيره من الأصنام بالسامرة . وتسمى الآن : سبسطية : من قسم الأرض المقدسة ، زعموا أنه ظهرت على يد إيليا خوارق باهرة . وأنه قتل سدنة بعل وهدم مذبحه ، إلى أن ارتفع في مركبة نارية وخيل نارية نحو السماء ، جانب نهر الأردن في بطاح أريحا ، شاهده خليفته اليشاع النبي بعده . كذا في تاريخ الكتاب المقدس . و ( إيليا ) : هو إلياس ، و ( اليشاع ) : هو اليسع المذكوران في القرآن المجيد .

    وقد نوه بالأول في سورة الصافات بقوله تعالى : { وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين } .

    السادس : قيل : إن المسجد الأقصى في زمن الإسراء كان خرابا بشهادة التاريخ . وذلك لأن سليمان عليه السلام بناه على مكان الصخرة . ثم خرب وألقيت على الصخرة زبالة البلد عنادا لليهود . وبقي كذلك حتى فتح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه القدس . انظر ( تاريخ أبي الفداء ) وغيره . فكيف أطلق عليه اسم المسجد ؟ وأجيب : بأن المسجد في حال هدمه يسمى مسجدا ، باعتبار ما كان عليه وما وضع له ، كما أطلق المسجد على حرم مكة ، وهو لم يكن يومئذ مسجدا . وإنما كان بيتا للأصنام .

    [ ص: 3896 ] لكن إبراهيم وإسماعيل ، لما بنيا الكعبة للعبادة الصحيحة ، كما بنى سليمان هيكله هذا لها ، سمي مسجدا بهذا الاعتبار . أو يقال : إنه أطلق عليهما اسم المسجد للإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهما . وهو كونهما مسجدين للمسلمين .

    السابع : في التفاضل بين ليلة القدر وليلة الإسراء . سئل الإمام تقي الدين أحمد ابن تيمية رضي الله عنه ، عن رجل قال : ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر ، وقال آخر : بل ليلة القدر أفضل ، فأيهما المصيب ؟ .

    فأجاب : أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر . إن أراد به أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه سلم ونظائرها من كل عام أفضل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر ، بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل منه في ليلة القدر . فهذا باطل لم يقله أحد من المسلمين ، وهو معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام . هذا إذا كانت ليلة الإسراء يعرف عينها . فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها ولا عشرها ولا على عينها ؟ بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ، ليس فيها ما يقطع به ، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة ، التي يظن أنها ليلة الإسراء ، بقيام ولا غيره . بخلاف ليلة القدر فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه » وفي الصحيحين عنه : [ ص: 3897 ] « تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان » . وقد أخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر فإنه نزل فيها القرآن .

    وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وحصل له فيها ما لم يحصل له في غيرها ، من غير أن يشرع تخصيصها بقيام ولا عبادة ، فهذا صحيح . وليس إذا أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فضيلة في مكان أو زمان ، يجب أن يكون ذلك الزمان والمكان أفضل من جميع الأمكنة والأزمنة . هذا إذا قدر أنه قام دليل على أن إنعام الله تعالى على نبيه ليلة الإسراء كان أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر ، وغير ذلك من النعم التي أنعم عليه . والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأمر ومقادير النعم التي لا تعرف إلا بوحي . ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم .

    ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه نقل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها . لا سيما على ليلة القدر . ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها . ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت . وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا لم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادة شرعية . بل غار حراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي ، وكان يتحراه قبل النبوة ، لم يقصده هو ولا أحد من أصحابه بعد النبوة مدة مقامه بمكة . ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها . ولا خص المكان الذي ابتدئ فيه الوحي ولا الزمان بشيء . ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله ، كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مراسم وعبادات . كيوم الميلاد ، ويوم التعميد ، وغير ذلك من أحواله . وقد رأى عمر بن الخطاب جماعة يتبادرون مكانا يصلون فيه . فقال : ما هذا ؟ قالوا : مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد ؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، فمن أدركته فيه الصلاة فليصل ، وإلا فليمض . وقد قال بعض الناس : إن ليلة الإسراء في حق النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر . وليلة القدر بالنسبة إلى الأمة أفضل من ليلة الإسراء . فهذه [ ص: 3898 ] الليلة في حق الأمة أفضل لهم . وليلة الإسراء في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل له . انتهى . نقله الشمس ابن القيم (" في زاد المعاد ") .

    الثامن : قال الشمس ابن القيم في (" زاد المعاد ") : اختلف الصحابة : هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه تلك الليلة أم لا ؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه . وصح عنه أنه قال : رآه بفؤاده . وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك وقالا : إن قوله تعالى : ولقد رآه نـزلة أخرى عند سدرة المنتهى إنما هو جبريل . وصح عن أبي ذر أنه سأله : هل رأيت ربك ؟ قال : « نور ، أنى أراه ؟ ! » . أي : حال بيني وبين رؤية النور . كما قال في لفظ آخر : « رأيت نورا » . وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره . قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، قدس الله روحه : وليس قول ابن عباس أنه رآه مناقضا لهذا . ولا قوله رآه بفؤاده . وقد صح عنه أنه قال : « رأيت ربي تبارك وتعالى » . ولكن لم يكن هذا في الإسراء ، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح . ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه . وعلى هذا بنى الإمام أحمد رحمه الله وقال : نعم ، رآه حقا . فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد . ولكن لم يقل أحمد : إنه رآه بعيني رأسه . ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه . ولكن قال مرة : رآه ، ومرة قال : رآه بفؤاده . فحكيت عنه روايتان وحكيت عنه الثالثة . من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه . وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك . وأما قول ابن عباس : رآه بفؤاده مرتين . فإن كان استناده إلى قوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى ثم قال : ولقد رآه نـزلة أخرى والظاهر أنه مستنده ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل . رآه مرتين في صورته التي خلق عليها . وقول ابن عباس هذا . هو مستند الإمام أحمد في قوله : رآه بفؤاده . والله أعلم .

    [ ص: 3899 ] التاسع : قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه " التنوير في مولد السراج المنير " بعد ذكره حديث الإسراء من طريق أنس : وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصعة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وشداد بن أوس وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن قرط وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين وعبد الله بن عمرو وجابر وحذيفة وبريدة وأبي أيوب وأبي أمامة وسمرة بن جندب وأبي الحمراء وصهيب الرومي وأم هانئ وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، منهم من ساقه بطوله ومنهم من اختصره ، على ما وقع في المسانيد . وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة ؛ ، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون . وأعرض عنه الزنادقة والملحدون . انتهى .

    وقد نقل الرازي عن بعض المعتزلة رده لجمل فيه - ساقها - صعب عليهم دركها . ولا إشكال فيها في الحقيقة بحمده تعالى . ولكن هم وأمثالهم ممن ضعفت عنايتهم بفن الحديث وغلب عليهم فن المعقول . ولقد فاتهم بسبب ذلك خير كثير . وليس في الأحاديث الصحيحة ما يناقض المفعول أو الواقع ، بوجه ما ، يعلم ذلك الراسخون . وفوق كل ذي علم عليم .

    وقد بقي ممن رواه من الصحابة . غير من تقدم ؛ سهل بن سعد وعبد الله بن حوالة الأزدي وعبد الله بن أسعد بن زرارة وأبو الدرداء وعبد الله بن عمر . وأما من رواه من التابعين مرسلا فكثير ، منهم : الحسن بن الحسين عليهما السلام وكعب ومحمد بن الحنفية وعروة وسفيان الثوري والوليد بن مسلم وعبد الرحمن بن أبي ليلى وآخرون . كما يعلم من مراجعة (الدر المنثور) للحافظ السيوطي .

    وأما طرقه في الصحيحين . فقال الحافظ ابن حجر في (" الفتح ") : إنها تدور على أنس بن مالك مع اختلاف أصحابه عنه . فرواه قتادة عنه عن مالك بن صعصعة . وليس في أحاديث المعراج أصح منه . ورواه الزهري عنه عن أبي ذر . ورواه شريك بن أبي نمر وثابت البناني عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة . وفي سياق كل منهم عنه ما ليس عند الآخر . وقوله تعالى :

    [ ص: 3900 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [2-3] وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا .

    وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا

    قال ابن كثير : لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه . فإنه تعالى كثيرا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما السلام ، وبين ذكر التوراة والقرآن . وقال الرازي : لما ذكر الله تعالى في الآية الأولى إكرامه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن أسرى به ، ذكر في هذه الآية أنه أكرم موسى عليه الصلاة والسلام قبله بالكتاب الذي آتاه . وقال الشهاب في (" العناية ") : عقبت آية الإسراء بهذه ؛ استطرادا ، بجامع أن موسى عليه الصلاة والسلام أعطي التوراة بمسيره إلى الطور وهو بمنزلة معراجه ؛ لأنه صح ثمة التكليم ، وشرف باسم الكليم مدمجا فيه تفاوت ما بين الكتابين ومن أنزلا عليه . وإن شئت فوازن بين : أسرى بعبده و : وآتينا موسى وبين : هدى لبني إسرائيل و : يهدي للتي هي أقوم و ( الواو ) استئنافية أو عاطفة على جملة ( سبحان الذي أسرى ) إلخ لا على ( أسرى ) لبعده ، وتكلفه . وضمير ( وجعلناه ) للكتاب أو لموسى و ( لبني إسرائيل ) متعلق بـ ( هدى ) أو بـ ( جعلناه ) ، وهي تعليلية .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #433
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    المجلد العاشر
    صـ 3901 الى صـ 3915
    الحلقة (432)


    وقوله : ألا تتخذوا من دوني وكيلا أي : وليا ومعبودا تكلون إليه أموركم ؛ لأنه تعالى أنزل على كل نبي أرسله ، أن يعبده وحده لا شريك له ، وقد قرئ : { ألا يتخذوا } [ ص: 3901 ] بالياء على الغيبة على حذف لام التعليل . والتقدير : جعلناه هدى لئلا يتخذوا . وقرئ بالتاء على الخطاب ، وفيه ثلاثة أوجه :

    أحدها : أن ( أن ) بمعنى أي . وهي مفسرة لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي .

    الثاني : أن ( أن ) زائدة ، أي : قلنا : لا تتخذوا .

    الثالث : أن ( لا ) زائدة ، والتقدير : مخافة أن تتخذوا . والوكيل والموكول إليه . أي : المفوض إليه الأمور . وهو الرب . فـ ( فعيل ) بمعنى مفعول . و ( دون ) بمعنى غير . و ( من ) زائدة . أو تبعيضية . وقوله : ذرية من حملنا مع نوح نصب على الاختصاص أو النداء . وفيه تهييج وتنبيه على المنة . والإنعام عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة . وإيماء إلى علة النهي . كأنه قيل : لا تشركوا به ، فإنه المنعم عليكم والمنجي لكم من الشدائد . وأنهم ضعفاء محتاجون إلى لطفه . وفي التعبير بـ ( الذرية ) الغالب إطلاقها على الأطفال والنساء ، مناسبة تامة لما ذكر . وذكر حملهم في السفينة ؛ للإشارة إلى أنه لم يكن لهم حينئذ وكيل يتكلون عليه سواه . وقوله : عبدا شكورا أي : لمعرفته بنعم الله واستعمالها على الوجه الذي ينبغي . وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره ، وحث للذرية على الاقتداء به . وقيل : إنه استطراد . وقوله تعالى :

    [ ص: 3902 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [4-5] وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا .

    وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب أي : كتاب اللوح المحفوظ ، أي : حكمنا فيه : لتفسدن في الأرض مرتين يعني أرض فلسطين بيت المقدس التي بارك الله حولها . والإفساد بالكفر والمعاصي .

    قال السمين : في تعدية ( قضينا ) بـ ( إلى ) تضمينه معنى أنفذنا . أي : أنفذنا إليهم بالقضاء المحتوم . ومتعلق القضاء محذوف . أي : بفسادهم . وقوله : لتفسدن جواب قسم محذوف مؤكد لمعنى القضاء ، أو جواب لقوله : وقضينا لأنه ضمن معنى القسم . ومنه قولهم : ( قضاء الله لأفعلن كذا ) فيجرون القضاء والقدر مجرى القسم ، فيتلقيان بما يتلقى به القسم . و ( مرتين ) أي : إفسادتين . منصوب على أنه مصدر ( لتفسدن ) من غير لفظه . وعدل عنه ؛ لأن تثنية المصدر وجمعه ليس بمطرد ولتعلن علوا كبيرا أي : ولتستكبرن وتتعظمن عن طاعة الله تعالى ، أو لتظلمن الناس

    فإذا جاء وعد أولاهما أي : موعود أولى المرتين ، أي : وما وعدوا به في المرة الأولى ، يعني وعد المؤاخذة على أولى المفسدتين : بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد أي : ذوي قوة وبطش في الحرب ، شديد : فجاسوا خلال الديار ترددوا خلال أماكنكم ومحالكم للقتل والسبي والنهب : وكان وعدا مفعولا أي : مقضيا لا صارف له .

    [ ص: 3903 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [6-8] ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا .

    ثم رددنا لكم الكرة عليهم أي : بعد هذه المؤاخذة الشديدة ، رددنا ، عند توبتكم ، لكم الغلبة التي كانت لكم في الأصل ، عليهم : وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا أي : قوما ورهطا . جمع ( نفر ) أو اسم جمع له . وأصله من ينفر مع الرجل من قومه . وقوله تعالى :

    إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها بمثابة التعليل لما قبله . أي : فعلنا ذلك لتعلموا أنكم إن أحسنتم توبتكم وأعمالكم ، أحسنتم لأنفسكم ، بإبقاء الغلبة لها والإمداد بالأموال والبنين وتكثير النفير : وإن أسأتم فلها أي : فإساءتكم ضارة لها بغلبة الأعداء وسلب الأموال والبنين والنفير : فإذا جاء وعد الآخرة أي : مؤاخذة المرة الآخرة وعقوبتها . وقوله تعالى : ليسوءوا وجوهكم متعلق بجواب ( إذا ) المحذوف . أي : بعثناهم ليسوءوا وجوهكم ، أي : ذواتكم بالإذلال والقهر .

    قال الشهاب : عديت المساءة إلى الوجوه ، وإن كانت عليهم ؛ لأن آثار الأعراض النفسانية إنما تظهر في الوجه ، كنضارة الوجه وإشراقه بالفرح ، وكلوحه وسواده بالخوف والحزن . [ ص: 3904 ] فالوجه ، بمعنى الذات مجاز مرسل ، أو استعارة تبعية . وقيل : الوجوه بمعنى الرؤساء . وهو تكلف . واختير هذا على ( ليسوؤكم ) مع أنه أخصر وأظهر ؛ إشارة إلى أنه جمع عليهم ألم النفس والبدن ، المدلول بقوله : وليتبروا انتهى .

    وقوله تعالى : وليدخلوا المسجد أي : الأقصى : كما دخلوه أول مرة وليتبروا أي : يدمروا : ما علوا تتبيرا أي : عظيما فظيعا ، والتتبير : التدمير . وكل شيء كسرته وفتته فقد تبرته . ثم أشار إلى أن فعله تعالى ليخلصوا توبتهم وأعمالهم بقوله :

    عسى ربكم أن يرحمكم أي : إذا أخلصتم الإنابة ، وأحسنتم الأعمال ، وأقمتم الكتاب وما نزل إليكم ؛ لأنكم علمتم من سنته تعالى أنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولا يرفعه إلا بتوبة ، ولذا قال : وإن عدتم أي : بعد هذه التوبة والإنابة إلى الاستكبار : عدنا أي : إلى تسليط الأعداء وسلب الأموال والأولاد في الدنيا .

    وجعلنا أي : يوم القيامة : جهنم للكافرين حصيرا أي : محبسا وسجنا يحصرهم في العذاب والحرمان عن الثواب .

    قال الشهاب : إن كان - ( حصيرا ) - اسما للمكان فهو جامد لا يلزم تذكيره وتأنيثه . وإن كان بمعنى حاصرا أي : محيطا بهم ، وفعيل بمعنى فاعل ؛ يلزم مطابقته ، فإما لأنه على النسب ، كلابن وتامر . أو لحمه على ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) . أو لأن تأنيث جهنم غير حقيقي ، أو لتأويلها بمذكر . انتهى .

    وقيل : حصيرا ، أي : بساطا كما يبسط الحصير . مثل قوله تعالى : لهم من جهنم مهاد فهو تشبيه بليغ . والحصير بهذا المعنى بمعنى محصور لحصر بعض طاقاته على بعض . كما قاله الراغب .

    [ ص: 3905 ] تنبيه :

    روي أن بني إسرائيل كان الأمر مستتبا لهم في فلسطين إلى موت سليمان عليه السلام ، فلما ملك ابنه بعده ، وذلك قبل المسيح بما ينيف على تسعمائة سنة ، وقع من الاختلال في عهده ما أفضى إلى تقريره عبادة الأوثان . فعوجل بعد خمس سنين من ملكه بأخذ ملك مصر بيت المقدس وسلب كنوز هيكلها ( المسجد الأقصى ) ونهب ما فيها . ولما ساء تصرفه تمرد عليه شعبه وخلعوا طاعته . فانقسمت مملكته إلى قسمين : أحدهما : دعي مملكة يهوذا ، وهي المؤلفة من سبطي يهوذا وبنيامين ، بقيا خاضعين لابن سليمان .

    وثانيهما : دعي مملكة إسرائيل ، وهي المؤلفة من بقية الأسباط العشرة . وكان أول ملك على مملكة إسرائيل رجل يقال له: يربعام ، خاف من رجوع رعاياه إلى طاعة ابن سليمان إذا صعدوا إلى أورشليم في الأعياد الاحتفالية ليعبدوا الله في الهيكل ويقربوا ذبائحهم هناك . فأقام في مملكته عجلين من ذهب . وأمر رعيته بعبادتهما . ورتب لهم أعيادا احتفالية وكهنة . وقامت حروب هائلة بين ملوك هاتين الطائفتين . وكان يتخللهما من الملوك من ينزع عبادة الأوثان . إلا أنه لا يلبث الحال حين يأتي ملك آخر فيعيد الوثنية . واستمرت مملكة إسرائيل نحوا من مائتين وخمسين سنة . وفي نهاية أمرهم عظمت خطيئاتهم فسلط عليهم ملك أشور ، ففتح السامرة - بلدهم - وسباهم إلى أشور وانقرضت مملكة العشرة الأسباط ، ولم يسمع ذكرهم بعد . ثم أرسل ملك أشور قوما من بلده وأسكنهم مدن السامرة ليعمروها مع من بقي من أهلها . وأرسل معهم كاهنا من اليهود ليقيم لمن بقي طقوسهم . فعادوا إلى شركهم وعبادة الأوثان مع الله تعالى . وأما مملكة يهوذا فبقيت بعد انقراض مملكة إسرائيل ما ينيف على عشرين سنة ، وفي أواخر أيامها قام فيها ملك شرير . فزحف إليه ملك بابل نبوخذ ناصر ( بختنصر ) فسبى قسما من شعبه ، وكان السبي الأول .

    ثم قام ، بعد ذلك الملك الشرير ، ابنه ، فسار على طريقة أبيه . فعاد إليه ملك بابل المذكور [ ص: 3906 ] واستأسره هو وآله ورؤساءه وقسما من الشعب ، وسلب الهيكل . وكان هذا السبي الثاني بعد ثماني سنين من الأول .

    ثم قام فيهم ملك أشر ممن تقدم - وهو آخر ملوكهم - وفي أيامه حاصر ملك بابل المذكور أيضا بيت المقدس ، وأسره إلى بابل ، وأحرق المدينة والهيكل ، وسبى كل شعب يهوذا ، ما عدا مساكين الأرض ، إلى بابل . وهذا هو السبي الثالث والأخير .

    وهكذا انقرضت هذه المملكة وكانت إقامتهم في بابل سبعين سنة . ثم أطلقوا من الأسر فعادوا إلى بيت المقدس ، وجددوا عمارتها وقيام الهيكل . وبقيت اليهود تحت تسلط ملوك الفرس إلى أن ظهر الإسكندر الكبير ، وغلبت اليونان الفرس وجاء الإسكندر إلى سورية فدخل بنو إسرائيل تحت حكم اليونان . وبعد وفاة الإسكندر انقسم ملكه إلى أربعة أقسام :

    منها مملكة سورية ومصر . وكانت بينهما حروب متصلة . والإسرائيليون ، لما كانوا بينهم ، كانوا تارة تحت تملك مصر وأخرى تحت تسلط سورية . واتفق في خلال ذلك أن رفض كثير من اليهود الديانة اليهودية ، وتمسكوا بديانة اليونانيين .

    ثم استولى الرومانيون على فلسطين ، وجرت حروب هائلة بينهم وبين اليهود ، أفضى الأمر إلى تسلط الرومانيين عليهم . وتملكوا بيت المقدس . وهدم تيطس ، أحد ملوكهم ، الهيكل إلى أساسه . وأحرق كتب اليهود وتشتت أمرهم ، ولم يبق لهم ملك ولا رئاسة بعده ، وزعموا أن ذلك بعد رفع المسيح بنحو أربعين سنة ، وزعموا أن الهيكل تراجع للعمارة ورمم ، إلى أن سارت هيلانة أم قسطنطين إلى القدس وبنت كنيسة على القبر ، الذي يزعم النصارى أنه قبر المسيح . وخربت الهيكل ، وأمرت أن تلقى فيه قمامات البلد وزبالته . فصار موضع الصخرة مزبلة . وبقي كذلك حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح القدس . فأمر بتنظيفه وبنى في قبلته مسجدا ، إلى أن ملك الوليد بن عبد الملك ، فجدد بناءه على أساسه القديم وبنى قبة الصخرة .

    [ ص: 3907 ] وتفصيل هذه الماجريات معروفة في كتب التاريخ . ونحن لم نورد ما أوردناه على أنه تفسير للآية . لأنها بإيجازها غنية عنه . وفي تفسيرنا لألفاظها كفاية في فهمها ، إلا أن أكثر المفسرين تطرقوا لبعض ماجريات اليهود هنا ، فنقحنا منها أحسن ما حرره المؤرخون المتأخرون ؛ إيضاحا لأفاعيلهم التي أشارت إليها الآيات الكريمة .

    وقد قدمنا في سورة يوسف ؛ أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار . وإنما هي الآيات في العبر تجلت في سياق الوقائع . ولذلك لم تذكر قصة بتفاصيلها . وإنما يذكر موضع العبرة فيها . كما قال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
    ثم بين تعالى مزية التنزيل الكريم التي فاق بها سائر ما أنزل ، بقوله سبحانه :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [9] إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا .

    إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم أي : للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدها ، أو للملة ، أو للطريقة .

    قال الزمخشري : وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف ؛ لما في إبهام الموصوف بحذفه ، من فخامة تفقد مع إيضاحه .

    ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا أي : يبشر المخلصين في إيمانهم ، وهم الذين يعملون الصالحات كلها ، ويجتنبون السيئات ؛ أن لهم في الدنيا والآخرة ثوابا وافرا .

    [ ص: 3908 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [10-11] وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا .

    وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أي : بالبعث والجزاء على الأعمال : أعتدنا لهم عذابا أليما أي : في الآخرة ، وهو عذاب النار .

    ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير أي : مثل دعائه بالخير : وكان الإنسان عجولا قال أبو السعود : الآية بيان لحال المهدي إثر بيان حال الهادي . وإظهار لما بينهما من التباين . والمراد بالإنسان الجنس ، أسند إليه حال بعض أفراده . أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه . فالمعنى ، على الأول : أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير . ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم ، وهو ، أي : بعض منه وهو الكافر ، يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور ، إما بلسانه حقيقة كدأب من قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ومن قال : { فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } ، إلى غير ذلك مما حكى عنهم . وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه ، الموجبة له مجازا ، كما هو ديدن كلهم . وقوله : وكان الإنسان عجولا يعني بالإنسان : من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده . عجولا يسارع إلى طلب ما يخطر بباله ، متعاميا عن ضرره . أو مبالغا في العجلة ، يستعجل العذاب وهو آتيه لا محالة . ففيه نوع تهكم به . وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم ، تحمل العجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال .

    وعلى الثاني : أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير . وهو في بعض أحيانه ، كما عند الغضب ، يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر . وكان الإنسان بحسب جبلته عجولا ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه . أو يدعو بما هو شر وهو يحسبه خيرا . وكان [ ص: 3909 ] الإنسان عجولا غير متبصر لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به ، وما هو شر جدير بالاستعاذة منه . انتهى .

    ثم أشار تعالى إلى بعض وجوه الهداية في القرآن ، بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية ، التي كل منها برهان نير لا ريب فيه . ومنهاج بين لا يضل من ينتحيه ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [12] وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا .

    وجعلنا الليل والنهار آيتين أي : جعلناهما ، بهيئاتهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر ، علامتين تدلان على أن لهما خالقا حكيما فمحونا آية الليل أي : بجعلها مظلمة : وجعلنا آية النهار مبصرة أي : مضيئة لتمييز الأشياء المحسوسة . والإضافة فيهما إما بيانية ، أي : الآية التي هي الليل ، والآية التي هي النهار . وإما حقيقية . وآية الليل والنهار نيراهما . والمراد بمحو القمر خلقه مطموس النور في نفسه . أو نقص ما استفاده من الشمس شيئا فشيئا إلى المحاق . وبجعل الشمس مبصرة إبداعها مضيئة بالذات ، ذات أشعة تبصر بها الأشياء . فالإسناد في ( مبصرة ) مجازي إلى السبب العادي ، أو تجوز بعلاقة السبب . وقوله تعالى : لتبتغوا فضلا من ربكم متعلق بـ ( جعلنا ) أي : لتطلبوا في النهار رزقا منه سبحانه بالانتشار للمعاش والصناعات والأعمال والأسفار ولتعلموا عدد السنين والحساب أي : الحساب المتعلق بما في ضمن السنين من الأشهر والليالي والأيام ، أو الحساب الجاري في المعاملات ، كالبيوع والإجارات ، وفي العبادات ، أي : لتعرف مضي الآجال المضروبة لذلك ؛ إذ لولاه لما علم أحد حسبان الأوقات ولتعطلت الأمور .

    [ ص: 3910 ] قال السيوطي في (" الإكليل ") : هذه الآية أصل في علم المواقيت والهيئة والتاريخ . وفي الآية لف ونشر غير مرتب . انتهى .

    وقوله تعالى : وكل شيء أي : مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم : فصلناه تفصيلا أي : بيناه في القرآن بيانا بليغا لا التباس معه . كقوله تعالى : ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء فظهر كونه هاديا للتي هي أقوم ظهورا بينا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [13-15] وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .

    وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه أي : ألزمناه عمله الصادر منه باختياره خيرا وشرا ، بحيث لا يفارقه أبدا . بل يلزمه لزوم الطوق في العنق ، لا ينفك عنه بحال .

    قال الطبري : المعنى : وكل إنسان ألزمناه ما قضي أنه عامله ، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله ، في عنقه لا يفارقه . وإنما قوله : ألزمناه طائره في عنقه مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها .

    [ ص: 3911 ] وذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال ؛ وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر ، اعتبروا أحوال الطير : وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه . وإذا طار فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا إلى الجو ، إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ، ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة ، فلما كثر ذلك منهم ، سمي الخير والشر بالطائر ، تسمية للشيء باسم لازمه .

    قال الطبري : فأعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه ، نحسا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر وشقاء يورده سعيرا ، أو كان سعدا يورده جنان عدن . وإنما أضيف إلى العنق ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسد ، قيل : لأن العنق هو موضع السمات وموضع القلائد والأطوقة وغير ذلك مما يزين أو يشين ، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة ببني آدم وغيرهم من ذلك ، إلى أعناقهم . وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق . كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد ، فقالوا : ذلك بما كسبت يداه . وإن كان الذي جر عليه لسانه أو فرجه . فكذلك قوله : ألزمناه طائره في عنقه وحاصله : - كما قاله الرازي - أن قوله : في عنقه كناية عن اللزوم . كما يقال : ( جعلت هذا في عنقك ) أي : قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به . ويقال : ( قلدتك كذا وطوقتك كذا ) أي : صرفته إليك وألزمته إياك . ومنه ( قلده السلطان كذا ) أي : صارت الولاية ، في لزومها له ، في موضع القلادة ومكان الطوق . ومنه يقال ( فلان يقلد فلانا ) أي : يجعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه . وقوله تعالى : ونخرج له أي : نظهر له : يوم القيامة أي : البعث للجزاء على الأعمال : كتابا يلقاه منشورا أي : يجده مفتوحا فيه حسناته وسيئاته . ويقال له :

    اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا أي : شهيدا بما عملت .

    [ ص: 3912 ] قال القاشاني : كتابا هيكلا مصورا يصور أعماله : يلقاه منشورا لظهور تلك الهيئات فيه بالفعل مفصلة ، لا مطويا كما كان عند كونها فيه بالقوة . يقال له : اقرأ كتابك أي : اقرأه قراءة المأمور الممتثل لأمر آمر مطاع يأمره بالقراءة . أو تأمره القوى الملكوتية . سواء كان قارئا أو غير قارئ ؛ لأن الأعمال هناك ممثلة بهيئاتها وصورها ، يعرفها كل أحد . لا على سبيل الكتابة بالحروف فلا يعرفها الأمي : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا لأن نفسه تشاهد ما فعلته لازما إياها ، نصب عينها ، مفصلا لا يمكنها الإنكار .

    وقوله تعالى : من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه قال أبو السعود : فذلكة لما تقدم من بيان كون القرآن هاديا لأقوم الطرائق ، ولزوم الأعمال لأصحابها . أي : من اهتدى بهدايته ، وعمل بما فيه تضاعيفه من الأحكام ، وانتهى عما نهاه عنه ، فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه ، لا تتخطاه إلى غيره ممن لا يهتدي : ومن ضل أي : عن الطريقة التي يهديه إليها : فإنما يضل عليها أي : وبال ضلاله عليها ، لا على من عداه ممن لم يباشره . فقوله : ولا تزر وازرة وزر أخرى مؤكد لما قبله للاهتمام به .

    قال أبو السعود : أي : لا تحمل نفسه حاملة للوزر ، وزر نفس أخرى ، حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها . ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم . بل إنما تحمل كل منهما وزرها . وهذا تحقيق لمعنى قوله عز وجل : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه وأما ما يدل عليه قوله تعالى : من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وقوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم من حمل الغير وزر الغير ، وانتفاعه بحسنته ، وتضرره بسيئته ، فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه ، وتضرر بسيئته . فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له . وإنما الذي يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته ، لا جزاء [ ص: 3913 ] أصل الحسنة والسيئة ، وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين . وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال .

    وإنما خص التأكيد بالجملة الثانية قطعا للأطماع الفارغة . حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق ، فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم . انتهى .

    وقوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا بيان للعناية الربانية ، إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها ، وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته ، وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها . أي : وما صح وما استقام منا ، بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة ، أن نعذب قوما حتى نبعث إليهم رسولا يهديهم إلى الحق ، ويردعهم عن الضلال ؛ لإقامة الحجة وقطعا للعذر . والعذاب أعم من الدنيوي والأخروي ، لقوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى وقال تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نـزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وكذا قوله : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وقال تعالى : وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى لا يعذب قوما عذاب استئصال ، ولا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسل . قال قتادة : [ ص: 3914 ] إن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى يتقدم إليه بخبر أو بينة . ولا يعذب أحدا إلا بذنبه . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [16] وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا .

    وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا بيان لوقوع التعذيب بعد الرسالة . وأنه إنما كان للتمرد على الرسل والتنكب عن منهجهم . وقد تدل الآية على أن التعذيب المتقدم مراد به الهلاك الدنيوي لانحصارها فيه . والمعنى : إذا أردنا أن نعذب قوما عذاب استئصال : أمرنا مترفيها يعني متنعميها ، بالطاعة على لسان الرسول المبعوث إليهم : ففسقوا فيها بمخالفة أمره تعالى والخروج عن طاعته : فحق عليها القول فوجب عليها ، بمعصيتهم وفسقهم وطغيانهم ، وعيد الله الذي أوعد من كفر به وخالف رسله ، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بالرسل والحجج : فدمرناها تدميرا أي : فخربناها تخريبا لا يكتنه كنهه ولا يوصف . وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكا هائلا ، كما جرى لبيت المقدس ، لما انحرف اليهود عن شرعتهم ، على ما قدمنا بيانه . وإنما خص المترفين ، وهم الجبارون والملوك والرؤساء بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل ؛ لأنهم الأصل في الخطاب والباقي تبع لهم . ولأن توجه الأمر إليهم آكد . وإنما حذف مفعول : أمرنا لظهور أن المراد به الحق والخير . لا سيما بعد ذكر هداية القرآن لما يهدي إليه . وفي إيثار ( القرية ) على أهلها زيادة تهويل وتفظيع ، إشارة إلى التنكيل بهم بهدم صروحهم ودورهم ، وطمس أثرهم ، وهو أوجع للقلب وأنكى للعدو . ولذلك أتى إثره بالمصدر المؤكد فقال : تدميرا أي : كليا بحيث لم يبق لهم زرع أو ضرع .

    [ ص: 3915 ] قال القاشاني : إن لكل شيء في الدنيا زوالا . وزواله بحصول استعداد يقتضي ذلك . وكما أن زوال البدن بزوال الاعتدال ، وحصول انحراف يبعده عن بقائه وثباته ؛ فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث انحراف فيها من الجادة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام . فإذا جاء وقت إهلاك قرية ، فلا بد من استحقاقها للإهلاك . وذلك بالفسق والخروج عن طاعة الله . فلما تعلقت إرادته بإهلاكها ، تقدمه أولا بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب الترف والتنعم بطرا وأشرا بنعمة الله ، واستعمالا لها فيما لا ينبغي . وذلك بأمر من الله وقدر منه ، لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم . وحينئذ وجب إهلاكهم . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [17] وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا .

    وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح أي : وكثيرا ما أهلكنا من الأمم الكافرة من بعد زمن نوح ، كعاد وثمود وفرعون . ممن قصت أنباؤهم في القرآن العظيم ومن لم تقص . و : { القرون } جمع قرن يطلق على الزمن المعين وعلى أهله المقترنين فيه ، وعلى كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد . وخص : نوح ولم يقل : ( من بعد آدم ) لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب . ففيه تهديد وإنذار للمشركين .

    وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا أي : لا يخفى عليه شيء منها ، فيدرك سرها وعلنها وسيجازي عليها .

    والآية تدل - كما قال الزمخشري - : على أن الذنوب هي أسباب الهلكة ، وذلك لأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علما أتم ، دل على أنه جازاهم بها .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #434
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    المجلد العاشر
    صـ 3916 الى صـ 3930
    الحلقة (433)



    القول في تأويل قوله تعالى :

    [18-19] من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا .

    من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا

    أي من كان طلبه الدنيا العاجلة ، ولها يعمل ويسعى ، وإياها يبتغي ؛ لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثوابا ولا عقابا من ربه على علمه : عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد أي : ما نشاؤه من بسط الدنيا عليه أو تقتيرها لمن أراد الله أن يفعل به ذلك . أو من إهلاكه بما يشاء تعالى من عقوباته المعجلة . ثم يصلى جهنم في الآخرة : مذموما على قلة شكره لمولاه ، وسوء صنيعه فيما سلف له : مدحورا مطرودا من الرحمة ، مبعدا مقصيا في النار . ومن أراد الآخرة وإياها طلب ، ولها عمل عملها الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه ، فأولئك كان عملهم مشكورا بحسن الجزاء .

    تنبيه :

    قال القفال رحمه الله : هذه الآية داخلة في معنى قوله : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه فالآية الأولى تشير إلى من جعل طائر نفسه شؤما . والثانية لمن جعله يمنا وخيرا . وفي قوله تعالى : وسعى لها سعيها أي : ما يحق ويليق بها من الأعمال الصالحة ، تبيين لقوله : ومن أراد الآخرة بأن إرادتها هو بالسعي والنصب في مغالبة الباطل وإعلاء شأن الحق مع التلبس بالإيمان الصحيح ، بفعل المأمور واجتناب المنهي عنه . وقوله تعالى :

    [ ص: 3917 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [20-22] كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا .

    كلا نمد أي : كل واحد من الفريقين . وقوله : هؤلاء وهؤلاء بدل من ( كلا ) : من عطاء ربك أي : فضله . فيرزقهما جميعا من رزقه إلى بلوغهما الأمد واستيفائهما الأجل ، ما كتب لهما . ثم تختلف بهما الأحوال بعد الممات ، وتفترق بهما بعد الورود المصادر . ففريق مريدي العاجلة ، إلى جهنم مصدرهم . وفريق مريدي الآخرة ، إلى الجنة مآبهم : وما كان عطاء ربك محظورا أي : ممنوعا لا يمنعه من عاص لعصيانه . والجملة كالتعليل لشمول الإمداد للفريقين .

    انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض أي : في الرزق في الدنيا : وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا لأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .

    ثم أشار تعالى إلى ما به تنال درجات الآخرة من البراءة من الشرك ، ومن الاعتصام بالإيمان وشعبه ، بقوله : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا أي : لا تجعل معه شريكا في عبادته فتصير مذموما ملوما على الشرك ، مخذولا من الله ، يكلك إلى ذاك الشريك ولا ينصرك : وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده

    [ ص: 3918 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [23-24] وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا .

    وقضى ربك أي : أمر أمرا مقطوعا به : ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا أي : وبأن تحسنوا بالوالدين إحسانا . قال القاشاني : قرن سبحانه وتعالى إحسان الوالدين بالتوحيد وتخصيصه بالعبادة ؛ لكونهما مناسبين للحضرة الربوبية ؛ لتربيتها إياك عاجزا صغيرا ضعيفا لا قدرة لك ولا حراك بك . وهما أول مظهر ظهر فيه آثار صفات الله تعالى من الإيجاد والربوبية ، والرحمة والرأفة بالنسبة إليك . ومع ذلك فإنهما محتاجان إلى قضاء حقوقهما ، والله غني عن ذلك . فأهم الواجبات بعد التوحيد إذا ؛ إكرامهما والقيام بحقوقهما ما أمكن : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا في هذا من المبالغة في إكرام الوالدين وبرهما ما لا يخفى . و : إما هي ( إن ) الشرطية زيدت عليها ( ما ) تأكيدا لها . و : أحدهما فاعل ( يبلغن ) و : كلاهما عطف عليه . ومعنى : { عندك } هو أن يكبرا ويعجزا ، وكانا كلا على ولدهما ، ولا كافل لهما غيره ، فهما عنده في بيته وكنفه . وذلك أشق عليه وأشد احتمالا وصبرا . وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة . فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال ، حتى لا يقول لهما ، إذا أضجره ما يستقذر منهما ، أو يستثقل من مؤنهما : أف فضلا عما يزيد عليه . أفاده الزمخشري .

    [ ص: 3919 ] ولا تنهرهما أي : تزجرهم عما لا يعجبك ، بغلظة : وقل لهما بدل التأفيف والنهر : قولا كريما أي : حسنا كما يقتضيه حسن الأدب معهما . ومعنى قوله : واخفض لهما جناح الذل تذلل لهما وتواضع . وفيه استعارة مكنية وتخييلية . فشبه الذل بطائر تشبيها مضمرا ، وأثبت له الجناح تخييلا ، والخفض ترشيحا . و ( خفضه ) ما يفعله إذا ضم أفراخه للتربية . أو استعارة تصريحية في المفرد وهو الجناح ، والخفض ترشيح . و ( الجناح ) الجانب كما يقال ( جناحا العسكر ) وخفضه مجاز ، كما يقال ( لين الجانب ) و ( منخفض الجانب ) . وإضافة الجناح إلى الذل للبيان ؛ لأنه صفة مبينة . أي : جناحك الذليل . وفيه مبالغة لأنه وصف بالمصدر . فكأنه جعل عين الذل . أو التركيب استعارة تمثيلية . فيكون مثلا لغاية التواضع . وسر ذكر الجناح وخفضه ، تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس . و : { من } في قوله تعالى : من الرحمة ابتدائية على سبيل التعليل . أي : من فرط رحمتك لهما ، وعطفك عليهما ، لكبرهما وافتقارهما اليوم ، إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس . وافتقار المرء إلى من كان مفتقرا له ، غاية في الضراعة والمسكنة ، فيرحمه أشد رحمة . كما قال الخفاجي :


    يا من أتى يسأل عن فاقتي ما حال من يسأل من سائله ؟

    ما ذلة السلطان إلا إذا
    أصبح محتاجا إلى عامله


    وقوله تعالى : وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا أي : رب ! تعطف عليهما برحمتك ومغفرتك ، كما تعطفا علي في صغري ، فرحماني وربياني صغيرا حتى استقللت بنفسي ، واستغنيت عنهما .

    قال الزمخشري : أي : لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها ، وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية . واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك . والكاف للتعليل . أي : لأجل تربيتهما لي .

    قال الطيبي : الكاف لتأكيد الوجود . كأنه قيل : رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها ، كقوله : مثل ما أنكم تنطقون وهو وجه حسن .

    [ ص: 3920 ] تنبيه :

    استحب بعض السلف أن يدعو المرء لوالديه في أواخر التشهد قبيل السلام ؛ لأنه وقت فاضل . وقد جمعت من الأدعية المأثورة للوالدين المتوفيين أو أحدهما ، جملة ضممتها لكتابي " الأوراد المأثورة " . لا أزال أدعو لهما بها في السحر أو بين أذان الفجر وإقامة صلاته ؛ لما أرى من مزية هذا الوقت على غيره . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [25-27] ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا .

    ربكم أعلم بما في نفوسكم أي : ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين والعقوق : إن تكونوا صالحين أي : قاصدين للصلاح والبر دون العقوق : فإنه كان للأوابين أي : التوابين الرجاعين إليه تعالى بالندم عما فرط منهم ، والاستقامة على المأمور : غفورا أي : لهم ما اكتسبوا . ولا يخفى ما في صدر الآية من الوعد لمن أضمر البر . والوعيد لمن أضمر الكراهة والاستثقال والعقوق .

    قيل : الآية استئناف يقتضيه مقام التأكيد والتشديد . كأنه قيل : كيف يقوم بحقهما وقد تبدر بوادر ؟ فقيل : إذا بنيتم الأمر على الأساس ، وكان المستمر ذلك ، ثم اتفقت بادرة من غير قصد إلى المساءة ، فلطف الله يحجز دون عذابه . ويجوز - كما قال الزمخشري - أن يكون هذا عاما لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها . ويندرج تحته الجاني على أبويه ، التائب من جنايته ؛ لوروده على أثره .

    ثم وصى تعالى بغير الوالدين من الأقارب ، بعد الوصية بهما ، [ ص: 3921 ] بقوله سبحانه :

    وآت ذا القربى حقه أي : من صلته وحسن المعاشرة والبر له بالإنفاق عليه .

    قال المهايمي : لم يقل ( القريب ) لأن المطلق ينصرف إلى الكامل . والإضافة لما كانت لأدنى الملابسة ، صدق ( ذو القربى ) على كل من له قرابة ما : والمسكين أي : الفقير من الأباعد . وفي الأقارب مع الصدقة صلة الرحم وابن السبيل أي : المسافر المنقطع به . أي : أعنه وقوه على قطع سفره . ويدخل فيه ما يعطاه من حمولة أو معونة أو ضيافة ، فإن ذلك كله من حقه : ولا تبذر تبذيرا أي : بوجه من الوجوه ، بالإنفاق في محرم أو مكروه ، أو على من لا يستحق ، فتحسبه إحسانا إلى نفسك أو غيرك . أفاده المهايمي .

    وفي (" الكشاف ") : كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها ، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة ، وتذكر ذلك في أشعارها . فأمر الله بالنفقة في وجوهها ، مما يقرب منه ويزلف .

    إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين أي : أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي . وهذا غاية المذمة ؛ لأن لا شر من الشيطان . أو هم إخوانهم أتباعهم في المصادقة والإطاعة . كما يطيع الصديق صديقه والتابع متبوعه ، أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد . والجملة تعليل المنهي عنه عن التبذير ، ببيان أنه يجعل صاحبه مقرونا معهم . وقوله : وكان الشيطان لربه كفورا من تتمة التعليل . قال أبو السعود : أي : مبالغا في كفران نعمته تعالى ؛ لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى ، أي : مبالغا في كفران نعمته تعالى ؛ لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي ، والإفساد في الأرض ، وإضلال الناس ، وحملهم على الكفر بالله ، وكفران نعمه الفائضة عليهم ، وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به . وتخصيص هذا الوصف بالذكر ، من بين سائر أوصافه القبيحة ؛ للإيذان بأن التبذير ، الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها ، من باب الكفران ، المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له . والتعرض لوصف الربوبية ؛ للإشعار بكمال عتوه . فإن [ ص: 3922 ] كفران نعمة الرب ، مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها ، غاية الكفران ونهاية الضلال والطغيان . انتهى .

    وقد استدل بالآية من منع إعطاء المال كله في سبيل الخير، ومن منع الصدقة بكل ماله.
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [28] وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا .

    وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا أي : وإن أنت أعرضت عن ذوي القربى والمسكين وابن السبيل ، حياء من الرد ، لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطيه ، فلا تؤيسهم وقل لهم قولا لينا سهلا ، وعدهم وعدا جميلا . قال في " الكشف " : ( ابتغاء ) أقيم مقام فقدانه ، وفيه لطف . فكأن ذلك الإعراض لأجل السعي لهم . وهو من وضع المسبب موضع السبب . فإن الفقد سبب للابتغاء .

    قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية الأمر بالقول اللين عند عدم وجود ما يعطى منه ، وفسره ابن زيد : بالدعاء . والحسن وابن عباس : بالعدة . انتهى .

    وظاهر ، أن القول الميسور يشمل الكل . وذهب المهايمي إلى أن الآية في منعهم خوفا من أن يصرفوه فيما لا ينبغي . قال : أي : وإن تحقق إعراضك عمن تريد الإحسان إليهم ، طلب رحمة من ربك في المنع عنهم ؛ لئلا يقعوا في التبذير ، بصرف المعطي إلى شرب الخمر أو الزنى ، لما عرفت من عاداتهم ، فقل لهم في الدفع قولا سهلا عليهم ، إحسانا إليهم بدل العطاء . انتهى .

    ولم أره لغيره ، والنظم الكريم يحتمله .

    [ ص: 3923 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [29] ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا .

    ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك أي : لا تمسك يدك عن النفقة والعطية لمن له حق ممن تقدم ، بمنزلة المشدودة يده إلى عنقه ، الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء : ولا تبسطها كل البسط أي : بالتبذير والسرف . قال ابن كثير : أي : لا تسرف في الإنفاق ، فتعطي غير طاقتك وتخرج أكثر من دخلك : فتقعد أي : فتبقى : ملوما يلومك الفقراء والقرابة : محسورا أي : نادما ، من ( الحسرة ) أو منقطعا بك لا شيء عندك ، من ( حسره السفر ) إذا بلغ منه الجهد وأثر فيه .

    وفي النهيين استعارتان تمثيليتان شبه في الأولى فعل الشحيح في منعه ، بمن يده مغلولة لعنقه ، بحيث لا يقدر على مدها .

    وفي الثانية شبه السرف ببسط الكف بحيث لا تحفظ شيئا . وهو ظاهر . وجعل ابن كثير قوله تعالى : فتقعد ملوما محسورا من باب اللف والنشر المرتب . قال : أي : فتقعد ، إن بخلت ، ملوما يلومك الناس ويذمونك ، ويستغنون عنك ، كما قال زهير في المعلقة :


    ومن كان ذا مال فيبخل بماله على قومه يستغن عنه ويذمم


    [ ص: 3924 ] ومتى بسطت يدك فوق طاقتك ، قعدت بلا شيء تنفقه ، فتكون كالحسير ، وهي الدابة التي عجزت عن السير ، فوقفت ضعفا وعجزا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [30] إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا .

    إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي : يوسعه ويضيقه ، حسب مشيئته وحكمته إنه كان بعباده خبيرا بصيرا أي : خبيرا ببواطنهم ، بصيرا بظواهرهم .

    قال المهايمي : ولما وجب إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل ، لحفظ أرواحهم ، فالأولاد بحفظ الأرواح أولى ، لذلك قال تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [31] ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا .

    ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم نهي لهم عما كانوا يفعلونه في الجاهلية من قتلهم أولادهم . وهو وأدهم بناتهم . أي : دفنهن في الحياة . كانوا يئدونهن خشية الفاقة وهي الإملاق والفقر ، بالإنفاق عليهم إذا كبروا . فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم بقوله : نحن نرزقهم أي : نحن المختصون بإعطاء رزقهم في الصغر والكبر ، وقوله تعالى : وإياكم أي : الآن بإغنائكم . وقوله تعالى : إن قتلهم أي : للإملاق الحاضر والخشية في المستقبل : كان خطئا كبيرا أي : لإفضائه إلى تخريب العالم . وأي خطأ أكبر من ذلك .

    [ ص: 3925 ] تنبيه :

    دل قوله تعالى : خشية إملاق على أن ذلك هو الحامل لهم على الوأد ، لا خوف العار كما زعموا . قال المبرد في (" الكامل ") : كانت العرب في الجاهلية تئد البنات ، ولم يكن هذا في جميعها . إنما كان في تميم بن مر ، وقيس ، وأسد ، وهذيل ، وبكر بن وائل .

    ثم قال : ودل على ما من أجله قتلوا البنات فقال : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق وقال : ولا يقتلن أولادهن فهذا خبر بين أن ذلك للحاجة . وقد روى بعضهم : أنهم إنما فعلوا ذلك أنفة . وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى ؛ أن تميما منعت النعمان الإتاوة . فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر ، فاستاق النعم وسبى الذراري . فوفدت إليه بنو تميم . فلما رآها أحب البقيا . فأناب القوم وسألوه النساء . فقال النعمان : كل امرأة اختارت أباها ردت إليه ، وإن اختارت صاحبها تركت عليه . فكلهن اختار أباها ، إلا ابنة القيس بن عاصم فإنها اختارت صاحبها عمرو بن المشمرج . فنذر قيس إلا تولد له ابنة إلا قتلها . فهذا شيء يعتل به من وأد ، ويقول : فعلناه أنفة ، وقد أكذب ذلك بما أنزل الله تعالى في القرآن .

    وقال ابن عباس رحمه الله ( في تأويل هذه الآية ) : وكانوا لا يورثون ولا يتخذون إلا من طاعن بالرمح ومنع الحريم . يريد : الذكران . والخطأ كالإثم ، لفظا ومعنى .

    ولما نهى عن قتل الأولاد ، نهى عن قطع النسل بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [32] ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا .

    ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة أي : فعلة قبيحة متناهية في القبح . توجب [ ص: 3926 ] النفرة عن صاحبه ، والتفرقة بين الناس : وساء سبيلا أي : بئس طريقا طريقه . فإنه غصب الأبضاع المؤدي إلى اختلاف أمر الأنساب ، وهيجان الفتن غصبا من غير سبب ، والسبب ممكن ، وهو الصهر الذي شرعه الله . وقال المهايمي : { ساء سبيلا } لقضاء الشهوة التي خلقت لطلب النسل ، بتضييعه . ثم ذكر ما هو أعظم في التنفير والتفرقة فقال تعالى مجده :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [33] ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا .

    ولا تقتلوا النفس التي حرم الله أي : قتلها ، وهي نفس الإنسان : إلا بالحق أي : إلا بسبب الحق ، فيتعلق بـ : { لا تقتلوا } أو حال من فاعل ( لا تقتلوا ) أو من مفعوله . وجوز تعلقه بـ ( حرم ) أي : حرم قتلها إلا بالحق ، وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام ، أو زنى بعد إحصان ، أو قودا بنفس : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا أي : ومن قتل بغير حق ، مما تقدم ، فقد جعلنا لوليه ، الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه : سلطانا أي : تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه . أو حجة يثب بها عليه ، وحينئذ فلا يسرف في القتل . أي : فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين ، والقاتل واحد ، كعادة الجاهلية . كان إذا قتل منهم واحد قتلوا به جماعة . وقوله : إنه كان منصورا تعليل للنهي . والضمير للولي . يعني : حسبه أن الله قد نصره بأن أوجب له القصاص ، فلا يستزد على ذلك .

    [ ص: 3927 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [34] ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا .

    ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن أي : لا تتصرفوا في ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن ، وهي حفظه عليه وتثميره وإصلاحه . وقوله تعالى : حتى يبلغ أشده غاية جواز التصرف على الوجه الحسن ، أي : حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل وتدبير ماله وصلاح حاله في دينه : وأوفوا بالعهد أي : العقد الذي تعاقدون به الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام ، وفيما بينكم أيضا . والبيوع والأشربة والإجارات ونحوها : إن العهد كان مسؤولا أي : مطلوبا ، يطلب من المعاهد الثبات عليه ، وعدم إضاعته . أو : صاحبه مسؤول عن نقضه إياه . والمعنى : لا تنقضوا العهود الجائزة بينكم وبين من عاهدتموهم ، فتخفروها وتغدروا بمن أعطيتموه إياها .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [35] وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا .

    وأوفوا الكيل إذا كلتم أي : أتموه إذا كلتم لغيركم ولا تبخسوه : وزنوا بالقسطاس المستقيم أي : بالميزان السوي ؛ بلا اعوجاج ولا خديعة : ذلك خير أي : لكم في معاشكم لانتظام أموركم بالعدل ، وإيفاء الحقوق أربابها : وأحسن تأويلا أي : عاقبة ومآلا ؛ إذ ليس معه مظلمة يطالب بها يوم القيامة . ثم أمر تعالى برعاية القسطاس المعنوي .

    [ ص: 3928 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [36-] ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا .

    ولا تقف ما ليس لك به علم أي : لا تتبعه في قول أو فعل ، تسنده إلى سمع أو بصر أو عقل . من : ( قفا أثره ) إذا تبعه .

    قال الزمخشري : والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم ، وأن يعمل بما لا يعلم. ويدخل فيه النهي عن التقليد دخولا ظاهرا ؛ لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده . انتهى .

    ولا يخفى ما يندرج تحت هذه الآية من أنواع كثيرة . كمذاهب الجاهلية في الإلهيات والتحريم والتحليل ، وكشهادة الزور ، والقذف ، ورمي المحصنات الغافلات ، والكذب ، وما شاكلها : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا أي : كان صاحبها مسئولا عما نسب إليها يوم القيامة . أو تسأل نفس الأعضاء لتشهد على صاحبها .

    قال المهايمي : قدم السمع ؛ لأن أكثر ما ينسب الناس أقوالهم إليه . وأخر الفؤاد ؛ لأنه منتهى الحواس . ولم يذكر بقيتها ؛ لأنه لا يخالفها قول أو فعل .

    ولا تمش في الأرض مرحا أي : مختالا ، أي : مشية المعجب المتكبر ؛ إذ لا يفيدك قوة ولا علوا . كما قال سبحانه : إنك لن تخرق الأرض أي : لن تجعل فيها خرقا بدوسك لها ، وشدة وطأتك : ولن تبلغ الجبال طولا أي : لن تحاذيها بتطاولك ومد قامتك ، كما يفعله المختال تكلفا . وفي هذا تهكم بالمختال ، وإيذان بأن ذلك مفاخرة مع الأرض وبعض أجزائها .

    [ ص: 3929 ] قال الناصر : وفي هذا التهكم والتقريع لمن يعتاد هذه المشية ، كفاية في الانزجار عنها . ولقد حفظ الله عوام زماننا عن هذه المشية ، وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا . بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين ، أو شد طرفا من رياسة الدنيا ، إذا هو يتبختر في مشيه ، ويترجع ولا يرى أنه يطاول الجبال ، ولكن يحك بيافوخه عنان السماء ، كأنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون . وماذا يفيده أن يقرأ القرآن أو يقرأ عليه ، وقلبه عن تدبره على مراحل . والله ولي التوفيق .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [1-2] كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا .

    كل ذلك أي : المنهي عنه من قوله : ولا تجعل مع الله إلها آخر إلى هذه الغاية : كان سيئه عند ربك مكروها قال المهايمي : أما الشرك فلإخلاله بالكمال المطلق الذي لا يتصور مع الشرك . وأما عبادة الغير فلما فيها من تعظيمه المخصوص بذي الكمال المطلق ، فهو في معنى الشرك . وأما العقوق فلأنه كفران نعمة الأبوين في التربية ، أحوج ما يكون المرء إليها . ومنع الحقوق بالبخل تفريط ، والتبذير والبسط إفراط . وهما مذمومان . والذميم مكروه . والقتل يمنع الحكمة من بلوغها إلى كمالها . . . والزنى وإتلاف مال اليتيم في معناه . ونقض العهد مخل بنظام العالم . وكذا اقتفاء ما لا يعلم . والتكبر من خواص الحق . وعادة الملوك كراهة أن يأخذ أحد من خواصه شيئا .

    ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة أي : مما يحكم العقل بصحته ، وتصلح النفس بأسوته .

    قال المهايمي : أي : من العلم المحكم الذي لا يتغير بشبهة : ولا تجعل مع الله إلها [ ص: 3930 ] آخر كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه . وأنه رأس كل حكمة وملاكها . ومن عدمه لم ينفعه علومه وحكمه .

    قال أبو السعود : وقد رتب عليه ما هو عائدة الإشراك أولا حيث قيل : فتقعد مذموما مخذولا ورتب عليه ها هنا نتيجة في العقبى فقيل : فتلقى في جهنم ملوما أي : بالجهل العظيم : مدحورا أي : مبعدا مطرودا من الرحمة . وفي إيراد الإلقاء ، مبنيا للمفعول ، جري على سنن الكبرياء ، وازدراء بالمشرك وجعل له ، من قبيل خشبة يأخذها آخذ بكفه ، فيطرحها في التنور . انتهى . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [40] أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما .

    أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما

    خطاب للذين قالوا من مشركي العرب : ( الملائكة بنات الله ) والهمزة للإنكار . قال الزمخشري : والمعنى : أفخصكم ربكم ، على وجه الخلوص والصفاء ، بأفضل الأولاد وهم الذكور ، ولم يجعل فيهم نصيبا لنفسه ، واتخذ أدونهم ، وهن البنات ، وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم ، بل تئدونهن وتقتلونهن . فهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم . فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء ، وأصفاها من الشوب ، ويكون أردؤها وأدونها للسادات . وقوله تعالى : إنكم لتقولون قولا عظيما أي : بإضافة الأولاد إليه ، وهي خاصة المحدثات . ثم بإيثاركم أنفسكم عليه ، حيث تجعلون له ما تكرهون .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #435
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    المجلد العاشر
    صـ 3931 الى صـ 3945
    الحلقة (434)


    القول في تأويل قوله تعالى :

    [41-42] ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا .

    ولقد صرفنا في هذا القرآن أي : كررنا للناس البيان بوجوه كثيرة ، وبينا فيه من كل مثل : ليذكروا أي : ليتعظوا ويطمئنوا إلى ما يحتج به عليهم : وما يزيدهم أي : التصريف المذكور : إلا نفورا أي : عن الحق وبعدا عنه ، الذي يقربه وجوه البيان .

    وقوله تعالى : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا أي : قل لهؤلاء المشركين ) الزاعمين أن لله شركاء من خلقه ، العابدين معه غيره ، ليقربهم إليه زلفى ) : لو كان الأمر كما تقولون ، وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه ؛ لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ، ويبتغون الزلفى والطاعة لديه ، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه . ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه . فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه . بل يكرهه ويأباه . وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه . هذا ما اختاره ابن كثير ، وسبقه إليه ابن جرير .

    وحاصله : أن السبيل بمعنى الوسيلة الموصلة إليه . وفيه إشارة إلى قياس اقتراني تقريره هكذا : ولو كان كما زعمتم معه آلهة لتقربوا إليه . وكل من كان كذلك ليس إلها ، فهم ليسوا بآلهة . وقيل : معنى : لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا أي : لطلبوا إليه سبيلا بالمغالبة والممانعة ، كما هو ديدن الملوك بعضهم مع بعض ، على طريقة قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وهذا الوجه قدمه الزمخشري على الأول . وقال أبو السعود : إنه الأظهر الأنسب لقوله :

    [ ص: 3932 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [43-44] سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا .

    سبحانه فإنه صريح في أن المراد بيان أنه يلزم مما يقولونه محذور عظيم ، من حيث لا يحتسبون . وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب ، فليس مما يختص بهذا التقرير ، ولا هو مما يلزمهم من حيث لا يشعرون . بل هو أمر يعتقدونه رأسا . انتهى . ومعنى : سبحانه أي : تنزه عن الولد والشريك تنزها حقيقا به : وتعالى عما يقولون علوا كبيرا أي : تعاظم عن ذلك تعاظما كبيرا . فإن مثل هذه الفرية والبهتان ، مما يتنزه عنه مقامه الأسمى .

    قال الشهاب : وذكر العلو ، بعد عنوانه بـ ( ذي العرش ) . في أعلى مراتب البلاغة . وقوله تعالى :

    تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا أي : تنزه الله ، وتقدسه وتجله السماوات والأرض ومن فيهن من المخلوقات عما يصفه به المشركون . وتشهد جميعها له بالوحدانية في إلهيته وربوبيته ، كما قال : تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وقوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم أي : لأنها بخلاف لغاتكم .

    قال ابن كثير : وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات ، على أشهر القولين . ثم استدل بما صح من تسبيح الطعام ، والحصا ، مما خرج في الصحيحين والمسانيد ، مما هو مشهور . [ ص: 3933 ] واختاره الراغب في (" مفرداته ") وقال : إنه تسبيح على الحقيقة بدلالة قوله : ولكن لا تفقهون تسبيحهم ودلالة قوله : ومن فيهن بعد ذكر السماوات والأرض لا يصح أن يكون تقديره ( يسبح له من في السماوات ويسجد له من في الأرض ) لأن هذا من نفقهه ، ولأنه محال أن يكون ذلك تقديره . ثم يعطف عليه بقوله : ومن فيهن والأشياء كلها تسبح له وتسجد بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار . والآية تدل على أن المذكورات تسبح باختيار ، لما ذكر من الدلالة . انتهى .

    وذهب كثيرون إلى أن التسبيح المذكور مجازي ، على طريقة الاستعارة التمثيلية أو التبعية ، كـ : ( نطقت الحال ) فإنه استعير فيه للتسبيح للدلالة على وجود فاعل قادر حكيم واجب الوجود ، منزه عن الولد والشريك ، كما يدل الأثر على مؤثره . فجعلت تلك الدلالة الحالية كأنه تنزيه له عما يخالفه .


    وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد


    قالوا : والخطاب في قوله تعالى : ولكن لا تفقهون تسبيحهم للمشركين . أي : لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم تسبيحهم . وقد بالغ في رد القول الأول واختيار الثاني ، الإمام ابن حزم في كتابه " الملل والنحل " ولا بأس بإيراده ، لما فيه من الغرائب .

    قال رحمه الله في الرد على من قال : ( إن في البهائم رسلا ) : إنما يخاطب الله تعالى بالحجة من يعقلها . قال الله تعالى : { يا أولي الألباب } ، وقد علمنا بضرورة الحسن ؛ أن الله تعالى إنما خص بالنطق - الذي هو التصرف في العلوم ومعرفة الأشياء على ما هي عليه ، والتصرف في الصناعات على اختلافها - الإنسان خاصة . وأضفنا إليهم ، بالخبر الصادق ، الجن والملائكة . ثم قال رحمه الله : وقد قاد السخف بعضهم إلى أن جعل للجمادات تمييزا لمثل قوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ونحوه من الآيات . ولا حجة لهم فيه ؛ [ ص: 3934 ] لأن القرآن واجب أن يحمل على ظاهره ، كذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن خالف ذلك كان عاصيا لله عز وجل ، مبدلا لكلماته ، ما لم يأت نص في أحدهما ، أو إجماع متيقن ، أو ضرورة حس على خلاف ظاهره ، فيوقف عند ذلك . ويكون من حمله على ظاهره حينئذ ناسبا الكذب إلى الله عز وجل ، أو كاذبا عليه وعلى نبيه عليه السلام ، نعوذ بالله من كلا الوجهين .

    وإذ قد بينا قبل بالبراهين الضرورية ؛ أن الحيوان ( غير الإنسان والجن والملائكة ) لا نطق له . نعني أنه لا تصرف له في العلوم والصناعات . وكان هذا القول مشاهدا بالحس معلوما بالضرورة ، لا ينكره إلا وقح مكابر لحسه ، وبينا أن كل ما كان بخلاف التمييز المعهود عندنا ، فإنه ليس تمييزا . وكان هذا أيضا يعلم بالضرورة والعيان والمشاهدة ؛ فوجب أنه بخلاف ما يسمى في الشريعة واللغة نطقا وقولا وتسبيحا وسجودا . فقد وجب أنها أسماء مشتركة اتفقت ألفاظها . وأما معانيها فمختلفة ، لا يحل لأحد أن يحملها على غير هذا ؛ لأنه إن فعل كان مخبرا أن الله تعالى قال ما يبطله العيان والعقل الذي به عرفنا الله تعالى ، ولولاه ما عرفناه .

    فاللفظ مشترك والمعنى هو ما قام الدليل عليه ، بيان ذلك : أن التسبيح عندنا إنما هو قول ( سبحان الله وبحمده ) وبالضرورة نعلم أن الحجارة والخشب والهوام والحشرات والألوان لا تقول ) سبحان الله ، بالسين والباء والحاء والألف والنون واللام والهاء ) هذا ما لا يشك فيه من له مسكة عقل . فإذ لا شك في هذا ، فباليقين علمنا أن التسبيح الذي ذكره الله تعالى هو حق وهو معنى غير تسبيحنا نحن بلا شك . فإذ لا شك في هذا فإن التسبيح في أصل اللغة هو تنزيه الله تعالى عن السوء . فإذا قد صح هذا ؛ فإن كل شيء في العالم بلا شك منزه لله تعالى عن السوء الذي هو صفة الحدوث . وليس في العالم شيء إلا وهو دال ( بما فيه من دلائل الصنعة واقتضائه صانعا لا يشبهه ) على أن الله تعالى منزه عن كل [ ص: 3935 ] سوء ونقص ، وهذا هو الذي لا يفهمه ولا يفقهه كثير من الناس ، كما قال تعالى : ولكن لا تفقهون تسبيحهم فهذا هو تسبيح كل شيء بحمد الله تعالى بلا شك . وهذا المعنى حق لا ينكره موحد . فإن كان قولنا هذا متفقا على صحته ، وكانت الضرورة توجب أنه ليس هو التسبيح المعهود عندنا ، فقد ثبت قولنا وانتفى قول من خالفنا بظنه .

    وأيضا فإن الله تعالى يقول : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم والكافر الدهري شيء لا يشك في أنه شيء ، وهو لا يسبح بحمد الله تعالى البتة ، فصح ضرورة أن الكافر يسبح ؛ إذ هو من جملة الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى . وإن تسبيحه ليس هو قوله ( سبحان الله وبحمده ) بلا شك . ولكن تنزيه الله تعالى بدلائل خلقه وتركيبه عن أن يكون الخالق مشبها لشيء مما خلق . وهذا يقيني لا شك فيه .

    فصح بما ذكرنا أن لفظة ( التسبيح ) هي من الأسماء المشتركة ، وهي التي تقع على نوعين فصاعدا . انتهى كلامه .

    ومحصله : نفي أن يكون للجمادات تسبيح وتمييز بالمعنى الموجود في الإنسان . وهو حق لا شبهة فيه ولا يسوغ لأحد إنكاره . إلا أنه لا ينفي أن يكون له تسبيح وفيه تمييز يناسبه ، فيرجع الخلاف لفظيا . وقد وافق العلم الحديث الآن - كما قاله بعض الفضلاء - على أن في الجماد أثرا من الحياة . وأن فيه جميع الصفات الجوهرية التي تميز الأحياء . وأن ما فيه في الجواهر الفردة ودقائق المادة ليست ميتة ، بل هي عناصر حية متحركة لها صورة من صور الحياة الدنيا المشاهدة في جميع أنواع المادة مثل الجذب ، والدفع ، والتأثر بالمؤثرات الخارجية ، وتغير قوة التوازن ، وتجمع الدقائق على أشكال منتظمة ، طبقا لتراكيب محدودة ، وإفراز مركبات كيماوية مختلفة . وبالجملة ؛ فما يقوله العلم الجديد عن مشابهة الأجسام غير الحية للأجسام الحية يطابق تصورات الأقدمين والشعراء في ذلك . انتهى .

    وقوله تعالى : إنه كان حليما غفورا أي : حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، مع كفرهم وقصورهم في النظر . ولو تابوا لغفر لهم ما كان منهم .

    [ ص: 3936 ] ثم مثل تعالى حالة المشركين مع التنزيل الكريم ، حينما يقرؤه عليهم الرسول ، صلوات الله عليه ، يدعوهم إلى العمل بما فيه من التوحيد ، ورفض الشرك وغير ذلك من ضلالهم ، بمن طمس على بصيرته وبصره وسمعه ، بقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [45] وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا .

    وإذا قرأت القرآن أي : على هؤلاء المشركين : جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة أي : لا يصدقون بالبعث ولا يقرون بالثواب والعقاب ، جزاء على الأعمال : حجابا مستورا أي : من الجهل وعمى القلب . فيحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرؤه عليهم فينتفعوا به ؛ عقوبة منا لهم على كفرهم .

    ومعنى كون الحجاب مستورا ، أي : عن العيون ، فلا تدركه أبصارهم . وعن الأخفش : إن ( مفعولا ) يرد بمعنى ( فاعل ) كميمون ومشئوم بمعنى يامن وشائم . كما أن ( فاعلا ) يرد بمعنى ( مفعول ) كماء دافق .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [46] وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا .

    وجعلنا على قلوبهم أكنة أي : أغطية كثيرة ، جمع ( كنان ) : أن يفقهوه أي : كراهة أن يفقهوه : وفي آذانهم وقرا أي : صمما يمنعهم من استماعه . وذلك ما يتغشاها من خذلان الله تعالى إياها ، عن فهم ما يتلى عليهم والإنصات له .

    [ ص: 3937 ] قال أبو السعود : هذه تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشئون النبي صلى الله عليه وسلم ، وفرط نبو قلوبهم عن القرآن الكريم ، ومج أسماعهم له . جيء بها بيانا لعدم فقههم لتسبيح لسان المقال ، إثر بيان عدم فقههم لتسبيح لسان الحال ، وإيذانا بأن هذا التسبيح من الظهور بحيث لا يصور عدم فهمه ، إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها ؛ تنبيها على أن حالهم هذا أقبح من حالهم السابق .

    وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده أي : غير مشفوع بذكره ذكر شيء من آلهتهم : ولوا على أدبارهم نفورا أي : هربا من استماع التوحيد . قال القاشاني : لتشتت أهوائهم ، وتفرق همهم في عبادة متعبداتهم ، من أصناف الجسمانيات والشهوات . فلا يناسب بواطنهم معنى الوحدة ؛ لتألفها بالكثرة واحتجابها بها . ثم أخبر تعالى عما يتناجى به المشركون ، رؤساء قريش ، بقوله متوعدا لهم :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [47-48] نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا .

    نحن أعلم بما يستمعون به أي : بسببه أو لأجله من الهزء والاستخفاف واللغو : إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أي : سحر ، فجن فاختلط كلامه .

    انظر كيف ضربوا لك الأمثال أي : مثلوك بالشاعر والساحر المجنون : فضلوا أي : عن الحق والهداية بك : فلا يستطيعون سبيلا أي : فلا يهتدون لطريق الحق لضلالهم عنه وبعدهم منه ، وأن الله قد خذلهم عن إصابته . أو المعنى فلا يستطيعون سبيلا إلى طعن يمكن أن يقبله أحد ، بل يخبطون بما لا يرتاب في بطلانه أحد . كالمتحير في أمره لا يدري ماذا يصنع .

    [ ص: 3938 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [49-52] وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا .

    وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا وهو ما بلي وتفتت : أإنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم أي : يعظم في نفوسكم عن قبول الحياة ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه . فإنه يحييكم ولا يعجزه بعثكم . فكيف إذا كنتم عظاما مرفوتة وقد كانت موصوفة بالحياة قبل ! والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد : فسيقولون أي : بعد لزوم الحجة عليهم : من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم أي : يحركونها برفع وخفض ، تعجبا واستهزاء : ويقولون متى هو أي : ما ذكرته من الإعادة : قل عسى أن يكون قريبا

    يوم يدعوكم فتستجيبون أي : يوم يبعثكم فتنبعثون . قال القاضي : استعار لهما الدعاء والاستجابة ؛ للتنبيه على سرعتهما وتيسر أمرهما ، وإن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجزاء . انتهى .

    وقيل : إنهما حقيقة كما في آية : يوم يناد المناد من مكان قريب وفي قوله : [ ص: 3939 ] يوم يدعوكم وجوه للمعربين . ككونه بدلا من ( قريبا ) على أنه ظرف . أو منصوب بـ ( يكون ) أو بمقدر كـ ( اذكر ) أو ( تبعثون ) وقوله تعالى : بحمده أي : وله الحمد على ما أحضركم للجزاء وتحقق وعده الصدق : وتظنون إن لبثتم إلا قليلا أي : تستقصرون مدة لبثكم في القبور والمضاجع لذهولكم عن ذلك الزمان . أو في الحياة الأولى ، لاستقصاركم إياها ، بالنسبة إلى الحياة الآخرة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [53-54] وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينـزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا .

    وقل لعبادي أي : الذين آمنوا معك . إرادة تقريب أصحابهم إلى الصواب ، كأمر البعث : يقولوا في النصيحة ، الكلمة : التي هي أحسن أي : فلا يخاشنوا أحدا ، ولا يغلطوا بالقول : إن الشيطان ينـزغ بينهم أي : يفسد ويهيج الشر والمراء ، لتقع بينهم المضارة : إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا وقوله تعالى :

    ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم خطاب لهؤلاء المشركين من قريش . أي : إن يشأ يرحمكم فيتوب عليكم برحمته وتنيبوا إليه . وإن يشأ يعذبكم بأن يخذلكم عن الإيمان ، فتموتوا على الشرك فيعذبكم عليه يوم القيامة .

    وقوله تعالى : وما أرسلناك عليهم وكيلا أي : موكولا إليك أمرهم ، تقسرهم على الإيمان . وإنما أرسلناك مبشرا ونذيرا ، تبلغهم رسالاتنا .

    [ ص: 3940 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [55] وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا .

    وربك أعلم بمن في السماوات والأرض أي : فلا يخفى عليه شيء فيهما . فهو أعلم بهؤلاء ضرورة . وفيه إشارة إلى رحمته تعالى ببعثة الرسل ؛ لحاجة الخلق إليها ، وإلى مشيئته فيمن يصطفي لرسالته ، ويختار لنبوته . ويعلمه أهلا لها . وقوله تعالى :

    ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض أي : لاقتضاء علمه وحكمته ذلك . فإنه أعلم بمن في السماوات والأرض وأحوالهم . فآتى موسى التوراة وكلمه . وعيسى الإنجيل ، وداود الزبور . فضلهم بما آتاهم على غيرهم . وقد آتى محمدا القرآن ففضله به على الأنبياء كافة . وقوله تعالى : وآتينا داود زبورا أي : يشتمل على الحكمة وفصل الخطاب ، ففضلناه به . قيل : الآية رد عليهم إذ استبعدوا أن يكون صلى الله عليه وسلم نبيا ، دون من يعدونه عظيما بينهم في الغنى والجاه . وذكر من في السماوات لإبطال قولهم : لولا أنـزل علينا الملائكة وذكر من في الأرض لرد قولهم : لولا نـزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وتخصيص داود بالذكر ؛ إشارة لتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم كما دل عليه ما كتب فيه من : أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ففيه تلميح إلى ما وقع فيه من وصفه بما ذكر فيه . وإيثار الزبور على الملك ؛ بيان لحيثية شرفه ، وأنه بما أوحي إليه من الكتاب والعلم ، لا بالملك والمال ، كذا قالوا . والظاهر أنه للإشارة إلى أن داود عليه السلام لم يكن في نشأته الأولى ممن يظن أنه يبلغ ما بلغ في الحكمة والملك ، وقد اختصه الله بهما وميزه الله على أهل عصره . وإذ كان ذلك اختصاصا ربانيا ، فلا غرابة أن يختص سبحانه من العرب ، من علم أنه أرجحهم عقلا ، وأكملهم فضلا ، لختم نبوته ، وهداية بريته ، بمنهاجه وشرعته .

    وقوله تعالى :

    [ ص: 3941 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [56-57] قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا .

    قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا

    أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا

    أي قل لهؤلاء المشركين ، الذين يعبدون من دون الله من خلقه : ادعوا من زعمتموهم أربابا وآلهة من دونه ، عند ضر ينزل بكم ، وانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم أو تحويله عنكم إلى غيركم ، فتدعونهم آلهة ، أي : فإنهم لا يقدرون على ذلك ولا يملكونه ، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم .

    روى الطبري عن ابن عباس ؛ أن الآية عني بها قوم مشركون ، كانوا يعبدون المسيح وعزيرا والملائكة . فأخبرهم الله تعالى أن هؤلاء عبيده يرجون رحمته ويخافون عذابه ، ويتقربون إليه بالأعمال . ونظير هذه الآية في النهي عن أن يشرك به تعالى الملائكة والأنبياء ، قوله سبحانه : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا [ ص: 3942 ] أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون وفي قوله تعالى : ويرجون رحمته ويخافون عذابه إشارة إلى أن العبادة لا تتم إلا بالرجاء والخوف . فبالرجاء تكثر الطاعات ، وبالخوف تقل السيئات . وقوله تعالى : محذورا أي : ينبغي أن يحذر منه ويخاف من حلوله . عياذا بالله منه . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [58] وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا .

    وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا

    إخبار بأنه حتم وقضى ؛ أنه ما من قرية يتمرد أهلها على نبيهم ، إلا ويبيدهم ، أو ينزل بهم من العذاب شديده . وذلك لذنوبهم وخطيئاتهم وعدم استجابتهم لنبيهم ، كما قال تعالى : وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم وقال تعالى : فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا وقال تعالى : وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله الآيات . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [59] وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا .

    وما منعنا أن نرسل بالآيات أي : التي تقترحها قريش : إلا أن كذب بها [ ص: 3943 ] الأولون أي : إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم ، كعاد وثمود . وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك . فاستوجبوا الاستئصال ، على ما مضت به السنة الإلهية . وقد قضينا أن لا نستأصلهم ، لأن منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن . ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة ، فقال : وآتينا ثمود الناقة أي : أعطينا قوم صالح الناقة بسؤالهم : مبصرة أي : بينة ، تبصر الغير برهانها : فظلموا بها أي : فكفروا بها وظلموا أنفسهم بسبب عقرها ، فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم : وما نرسل بالآيات إلا تخويفا أي : وما نرسل الآيات المقترحة إلا تخويفا للناس ، ليعلموا السنة الإلهية مع العاتين ، فيتذكروا ويتوبوا .

    روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا ، فقيل له : إن شئت أن تستأني بهم ، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا ، هلكوا كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم . قال : « لا بل أستأني بهم » ، وأنزل الله تعالى : وما منعنا أن نرسل الآية . ورواه النسائي .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [60] وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا .

    وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس أي : علما ، فلا يخفى عليه شيء من كفرهم [ ص: 3944 ] وتكذيبهم . ومنه ما جرى منهم ، إثر الرؤيا والإخبار بالشجرة ، من الجحود والهزء واللغو . كما قال سبحانه : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس قال الأكثرون : يعني ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من الآيات . فلما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للناس، أنكر بعضهم ذلك وكذبوا . وجعل الله ذلك ثباتا ويقينا للمخلصين . فكانت فتنة ، أي : اختبارا وامتحانا . وتمسك بهذا من جعل الإسراء مناما ; لكون الرؤيا مخصوصة بالمنام . وأجيب بأن قوله تعالى: إلا فتنة للناس يرده ; لأن رؤيا المنام لا يفتتن بها أحد ولا يكذب. وجاء في اللغة ( الرؤيا بمعنى الرؤية مطلقا ) وهو معنى حقيقي لها. وقيل: إنها حقيقة في رؤيا المنام ورؤيا اليقظة ليلا. وقد ذكر السهيلي أنه ورد في كلام العرب بهذا المعنى، وأنه كالقربى والقربة. وقيل : إنه مجاز، إما مشاكلة لتسميتهم له رؤيا ، أو جار على زعمهم . أو على التشبيه بها لما فيها من خرق العادة أو لوقوعها ليلا، أو لسرعتها . أفاده الشهاب.

    وروى الطبري عن الحسن في الآية هذه; قال: أسري به صلى الله عليه وسلم عشاء إلى بيت المقدس ، فصلى فيه وأراه الله ما أراه من الآيات ، ثم أصبح بمكة، فأخبرهم أنه أسري به إلى بيت المقدس . فقالوا له : يا محمد ! ما شأنك؟ أمسيت فيه ثم أصبحت فينا ، تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس ؟ فعجبوا من ذلك حتى ارتد بعضهم عن الإسلام .

    وقال قوم : الآية في رؤياه صلى الله عليه وسلم التي رأى أنه يدخل مكة . فروى البري عن ابن عباس ، قال : يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أنه دخل مكة هو وأصحابه، وهو يومئذ بالمدينة ، فعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة قبل الأجل ، فرده المشركون ، فقالت أناس : قد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان حدثنا أنه سيدخلها . فكانت رجعته فتنتهم . وذلك عام الحديبية . ثم دخل مكة في العام المقبل . وأنزل الله عز وجل : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ولا يقال : إن السورة مكية وقصة الحديبية بعد الهجرة، لاحتمال أنه رأى تلك الرؤيا بمكة، [ ص: 3945 ] ونزلت عليه هذه الآية . ولكنه ذكرها عام الحديبية ; لأنه كان إذ ذاك بمكة . فعلم أن دخوله بعد خروجه منها . كذا قيل .

    وذهب بعضهم إلى أن كثيرا من السور المكية ضم إليها آيات مدنية ، كما في " الإتقان " . والطبري رجح الأول وفاقا للأكثر . وقد قدمنا مرارا ; أن السلف قد يريدون بقولهم : ( نزلت الآية في كذا ) أن لفظ الآية مما يشمل ذلك . لا أنه كان سببا لنزوله حقيقة . وعليه ، فلا إشكال .

    وقوله تعالى : والشجرة الملعونة في القرآن عطف على الرؤيا ، والأكثرون على أنها شجرة الزقوم ، المذكورة في سورة الصافات في قوله تعالى : أذلك خير نـزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين الآيات. وفتنتهم فيها ما رواه الطبري عن ابن عباس وقتادة ; أن أبا جهل قال: زعم صاحبكم هذا - يعني النبي صلوات الله عليه - أن في النار شجرة ، والنار تأكل الشجر ! فكذبوا بذلك . وفي رواية : أن أبا جهل قال : أيخوفني بشجر الزقوم ؟ ثم دعا بتمر وزبد وجعل يأكل ويقول : تزقموا ، فما نعلم الزقوم غير هذا . والمراد بلعنها في القرآن : لعن طاعمها فيه ، على أنه مجاز في الإسناد . أو الملعون بمعنى المؤذي لأنها تغلي في البطون كغلي الحميم . فهو إما مجاز مرسل أو استعارة . وقوله تعالى : ونخوفهم أي : بذلك وبنظائره من الآيات : فما يزيدهم أي: التخويف : إلا طغيانا كبيرا أي : تماديا فيما هم فيه من الضلال والكفر .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #436
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    المجلد العاشر
    صـ 3946 الى صـ 3960
    الحلقة (435)



    [ ص: 3946 ] قال المهايمي : أي : فلو أرسلنا إليهم الآيات المقترحة لقالوا: إنه أجل من أحاط بأبواب السحر . فلا فائدة في إرسالها سوى تعجيل العذاب الدنيوي . لكنه ينافي إظهار دينه على الدين كله .

    ثم أشار تعالى إلى أن هذا الطغيان من اتباع الشيطان . وأنه وحزبه ، لعتوهم وتمردهم عن الحق ، في النار ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [61-62] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا .

    وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم أي : تحية وتكريما : فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا كما قال في الآية الأخرى : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين

    قال أي : جراءة على الرب وكفرا به : أرأيتك هذا الذي كرمت علي أي : أخبرني عن هذا الذي كرمته علي بأن أمرتني بالسجود له، لم كرمته علي ؟ . أو المعنى: أخبرني أهذا الذي كرمته علي: لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا أي: لأعمنهم وأهلكنهم بالإغواء ، إلا المخلصين .

    [ ص: 3947 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [63-65] قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا .

    قال اذهب أي : امض لشأنك الذي اخترته : فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا أي : جزاء مكملا .

    واستفزز أي : استخف وأزعج : من استطعت منهم أي : أن تستفزه فتخدعه : بصوتك أي : بدعائك إلى الفساد . وعبر عن الدعاء بالصوت تحقيرا له حتى كأنه لا معنى له : وأجلب عليهم بخيلك ورجلك أي : صح عليهم ، من الجلبة ( بفتحات ) وهي الصياح . و ( الخيل ) الخيالة ، أي : ركبان الخيل مجازا . وأصل معنى الخيل الأفراس . ( والرجل ) اسم جمع للراجل وهو خلاف الفارس ، والمراد الأعوان والأتباع مطلقا .

    قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله ؟ . قلت : هو كلام ورد مورد التمثيل ، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه ، بمغوار - بكسر الميم ، الكثير الغارة وهي الحرب والنهب - أوقع على قوم فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ، ويقلقهم عن مراكزهم . وأجلب عليهم بجنده من خيالة حتى استأصلهم - أي : فالكلام استعارة تمثيلية مركبة ، استعير فيه المجموع والهيئة للمجموع والهيئة . ووجهه ما ذكره من استئصالهم وإهلاكهم ، أو غلبته وتسخيره لهم . وجوز أن يكون التجوز في المفردات تجوزا بصوته عن دعائه إلى الشر بالوسوسة ، وبخيله ورجله عن كل راكب وماش من أهل العبث [ ص: 3948 ] والفساد بإغوائه وشاركهم في الأموال أي : بحمله إياهم على إنفاقها في المعاصي وجمعها من حرام والتصرف فيها تحريما وتحليلا بما لا يرضى : والأولاد أي : بالتفاخر فيهم وتضليلهم بصبغهم غير صبغة الدين ووأدهم ، ونحو ذلك مما يعصى الله بسببه : وعدهم أي : المواعيد الباطلة والأماني الكاذبة من سلامة العاقبة ودوام الغلبة : وما يعدهم الشيطان إلا غرورا وهو تزيين الباطل بزينة الحق.

    إن عبادي أي : المخلصين : ليس لك عليهم سلطان أي : تسلط بالإغواء : وكفى بربك وكيلا أي : كفيلا لهم يتوكلون عليه ولا يلجؤون في أمورهم إلا إليه . وهو كافيهم .

    وقد أشار القاشاني إلى أن الآية تشير إلى انقسام الناس مع الشيطان على أصناف . وعبارته : تمكن الشيطان من إغواء العباد على أقسام ; لأن الاستعدادات متفاوتة . فمن كان ضعيف الاستعداد استفزه. أي : استخفه بصوته ، يكفيه وسوسة وهمس بل هاجس ولمة . ومن كان قوي الاستعداد، فإن أخلص استعداده عن شوائب الصفات النفسانية ، أو أخلصه الله تعالى عن شوائب الغيرية ، فليس له إلى إغوائه سبيل ، كما قال : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وإلا فإن كان منغمسا في الشواغل الحسية ، غارزا رأسه في الأمور الدنيوية ، شاركه في أمواله وأولاده ، بأن يحرضه على إشراكهم بالله في المحبة ، بحبهم كحب الله . ويسول له التمتع بهم ، والتكاثر والتفاخر بوجودهم . ويمنيه الأماني الكاذبة ويزين عليه الآمال الفارغة . وإن لم ينغمس ، فإن كان عالما بصيرا بتسويلاته ، أجلب عليه بخيله ورجله . أي : مكر به بأنواع الحيل . وكاده بصنوف الفتن . وأفتى له في تحصيل أنواع الحطام والملاذ بأنها من جملة مصالح المعاش. وغره بالعلم وحمله على الإعجاب ، وأمثال ذلك حتى يصير ممن أضله الله على علم . وإن لم يكن عالما بل عابدا متنسكا ، أغواه بالوعد والتمنية . وغره بالطاعة والتزكية أيسر ما يكون . انتهى .
    ثم بين تعالى بعضا من آيات وحدانيته وألوهيته بقوله:

    [ ص: 3949 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [66] ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما .

    ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر أي : يسير لكم السفن في البحر : لتبتغوا من فضله أي : من رزقه . والآية صريحة في ركوب البحر للتجارة : إنه كان بكم رحيما حيث سهل لكم أسباب ذلك .

    قال أبو السعود: وهذا تذكير لبعض النعم التي هي من دلائل التوحيد، وتمهيد لذكر توحيدهم عند مساس الضر ، تكملة لما مر من قوله : فلا يملكون الآية ، وذلك قوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [67] وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا .

    وإذا مسكم الضر في البحر أي : خوف الغرق : ضل من تدعون إلا إياه أي : ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه وتعبدونه ، إلا إياه وحده . فإنكم لا تذكرون سواه . فطرة فطر الله الخلق عليها .

    وهذه الآية مما يستدل بها على الرجوع إلى الفطرة الصحيحة . وقد استدل لكثير من الأصول بها ، كما يعلم ذلك من كلام الأئمة في مسائل شتى . كمسألة وجود الخالق وعلوه ، والمعاد وغيرها . وقوله تعالى : فلما نجاكم أي : من الغرق : إلى البر أعرضتم أي : عن التوحيد : وكان الإنسان كفورا أي : بأنعم الله . والجملة كالتعليل للإعراض . قال الشهاب : وفيه لطف ، حيث أعرض عن خطابهم بخصوصهم . وذكر أن جنس [ ص: 3950 ] الإنسان مجبول على هذا . فلما أعرضوا أعرض الله عنهم . ثم خوفهم تعالى بقدرته العظيمة ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [68-69] أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا .

    أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أي : يغوره بكم : أو يرسل عليكم حاصبا أي : ريحا ترمي بالحصباء يرجمكم بها ، فيكون أشد عليكم من الغرق : ثم لا تجدوا لكم وكيلا أي : من يتوكل بصرف ذلك عنكم

    أم أمنتم أن يعيدكم فيه أي : يقوي دواعيكم لركوب البحر : تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح أي : ريحا شديدة لا تمر بشيء إلا قصفته ، فتكسر السفينة وسط البحر : فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا أي : مطالبا بما فعلنا . مثل من يطالب على مغرق سوانا . وهذا كقوله : ولا يخاف عقباها
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [70] ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا .

    ولقد كرمنا بني آدم أي : بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة والصورة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به : وحملناهم في البر والبحر أي : يسرنا لهم أسباب المعاش والمعاد [ ص: 3951 ] بالسير في طلبها فيهما ، وتحصيلها : ورزقناهم من الطيبات أي : فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات : وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا أي : عظيما ، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ، بأن يعبدوا المتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده .

    تنبيه :

    ظاهر قوله تعالى : ( على كثير ) أن ثمة من لم يفضل البشر عليه . قيل : وهم الذوات المقدسة من الملأ الأعلى . أعني الملائكة .

    قال القاشاني : وأما أفضلية بعض الناس ، كالأنبياء على الملائكة المقربين ، فليست من جهة كونهم بني آدم . بل من جهة السر المودع فيهم ، المشار إليه بقوله : إني أعلم ما لا تعلمون وهو ما أعد لذلك البعض من المعرفة الإلهية التامة . وحينئذ ليس هو بهذا الاعتبار من بني آدم كما قيل :


    وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوتي


    وذهب قوم إلى تأويل ( الكثير ) بـ ( الكل ) كما أول ( القليل ) بمعنى ( العدم ) في قوله تعالى : فقليلا ما يؤمنون والمعنى : وفضلناهم على الجم الغفير من خلقنا ، أي : جميع المخلوقات .

    قال القاشاني : على أن تكون ( من ) للبيان والمبالغة في تعظيمه ، بوصف المفضل عليهم بالكثرة وتنكير الوصف وتقديمه على الموصوف . أي : كثير ، وأي كثير ، وهو جميع [ ص: 3952 ] مخلوقاتنا لدلالة ( من ) على العموم ، ولا يخفى أنه لا يلزم من تفضيل جنس على جنس آخر تفضيل كل فرد منه على كل فرد من الآخر . والمسألة معروفة في كتب الكلام .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [71-72] يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .

    يوم ندعوا كل أناس بإمامهم أي : بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين . فيقال : يا أتباع فلان ! يا أهل دين كذا وكتاب كذا . وقيل : بكتاب أعمالهم ، فيقال : يا أصحاب كتاب الخير ! ويا أصحاب كتاب الشر ! قالوا : وفيه شرف لأصحاب الحديث ; لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم .

    وقال القاشاني : أي : نحضر كل طائفة من الأمم مع شاهدهم الذي يحضرهم ويتوجهون إليه ويعرفونه ، سواء كان صورة نبي آمنوا به ، أو إمام اقتدوا به ، أو دين أو كتاب ، أو ما شئت . على أن تكون ( الباء ) بمعنى ( مع ) . أو ننسبهم إلى إمامهم وندعوهم باسمه ; لكونه هو الغالب عليهم وعلى أمرهم ، المستعلي محبتهم إياه على سائر محباتهم .

    ورجح ابن كثير ، رحمه الله ، القول بأن الإمام هو كتاب الأعمال ، لقوله تعالى : وكل شيء أحصيناه في إمام مبين وقال تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه الآية ، وقال تعالى : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ ص: 3953 ] وما رجحه رحمه الله هو الصواب ; لأن القرآن يفسر بعضه بعضا ، وأول ما ينبغي الاهتمام به في معاني الآيات ، هو الرجوع إلى نظائرها . وقوله تعالى : فمن أوتي أي : من هؤلاء المدعوين : كتابه أي : كتاب أعماله : بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم أي : فرحا وابتهاجا بما فيه من العمل الصالح : ولا يظلمون فتيلا أي : لا ينقصوه من أجورهم قدر فتيل ، وهو ما في شق النواة ، أو ما تفتله بين أصبعيك ، أو هو أدنى شيء ، فإن الفتيل مثل في القلة ، كقوله تعالى : ولا يظلمون شيئا

    ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا أي : ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن الاهتداء إلى الحق ، فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة ، وأضل سبيلا منه في الدنيا ; لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسبابا يمكنه الاهتداء بها . وهو في مقام الكسب باقي الاستعداد . ولم يبق هناك شيء من ذلك . قيل : العمى حقيقة فيمن لا يدرك المبصرات ; لفساد حاسته ، مجاز في عمى البصيرة وهو عدم الاهتداء إلى طريق النجاة . وقيل : هو حقيقة فيهما . وعليه جوز أن يكون ( أعمى ) الثاني أفعل تفضيل ; لأنه من عمى القلب لا عمى البصر . ويجوز أن يصاغ من العيوب الباطنة أفعل تفضيل كالأحمق والأبله .

    لطيفة :

    قال الناصر : يحتمل أن تكون هذه الآية قسيمة الأولى . أي : فمن أوتي كتابه بيمينه فهو الذي يبصره ويقرؤه . ومن كان في الدنيا أعمى غير مبصر في نفسه ، ولا ناظر في معاده ، فهو في الآخرة كذلك ، غير مبصر في كتابه ، بل أعمى عنه ، أو أشد عمى مما كان في الدنيا ، على اختلاف التأويلين . وقوله تعالى :

    [ ص: 3954 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [73-74] وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا .

    وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إخبار عن تأييده تعالى رسوله ، صلوات الله عليه وسلامه ، وتثبيته وعصمته وتولي أمره وحفظه . فإن المشركين ، لكثرة تفننهم في ضروب الأذى وشدة تعنتهم وقوة شكيمتهم ، كادوا أن يفتنوه . ولكن عناية الله وحفظه ، هو الذي ثبت قدمه في مثل مقامه في الدعوة إلى الله الذي لا يثبت فيه أحد غيره . وقد روي أن ثقيفا قالوا : لا نؤمن حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب : لا ننحني في الصلاة ، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا ، وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها ، فإن خشيت أن يسمع العرب : ( لم أعطيتهم ما لم تعطنا ) فقل : الله أمرني بذلك .

    وروي أن قريشا قالوا : لا ندعك يا محمد أن تستلم الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا. وقالوا أيضا : نؤمن بك أن تمس آلهتنا .

    قال الإمام الطبري : يجوز أن تكون الفتنة فما ذكر . وأن تكون غير ذلك . ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أي ذلك كان . فالأصوب : الإيمان بظاهره حتى يأتي ما يجب التسليم له ، ببيان ما عني بذلك منه .

    قال الزجاج : معنى الكلام : كادوا يفتنونك . ودخلت ( أن ) المخففة من الثقيلة و ( اللام ) للتأكيد. والمعنى : أن الشأن قاربوا أن يفتنوك ، أي : يخدعوك. ويصرفوك عن القرآن ، أي: عن حكمه . وذلك لأن في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن . وقوله : لتفتري علينا غيره أي : غير ما أوحينا إليك وهو قولهم : قل الله أمرني بذلك : [ ص: 3955 ] وإذا لاتخذوك خليلا أي : لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا ، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم ، وراض بشركهم. ثم قال: ولولا أن ثبتناك أي : على الحق بعصمتنا إياك: لقد كدت تركن إليهم أي : تميل إليهم : شيئا قليلا وقوله : شيئا عبارة عن المصدر ، أو ركونا قليلا .

    وعن قتادة : لما نزلت هذه الآية . قال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين » .

    ثم توعده في ذلك أشد التوعد ، فقال :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [75] إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا .

    إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات أي : ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . و ( الضعف ) عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله ، ودل على إضمار العذاب وصف العذاب بالضعف في كثير من الآيات ، كقوله تعالى : ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار وقال : لكل ضعف ولكن لا تعلمون

    والسبب في تضعيف العذاب ; أن أقسام نعم الله على الأنبياء أكثر . فكانت ذنوبهم أعظم . فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر . ونظيره قوله تعالى : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين

    تنبيهات:

    الأول: قال القفال رحمه الله ) بعد ذكره ما روي في سبب نزولها مما قدمناه): ويمكن أيضا تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه ; لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يقدرون عليه . فتارة كانوا يقولون : [ ص: 3956 ] إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك ، فأنزل الله تعالى : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون وقوله : ودوا لو تدهن فيدهنون وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنساء الجميلة ليترك ادعاء النبوة ، فأنزل الله تعالى : ولا تمدن عينيك ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل الله تعالى قوله : ولا تطرد الذين يدعون ربهم فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب . وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه ، وأن يزيلوه عن منهجه . فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم. وعلى هذا الطريق . فلا حاجة في تفسير هذه الآيات، إلى شيء من تلك الروايات . والله أعلم .

    الثاني : قال القاضي : معنى قوله تعالى : ولولا أن ثبتناك الآية ، إنك كنت على صدد الركون إليهم ، لقوة خداعهم وشدة احتيالهم . لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون ، فضلا عن أن تركن عليهم . وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما هم بإجابتهم ، مع قوة الداعي إليها ، ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه .

    الثالث : قال الزمخشري : في ذكر الكيدودة وتقليلها ، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين ; دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته. وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة ، مضادة لله وخروج عن ولايته ، وسبب موجب لغضبه ونكاله . فعلى المؤمن ، إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها فهي جديرة بالتدبر . وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله .

    الرابع : جاء في (" حواشي جامع البيان ") ما مثاله بالحرف : من الفوائد الجليلة في هذه الآية ، أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك ، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما . فإنها شعائر [ ص: 3957 ] الكفر والشرك . وهي أعظم المنكرات ، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة . وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله. والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذور والتقبيل ، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض ، مع القدرة على إزالته . وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، وأعظم شرك عندها وبها . فإن اللات - على ما نقله ابن خزيمة عن مجاهد - رجل كان يلت لهم السويق فمات . فعكفوا على قبره يعبدونه ويعظمونه . ولم يقولوا : إن اللات خلقت السماوات والأرض ، بل كان شركهم باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه ، من النذور لها ، والشرك بها ، والتمسح بها ، وتقبيلها ، واستلامها . وما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مجرد مس آلهتهم ، كما قالوا نؤمن بك إن تمس آلهتنا ، وما التمسوا منه إلا التمتيع باللات سنة من غير عبادة ، فتوعد بهذا الوعيد الشديد والتهديد الأكيد أن لو ركن إليهم . فالرزية كل الرزية ما ابتلي به القبوريون من أهل هذا الزمان . فإنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام ، إلا فعلوه بالقبور . فإنا لله وإنا إليه راجعون . بل كثير منهم ، إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه ، حلف بالله فاجرا ، فإذا قيل له بعد ذلك : احلف بشيخك ، أو بمعتقدك الولي الفلاني ، تلكأ وأبى واعترف بالحق . وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال : ( ثالث ثلاثة ) فيا علماء الدين ! ويا ملوك المسلمين ! أي : رزء للإسلام أشد من الكفر ؟ وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله ؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه ؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا ؟

    فاللهم ! انصر من نصر الحق واهدنا إلى سواء السبيل . انتهى .

    [ ص: 3958 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [76-77] وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا

    وإن كادوا أي: أهل مكة : ليستفزونك من الأرض أي : ليزعجونك بمعاداتهم من مكة : ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك أي : ولو خرجت لا يبقون بعد خروجك : إلا قليلا أي : زمانا قليلا .

    سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم ، فسنة الله أن يهلكهم . ونصبت نصب المصدر المؤكد . أي : سن الله ذلك سنة : ولا تجد لسنتنا تحويلا أي : تغييرا . ولا يخفى أن المراد بعدم لبثهم ، إهلاكهم . سواء كان بالاستئصال أو لا . قال ابن كثير : وكذلك وقع ، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بين هجرته من بين أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف ، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد . فأمكنه منهم ، وسلطه عليهم ، وأظفره بهم . فقتل أشرافهم وسبى سراتهم . ولهذا قال تعالى : سنة من قد أرسلنا أي : هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم . يخرج الرسول من بين أظهرهم ويأتيهم العذاب . ولولا أنه صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة ، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به ، كما قال تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم

    وقوله تعالى :

    [ ص: 3959 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [78] أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا .

    أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا لما ذكر تعالى ، قبل ، كيد المشركين وكيدودتهم استفزازه من الأرض ، أمره بأن يستعين بإقامة الصلوات والإقبال على عبادته تعالى ، والابتهال إليه على دفع كيدهم ومكرهم ، وتأييده عليهم . ونظيره قوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين وقوله : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى وقوله : واستعينوا بالصبر والصلاة هذا من حيث نظم الآية مع ما قبلها . وأما معناها ، فقوله : لدلوك الشمس أي : لزوالها . قال ابن تيمية : الدلوك : الزوال عند أكثر السلف ، وهو الصواب . واللام للتأقيت . أي : بيان الوقت بمعنى ( بعد ) وتكون بمعنى ( عند ) أيضا . وقيل : للتعليل ; لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة. وأما : غسق الليل فهو اجتماع الليل وظلمته . وأما : قرآن الفجر فهو صلاة الصبح . سميت قرآنا لأنه ركنها . كما سميت ركوعا وسجودا . فهو من تسمية الكل باسم جزئه المهم . فيدل على وجوب القراءة فيها صريحا ، وفي غيرها بدلالة النص والقياس . ومعنى : مشهودا يشهده ملائكة الليل والنهار . ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء ، فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار . أو يشهده الكثير من المصلين في العادة ! ومن حقه أن يكون مشهودا بالجماعة الكثيرة . والأكثرون على أن قوله تعالى : وقرآن الفجر [ ص: 3960 ] منصوب بالعطف على ( الصلاة ) أي : وأقم صلاة الفجر . وجوز بعض النحاة نصبه على الإغراء . أي : وعليك قرآن الفجر ، أو الزم .

    تنبيهات :

    الأول : هذه الآية جامعة للصلوات الخمس ومواقيتها ، فدلوك الشمس يتناول الظهر والعصر تناولا واحدا . وغسق الليل يتناول المغرب والعشاء تناولا واحدا . وقرآن الفجر هي صلاة مفردة لا تجمع ولا تقصر . قيل : هذا يقتضي أن يكون الدلوك مشتركا بين الظهر والعصر . والغسق مشتركا بين المغرب والعشاء . فيدل على جواز الجمع مطلقا بين الأولين، وكذا بين الأخيرين. فالجواب : هو كذلك بعذر السفر أو المطر ونحوها . وأما في غيرها فلا ، وذلك لما بينته السنة من فعل كل واحدة في الوقت الخاص بها ، إلا بعذر . قال الحافظ ابن كثير : قد بينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترا من أفعاله وأقواله ، تفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم ، مما تلقوه خلفا عن سلف ، وقرنا بعد قرن ، كما هو مقرر في مواضعه .

    وقال العلامة أبو السعود : ليس المراد إقامتها فيما بين الوقتين على وجه الاستمرار ، بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام . كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه السلام . ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلوات من غير فصل بينها ; لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة . فبعضها متصل ببعض ، بخلاف أول وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم ينقطع أحدهما عن الآخر . ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات . انتهى .

    والظاهر أن مستند من جوز الجمع في الحضر مطلقا هذه الآية مع أثر ابن عباس .

    جاء في " رحمة الأمة " ما مثاله : وعن ابن سيرين أنه يجوز الجمع من غير خوف ولا مرض لحاجة ، ما لم يتخذه عادة . واختار ابن المنذر وجماعة جواز الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر ولا مرض . انتهى .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #437
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    المجلد العاشر
    صـ 3961 الى صـ 3975
    الحلقة (436)



    [ ص: 3961 ] وقد روى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة سبعا وثمانيا : الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء .

    ومن رواية لمسلم : صلى الظهر والعصر جميعا ، والمغرب والعشاء جميعا ، من غير خوف ولا سفر . وكثير من الرواة حملوا ذلك على ليلة مطيرة . والمسألة شهيرة .

    الثاني : قلنا: إن هذه الآية إحدى الآيات التي جمعت الصلوات الخمس ، ومنها قوله تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل فالطرف الأول صلاة الفجر ، فإن صلاة الفجر في النهار . فإن الصائم يصوم النهار . وهو يصوم من طلوع الفجر . والوتر تصلى بالليل ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة » . وإذا قيل : نصف النهار ; فالمراد به النهار المبتدئ من طلوع الشمس . فهذا في هذا الموضوع ، ولفظ ( النهار ) يراد به من طلوع الفجر ، ويراد به من طلوع الشمس . لكن قوله : وأقم الصلاة طرفي النهار أريد به من طلوع الفجر بلا ريب ، لأن ما بعد طلوع الشمس ليس على المسلمين فيه صلاة واجبة ، بل ولا مستحبة . بل الصلاة في أول الطلوع منهي عنها حتى ترتفع الشمس . وهل تستحب الصلاة لوقت الضحى أو لا تستحب إلا لأمر عارض ؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه . فعلم أنه أراد بالطرف الأول : من طلوع الفجر . وأما الطرف الثاني : [ ص: 3962 ] فمن الزوال إلى الغروب . فجعل الصلاة في هذا الوقت صلاة في الطرف الثاني وأشرك بينهما فيه . ثم قال : وزلفا من الليل فأجمل المغرب والعشاء في ( زلف من الليل ) وهو ساعات من الليل. فالمواقيت هنا ثلاثة .

    وقال تعالى : ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء فذكر الفجر وذكر الظهر وذكر صلاة العشاء . فمن الظهيرة إلى ما بعد صلاة العشاء وقتان للصلاة . وقد ذكر الأول من هذا الوقت والآخر من هذا الوقت . وقد دل على المواقيت في آيات أخر كقوله تعالى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون فتبين أن له التسبيح والحمد في السماوات والأرض حين المساء وحين الصباح وعشيا وحين الإظهار . فالمساء يتناول المغرب والعشاء ، والصباح يتناول الفجر ، والعشي يتناول العصر ، والإظهار يتناول الظهر .

    وقال تعالى : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى وفي الآية الأخرى : قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر . وقبل غروبها هي العصر ، وبذلك فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن جرير بن عبد الله قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال : [ ص: 3963 ] « إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا » . ثم قرأ قوله تعالى : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وقوله تعالى : ومن الليل ومن آناء الليل مطلق في آناء الليل ، يتناول المغرب والعشاء . أفاد ذلك تقي الدين ابن تيمية في فتواه في (" المواقيت الكبرى ") .

    الثالث : هذه الآية من الآيات التي أمر تعالى فيها بإقامة الصلاة لوقتها . قال ابن تيمية عليه الرحمة ، في فتواه المتقدمة : وقت الصلاة وقتان . وقت الرفاهية والاختيار . ووقت الحاجة والعذر . فالوقت في حال الرفاهية خمسة أوقات كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله . ووقت العصر ما لم تصفر الشمس . ووقت المغرب ما لم يغب نور الشفق . ووقت العشاء إلى نصف الليل . ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس » . وقد روي هذا الحديث من حديث أبي هريرة في السنن . ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في المواقيت حديث من قوله إلا هذا . وسائر ما روي فعل منه ، والأحاديث الصحيحة المتأخرة من فعله توافق هذا الحديث . ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين بالحديث . والنزاع بين العلماء في آخر وقت الظهر ، وأول وقت العصر وآخره ، وآخر وقت المغرب ، وآخر وقت العشاء ، وآخر وقت الفجر ، فالجماهير من السلف والخلف من فقهاء الحديث وأهل الحجاز وقت الظهر عندهم من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله . سوى الفيء الذي زالت عليه الشمس ، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد . وقال أبو حنيفة : إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه ، ثم يدخل وقت العصر عند الجمهور ، وعند أبي حنيفة إنما يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه ، ونقل عنه ، أن ما بين المثل إلى المثلين ليس وقتا لا للظهر ولا [ ص: 3964 ] للعصر. وعلى قول الجمهور ، فهل آخر هذا أول هذا ، أو بينهما قدر أربع ركعات مشترك ؟ فيه نزاع . فالجمهور على الأول ، والثاني منقول عن مالك . وإذا صار ظل كل شيء مثليه ، خرج وقت العصر في إحدى الروايتين عن أحمد . وهو منقول عن مالك والشافعي مع خلاف في مذهبهما . والصحيح أن وقتها ممتد بلا كراهة إلى اصفرار الشمس . وهو الرواية الثانية عن أحمد ، كما نطق به حديث عبد الله بن عمرو ، مما عمل به النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، بعد عمله بمكة . وهذا قول أبي يوسف ومحمد . فلم يكن للعصر وقت متفق عليه . ولكن الصواب المقطوع به ، الذي تواترت به السنن واتفق عليه الجماهير ; أن وقتها يدخل إذا صار ظل كل شيء مثله . وليس مع القول الآخر نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لا صحيح ولا ضعيف. ولكن الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة ; لما اعتادوا تأخير الصلاة ، واشتهر ذلك ، صار يظن من يظن أنه السنة . وقد احتج له بالمثل المضروب للمسلمين وأهل الكتاب . ولا حجة فيه لاتفاق أهل الحساب على أن وقت الظهر أطول من وقت العصر . الذي أوله إذا صار ظل كل شيء مثليه .

    وأما أوقات الحاجة والعذر فهي ثلاثة : من الزوال إلى الغروب . ومن الغروب إلى الفجر ومن الفجر إلى طلوع الشمس . فالأول وقت الظهر والعصر عند العذر . واتسع فيها وفيهما من وجهين : أحدهما : تقديم العصر إلى وقت الظهر ، كما قدمها النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة . وكما كان يقدمها في سفرة تبوك ، إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس . وتقديم العشاء إلى المغرب في المطر . فهذا جمع تقديم ، والثاني جمع تأخير ، العصر فيها إلى الغروب ; لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : « من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر . ومن أدرك [ ص: 3965 ] ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر » . مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : « وقت العصر ما لم تصفر الشمس » وأنه لم يؤخر الصلاة قط إلى الاصفرار . ويوم الخندق كان التأخير إلى بعد الغروب . وهو منسوخ في أشهر قولي العلماء بقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهذا مذهب مالك والشافعي ، وأحمد في أشهر الروايتين عنه . وقيل : يخير حال القتال في التأخير والصلاة في الوقت بحسب الإمكان . وهو الرواية الأخرى عنه. وقيل : بل يؤخرها . وهو قول أبي حنيفة أيضا. ففي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان ، قام فنقر أربعا ، لا يذكر الله فيها إلا قليلا » . فوصف صلاة المنافق بالتأخير إلى حين الغروب والنقر . فدل على المنع من هذا وهذا . فلما قال صلى الله عليه وسلم هذا وهذا ، علم أن الوقت وقتان . فمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك مطلقا . وليس له أن يؤخر إلى ذلك الوقت مع إمكان الصلاة قبله . بخلاف من لا يمكنه الصلاة قبل ذلك . كالحائض إذا طهرت ، والمجنون يفيق ، والنائم يستيقظ ، والناسي يذكر ، ودل تقديم العصر يوم عرفة على أنها تفعل في موضع مع الظهر عقيب الزوال . ودل هذا الحديث على أنها يدرك وقتها بإدراك ركعة منها قبل الغروب . مع أنه بين بقوله وفعله ; أن وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله ، ما لم تصفر الشمس . فدل ذلك على أن هذا الوقت المختص بها ، وقت مع التمكن والرفاهية . ليس لأحد أن يؤخرها عنه ولا يقدمها عليه . وقد عرف من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وابن عباس ; أنهم قالوا ( في الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس ) : تصلي الظهر والعصر . وإذا طهرت قبل طلوع الفجر ، صلت [ ص: 3966 ] المغرب والعشاء . ولم يعرف عن صحابي خلاف ذلك . وبذلك أخذ الجمهور كمالك والشافعي وأحمد . وهذا مما يدل على أنه كانت الصحابة ترى أن الليل عند العذر مشترك بين المغرب والعشاء إلى الفجر . والنصف الثاني عند العذر مشترك بين الظهر والعصر من الزوال إلى الغروب . كما دل على ذلك السنة والقرآن - يعني الآية المذكورة وأمثالها مما سقناه قبل - والذين ينازعون الجمهور في الوقت المشترك، ويقولون ليس لكل منهما إلا وقت يخصها، يقولون : الغرض إنما ثبت بالقرآن . والقرآن أوجب مطلق الذكر في قوله : قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى فلا موجب لخصوص التكبير عندهم ، بل مطلق الذكر . وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قط إلا بتكبير . ولا أحد من خلفائه ولا أحد من أئمة المسلمين ولا آحادهم المعروفين يعرف أنه صلى إلا بتكبير. ومع هذا فيجوزونه بمطلق الذكر . لأن القرآن مطلق في الذكر . فيقال لهم : القرآن مطلق في آناء الليل وفي غسق الليل . ومطلق في الطرف الأول وفي الطرف الثاني ، فدل على جواز الصلاة في هذا وهذا لو قدر أن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على التفريق ، فكيف إذا ثبت عنه أنه جمع بينهما في الوقت غير مرة ؟ ! وكذلك يقولون : قوله تعالى : اركعوا واسجدوا مطلق. فهو الفرض ، والطمأنينة إنما جاء بها خبر واحد فيفيد الوجوب دون الفرضية . وكذلك يقولون في الفاتحة : إن القرآن مطلق في إيجاب قراءة ما تيسر منه ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من بعده لم يصلوا إلا بالفاتحة . ومع قوله : « لا صلاة إلا بأم القرآن » . و « إن كل صلاة لم يقرأ فيها [ ص: 3967 ] بأم القرآن فهي خداج ، فهي خداج ، فهي خداج » . ويقولون : هذا يفيد الوجوب دون الفرضية . أو هذا خبر واحد فلا يقيد به مطلق القرآن . ومعلوم أن القرآن مطلق في الوقت المشترك أعظم من هذا ، وليس معهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب فعل كل واحدة من الأربع في الوقت الخاص إلا فعله المتواتر ، وقوله الذي هو من أخبار الآحاد . مع ما فيه من الإجمال ، كقوله لما بين المواقيت الخمسة : « الوقت ما بين هذين » وقوله : « ما بين هذين وقت » دلالته على وجوب الصلاة في هذا الوقت دون دلالة قوله : « لا صلاة إلا بأم الكتاب » وقوله : « من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج » وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : « سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ، فصلوا الصلاة لوقتها ، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة » . ولهذا احتج أحمد على وجوب فعلها في الوقت عند الرفاهية بقوله صلى الله عليه وسلم : « فصلوا الصلاة لوقتها » وهو الوقت الذي بينه لهم . والأمراء لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل . ولا صلاة الليل إلى النهار . وإنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر والعصر إلى آخر النهار . ودل هذا على أن من فعل هذا لم يقاتل ; لأنهم سألوه عن الأمراء ، أنقاتلهم ؟ قال : « لا ، ما صلوا » وهذه كانت صلاتهم . ودل على أن هذه الصلاة لا تجوز بحال ، وتفويت يوم الخندق منسوخ . وأما الجمع بينهما في الوقت المشترك فهو ثابت في السنة في مواضع متعددة . وبعضها مما أجمع عليه المسلمون ، والآثار المشهورة عن الصحابة تبين أن الوقت المشترك وقت في حال العذر . كقول عمر بن الخطاب : (الجمع بين [ ص: 3968 ] الصلاتين ، من غير عذر ، من الكبائر)، فدل على أن الجمع بينهما للعذر جائز. وقال عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة ) فيمن طهرت في آخر النهار ) : إنها تصلي الظهر والعصر ، ) وفيمن طهرت آخر الليل ) : إنها تصلي المغرب والعشاء . وهو قول الثلاثة : مالك والشافعي وأحمد ، وأما التفويت فلا يجوز بحال ، فمن جوز التفويت في بعض الصور ، فقوله ضعيف ، وإن جوز الجمع . وأما من أوجب التفويت ومنع الجمع ، فقد جمع في قوله بين أصلين ضعيفين : بين إباحة ما حرمه الله ورسوله ، وتحريمه ما شرعه الله ورسوله . فإنه قد ثبت أن الجمع خير من التفويت . فهذا الأصل ينظم كثيرا من المواقيت . وتفويت العصر إلى حين الاصفرار . وتفويت العشاء إلى النصف الثاني أيضا لا يجوز إلا لضرورة ، والجمع بين الصلاتين خير من الصلاة في هذا الوقت ، بل الصلاة بالتيمم قبل دخول وقت الضرورة خير من الصلاة بالوضوء في وقت الضرورة . وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره . وقالوا : لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار . بل إذا لم يجد الماء إلا فيه ، فإنه يصلي بالتيمم قبل الاصفرار، ولا يصليها حين الاصفرار بالوضوء. انتهى كلامه عليه الرحمة .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [79] ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا .

    ومن الليل فتهجد به نافلة لك أمر له بصلاة الليل ، إثر أمره بالصلوات الخمس وفي : { من } وجهان : أحدهما : أنها متعلقة بـ ( تهجد ) أي : تهجد بالقرآن بعض الليل . والثاني : أنها متعلقة بمحذوف عطف عليه ( فتهجد ) أي : قم من الليل ، أي : في بعضه فتهجد بالقرآن . والتهجد ترك الهجود وهو النوم ، و ( تفعل ) يأتي للسلب : كـ ( تأثم وتحرج ) بمعنى ترك الإثم والحرج . قال الأزهري : المعروف في كلام العرب أن الهاجد النائم . وأما المتهجد فهو القائم إلى الصلاة من النوم. وكأنه قيل له : ( متهجد ) لإلقائه الهجود عن نفسه ، كما يقال للعابد ( متحنث ) لإلقائه الحنث عن نفسه . انتهى .

    [ ص: 3969 ] ونقل عن ابن فارس : أن معناه: صل ليلا. وكذا عن ابن الأعرابي قال : هجد الرجل وتهجد ، إذا صلى بالليل . والمعروف الأول . والضمير في ( به ) للقرآن من حيث هو ، لا بقيد إضافته إلى الفجر ، أو للبعض المفهوم من ( من ) والباء بمعنى ( في ) أي : تهجد في ذلك البعض. وقوله تعالى: نافلة لك أي : عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس.

    قال الزمخشري : وضع ( نافلة ) موضع ( تهجدا) لأن التهجد عبادة زائدة . فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد. والمعنى: أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة ، فريضة عليك خاصة دون غيرك ; لأنه تطوع لهم . انتهى .

    قال أبو السعود : ولعله هو الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر صلاة الفجر ، مع تقدم وقتها على وقتها.

    وقوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا أي : يحمده القائم فيه وكل من رآه وعرفه . وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات . والمشهور أنه مقام الشفاعة العظمى ; للفصل بين الخلائق الذي يحمده فيه الأولون والآخرون . كما وردت به الأخبار الصحيحة . ومعنى النظم الكريم على هذا : كما انبعثت من النوم الذي هو الموت الأصغر ، بالصلاة والعبادة ، فسيبعثك ربك من بعد الموت الأكبر ، مقاما محمودا عندك وعند جميع الناس . وفيه تهوين لمشقة قيام الليل . أشار له أبو السعود .

    تنبيه:

    قال ابن جرير : ذهب آخرون إلى أن ذلك المقام المحمود ، الذي وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبعثه إياه ، هو أن يجلسه معه على عرشه . رواه ليث عن مجاهد . وقد شنع الواحدي على القائل به ، مع أنه رواه عن ابن مسعود أيضا . وعبارته - على ما نقلها الرازي - : [ ص: 3970 ] وهذا قول رذل موحش فظيع ، ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه :

    الأول : أن البعث ضد الإجلاس ، يقال : بعثت النازل والقاعد فانبعث ، ويقال : بعث الله الميت ، أي : أقامه من قبره . فتفسير البعث بالإجلاس تفسير للضد بالضد وهو فاسد .

    الثاني : أنه تعالى قال : مقاما محمودا ولم يقل مقعدا . والمقام موضع القيام لا موضع القعود .

    الثالث : لو كان تعالى جالسا على العرش ، بحيث يجلس عنده محمد عليه الصلاة والسلام لكان محدودا متناهيا . ومن كان كذلك فهو محدث.

    الرابع : يقال : إن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزاز ; لأن هؤلاء الجهال والحمقى يقولون ( في كل أهل الجنة ) : إنهم يزورون الله تعالى وإنهم يجلسون معه وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا ، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكل المؤمنين ، لم يكن لتخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بها مزيد شرف ورتبة .

    الخامس : أنه إذا قيل : السلطان بعث فلانا ، فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم . ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه . فثبت أن هذا القول كلام رذل سقط ، لا يميل إليه إلا إنسان قليل العقل عديم الدين. انتهى كلام الواحدي .

    وليته اطلع على ما كتبه ابن جرير حتى يمسك من جماح يراعه ، ويبصر الأدب مع السلف مع المخارج العلمية لهم . وهاك ما قاله ابن جرير رحمه الله ( بعد ما نقل عن مجاهد قوله المتقدم ) :

    وأولى القولين بالصواب ، ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مقام الشفاعة - ثم قال - : وهذا وإن كان هو الصحيح في القول ، في تأويل المقام المحمود ، لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين . فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه ، قول غير مدفوع صحته . لا من جهة خبر ولا نظر . وذلك لأنه لا خبر [ ص: 3971 ] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه ، ولا عن التابعين ، بإحالة ذلك . فأما من جهة النظر فإن جميع من ينتحل الإسلام ، إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة : فقالت فرقة منهم : الله عز وجل بائن من خلقه ، كان قبل خلقه الأشياء ، ثم خلق الأشياء فلم يماسها ، وهو كما لم يزل ، غير أن الأشياء التي خلقها ، إذا لم يكن هو لها مماسا ، وجب أن يكون لها مباينا ; إذ لا فعال للأشياء إلا وهو مماس للأجسام أو مباين لها . قالوا : فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله عز وجل فاعل الأشياء ، ولم يجز في قولهم إنه يوصف بأنه مماس للأشياء ، وجب بزعمهم أنه لها مباين . فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه أو على الأرض ( إذ كان من قولهم : إن بينونته من عرشه وبينونته من أرضه بمعنى واحد ، في أنه بائن منهما كليهما غير مماس لواحد منهما ) . وقالت فرقة أخرى : كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه ، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته ، وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء ، لا شيء يماسه ولا شيء يباينه . فعلى قول هؤلاء أيضا : سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه أو على أرضه ) إذ كان سواء على قولهم : عرشه وأرضه ، في أنه لا مماس ولا مباين لهذا ، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه ) .

    وقالت فرقة أخرى : كان الله عز ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه ، ثم أحدث الأشياء وخلقها ، فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا وصار له مماسا ، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا ولا شيء يحرمه ذلك . ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا وأعطى هذا ومنع هذا . قالوا : فكذلك كان قبل خلقه الأشياء ، لا شيء يماسه ولا يباينه . وخلق الأشياء فماس العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه ، فهو مماس ما شاء من خلقه ومباين ما شاء منه . فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا على عرشه أو أقعده على منبر من نور ، إذ كان من قولهم : أن جلوس الرب على عرشه ليس بجلوس يشغل جميع العرش ، ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم موجبا له صفة الربوبية ، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه . كما أن مباينة محمد صلى الله عليه وسلم ما كان [ ص: 3972 ] مباينا له من الأشياء ، غير موجبة له صفة الربوبية ولا مخرجته من صفة العبودية لربه . من أجل أنه موصوف بأنه مباين له ، كما أن الله عز وجل موصوف - على قول قائل هذه المقالة بأنه مباين لها. هو مباين له. قالوا: فإذا كان معنى ( مباين ومباين ) لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وسلم الخروج من صفة العبودية ، والدخول في معنى الربوبية فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده على عرش الرحمن . فقد تبين إذا بما قلنا أنه غير محال في قول أحد ممن ينتحل الإسلام ما قاله مجاهد ، من أن الله تبارك وتعالى يقعد محمدا على عرشه ، فإن قال قائل : فإنا لا ننكر إقعاد الله محمدا على عرشه، وإنما ننكر إقعاده معه. (حدثني ) عباس بن عبد العظيم قال : حدثنا يحيى بن كثير عن الجريري ، عن سيف السدوسي عن عبد الله بن سلام قال : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، على كرسي الرب ، بين يدي الرب تبارك وتعالى . وإنما ينكر إقعاده إياه معه . قيل : أفجائز عندك أن يقعده عليه لا معه ؟ فإن أجاز ذلك صار إلى الإقرار بأنه إما معه أو إلى أنه يقعده ، والله للعرش مباين ، أو لا مماس ولا مباين ، وبأي ذلك قال ، كان منه دخولا في بعض ما كان ينكره . وإن قال : ذلك غير جائز منه ، خروجا من قول جميع الفرق التي حكينا قولهم ، وذلك فراق لقول جميع من ينتحل الإسلام ; إذ كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها . وغير محال في قول منها ما قال مجاهد في ذلك . انتهى كلام ابن جرير رحمه الله .

    وأقول : لك أن تجيب أيضا عن إيرادات الواحدي الخمسة ، التي أفسد بها قول مجاهد . أما جواب إيراده الأول ، فإن مجاهدا لم يفسر مادة البعث وحدها بالإجلاس . وإنما فسر بعثه المقام المحمود بما ذكر .

    وعن الثاني : بأن المقام هو المنزلة والقدرة والرفعة ، معروف ذلك في اللغة .

    وعن الثالث : بدفع اللازم المذكور ; لأنه كما اتفق على أن له ذاتا لا تماثلها الذوات ، فكذلك كل ما يوصف به مما ورد في الكتاب والآثار فإنه لا يماثل الصفات ، ولا يجوز قياس الخالق على المخلوق .

    [ ص: 3973 ] وعن الرابع : بأنه مكابرة ; إذ كل أحد يعرف - في الشاهد - لو أن ملكا استدعى جماعة للحضور لديه ، ورفع أفضلهم على عرشه ، أن المرفوع ذو مقام يفوق به الكل .

    وعن الخامس : بأنه من واد آخر غير ما نحن فيه ; إذ لا بعث لإصلاح المهمات في الآخرة ، وإنما معنى الآية : إنه يرفعك مقاما محمودا . وذلك يصدق على ما قاله مجاهد وما قال الأكثر . فتأمل وأنصف . وقد أنشد الحافظ الذهبي في كتابه " العلو لله العظيم " للإمام الدارقطني في ترجمته ، قوله :


    حديث الشفاعة في أحمد إلى أحمد المصطفى نسنده

    وأما حديث بإقعاده
    على العرش أيضا فلا نجحده

    أمروا الحديث على وجهه
    ولا تدخلوا فيه ما يفسده


    وقال الذهبي في كتابه المنوه به ، في ترجمة ( محمد بن مصعب ) العابد شيخ بغداد ما مثاله : وقال المروذي : سمعت أبا عبد الله الخفاف . سمعت ابن مصعب وتلا : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا قال : نعم يقعده على العرش . ذكر الإمام أحمد ، محمد بن مصعب فقال : قد كتبت عنه . وأي رجل هو ؟ ! قال الذهبي : فأما قضية قعود نبينا على العرش ، فلم يثبت في ذلك نص ، بل في الباب حديث واه . وما فسر به مجاهد الآية ، كما ذكرناه . فقد أنكره بعض أهل الكلام . فقام المروذي وقد بالغ في الانتصار لذلك وجمع فيه كتابا وطرق قول مجاهد ، من رواية ليث بن أبي سليم ، وعطاء بن السائب ، وأبي يحيى القتات وجابر بن يزيد . وممن أفتى في ذلك العصر ، بأن هذا الأثر يسلم ولا يعارض . أبو داود السجستاني صاحب السنن وإبراهيم الحربي وخلق . بحيث إن ابن الإمام أحمد قال عقيب قول مجاهد : أنا منكر على كل من رد هذا الحديث . وهو عندي رجل سوء متهم . سمعته من جماعة . وما رأيت محدثا ينكره . وعندنا إنما تنكره الجهمية . وقد حدثنا هارون بن معروف ثنا محمد بن فضيل عن ليث ، عن مجاهد في قوله : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ ص: 3974 ] قال : يعقده على العرش . فحدثت به أبي رحمه الله فقال : لم يقدر لي أن أسمعه من ابن فضيل : بحيث إن المروذي روى حكاية بنزول، عن إبراهيم بن عرفة. وسمعت ابن عمير يقول : سمعت أحمد بن حنبل يقول : هذا قد تلقته العلماء بالقبول . وقال المروذي : قال أبو داود السجستاني : ثنا ابن أبي صفوان الثقفي ، ثنا يحيى بن أبي كثير ، ثنا سلم بن جعفر ، وكان ثقة ، ثنا الجريري ، ثنا سيف السدوسي عن عبد الله بن سلام ، قال : إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم صلى الله عليه وسلم حتى يجلس بين يدي الله عز وجل على كرسيه . الحديث . وقد رواه ابن جرير في تفسيره . ( أعني قول مجاهد ) وكذلك أخرجه النقاش في تفسيره. وكذلك رد شيخ الشافعية ابن سريج على من أنكره . بحيث إن الإمام أبا بكر الخلال قال في كتاب (السنة) من جمعه : أخبرني الحسن بن صالح العطار . عن محمد بن علي السراج . قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: إن فلانا الترمذي يقول : إن الله لا يقعدك معه على العرش. ونحن نقول : بل يقعدك ، فأقبل علي شبه المغضب وهو يقول : بلى ، والله ! بلى ، والله ! يقعدني على العرش . فانتبهت . بحيث إن الفقيه أبا بكر أحمد بن سليمان النجاد المحدث قال ( فيما نقله عنه القاضي أبو يعلى الفراء ) : لو أن حالفا حلف بالطلاق ثلاثا ; إن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش . واستفتاني ، لقلت له : صدقت وبررت .

    قال الذهبي : فأبصر ، حفظك الله من الهوى ، كيف آل الغلو بهذا المحدث إلى وجوب الأخذ بأثر منكر. واليوم يردون الأحاديث الصريحة في العلو . بل يحاول بعض الطغام أن يرد قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى انتهى .

    وقوله تعالى :

    [ ص: 3975 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [80-81] وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .

    وقل رب أدخلني مدخل صدق أي: مدخلا حسنا مرضيا بلا آفة : وأخرجني مخرج صدق أي : مخرجا حسنا مرضيا من غير آفة الميل إلى النفس ، ولا الضلال بعد الهدى . و : واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا أي : عزا ناصرا للإسلام على الكفر ، مظهرا له عليه .

    وقد رأى المهايمي ارتباط الآية بما قبلها في معناها حيث قال : وقل رب أدخلني أي : في هذه العبادات ، فإنها لا توصلك إلى المقام المحمود ، إلا إذا صدق دخولك فيها وخروجك عنها ، ولا يتم إلا بإمداد الله بعد استمدادك منه . وقولك : رب أدخلني مدخل صدق أي : بمشاهدتك في هذه العبادات ، وتخليتي عن الرياء والعجب ، وتصفيتي بإخلاص العمل ، وإخلاص طلب الأجر ، ورؤية المنة لله ، ورؤية التقصير فيها : وأخرجني عنها : مخرج صدق فلا تستعملني فيما يحبطها علي ، ولا تردني على نفسي . وإذا غلبني الشيطان أو النفس أو الخلق ، أو وردت علي شبهة ، فاجعل لي من لدنك ، لا من عند فكري : سلطانا أي : حجة : نصيرا ينصرني على ما ذكر ; ليبقي علي عبادتي فيوصلني إلى المقام المحمود . انتهى .

    واللفظ الكريم محتمل لذلك . ويظهر لنا أنه إشارة للهجرة كما ستراه .

    وقل أي : استبشارا بقرب الظفر والنصر ، وترهيبا للمشركين : جاء الحق وهو الوعد بالسلطان النصير والإسلام ودولته : وزهق الباطل أي : ذهب وهلك . وهو الشرك وجولته : إن الباطل كان زهوقا أي : مضمحلا غير ثابت في كل وقت .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #438
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    المجلد العاشر
    صـ 3976 الى صـ 3990
    الحلقة (437)


    [ ص: 3976 ] تنبيه:

    سياق هذه الآيات مع سباقها أعني قوله تعالى : وإن كادوا ليستفزونك من الأرض يدل على أن نزولها في أوقات الاهتمام للهجرة إلى المدينة ، ومبارحة مكة ، وأنه تعالى أمر نبيه بأن يبتهل إليه في تيسير إدخاله لمهاجره على ما يرضيه ، وإخراجه من بلده كذلك . وأن يجعل له حماية من لدنه ، تعز جانبه وتعصمه ممن يرومه بسوء .

    وأسلوب التنزيل العزيز في مثل هذا الدعاء ، هو إرادة الخبر بحصول المدعو ، ومشيئة الله بوقوعه عن قرب . ولذلك عقبه بقوله : وقل جاء الحق وزهق الباطل إعلاما بأن الأمر تم ، والفرج جاء ، ودحر الباطل ، ورجع إلى أصله ، وهو العدم .

    روى الحافظ أبو يعلى عن جابر رضي الله عنه قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما ، تعبد من دون الله . فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت على وجوهها . وقال : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا . ورواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود ، بنحوه .

    قال في (" الإكليل ") : فيه استحباب تلاوة هذه الآية عند إزالة المنكر.
    ثم بين تعالى خسار المشركين ، بإعراضهم عما يشفي أمراضهم المعنوية ، وهو القرآن الكريم ونجاح المؤمنين بالاستشفاء بهداه ورحمته ، بقوله :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [82] وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا .

    وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا أي : وننزل عليك من القرآن ما يستشفى به من الجهل والضلالة . ورحمة ببيان الحقائق وإقامة البراهين للمؤمنين به ، دون الكافرين ; لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله [ ص: 3977 ] وشرائعه. فيدخلهم الجنة وينجيهم من العذاب . فهو لهم رحمة ونعمة . ولا يزيد الظالمين ، بكفرهم وشركهم ، إلا خسارا . أي : إهلاكا ; لأنهم كلما جاءهم أمر من الله أو نهي ، كفروا به ، فزادهم خسارا إلى ما كانوا فيه قبل ، ورجسا إلى رجسهم .

    قال الشهاب : ( الشفاء ) : استعارة تصريحية أو تخييلية . بتشبيه الكفر بالمرض . و ( من ) بيانية ، قدمت على المبين وهو ( ما ) اعتناء.

    تنبيه :

    ذهب بعضهم إلى أن القرآن مما يستشفى به من الأمراض الحسية لهذه الآية . بحمل قوله : شفاء على معنيين من باب عموم المجاز. أو حمل المشترك على معنييه ، وممن قرر ذلك الرازي . وعبارته : اعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية. وشفاء أيضا من الأمراض الجسمانية . أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر . وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان : الاعتقادات الباطلة، والأخلاق المذمومة. أما الاعتقادات الباطلة، فأشدها فساد الاعتقادات في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر. والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب ، وإبطال المذاهب الباطلة فيها . لا جرم كان شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني . وأما الأخلاق المذمومة ، فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد ، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة ، والأعمال المحمودة . فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض . فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية .

    وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية ، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيرا من الأمراض . ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأنه لقراءة الرقى المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثارا عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد ; فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم ، المشتمل على ذكر جلال الله وكبريائه ، وتعظيم الملائكة المقربين ، وتحقير المردة والشياطين سببا لحصول النفع في الدين والدنيا كان أولى . ويتأكد ما [ ص: 3978 ] ذكرنا بحديث : « من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى » . وأما كونه رحمة للمؤمنين ، فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مرضية بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة. والقرآن منه ما يفيد الخلاص من شبهات الضالين وتمويهات المبطلين ، وهو الشفاء . ومنه ما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة، التي بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين، والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين، وهو الرحمة. ولما كانت إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة ، لا جرم بدأ الله تعالى ، في هذه الآية ، بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة، انتهى.

    وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " في بحث الأدوية والأغذية المفردة ، التي جاءت على لسانه صلى الله عليه وسلم في حرف القاف ( قرآن) : قال الله تعالى : وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين والصحيح أن ( من ) ها هنا لبيان الجنس ، لا للتبعيض . وقال تعالى : يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة . وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به. وإذا أحسن العليل التداوي به ، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام ، واعتقاد جازم ، واستيفاء شروطه ; لم يقاومه الداء أبدا. وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو أنزل على الجبال لصدعها ، أو على الأرض لقطعها ؟ ! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل للدلالة على دوائه وسببه والحمية منه، لمن رزقه الله فهما في كتابه. فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله. ومن لم يكفه فلا كفاه الله .

    ثم قال في (حرف الكاف): ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه ، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه. ثم ذكر ما كان يكتبه شيخ الإسلام ابن تيمية للرعاف . فانظره .

    [ ص: 3979 ] وذكر قبل في فاتحة الكتاب ، من سر كونها شفاء ، حقائق بديعة. وكذا في بحث الرقي . وذكر أيضا أن من الأدوية التي تشفي من الأمراض ، ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء ، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم ، من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه ، والانطراح والانكسار بين يديه ، والتذلل له والصدقة والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار ، والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب. فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها . فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء ، ولا تجربته ولا قياسه . وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة. ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية. وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ، ليس خارجا عنها. ولكن الأسباب متنوعة ، فإن القلب متى اتصل برب العالمين ، وخالق الداء والدواء ، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء ، كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه ، المعرض عنه . وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة ; تعاونا على دفع الداء وقهره . فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه ، وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له وتنعمها بذكره ، وانصراف قواها كلها إليه ، وجمعها عليه ، واستعانتها به ، وتوكلها عليه; أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية، ويوجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية ؟ ! ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأعظمهم حجابا ، وأكثفهم نفسا ، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية .

    وقد أسهب ، عليه الرحمة ، أيضا في كتاب " إغاثة اللهفان " في بيان تضمن القرآن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه ، بما تنبغي مراجعته ; ليزداد المريد علما .

    وقوله تعالى :

    [ ص: 3980 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [83] وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا .

    وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا إشارة إلى السبب في وقوع هؤلاء الضالين في أودية الضلال. وهو حب الدنيا وإيثارها على الأخرى ، وكفران نعمه تعالى ، بالإعراض عن شكرها ، والجزع واليأس من الفرج عند مس شر قضى عليه. وكل ذلك مما ينافي عقد الإيمان . فإن المؤمن ينظر بعين البصيرة ، ويشاهد قدرة الله تعالى في كلتا الحالتين. ويتيقن في الحالة الأولى ; أن الشكر رباط النعم. وفي الثانية أن الصبر دفاع النقم. فيشكر ويصبر. ويعلم أن المنعم يقدر، فلم يعرض عند النعمة بطرا وأشرا . ولم يغفل عن المنعم ولم يجزع عند النقمة جزعا وضجرا .

    فالآية وصف للجنس باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذه الصفة . كقوله تعالى : ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نـزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير

    قال الزمخشري : ونأى بجانبه تأكيد للإعراض ; لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه. والنأي بالجانب : أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره. أو أراد الاستكبار، لأن ذلك من عادة المستكبرين .

    وقوله تعالى :

    [ ص: 3981 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [84] قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا .

    قل كل يعمل على شاكلته أي : على مذهبه وطريقته وخليقته وملكته الغالبة عليه ، الحاصلة له من استعداد حقيقته ، التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة ، من قولهم : ( طريق ذو شواكل) وهي الطرق التي تتشعب منه لتشاكلها . أي : تشابهها في الشكل . فسميت عادة المرء بها ، لأنها تشاكل حاله . والدليل عليه قوله تعالى : فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا أي : أسد مذهبا وطريقة ، من العاملين : عامل الخير بمقتضى سجية القلب الفاضلة ، وعامل الشر بمقتضى طبيعة النفس ، فيجازيهما بحسب أعمالهما .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [85] ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .

    ويسألونك عن الروح قال القاشاني : أي : الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره: قل الروح من أمر ربي أي: ليس من عالم الخلق حتى يمكن تعريفه للظاهريين البدنيين ، الذين يتجاوز إدراكهم الحس والمحسوس ، بالتشبيه ببعض ما شعروا به ، والتوصيف . بل من عالم الأمر ، أي : الإبداع الذي هو عالم الذوات المجردة عن الهيولى ، والجواهر المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين ، فلا يمكنكم إدراكه أيها المحجوبون بالكون ; لقصور إدراككم وعلمكم عنه : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا هو علم المحسوسات. وذلك شيء نزر حقير بالنسبة إلى علم الله والراسخين في العلم. - هذا ما قاله القاشاني - وحاصل الجواب عليه: أن الروح موجود محدث بأمره تعالى بلا مادة ، وتولد من أصل كأعضاء الجسد ، [ ص: 3982 ] حتى يمكن تعريفه ببعض مبادئه ، بل هو من عالم الأمر لا من عالم الخلق . فيكون الاقتصار في الجواب على قوله : قل الروح من أمر ربي كما اقتصر موسى في جواب قول فرعون : وما رب العالمين على قوله : رب السماوات والأرض إعلاما بأن إدراكه بالكنه على ما هو عليه ، لا يعلمه إلا الله تعالى . وأنه شيء بمفارقته يموت الإنسان ، وبملازمته له يبقى . كما أومأ إليه قوله تعالى : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي : علما قليلا تستعيدونه من طرق الحواس . وهو هذا القدر الإجمالي .

    قال الشهاب : والسؤال - على هذا - عن حقيقتها. والجواب إجمالي بأنها من المبدعات من غير مادة . ولذا قيل : إنه من الأسلوب الحكيم . كما في قوله: يسألونك عن الأهلة إشارة إلى أن حقيقتها لا تعلم ، وإنما يعلم منها هذا المقدار . فالمراد بـ ( الأمر ) على هذا التفسير )(قول كن ) ولذا قالوا لمثله : عالم الأمر . انتهى .

    قال أبو السعود عليه الرحمة : وليس هذا من قبيل قوله سبحانه : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فإن ذلك عبارة عن سرعة التكوين . سواء كان الكائن من عالم الأمر أو من عالم الخلق . بل إنه من الإبداعيات الكائنة بمحض الأمر التكويني من غير تحصل من مادة . وحكى عليه الرحمة ، قولا آخر وهو : أن الأمر بمعنى الشأن. قال: والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي ، لاشتراك الكل فيه. وفيها من تشريف المضاف ما لا يخفى. كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه . أي: هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية التي لا يكاد يحوم حولها عقول البشر . وعليه ، فـ ( من ) بيانية أو تبعيضية . ويكون نهيا لهم عن السؤال عنها، وتركا للبيان . وهذا رأي كثيرين ، أمسكوا عن الخوض فيها، وقالوا: إنها شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع أحدا [ ص: 3983 ] من خلقه، فلا يجوز البحث عنها بأكثر من أنها شيء موجود ، بل غلا بعضهم وقال : إن الإفاضة في بحث الروح بدعة في الدين . إذا لم يبينه الله لرسوله بأكثر مما في الآية. فالاشتغال بالتفتيش عنه غلو فيما لم يرد به قرآن ولم يقم عليه برهان ، وما كان كذلك فهو عناد .

    وأجاب الخائضون في بحثها ، بأن الآية لا يدل معناها على ذكر دلالة قطعية ، ولا دلالة فيها على المنع من الخوض فيها ، ولا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمها . وغاية الأمر أنه أمر بترك الجواب عنها تفصيلا . إما لأن الإمساك عن ذلك كان عند اليهود السائلين عنها، من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ، أو لأن سؤالهم كان تعنتا . فإنها تطلق على معان: منها الراحة وبرد النسيم وعلى جبريل والقرآن وعيسى عليه السلام والحياة والقلب والرحمة وغير ذلك . فأضمروا على أنه إذا أجاب بأحد هذه الأمور ، قالوا : لم نرده ، وإنما أردنا كذا .

    ثم الأقاويل فيها من الحكماء والعلماء الأقدمين مختلفة . ولا يتم الجواب في محل الخلاف . فأتى بالجواب مجملا على وجه يصدق على كل من ذلك مرموزا ، ليعلمه العلماء بالله . واقتضت المصلحة العامة منع الكلام فيه لغيرهم ; لأن الأفهام لا تحتمله . خصوصا على طريقة الحكماء ; إذ من غلب على طبعه الجمود لا يقبله ولا يصدق به في صفة الباري. فكيف يصدق به في حق الروح الإنساني. بل قال بعض المدققين : إن في الآية والجواب ببيان حقيقتها ، وأنها من إبداعاته الكائنة بتكوينه ، من غير سبق مادة- وهو ما ذكرناه أولا - وفي الجواب بذلك ما فيه الكفاية لذوي البصائر والدراية. ومقنع لمن كان له في النزاع إذا فصل مطمع . وقد استحسن بعضهم هذا الجواب وقال مذيلا له : فيكون قوله : قل الروح من أمر ربي على أن السؤال عن حقيقتها مطابقا ، إلا أنه إجمالي . أي : من الممكنات التي يمكن الوقوف على حقائقها ، وإن كان بإعمال روية وإيقاظ فكر كباقي عالم الأمر . وعلى أن السؤال عن قدمها وحدوثها كذلك، إلا أنه تفصيلي. وأيا ما كان ، فلم يترك [ ص: 3984 ] بيانها ، ولو كانت مما لا سبيل إلى معرفته لقيل : قل إنما علمها عند ربي كما قيل في الساعة ، أو نحو ذلك. بل لو لم يكن السبيل لمعرفته ، ولو بوجه ما ، متيسرا لكثير من الناس ; لم يكن لأمره بالتفكر فيها ، والتبصر في أمرها ، للاستدلال بها عليه ، والتوصل بواسطة معرفتها إليه ، الذي هو الغاية القصوى والثمرة العظمى ; من فائدة . بل كان عبثا . فدل قوله تعالى : أولم يتفكروا في أنفسهم وقوله : وفي أنفسكم أفلا تبصرون ونحو ذلك ، أنها أمر تدركه العقول ، وبه يكون إليه تعالى الوصول.

    ثم إن الذين خاضوا في البحث عنها، أثرت عنهم أقوال شتى . وقد أفردت لذلك تآليف قديمة وحديثة ، والذي يهمنا معرفته ما عول عليه الأئمة المدققون ، الذين نقبوا عن أقوال المتقدمين ، ونقدوها بمحك الكتاب والسنة ، فنبذوا ما يخالفهما وتمسكوا بما يوافقهما .

    فمنهم الإمام ابن حزم . قال رحمه الله في كتابه (" الملل والنحل ") بعد سرد مذاهب شتى : وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالمعاد ، إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان . عاقلة مميزة مصرفة للجسد . قال : وبهذا نقول . والنفس والروح اسمان لمسمى واحد، ومعناهما واحد . ثم قال : وأما من ذهب إلى أن النفس وليست جسما ، فقول يبطل بالقرآن والسنة وإجماع الأمة . فأما القرآن ، فإن الله عز وجل قال : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وقال تعالى : اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم وقال تعالى : كل امرئ بما كسب رهين فصح أن النفس هي الفعالة الكاسبة المجيبة المخطئة . وقال تعالى : إن النفس لأمارة بالسوء وقال تعالى: ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وقال تعالى : [ ص: 3985 ] ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون وقال تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله فصح أن الأنفس ، منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة ، فيعذب . ومنها ما يرزق وينعم فرحا ، ويكون مسرورا قبل القيامة . ولا شك أن أجساد آل فرعون وأجساد المقتولين في سبيل الله، قد تقطعت أوصالها وأكلها السباع والطير وحيوان الماء . فصح أن الأنفس منقولة من مكان إلى مكان . ولا شك في أن العرض لا يلقى العذاب ولا يحس ، فليست عرضا . وصح أنها تنتقل في الأماكن قائمة بنفسها ، وهذه صفة الجسم لا صفة الجوهر عند القائل به ، فصح ، ضرورة ، أنها جسم .

    وأما من السنن فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة » . وقوله صلى الله عليه وسلم : إنه « رأى نسم بني آدم عند سماء الدنيا عن يمين آدم ويساره » . فصح أن الأنفس مرئية في أماكنها ، وقوله عليه السلام : « إن نفس المؤمن إذا قبضت ، عرج بها إلى السماء وفعل بها كذا ، ونفس الكافر إذا قبضت فعل بها كذا » فصح أنها معذبة ومنعمة ومنقولة في الأماكن ، وهذه صفة الأجسام ضرورة .

    وأما من الإجماع ، فلا اختلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن أنفس العباد منقولة بعد خروجها من الأجساد ، إلى نعيم أو إلى صنوف ضيق وعذاب. وهذه صفة الأجسام .

    ثم قال : ومعنى قول الله تعالى : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي [ ص: 3986 ] إنما هو لأن الجسد مخلوق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم عظما ثم لحما ثم أمشاجا . وليس الروح كذلك . وإنما قال الله تعالى آمرا له بالكون ( كن فكان ) فصح أن النفس والروح والنسمة أسماء مترادفة لمعنى واحد ، وقد يقع الروح أيضا على غير هذا . فجبريل عليه السلام الروح الأمين . والقرآن روح من عند الله .

    وقال ابن حزم أيضا ، قبل ذلك ، في بحث عذاب القبر : والذي نقول به في مستقر الأرواح ، هو ما قاله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم لا نتعداه ، فهو البرهان الواضح وهو أن الله تعالى قال : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين وقال تعالى : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا فصح أن الله عز وجل خلق الأرواح جملة ، وهي الأنفس . وكذلك أخبر عليه السلام : « إن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » وهي العاقلة ، الحساسة - وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها - وهي مخلوقة مصورة عاقلة ، قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم ، على جميعهم السلام ، وقبل أن يدخلها في الأجساد . والأجساد يومئذ تراب وماء . ثم أقرها تعالى حيث شاء . لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظة ( ثم ) التي توجب التعقيب والمهلة . ثم أقرها عز وجل حيث شاء . وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت . لا تزال يبعث منها الجملة ، بعد الجملة . فينفخها في الأجساد المتولدة من المني ، المنحدر من أصلاب الرجال وأرحام النساء ، كما قال تعالى : ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى

    [ ص: 3987 ] وقال عز وجل : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما الآية، وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه يجمع خلق ابن آدم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح» فيبلوهم الله عز وجل في الدنيا كما شاء. ثم يتوفاها فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا : أرواح أهل السعادة عن يمين آدم عليه الصلاة السلام ، وأرواح أهل الشقاوة عن يساره عليه السلام . وذلك عند منقطع العناصر ، وتعجل أرواح الأنبياء عليهم السلام وأرواح الشهداء إلى الجنة .

    وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه ، أنه ذكر هذا القول الذي قلنا بعينه ، وقال : على هذا أجمع أهل العلم .

    ثم قال ابن حزم: ولا تزال الأرواح هنالك ، حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في أجسادها ، ثم برجوعها إلى البرزخ المذكور . فتقوم الساعة ، ويعيد عز وجل الأرواح ثانية إلى الأجساد. وهي الحياة الثانية. ويحاسب الخلق : فريق في الجنة وفريق في السعير ، مخلدين أبدا . انتهى .

    فصل

    ومنهم شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ، عليه الرحمة ، قال في : (" تفسير سورة الإخلاص ") بعد أن ذكر نزاع المتكلمين المتفلسفة في الملائكة . هل هي متحيزة أم لا ؟ وكذلك نزاعهم في روح الإنسان التي تفارقه بالموت ، على قول الجمهور الذين يقولون : هي عين قائمة بنفسها ليست عرضا من أعراض البدن كالحياة وغيرها . ولا جزءا من أجزاء [ ص: 3988 ] البدن كالهواء الخارج منه . فإن كثيرا من المتكلمين زعموا أنها عرض قائم بالبدن ، أو جزء من أجزاء البدن. لكن هذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والخلف . ولقول جماهير العقلاء من جميع الأمم . ومخالف للأدلة ، وهذا مما استطال به الفلاسفة على كثير من أهل الكلام.

    قال القاضي أبو بكر : أكثر المتكلمين على أن الروح عرض من الأعراض. وبهذا نقول ، إذا لم يعن بالروح النفس ، فإنه قال : الروح الكائن في الجسد ضربان : أحدهما الحياة القائمة به والآخر النفس. والنفس ريح ينبث به، والمراد بالنفس ، ما يخرج بنفس التنفس من أجزاء الهواء المتحلل من المسام . وهذا قول الإسفرائيني وغيره . وقال ابن فورك : هو ما يجري في تجاويف الأعضاء . وأبو المعالي خالف هؤلاء وأحسن في مخالفتهم فقال: إن الروح أجسام لطيفة مشابكة للأجسام المحسوسة . أجرى الله العادة بحياة الأجساد ما استمرت مشابكتها لها . فإذا فارقتها تعقب الموت الحياة في استمرار العادة . ومذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر سلف الأمة وأئمة السنة ، وأن الروح عين قائمة بنفسها . تفارق البدن ، وتنعم وتعذب. ليست هي البدن ، ولا جزءا من أجزائه كالنفس المذكور .

    ثم الذين قالوا : إنها عين ، تنازعوا : هل هي جسم متحيز ؟ على قولين : كتنازعهم في الملائكة . فالمتكلمون منهم يقولون : جسم . والمتفلسفة يقولون : جوهر عقلي ليس بجسم . وأصل تسميتهم المجردات والمفارقات ، هو مأخوذ من نفس الإنسان. فإنها لما كانت تفارق بدنه بالموت ، وتتجرد عنه سموها : مفارقة مجردة . ثم أثبتوا ما أثبتوه من العقول والنفوس وسموها : مفارقات ومجردات ; لمفارقتها المادة التي هي عندهم الجسم . وهذه المفارقات عندهم ما لا يكون جسما ولا قائما بجسم. لكن النفس متعلقة بالجسم تعلق التدبير. والعقل لا تعلق له بالأجسام أصلا . ولا ريب أن جماهير العقلاء على إثبات الفرق بين البدن والروح التي تفارق.

    [ ص: 3989 ] والجمهور يسمون ذلك روحا وهذا جسما ، لكن لفظ الجسم في اللغة ليس هو الجسم في اصطلاح المتكلمين. بل الجسم هو الجسد. وهو الجسم الغليظ ، أو غلظه. والروح ليست مثل البدن في الغلظ والكثافة، ولذلك لا تسمى جسما. فمن جعل الملائكة والأرواح جسما بالمعنى اللغوي، فما أصاب في ذلك. وأما أهل الاصطلاح من المتكلمة والمتفلسفة ، فيجعلون مسمى الجسم أعم من ذلك. وهو ما أمكنت الإشارة الحسية إليه. وما قيل إنه هنا وهناك وما قبل الأبعاد الثلاثة ونحو ذلك.

    ثم قال عليه الرحمة : وما يقوله هؤلاء المتفلسفة في النفس الناطقة ، من أنها لا يشار إليها ولا توصف بحركة ولا سكون ولا صعود ولا نزول ، وليس داخل العالم ولا خارجه ; هو كلام باطل عند جماهير العقلاء . ولا سيما من يقول منهم ، كابن سينا وأمثاله : إنها لا تعرف شيئا من الأمور الجزئية ، وإنما تعرف الأمور الكلية ، فإن هذا مكابرة ظاهرة ، فإنها تعرف بدنها وتعرف كل ما تراه بالبدن وتشمه وتسمعه وتذوقه وتقصده وتأمر به وتحبه وتكرهه ، إلى غير ذلك مما تتصرف فيه بعلمها وعملها . فكيف يقال : إنها لا تعرف الأمور المعينة وإنما تعرف أمورا كلية ؟! وكذلك قولهم: إن تعلقها بالبدن ليس إلا مجرد تعلق التدبير والتصريف، كتدبير الملك لمملكته; من أفسد الكلام. فإن الملك يدبر أمر مملكته ، فيأمر وينهى . ولكن لا يصرفهم هو بمشيئته وقدرته، إن لم يتحركوا هم بإرادتهم وقدرتهم.

    والملك لا يلتذ بلذة أحدهم ولا يتألم بتألمه ، وليس كذلك الروح والبدن . بل قد جعل الله بينهما من الاتحاد والائتلاف ما لا يعرف له نظير يقاس به. ولكن دخول الروح فيه ليس هو مماثلا لدخول شيء من الأجسام المشهودة. فليس دخولها فيه كدخول الماء ونحوه من المائعات في الأوعية . فإن هذه إنما تلاقي السطح الداخل في الأوعية لا بطونها ولا ظهورها ، وإنما يلاقي الأوعية منها أطرافها دون أوساطها . وليس كذلك الروح والبدن . بل الروح [ ص: 3990 ] متعلقة بجميع أجزاء البدن باطنه وظاهره . وكذلك دخولها فيها ليس كدخول الطعام والشراب في بدن الآكل . فإن ذلك له مجار معروفة، وهو مستحيل إلى غير ذلك من صفاته. ولا جريانها في البدن كجريان الدم . فإن الدم يكون في بعض البدن دون بعض. ففي الجملة كل ما يذكر من النظائر لا يكون كل شيء منه متعلقا بالآخر ، بخلاف الروح والبدن . لكن هي مع هذا في البدن قد ولجت فيه، وتخرج منه وقت الموت، وتسل منه شيئا فشيئا. فتخرج من البدن شيئا فشيئا . لا تفارقه كما يفارق الملك مدينته التي يدبرها. والناس لما لم يشهدوا لها نظيرا، عسر عليهم التعبير عن حقيقتها. وهذا تنبيه لهم على رب العالمين، حيث لم يعرفوا حقيقته ، ولا تصوروا كيف هو سبحانه وتعالى. وإن ما يضاف إليه من صفاته هو على ما يليق به جل جلاله. فإن الروح ، التي هي بعض عبيده، توصف بأنها تعرج إذا نام الإنسان ، وتسجد تحت العرش . وهي مع هذا في بدن صاحبها لم تفارقه بالكلية . والإنسان في نومه يحس بتصرفات روحه تؤثر في بدنه . فهذا الصعود الذي توصف به الروح لا يماثل صعود المشهودات. فإنها إذا صعدت إلى مكان فارقت الأول بالكلية. وحركتها إلى العلو حركة انتقال من مكان وحركة الروح بعروجها وسجودها ليس كذلك. انتهى .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #439
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    المجلد العاشر
    صـ 3991 الى صـ 4005
    الحلقة (438)



    فصل

    وكتب بعض المنقبين عن مباحث المدققين العصريين في الروح ما مثاله : إن نظرية الروحيين التي يستدلون عليها في أوربا بالحس في هذه الأيام ، هي أن للإنسان روحا هبطت عليه من الملأ الأعلى . لا يصل العقل إلى إدراك كنهها . وإنها متصلة بهذا الجسد الطيني، بواسطة هيكل لطيف شفاف على شكل الجسد تماما. ولكنه ليس من طبيعته ولا محكوما بقوانينه . وإنه كغلاف للسر الإلهي المسمى روحا . ولعل في هذا ما يشبه قول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن الروح ( هي صورة كالجسد ) ويقولون: إن الروح وغلافها هذا [ ص: 3991 ] يخرجان من الجسد عند حصول الموت للشخص ، إلى عالم غير هذا العالم . ولكنهما لا ينفصلان عنه كل الانفصال ، بل أرواح الموتى منتشرة حولنا في كل جهة. ولكنا لا نراها بأعيننا ، لعدم استعداد أعيننا لذلك. كما أنها ليست مستعدة لرؤية أشعة ( رونتجن ) مع أنها موجودة كما تدل عليه الآية التي صنعها له . وقد دخلت تطبيقاتها في علم الطب وأفادت العلم الطبيعي فائدة كبرى . ولكن يوجد أشخاص فيهم استعداد خاص به يرون الأرواح رائحة غادية ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، رؤية حقيقية. انتهى ملخصا .

    تنبيه :

    جميع ما قدمناه ، بناء على أن المراد بالروح في الآية روح الإنسان .

    قال ابن القيم في كتاب (" الروح ") : وفي ذلك خلاف بين السلف والخلف. وأكثر السلف ، بل كلهم ، على أن الروح المسؤول عنها في الآية ليست أرواح بني آدم . بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه ، أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة ، وهو ملك عظيم . وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله قال : بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة ، وهو متكئ على عسيب ، فمررنا على نفر من اليهود . فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه عسى أن يخبر فيه بشيء تكرهونه ، وقال بعضهم : نسأله ، فقام رجل فقال : يا أبا القاسم ! ما الروح ؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلمت أنه يوحى إليه فقمت . فلما تجلى عنه قال : ويسألونك عن الروح الآية ، ومعلوم أنهم إنما سألوه عن أمر لا يعرف إلا بالوحي . وذلك هو الروح الذي عند الله لا يعلمها الناس . وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب. وقد تكلم فيها طوائف الناس من أهل الملل وغيرهم . فلم يكن الجواب [ ص: 3992 ] عنها من أعلام النبوة . فإن قيل : فقد روى أبو الشيخ عن السدي عن أبي مالك ، عن ابن عباس قال : بعثت قريش عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أمية بن المغيرة إلى يهود المدينة يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم . فقالوا : إنه قد خرج فينا رجل يزعم أنه نبي ، وليس على ديننا . ولا على دينكم . قالوا : فمن تبعه ؟ قالوا : سفلتنا والضعفاء والعبيد ومن لا خير فيه . وأما أشراف قومه فلم يتبعوه ، فقالوا : إنه قد أظل زمان نبي يخرج ، وهو على ما تصفون من أمر هذا الرجل ، فأتوه فاسألوه عن ثلاث خصال فأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي صادق ، وإن لم يخبركم بهن فهو كذاب ، سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم ، فإن قال لكم : هي من الله ، فقولوا : كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه ؟ فسأل جبريل عنها فأنزل الله الآية . يقول: هو خلق من خلق الله ليس هو من الله .

    قيل : مثل هذا الإسناد لا يحتج به. فإنه من تفسير السدي عن أبي مالك . وفيه أشياء منكرة. وسياق هذه القصة في السؤال، من الصحاح والمسانيد ، كلها تخالف سياق السدي . وقد رواها الأعمش والمغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على ملأ من اليهود ، وأنا أمشي معه ، فسألوه عن الروح ، قال : فسكت ، فظننت أنه يوحى إليه ، فنزلت : ويسألونك عن الروح يعني اليهود : قل الروح من أمر ربي الآية . وكذلك هي في قراءة عبد الله . فقالوا : كذلك نجد مثله في التوراة أن الروح من أمر الله عز وجل . رواه جرير بن عبد الحميد وغيره عن المغيرة . وروى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أتت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الروح . فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء . فأنزل الله عز وجل الآية . فهذا يدل على ضعف حديث السدي ، وأن السؤال كان بمكة ، فإن هذا الحديث وحديث ابن مسعود صريح أن السؤال كان بالمدينة مباشرة من اليهود . ولو كان قد تقدم السؤال والجواب بمكة ، لم يسكت [ ص: 3993 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، ولبادر على جوابهم بما تقدم من إعلام الله له ، وما أنزل الله عليه . وقد اضطربت الروايات عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أعظم اضطراب . فإما أن تكون من قبل الرواة ، أو تكون أقواله قد اضطربت فيها . ثم ساق ابن القيم الروايات عنه مسندة ، ثم قال : والروح في القرآن على عدة أوجه :

    أحدها : الوحي ، كقوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وقوله : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده وسمى الوحي روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح .

    الثاني : القوة والثبات والنصرة التي يؤيد بها من شاء من عباده المؤمنين ، كما قال : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه

    الثالث : جبريل كقوله تعالى : نـزل به الروح الأمين على قلبك وقال تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله وهو روح القدس ، قال تعالى : قل نـزله روح القدس

    الرابع : الروح التي سأل عنها اليهود فأجيبوا بأنها من أمر الله . وقد قيل إنها الروح المذكورة في قوله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون وإنها الروح المذكورة في قوله : تنـزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم

    الخامس : المسيح عيسى ابن مريم . قال تعالى : إنما المسيح عيسى ابن مريم [ ص: 3994 ] رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه أما أرواح بني آدم فلم تقع تسميتها بالقرآن إلا بالنفس ، قال تعالى : يا أيتها النفس المطمئنة وقال : ولا أقسم بالنفس اللوامة وقال : إن النفس لأمارة بالسوء وقال : أخرجوا أنفسكم وقال : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وقال : كل نفس ذائقة الموت

    وأما في السنة فجاءت بلفظ النفس والروح . انتهى .

    قال ابن كثير : رواية عبد الله في الصحيح المتقدمة ، تقتضي فيما يظهر ببادئ الرأي ، أن هذه الآية مدنية . وأنها إنما أنزلت حين سأله اليهود عن ذلك في المدينة . مع أن السورة كلها مكية . وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية . كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك . أو إنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية : ويسألونك عن الروح انتهى .

    وقد روى ابن جرير عن قتادة : أن الروح في الآية هو جبريل عليه السلام وحكاه عن ابن عباس .

    أقول : الذي أراه متعينا في الآية ، لسابقها ولاحقها ، أن المراد بالروح الوحي بالقرآن ، وهو قريب من قول قتادة . ووجه تعينه أن هذه الآية في سياق ذكر القرآن وتنزيله والمنة بكونه شفاء ورحمة ، وقد سمى تعالى الوحي بالقرآن روحا . قال تعالى : وكذلك أوحينا [ ص: 3995 ] إليك روحا من أمرنا وقال تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده فكانوا إذا سمعوا الروح ، وصدعوا بالإيمان به ، يتعنتون في السؤال عنه ; استبعادا لأن يكون من لدنه سبحانه ، ولأن يكون بشر مثله مبعوثا بأمره تعالى أن يبين لهم أنه وحي أوحاه الله ، وأنه روح من لدنه ، وإلقاء من أمره . ونظير هذه الآية قوله تعالى : ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي وقوله تعالى : عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون أي : بعضهم ينكره وبعضهم يتردد في صحته ، وذلك لأنهم قوم جاهليون ، لا عهد لهم بالعلوم والمعارف، فضلا عن الوحي وخصائص النبوة ; للأمية والجهالة الفاشيتين فيهم ، كما أشير إليه بقوله تعالى : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي : مما تناله مشاعركم وتصل إليه فطنكم . وما هو في جنب معلومات لا تحصى ، إلا كالقطرة من البحر والذرة من الكثيب ، والقاعدة أن القرآن متجاوب الأطراف ، يفسر بعضه بعضا .

    وجميع ما ذكره المتقدمون ، غير ما ذكرناه ، جرى مع ما يحتمله نظم الآية الكريمة . وكذا رواية ابن مسعود أنه أجيب بها اليهود ; لأنها لما كان لها وجوه من المعاني ، ومنها ما سألوا عنه ، ألقموا بها ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

    ثم أشار تعالى إلى نعمته فيما أوحاه من هذا التنزيل والهداية به ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [86] ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا .

    ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك أي : من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين ، وإنما عبر عنه بالموصول ، تفخيما لشأنه . ووصفا له بما هو في حيز الصلة ، وإعلاما بأنه ليس من قبيل كلام المخلوق : ثم لا تجد لك به علينا وكيلا أي : من يتوكل علينا برده .
    [ ص: 3996 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [87] إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا .

    إلا رحمة من ربك أي : ولكن رحمة من ربك تركته غير مشاء الذهاب به بل تولت حفظه .

    قال الزمخشري : وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا ، بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه . فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما . وهما منة الله عليه بحفظه العلم ورسوخه في صدره ، ومنته عليه في بقاء المحفوظ إن فضله كان عليك كبيرا أي : تفضله بالإيحاء والتعليم الرباني ، والاصطفاء للرسالة .

    ثم أمره تعالى أن يخاطب أولئك المشركين الذين لم يفقهوا قدر التنزيل ، وأنه وحي رباني ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [88] قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .

    قل لئن اجتمعت الإنس والجن أي : اتفقت : على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا أي : معينا . وفي تقاصر قوى هؤلاء جميعهم عن ذلك ، مع طول الزمن ، دليل قاطع على أنه ليس مما اعتيد صدوره عن البشر ، بل هو كلام عالم الغيب والشهادة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [89] ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا .

    ولقد صرفنا أي : رددنا وكررنا وبينا : للناس في هذا القرآن من كل مثل [ ص: 3997 ] أي : من كل معنى ، هو كالمثل في غرابته وحسنه ، ليتقرر ويرسخ في نفوسهم ، ويزدادوا تدبرا وإذعانا . فكان حالهم على العكس ، إذ لم يزدادوا إلا كفرا ، كما قال سبحانه : فأبى أكثر الناس إلا كفورا أي : جحودا .

    ولما تبين إعجاز القرآن ، وأنه الآية الكبرى ، ولزمتهم الحجة وغلبوا ، أخذوا يتعللون باقتراح الآيات ، فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة ، فيما حكاه تعالى عنهم بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [90-93] وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا .

    وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أي : تشقق لنا من أرض مكة عيونا .

    أو تكون لك جنة من نخيل وعنب أي : بستان منهما : فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا وإنما قدموا في عنتهم هذا المقترح ; لأنهم كانوا يردون بلاد الشام والعراق ، ويرون ما فيها من البساتين والأنهار .

    [ ص: 3998 ] قال ابن جرير فيما رواه ، إنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلادا ، ولا أقل مالا ، ولا أشد عيشا منا . فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا ، وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق . ثم زادوا في الاقتراح فقالوا :

    أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أي : قطعا بالعذاب : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أي : كفيلا بما تقول ، شاهدا بصحته .

    أو يكون لك بيت من زخرف أي : ذهب : أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك أي : وحده : حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه أي : كتابا من السماء ، فيه تصديقك : قل سبحان ربي أي : تنزيها له . والمراد به التعجب من اقتراحاتهم : هل كنت إلا بشرا رسولا أي : كسائر الرسل . وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، حسبما يلائم حال قومهم . ولم يمكن أمر الآيات إليهم ، ولا لهم أن يتحكموا على الله بشيء منها .

    تنبيه :

    لا يخفى ما في اقتراح هذه الآيات من الجهل الكبير بسنة الله في خلقه ، وبحكمته وجلاله . وبيان ذلك - كما في كتاب (" لسان الصدق ") - أن ما اقترحته قريش فيها ( منه ) ما أرادوا به مصلحتهم دون مصلحة العباد مما يخالف حكمة الله تعالى المقتضية لإخلاء بعض البقاع من العيون النابعة والأنهار الجارية والجنان الناضرة دون بعض . وإرساء الجبال الشم في موضع دون آخر ; لمصالح يعلمها هو جلت عظمته ، ولا يعلمها الخلق. فليس مقترحهم هذا من العجز في شيء . مع أن مثله لا تثبت به النبوة . فإننا نعلم أن أناسا قد استنبطوا العيون وغرسوا الجنان من النخيل والأعناب ونحتوا الجبال ولم يكونوا بذلك أنبياء . ( ومنه ) ما يناقض إرادة الله سبحانه وهو قولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا فإن إنزال السماء [ ص: 3999 ] قطعا مقتض لهلاك العالم بحذافيره . والله يريد إبقاءه إلى أجل معلوم . ( ومنه ) ما هو مستحيل في نفسه غير ممكن وقوعه أصلا وهو قولهم : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا فإن الإتيان بالله والملائكة حتى يشاهدهم المشركون أو غيرهم مما لا يمكن أن يكون . فلا يجوز طلبه ، وليس من أنواع المعجز . ( ومنه ) ما لا يصلح للأنبياء ، ولو حصل لم يكن معجزا وهو قولهم : أو يكون لك بيت من زخرف فإن هذا غير صالح للأنبياء . وليس بمعجز ، لحصول مثله عند أشباه فرعون . ( ومنه ) ما وعدوا بعدم إيمانهم به لو حصل، وأردفوه بما لا يجوز وهو قولهم : أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه فيه - على ما ذكر في الرواية - من الله العظيم إلى فلان وفلان وفلان ، لقوم من قريش بأسمائهم. أما بعد : فإن محمدا رسولي فآمنوا به . والصعود في السماء لا مرية فيه ، لأنهم قالوا : ولن نؤمن لرقيك فلو كان ، لكان عبثا. وإنزال كتاب عليهم على المعنى المذكور يستلزم جعلهم أنبياء ، لأن ذلك وحي مثل التوراة والإنجيل . والوحي مختص بالأنبياء ، والكفار عنه معزولون . فلم يكن شيء مما اقترحوه في الآيات معجزا ، وإنما هي أمور مستحيلة في نفسها ، أو لأمر آخر اقترحوها تكبرا وتعنتا وجهلا ، على أنهم بعد تلك الأقوال كلها ، قال قائل منهم : وأيم الله ! لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك. وقد قال تعالى :ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا فكان الأولى في جوابهم عما اقترحوه ، هو ما أجاب به صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى : قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا أي : تنزه ربي عن فعل ما اقترحتموه من المحال وما يناقض حكمته. وما أنا إلا بشر رسول . علي أن أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم . وقد أتيتكم بما يدل على صدق رسالتي مما أوحاه إلي . وذلك ما تحديتكم بالإتيان [ ص: 4000 ] بسورة مثله في الهداية والإصلاح ، كما أمرني ربي . ولا أقترح عليه ، سبحانه ، ما لا يجوز أن يكون أو ما يكون فعله عبثا ، لخلوه عن الفائدة . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [94] وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا .

    وما منع الناس أي : الذين حكى تعنتهم : أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا أي : إلا تعجبهم من بعثة إنسان رسولا . بمعنى إنكارهم أن يكون الرسول من جنس البشر . كما قال تعالى: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم والآيات في ذلك كثيرة . ثم نبه تعالى على لطفه ورحمته بعباده ، أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه ويفهموا منه، ويمكنهم مخاطبته ومكالمته . حتى لو كانت الأرض مستقرا لملائكته ، لكانت رسلهم منهم ، جريا على قضية الحكمة .

    فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [95] قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنـزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا .

    قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون أي : على أقدامهم كما يمشي الإنس : مطمئنين أي : ساكنين في الأرض قارين : لنـزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا أي: من جنسهم، ليعلمهم الخير ويهديهم المراشد . ولما كنتم أنتم بشرا ، بعثنا [ ص: 4001 ] فيكم رسلا منكم ، كما قال تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون

    تنبيه :

    في الآية إشارة إلى حاجة من يستقر في الأرض إلى الرسالة ، وقد قضت رحمة الباري تعالى وعنايته بذلك ، فمن على الخلق بالرسل ، وأتم حاجتهم بخاتم أنبيائه فأنقذهم من الحيرة ، وخلصهم من التخبط ، وأخرجهم من الظلمات إلى النور .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [96] قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا .

    قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم أي : على أني بلغت ما أرسلت به إليكم ، وإنكم كذبتم وعاندتم . وقرر الرازي أن المعني بالشهادة هو الشهادة على رسالته عليه الصلاة والسلام بإعجاز القرآن . أي : كفى بما أكرمني به تعالى من هذا المعجز ، شاهدا على صدقي . ومن شهد تعالى على صدقه فهو صادق. فقولكم ، معشر المشركين ، بعد هذا ، يجب أن يكون الرسول ملكا ، تحكم فاسد.

    وناقشه أبو السعود بأن ما قرره لا يساعده قوله تعالى : بيني وبينكم وما بعده من التعليل . ثم قال أبو السعود : وإنما لم يقل بيننا تحقيقا للمفارقة ، وإبانة للمباينة . وقوله تعالى : إنه كان بعباده خبيرا بصيرا أي : عالما بأحوالهم . فهو مجازيهم . وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفرة .

    [ ص: 4002 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [97] ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا .

    ومن يهد الله أي : إلى الحق بما جاء من قبله إلى الهدى : فهو المهتد ومن يضلل أي : يخلق فيه الضلال بسوء اختياره ، كهؤلاء المعاندين : فلن تجد لهم أولياء من دونه أي : أنصارا يهدونهم ويحفظونهم من قهره ، وإنما أوثر ضمير الجماعة في (لهم) حملا على معنى (من) وأوثر في ما قبله الإفراد ، حملا على اللفظ . وسر الاختلاف في المتقابلين الإشارة إلى وحدة طريق الحق ، وقلة سالكيه ، وتعدد سبل الضلال وكثرة الضلال : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم أي : يسحبون عليها كقوله : يوم يسحبون في النار على وجوههم

    وقال القاشاني : أي : ناكسي الرؤوس لانجذابهم إلى الجهة السفلية ! وعلى وجوداتهم وذواتهم التي كانوا عليها في الدنيا . كقوله: ( كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون ) إذ ( الوجه ) يعبر به عن الذات الموجودة مع جميع عوارضها ولوازمها . أي : على الحالة الأولى من غير زيادة ونقصان . وقوله تعالى : عميا وبكما وصما أي : كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ، ويتصامون عن استماعه ; فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقر أعينهم ، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ، ولا ينطقون بما يقبل منهم : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى كذا في (" الكشاف ") .

    مأواهم جهنم كلما خبت أي : سكن لهيبها ، بأن أكلت جلودهم ولحومهم : زدناهم سعيرا أي : توقدا . بأن نبدل جلودهم ولحومهم ، فتعود ملتهبة مستعرة .

    [ ص: 4003 ] قال الزمخشري : كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء ، جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ، ثم يعيدها . لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث . ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد.

    وقد دل على ذلك بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [98] ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا .

    ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا أي : لمحيون خلقا جديدا ، بإعادة الروح فينا ، إذا تلف لحمنا وبقينا عظاما. بل رقت عظامنا فصارت رفاتا . ثم احتج تعالى عليهم ، ونبههم على قدرته على ذلك بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [99] أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا .

    أولم يروا أي : يعلموا : أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم أي : يوم القيامة . ينشئهم نشأة أخرى ويعيدهم كما بدأهم . والمعنى : قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السماوات والأرض، فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس ; لأنهم ليسوا بأشد خلقا منهن . كما قال : أأنتم أشد خلقا أم السماء ولا الإعادة أصعب عليه من الإبداء ، بل هي أهون .

    قال الشهاب : ولا حاجة إلى جعل (مثل) هنا كناية عنهم . كقوله : ( مثلك لا يبخل) مع أنه صحيح . ولو جعل خلق مثلهم عبارة عن الإعادة ، كان أحسن : وجعل لهم أجلا [ ص: 4004 ] لا ريب فيه أي : جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا مضروبا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها . كما قال تعالى : وما نؤخره إلا لأجل معدود فأبى الظالمون أي : بعد قيام الحجة عليهم ووضوح الدليل : إلا كفورا أي : جحودا وتماديا في باطلهم وضلالهم .

    لطيفة :

    قال الشهاب : هذه الجملة - جملة وجعل إلخ - معطوفة على جملة : أولم يروا لأنها وإن كانت إنشائية ، فهي مؤولة بخبرية - كما في " شرح الكشاف " إذ معناها : قد علموا بدلالة العقل أنه قادر على البعث والإعادة : وجعل لهم أي : لإعادتهم : أجلا وهو يوم القيامة ، يعني أنهم علموا إمكانها وإخبار الصادق بها وضربه لها أجلا. فيجب التصديق به . أو جعل لهم أجلا ، وهو الموت والانسلاخ عن الحياة . ولا يخفى على عاقل أنه لم يخلق عبثا . فلا بد أن يجزى بما عمله في هذه الدار . فلا معنى للإنكار. فظهر ارتباط المتعاطفين ، لفظا ومعنى ، و : لا ريب فيه ظاهر على الثاني . وعلى الأول معناه : لا ينبغي إنكاره لمن تدبر . وقيل : إنها معطوفة على قوله : يخلق

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [100] قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا .

    قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي أي : رزقه وسائر نعمه على خلقه : إذا لأمسكتم خشية الإنفاق أي : لبخلتم بها مخافة نفادها بالإنفاق ، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا ; لأن هذا من طباعكم وسجاياكم . ولهذا قال سبحانه : وكان الإنسان قتورا أي : بخيلا .

    [ ص: 4005 ] تنبيهات:

    الأول : هذه الآية بلغت بالمشركين ، من الوصف بالشح ، الغاية التي لا يبلغها الوهم ، كما قاله الزمخشري .

    الثاني : ما اقتضاه آخر الآية من بخل كل أحد ، فأما بالنسبة إلى الجواد الحقيقي سبحانه ; لأن المرء إما ممسك أو منفق . والثاني لا يكون إلا لغرض للعاقل ، إما دنيوي كعوض مالي ، أو معنوي كثناء جميل أو خدمة واستمتاع ، كما في النفقة على الأهل . وما كان لعوض مالي كان مبادلة لا مباذلة . أو هو بالنظر إلى الأغلب ، وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل :


    عدنا في زماننا عن حديث المكارم



    من كفى الناس شره فهو في جود حاتم


    أفاده الشهاب .

    وقال ابن كثير : إن الله تعالى يصف الإنسان من حيث هو، إلا من وفقه الله وهداه ، فإن البخل والجزع والهلع صفة له . كما قال تعالى : إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز .

    الثالث : ذكر هذه الآية إثر ما قبلها ، لتقرير انفراده تعالى بملك خزائن الرحمة ، وسعة كرمه وجوده وإحسانه . كما انفرد بتلك القدرة الباهرة من خلق السماوات والأرض ، كي تنجلي لهم قدرته العظمى ، وسعة خزائنه الملأى ، فيصلوا بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحقية ما يدعوهم إليه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #440
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,977

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْكَهْفِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4006 الى صـ 4030
    الحلقة (439)


    وذكر هذا المعنى في أسلوب بيان ما فطر عليه الإنسان ، تذكيرا له بنقصه وضعفه ، وإشفاقه وحرصه ; ليعلم أنه غير مخلوق سدى ، يخلى بينه وبين ما تتقاضاه به نفسه وهواه . والمعنى : أفلا تعتبرون بسعة رحمته وعميم فضله ومما يبرهن على وحدانيته في ألوهيته ، [ ص: 4006 ] ولا ترون ما أنتم عليه من أنكم لو ملكتم ما لا نفاد له من خزائنه ، لضننتم بها، مما يدلكم على أنه هو مالك الملك ، وأنكم مسخرون لأمره ؟ ! وهذه الآية كقوله تعالى : أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أي: لو أن لهم نصيبا في ملك الله ، لما أعطوا أحدا شيئا ولا مقدار نقير. وقد جاء في الصحيحين : « يد الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه» .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [101] ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا .

    ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات واضحات الدلالة على صحة ما أرسله الله به . وقد مضى الكلام عليها في سورة الأعراف في قوله تعالى : فأرسلنا عليهم الطوفان الآية فاسأل بني إسرائيل أي : عنها : فإنهم يعلمونها ، مما لديهم من التوراة . فيظهر للمشركين صدقك ، ويزداد المؤمن بك طمأنينة قلب . لأن الأدلة إذا تظاهرت ، كان ذلك أقوى وأثبت : إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا أي : فذهب إلى فرعون وأظهر آياته ، ودعاه للإيمان به تعالى ولإرسال بني إسرائيل معه . فقال له فرعون ما قال . وقوله : مسحورا بمعنى سحرت فخولط عقلك . أو بمعنى ساحر ، على النسب . أو حقيقة ، وهو يناسب قلب العصا ثعبانا . وعلى الأول هو كقوله : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون

    [ ص: 4007 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [102] قال لقد علمت ما أنـزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا .

    قال لقد علمت أي : يا فرعون : ما أنـزل هؤلاء أي : الآيات التسع : إلا رب السماوات والأرض بصائر أي : بينات مكشوفات لا سحر ولا تخيل . ولكنك معاند مكابر ، ونحوه : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا و ( البصائر ) جمع بصير بمعنى مبصرة أي: بينة. أو المراد الحجج ، بجعلها كأنها بصائر العقول . وتكون بمعنى عبرة : وإني لأظنك يا فرعون مثبورا أي : هالكا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [103-104] فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا .

    فأراد أي : فرعون : أن يستفزهم من الأرض أي : يفزعهم ويزعجهم بما يحملهم على خفة الهرب فرقا منه . أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال . والضمير لموسى وقومه . و ( الأرض ) أرض مصر . أو الأرض التي أذن لهم بالمسير إليها وسكناها وهي فلسطين ، وقوله تعالى : فأغرقناه ومن معه جميعا أي : فحاق به مكره ، لأنه تعقبهم بجنوده بعد ما أذن لهم بالسفر من مصر إلى فلسطين ، ليرجعهم إلى عبوديته ، فدمره الله تعالى وجنوده بالإغراق .

    وقلنا من بعده أي : من بعد إغراقه : لبني إسرائيل اسكنوا الأرض وهي أرض كنعان ، بلد أبيهم إسرائيل التي وعدوا بها .

    [ ص: 4008 ] قال ابن كثير : في هذا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة ، مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة . وكذلك وقع، فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها كما قال تعالى : وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة ، على أشهر القولين ، وقهر أهلها، ثم أطلقهم حلما وكرما . كما أورث الله القوم ، الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل ، مشارق الأرض ومغاربها ، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم كما قال : كذلك وأورثناها بني إسرائيل وقال ها هنا : وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض وقوله تعالى : فإذا جاء وعد الآخرة أي : قيام الساعة : جئنا بكم لفيفا أي : جمعا مختلطين أنتم وعدوكم . ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم . ثم نزه سبحانه ساحة القرآن أن يكون مفترى . وبين اشتماله على ما يلائم الفطر ويطابق الواقع ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [105-106] وبالحق أنـزلناه وبالحق نـزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونـزلناه تنـزيلا .

    وبالحق أنـزلناه أي : بالحقيقة أنزلناه كتابا من لدنا فأين تذهبون ؟ كما قال تعالى : لكن الله يشهد بما أنـزل إليك أنـزله بعلمه والملائكة يشهدون وبالحق نـزل أي : متلبسا بالحق الذي هو ثبات نظام العالم على أكمل الوجوه . وهو ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ومحاسن الأخلاق وكل ما خالف الباطل . كقوله تعالى : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه أي : نزلناه مفرقا منجما . وقرئ بالتشديد . والقراءتان [ ص: 4009 ] بمعنى : لتقرأه على الناس على مكث أي : على مهل وتؤدة وتثبت ، فإنه أيسر للحفظ وأعون في الفهم : ونـزلناه تنـزيلا أي : من لدنا على حسب الأحوال والمصالح .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [107-109] قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا .

    قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا

    قال الزمخشري : أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم ، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه . وإنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك ، فإن خيرا منهم وأفضل ، وهم العلماء الذين قرأوا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع ، قد آمنوا به وصدقوه ، وثبت عندهم أنه النبي العربي الموعود في كتبهم . فإذا تلي عليهم خروا سجدا وسبحوا الله تعظيما لأمره ، ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة ، وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه . وهو المراد بالوعد في قوله : إن كان وعد ربنا لمفعولا

    فإن قلت : إن الذين أوتوا العلم تعليل لماذا ؟ قلت : يجوز أن يكون تعليلا لقوله : آمنوا به أو لا تؤمنوا وأن يكون تعليلا لـ ) قل ) على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطييب نفسه . كأنه قيل : تسل عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء . وعلى الأول : إن لم تؤمنوا به [ ص: 4010 ] لقد آمن به من هو خير منكم . فإن قلت : ما معنى الخرور للذقن ؟ قلت : السقوط على الوجه . وإنما ذكر الذقن ، وهو مجتمع اللحيين ; لأن الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن . فإن قلت : حرف الاستعلاء ظاهر المعنى ، إذا قلت خر على وجهه وعلى ذقنه ، فما معنى اللام في ( خر لذقنه ولوجهه ) ؟ قال :

    فخر صريعا لليدين وللفم ؟ قلت : معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور . واختصه به لأن اللام للاختصاص . فإن قلت : لم كرر يخرون للأذقان ؟ قلت : لاختلاف الحالين ، وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين ، وخرورهم في حال كونهم باكين. انتهى.

    تنبيه:

    دل نعت هؤلاء ومدحهم بخرورهم باكين، على استحباب البكاء والتخشع. فإن كل ما حمد فيه من النعوت والصفات التي وصف الله تعالى بها من أحبه من عباده ، يلزم الاتصاف بها . كما أن ما ذم منها من مقته منهم ، يجب اجتنابه .

    وقد عد الإمام الغزالي في " الإحياء " من آداب ظاهر التلاوة البكاء . قال : البكاء مستحب مع القراءة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا » . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قرأتم سجدة سبحان ، فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا ، فإن لم تبك عين أحدكم ، فليبك قلبه . وإنما طريق تكلف البكاء أن يحضر قلبه الحزن . فمن الحزن ينشأ البكاء ، ووجه إحضار الحزن ، أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود . ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره ، فيحزن لا محالة ويبكي. فإن لم يحضره حزن وبكاء، كما يحضر أرباب القلوب الصافية ، فليبك على فقد الحزن والبكاء . فإن ذلك أعظم المصائب. انتهى.

    وذكر السيوطي في (" الإكليل ") أن الشافعي استدل بقوله تعالى : ويقولون سبحان ربنا الآية ، على استحباب هذا الذكر في سجود التلاوة . وقوله تعالى :

    [ ص: 4011 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [110-111] قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا .

    قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن رد لما أنكره المشركون من تسمية الرحمن ، وإذن بتسميته بذلك . أي: سموه بهذا الاسم أو بهذا . و ( أو ) للتخيير أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى أي: أي : هذين الاسمين سميتم وذكرتم فهو حسن . وقد وضع موضعه قوله : فله الأسماء الحسنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه; إذ حسن جميع أسمائه يستدعي حسن ذينك الاسمين. فأقيم فيه دليل الجواب مقامه ، وهو أبلغ .

    ومعنى كونها أحسن الأسماء ، أنها مستقلة بمعاني الحمد والتقديس والتعظيم . وهذه الآية كآية : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ولا تجهر بصلاتك أي : بقراءة صلاتك . بتقدير مضاف . أو تسمية القراءة صلاة ; لكونها من أهم أركانها . كما تسمى الصلاة ركعة : ولا تخافت بها أي : تسر وتخفي : وابتغ بين ذلك سبيلا أي : بين الجهر والمخافتة ، أمرا وسطا . فإن خير الأمور أوساطها .

    قال أبو السعود : والتعبير عن ذلك بالسبيل، باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون، ويؤمه المقتدون، ويوصلهم إلى المطلوب .

    روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته بقراءته. فإذا سمعها المشركون [ ص: 4012 ] لغوا وسبوا، فأمر بأن يتوسط في صوته كيلا يسمع المشركون، وليبلغ من خلفه قراءته .

    ثم بين سبحانه استحقاقه للحمد لاختصاصه بنعوت الكمال وصفات الجلال بقوله تعالى : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا أي : لم يكن علة لموجود من جنسه ; لضرورة كون المعلول محتاجا إليه ، ممكنا بالذات ، معدوما بالحقيقة . فكيف يكون من جنس الموجود حقا ، الواجب بذاته من جميع الوجوه ؟ : ولم يكن له شريك في الملك أي : من يساويه في قوة القهر والمملكة من الشريك في الملك . وإلا لكان مشتركين في وجوب الوجود والحقيقة . فامتياز كل واحد منهما عن الآخر ، لا بد وأن يكون بأمر غير الحقيقة الواجبة . فلزم تركبهما ، فكانا كلاهما ممكنين لا واجبين . وأيضا فإن لم يستقلا بالتأثير ، لم يكن أحدهما إلها . وإن استقل أحدهما دون الآخر فذلك هو الإله دونه ، فلا شريك له . وإن استقلا جميعا ; لزم اجتماع المؤثرين المستقلين على معلول واحد ، إن فعلا معا . وإلا لزم إلهية أحدهما دون الآخر ، رضي بفعله أو لم يرض . أفاده القاشاني .

    ولم يكن له ولي من الذل أي : ناصر من الذل ومانع له منه، لاعتزازه به . أو لم يوال أحدا من أجل مذلة به ، ليدفعها بموالاته : وكبره تكبيرا أي : عظمه عن أن يلحقه شيء من هذه النقائص تعظيما جليلا .

    تم ما علقناه على هذه السورة الكريمة ، ضحوة السبت في 26 شوال سنة 1323 في سدة جامع السنانية بدمشق الشام . يسر الله لنا بعونه الإتمام ، والحمد لله وحده .
    [ ص: 4020 ]
    سُورَةُ الْكَهْفِ

    ويقال لها سورة أصحاب الكهف. قال المهايمي : سميت بها لاشتمالها على قصة أصحابه الجامعة فوائد الإيمان بالله ، من الأمن الكلي عن الأعداء، والإغناء الكلي عن الأشياء، والكرامات العجيبة، وهذا من أعظم مقاصد القرآن . وهي مكية، وقيل إلا أولها إلى قوله: جرزا وقوله: واصبر نفسك الآية، و إن الذين آمنوا إلى آخر السورة.

    واختار الداني أنها مكية كلها. وآيها مائة وعشرة، وقد روي في فضلها أحاديث كثيرة، ساقها الحافظ ابن كثير وغيره.

    [ ص: 4021 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [1] الحمد لله الذي أنـزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا

    الحمد لله الذي أنـزل على عبده الكتاب قدمنا أن كثيرا ما تفتح السور وتختم بالحمد، إشارة إلى أنه المحمود على كل حال: له الحمد في الأولى والآخرة وتعليما للعباد أدب افتتاح كل أمر ذي بال واختتامه . وذلك بالثناء على الله تبارك وتعالى بنعمه العظمى ومننه الكبرى. وفي إيثار إنزال التنزيل من بين سائر نعوته العلية، تنبيه على أنه أعظم نعمائه. فإنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد. ولا شيء في معناه يماثله. وفي ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية، تنبيه على عظمة المنزل والمنزل عليه. كما تدل عليه الإضافة الاختصاصية، كما تقدم في سورة الإسراء. وإشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبدا للمرسل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام. وتعريف الكتاب للعهد. أي: الكتاب الكامل الغني عن الوصف بالكمال، المعروف بذلك من بين الكتب، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به. وهو عبارة عن جميع القرآن. أو عن جميع المنزل حينئذ. وتأخيره عن الجار والمجرور، مع أن حقه التقديم عليه، ليتصل به قوله سبحانه: ولم يجعل له عوجا أي: شيئا من العوج، باختلال في نظمه وتناف في معانيه. أو زيغ وانحراف عن الدعوة إلى الحق. بل جعله مزيلا للعوج ; إذ جعله:
    [ ص: 4022 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [2] قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا [3] ماكثين فيه أبدا

    قيما أي: قيما بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع. فهو وصف له بأنه مكمل لهم، بعد وصفه بأنه كامل في نفسه. أو قيما على الكتب السالفة، مهيمنا عليها. أو متناهيا في الاستقامة والاعتدال. فيكون تأكيدا لما دل عليه نفي العوج. مع إفادة كون ذلك من صفاته الذاتية اللازمة له، حسبما تنبئ عنه الصيغة. وانتصابه بمضمر تقديره جعله كما ذكرنا. على أنه جملة مستأنفة. وفيه وجوه أخر.

    تنبيه:

    ذهب القاشاني أن الضمير في " له " وما بعده لقوله: " عبده " قال: أي: لم يجعل لعبده زيغا وميلا. وجعله قيما، يعني مستقيما، كما أمر بقوله: فاستقم كما أمرت أو قيما بأمر العباد وهدايتهم، إذ التكميل يترتب على الكمال. لأنه: عليه الصلاة والسلام، لما فرغ من تقويم نفسه وتزكيتها، أقيمت نفوس أمته مقام نفسه. فأمر بتقويمها وتزكيتها. ولهذا المعنى سمي إبراهيم ، صلوات الله عليه، أمة. وهذه القيمية أي: القيام بهداية الناس، داخلة في الاستقامة المأمور هو بها في الحقيقة، انتهى.

    والأظهر الوجه الأول.

    وقوله تعالى: لينذر بأسا شديدا من لدنه أي: لينذر من خالفه ولم يؤمن به، عذابا شديدا عاجلا أو آجلا. و(البأس): القهر والعذاب، وخصصه بقوله: من لدنه إشارة إلى زيادة هوله. ولذلك عظمه بالتنكير. متعلق بأنزل أو بعامل قيما: ويبشر [ ص: 4023 ] المؤمنين أي: به. وقال القاشاني : أي: الموحدين، لكونهم في مقابلة المشركين، الذين قالوا اتخذ الله ولدا. وقوله تعالى: الذين يعملون الصالحات أي: من الخيرات والفضائل: أن لهم أي: بأن لهم، بمقابلة إيمانهم وأعمالهم المذكورة: أجرا حسنا وهو الجنة: ماكثين فيه أبدا
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [4] وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا

    وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا وهم مشركو العرب في قولهم الملائكة بنات الله والنصارى في دعواهم المسيح ابن الله وخصهم بالذكر، وكرر الإنذار متعلقا بهم، استعظاما لكفرهم. وترك إجراء الموصول على الموصوف كما فعل في قوله تعالى: ويبشر المؤمنين للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة، في الكفر على أقبح الوجوه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [5] ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا

    ما لهم به من علم ولا لآبائهم أي: ما لهم بالولد، أو باتخاذه، أو بالقول، من علم. بل إنما يصدر عن جهل مفرط، وتوهم كاذب، وتقليد للآباء. لا عن علم يقين، ويقين. ويؤيده قوله: كبرت كلمة أي: ما أكبرها كلمة: تخرج من أفواههم وذلك لأن الولد مستحيل لا معنى له. إذ العلم اليقيني يشهد أن الوجود الواجبي أحدي الذات، لا يماثله الوجود الممكن . والولد هو المماثل لوالده في النوع، المكافئ له في القوة. وجملة تخرج من أفواههم صفة لــ(كلمة) تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم. قال الشهاب: لأن المعنى: كبر خروجها. أي: عظمت بشاعته وقباحته، بمجرد التفوه. فما بالك باعتقاده: إن [ ص: 4024 ] يقولون إلا كذبا أي: قولا كذبا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلا. وذلك لتطابق الدليل القطعي، والوجدان الذوقي على إحالته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [6] فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا

    فلعلك باخع أي: مهلك: نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث يعني القرآن: أسفا أي: لتأسف على توليهم وإعراضهم عنه. أو متأسفا عليهم. والأسف فرط الحزن والغضب. وفي (العناية): لعل للترجي. وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه. وهي هنا استعارة. أي: وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك. لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم. وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية بتشبيه حاله معهم، وقد تولوا، وهو آسف من عدم هدايتهم، بحال من فارقته أحبته. فهم بقتل نفسه. أو كاد يهلك وجدا عليهم وتحسرا على آثارهم. وسر ذلك -كما قال القاشاني - أن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه . ولما كان صلى الله عليه وسلم حبيب الله، ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله: يحبهم ويحبونه وكلما كانت محبته للحق أقوى، كانت شفقته ورحمته على خلقه أكثر. لكون الشفقة عليهم ظل محبته لله، وأشد تعطفه عليهم. فإنهم كأولاده وأقاربه. بل كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقي. فلذلك بالغ في التأسف عليهم، حتى كاد يهلك نفسه. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [7] إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا

    إنا جعلنا ما على الأرض أي: من الحيوان والنبات والمعادن: زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا أي: ليظهر أيهم أقهر لشهواتها ودواعيها، وأعصى لهواها أي: رضاي، وأقدر على مخالفتها لموافقتي.
    [ ص: 4025 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [8] وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا .

    وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا أي: ترابا مستويا لا نبات فيه. بعد ما كان يبهج النظار، لا شيء فيه يختلف، ربى ووهادا. أي: نفنيها وما عليها ولا نبالي. وفي الآية تسلية له صلوات الله عليه. كأنه قيل لا تحزن عليهم فإنه لا عليك أن يهلكوا جميعا. لأنا نخرج جميع الأسباب من العدم إلى الوجود للابتلاء. ثم نفنيها، ولا حيف ولا نقص. أو لا تحزن فإنا مفنون ذلك ومجازون لهم بحسب أعمالهم، وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [9] أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا

    أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا أي: آية ذات عجب. على حذف مضاف. أو وصفا بالمصدر مبالغة و من آياتنا حال منه و أم للاستفهام التقريري بمعنى الهمزة. أي: أنهم من بين آياتنا آية عجيبة. وجعلها منقطعة مقدرة ببل والهمزة والاستفهام للإنكار -أي: إنكار حسبانهم آية عجيبة بالنسبة إلى آياته الكبرى- فيه بعد. لأن سياق النظم الكريم، أعني سوقها مفصلة منوها بها، ما هو إلا لتقرير التعجب منها. و (الكهف) الغار الواسع في الجبل. و(الرقيم) اسم كلبهم. وقيل لوح رقيم فيه حديثهم، وجعل على باب الكهف. وقيل الجبل أو الوادي، أقوال.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [10] إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا .

    إذ أوى الفتية إلى الكهف أي: خوفا من إيذاء الملك على ترك عبادة الأوثان [ ص: 4026 ] والذبح لها. وإيثار الإظهار على الإضمار لتحقيق حالهم بتغليبهم جانب الله على جانب أهويتهم في حال شبابهم: فقالوا ربنا أي: من ربانا بنعمة إيثار جانبه على جانب أنفسنا: آتنا من لدنك رحمة أي: من خزائنك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداد: وهيئ لنا من أمرنا وهو اختيار الكهف لمفارقة الكفار: رشدا وهو توحيدك وعبادتك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [11] فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا .

    فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا أي: أنمناهم نومة ثقيلة لا ينبههم صفير الخبير، ولا دعوة الداعي الخبير، في الكهف سنين ذوات عدد. أي: كثيرة أو معدودة. قال الشهاب : ضربنا مستعار استعارة تبعية لمعنى أنمناهم إنامة لا ينتبه منها بالصياح. لأن النائم ينتبه من جهة سمعه. وهو إما من (ضربت القفل على الباب) أو (ضربت الخباء على ساكنه) شبه; لاستغراقه في نومه حتى لا ينتبه بمنبه، بمن كان خلف حجب مانعة من وصول الأصوات إليه، وقيل إنه استعارة تمثيلية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [12] ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا

    ثم بعثناهم أي: أيقظناهم إيقاظا يشبه بعث الموتى: لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا أي: لنعلم واقعا ما علمنا أنه سيقع. وهو أي الحزبين المختلفين في مدة لبثهم، أشد إحصاء، أي: إحاطة وضبطا لغاية مدة لبثهم فيعلموا قدر ما حفظهم الله بلا طعام ولا شراب، وأمنهم من العدو، فيتم لهم رشدهم في شكره، وتكون لهم آية تبعثهم على عبادته.
    وقوله تعالى:

    [ ص: 4027 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [13] نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى .

    نحن نقص عليك نبأهم بالحق شروع في تمام بسط قصتهم وتفصيلها. والحق الأمر المطابق للواقع: إنهم فتية آمنوا بربهم أي: بوحدانيته إيمانا يقينيا علميا على طريق الاستدلال، مع اتفاق قومهم على الشرك: وزدناهم هدى أي: بترجيح جانب الله على جانب أنفسهم. قال ابن كثير : الفتية -وهم الشباب- أقبل للحق وأهدى للسبيل، من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل. ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابا. وأما عامة شيوخ قريش فاستمروا على ضلالهم ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا. وقد يروى عن هؤلاء الفتية روايات مضطربة. أوثقها أن هؤلاء، كان قدم إلى مدينتهم من يدعو إلى الإيمان بالله تعالى، وبما جاء به عيسى عليه السلام. ممن كان على قدم الحواريين. فاستجاب لذلك الفتية المنوه بهم. وخلعوا الوثنية التي عليها قومهم وفروا بدينهم خشية أن يفتنهم ملكهم عن دينهم أو يقتلهم. فاستخفوا عنه في الكهف. واعتزلوا فيه يعبدون الله تعالى وحده. ثم روي أن الملك طلبهم. فقيل: دخلوا هذا الكهف. فقال قومهم: لا نريد لهم عقوبة ولا عذابا أشد من أن نردم عليهم هذا الكهف. فبنوه عليهم ثم ردموه. ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دين عيسى . فرفع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم. فقال بعضهم لبعض: كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم حتى بلغ: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة وكان ورق ذلك الزمان لدولة أهله. فأرسلوا أحدهم يأتيهم بطعام. فلما ذهب ليخرج رأى على باب الكهف شيئا أنكره فأراد أن يرجع. ثم مضى حتى دخل المدينة. فأنكر ما رأى. ثم أخرج درهما فنظروا إليه فأنكروه وأنكروا الدرهم. وقالوا: من أين لك هذا؟ هذا من ورق غير هذا الزمان.

    [ ص: 4028 ] واجتمعوا عليه يسألونه. فلم يزالوا به حتى انطلقوا به إلى ملكهم. فأخبره بأمره. فاستبشروا به وبأصحابه. وقيل له: انطلق فأرنا أصحابك. فانطلق وانطلقوا معه ليريهم. فدخل قبل القوم فضرب على آذانهم فـ: قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا هذا ما أورده ابن جرير أولا، وفيه كفاية عن غيره.

    وسنذكر في آخر نبئهم ما عند أهل الكتاب النصارى من شأنهم.

    وقد قيل إنهم كانوا في مدينة يقال لها ( طرسوس ) من أعمال طرابلس الشام . وفيها من الآثار القديمة العهد، في جبل بها، ما يزعم أهلها زعما متوارثا، أنه لأصحاب الكهف. والله أعلم.
    ثم بين تعالى صبرهم على مخالفة قومهم، ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [14] وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا .

    وربطنا على قلوبهم أي: قويناها بالصبر على المجاهدة. وشجعناهم على محاربة الشيطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران. ومخالفة النفس وهجر المألوفات الجسمانية واللذات والقيام بكلمة التوحيد. وقيل جسرناهم على القيام بكلمة التوحيد، وإظهار الدين القويم، والدعوة إلى الحق عند ملكهم الجبار. لقوله تعالى: إذ قاموا أي: بين يديه غير مبالين به. و " إذ " ظرف لـــ ربطنا . قال الشهاب: (الربط) على القلب مجاز عن الربط بمعنى الشد المعروف. أي: استعارة منه. كما يقال، رابط الجأش. لأن القلق والخوف ينزعج به القلب من محله، كما قال تعالى: وبلغت القلوب الحناجر فشبه القلب المطمئن لأمر، [ ص: 4029 ] بالحيوان المربوط في محل. وعدي (ربط) بــ(على) وهو متعد بنفسه، لتنزيله منزلة اللازم: فقالوا ربنا الذي نعبده: رب السماوات والأرض بحيث يدخل تحت ربوبيته كل معبود سواه: لن ندعو أي: نعبد: من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا أي: ذا بعد عن الحق، مفرط في الظلم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [15] هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا .

    هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة عملوا أو نحتوا لهم آلهة، فيفيد أنهم عبدوها. وفي الإشارة تحقير لهم: لولا يأتون عليهم أي: على عبادتهم أو آلهيتهم أو تأثيرهم: بسلطان بين أي: حجة بينة وبرهان ظاهر. فإن الدين لا يؤخذ إلا به. قال القاشاني : دليل على فساد التقليد، وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله، وتأثيره ووجوده، محال. كما قال:إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنـزل الله بها من سلطان أي: أسماء بلا مسميات، لكونها ليست بشيء: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أي: لا مساوي له في الظلم والكفر. إشارة إلى أنهم لا يأتون ببرهان. فهم ظالمون في حق الله، لافترائهم عليه بأن في رتبته العليا شركاء يساوونه فيها. ثم خاطب بعضهم بعضا بقولهم:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [16] وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا .

    وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف أي: وإذ اعتزلتم القوم، [ ص: 4030 ] بترك متابعتهم، من إفراط ظلمهم، وهو موجب بغضهم. واعتزلتم معبوداتهم غير الله، فإنهم كانوا يعبدونهم صريحا أو في ضمن عبادتهم له، فأووا إلى الكهف الذي لا يطلعون عليكم فيه، فلا يؤذونكم، ولا تخافوا من الكون فيه، فوات الطعام والشراب، فإنكم إذا التجأتم إلى الله بعد ما دعوتموه بنشر الرحمة وتهيئة الرشد، ينشر لكم ربكم من رحمته أي: ما يغني عن الطعام والشراب، بالإمدادات الملكوتية والتأييدات القدسية: ويهيئ لكم من أمركم وهو اختيار جانبه على جانبكم: مرفقا أي: ما تنتفعون به. قال المهايمي : يرفق بنفوسكم فيعطيها من لذات عبادته ما ينسيها سائر اللذات. على أنها لذاتها لم تخل من أذية. وهذه خالية عن الأذيات كلها. وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم وقوة وثوقهم بفضل الله تعالى.

    تنبيه:

    زعم قوم أن الآية تفيد مشروعية العزلة واستحبابها مطلقا. وهو خطأ. فإنها تشير إلى التأسي بأهل الكهف في الاعتزال ، إذا اضطهد المرء في دينه وأريد على الشرك. وممن رد الاحتجاج بهذه الآية على تفضيل العزلة، الإمام الغزالي حيث قال في (إحيائه): وأهل الكهف لم يعتزل بعضهم بعضا وهم مؤمنون. وإنما اعتزلوا الكفار. أي: ولا ريب في مشروعيته فرارا من الفتن.

    فقول السيوطي في (الإكليل): في الآية مشروعية العزلة والفرار من الظلمة وسكون الغيران والجبال عند فساد الزمان، كلام مجمل لا بد من التفصيل فيه. وأي عصر خلا من الفساد؟. وسياق الآية في الاضطهاد فحسب، فافهم ولا تغل. وقوله تعالى:



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •