البلاغة والفصاحة


فهد بن عبد العزيز الشويرخ


الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فالبلاعة في الكلام, من نعم الله عز وجل العظيمة على الإنسان, فمن حازها فليحمد الله جل وعلا على هذه النعمة, وليستخدمها في طاعته بالدعوة إليه: كتابًة وخطبًة وموعظًة.
البلاغة: إيجاز, وإصابة معنى, قال الله سبحانه وتعالى: « ﴿ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين﴾» [ النمل:30_31] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذا الكتاب في غاية البلاغة, والوجازة, والفصاحة, فإنه حصل المعنى بأيسر عبارة وأحسنها.
قال خالد بن صفوان رحمه الله, لرجل كثير كلامه: إن البلاغة ليست بكثرة الكلام, ولا بخفة اللسان, ولا بكثرة الهذيان, ولكنها إصابة المعنى, والقصد إلى الحجة.
وقال الإمام ابن مفلح المقدسي رحمه الله: تكلم ربيعة يوماً فأكثر الكلام وأعجبته نفسه, وإلى جنبه أعرابي, فقال له: يا أعرابي ما تعُدون البلاغة ؟ قال: قلة الكلام, قال: فما تعدون العيّ فيكم ؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة, وإيصالها إلى قلوب السامعين, بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها, وأفصحها, وأحلاها للأسماع, وأوقعها في القلوب.
وقال الخافظ ابن حجر رحمه الله في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة, في ترجمة صحار بن العباس قال الجاحظ في كتاب البيان: قال معاوية لصحار: ما البلاغة؟ قال الإيجاز.
وقال الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله: قالوا: البلاغة لمحة إيجاز.وقالوا: لا تنفق كلمتين إذا كفتك كلمة.
ومن رام أعلى درجات البلاغة والفصاحة فسيجدها في القرآن الكريم, قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة, عند من يعرف ذلك تفصيلاً, وإجمالاً ممن فهم كلام العرب, وتصاريف التعبير, فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة, سواء كانت مبسوطة, أو وجيزة, وسواء تكررت أم لا , وكلما تكرر حلا وعلا, لا يخلق من كثرة الردّ, ولا يملّ منه العلماء. وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصمّ الراسيات, فما ظنك بالقلوب الفاهمات. وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان, ويشوق إلى دار السلام, ومجاورة عرش الرحمن,....إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة.
قال الله جل وعلا: {﴿ نحنُ نقصُّ عليك أحسن القصص﴾ } [يوسف:3] قال العلامة العثيمين رحمه الله: وذلك لاشتمالها على أعلى درجات الكمال في البلاغة وجلال المعنى
والبلاغة والفصاحة موجودة في كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام, فعن أبي هريرة رضي الله عنه,أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بجوامع الكلم...» [متفق عليه] قال الإمام الزهري رحمه الله: معناه: أنه كان صلى الله عليه وسلم يتكلم بالقول الموجز, القليل اللفظ, الكثير المعنى.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: «أسلم, تسلم» في نهاية من الاختصار, وغاية من الإيجاز, والبلاغة, وجمع المعاني, مع ما فيه من بديع التجنيس.
وقال العلامة العثيمين رحمه الله: قوله علية الصلاة والسلام : «أَسلِم تسلم » هذا الكلام المختصر فيه بلاغة عظيمة, وقد أُعطي الرسول علية الصلاة والسلام جوامع الكلم, واختُصر له الكلام اختصاراً, ولو أن أحداً قام بشرح هذه الكلمة بمُجلدات ما استطاع أن يصل إلى الغاية, فقوله : «أسلم تسلم» أي : تسلم من مسؤولية قومك, ومن مسؤولية نفسك, ومن الآفات في الدنيا, ومن الآفات في الآخرة, ومن السمعة السيئة, ومما لا يُحصيه إلا الله, فإن الإنسان مُعرض للشرور في الدنيا وفي الآخرة, وهذه الشرور من يحصيها ؟
وقال فضيلة الشيخ سعد بن ناصر الشثري: النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على الألفاظ الموجزة الدالة على المعاني الكثيرة, فينبغي الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك...فكم من كلام قليل يدل على معان كثيرة.
والبلاغة والفصاحة موجودة في كلام السلف رحمهم الله ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى زمن أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم...فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق, إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة.....ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة, والمآخذ الدقيقة ما لا يهتدي إليه من بعدهم ولا يُلم به....فمن لم يأخذ العلم من كلامهم, فاته ذلك الخير كله
والبلاغة مهمة للدعاة, قال العلامة السعدي رحمه الله: الداعي إلى الله...يحتاج إلى... لسان فصيح يتمكن من التعبير عن ما يريده ويقصده بل الفصاحة والبلاغة لصاحب هذا المقام من ألزم ما يكون, لكثرة المراجعات والمراوضات, ولحاجته لتحسين الحق وتزينه بما يقدر عليه, ليحببه إلى النفوس, وإلى تقبيح الباطل وتهجينه, لينفر عنه.
والبلاغة يحتاج إليها الإنسان في الموعظة, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: البلاغة في الموعظة مُستحسنة, لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها.
والبلاغة والفصاحة مطلوبة في الخطب, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وكان صلى الله عليه وسلم يقصّرُ خطبه, ولا يطليها, بل كان يُبلغُ ويُوجزُ
ومن فائدة إيجاز الكلام حفظه وعدم نسيانه, كانت عائشة رضي الله عنها تقول لعبيد بن عمير: إذا وعظت فأوجز, فإن كثير الكلام يُنسي بعضه بعضاً.
قيل لأبي عمرو بن العلا: هل كانت العرب...توجز ؟ قال: نعم ليُحفظ منها.
وقال الخليل بن أحمد رحمه الله: يقلل الكلام ليحفظ.
والبلاغة ملكة واكتساب, ويمكن للإنسان أن يكون بليغًا وإن لم تجد عنده الملكة, وذلك عن طريق المران, قال العلامة العثيمين رحمه الله: الحقيقة أن البلاغة ملكة واكتساب, فالإنسان يُمكن أن يكون بالتمرن بليغاً, وإن لم يكن عنده ملكة. والمَلَكَة إذا لم يُتمرن عليها رُبما تنطفئ وتزول, ولهذا ينبغي للإنسان أن يُمرِّن نفسه.
ومن كتب السلف التي جمعت البيان والفصاحة, والفوائد الكثيرة: كتب العلامة ابن القيم رحمه الله, قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله, عن كتبه: كل كتبه..تجدها في غاية ما يكون من البيان والفصاحة والسلاسة حتى أن الإنسان إذا قرأها أو صار يراجعها لا يملُّ نسأل الله أن يغفر له وأن يجزيه خيراً
ومن كتب البلاغة التي نصح بها العلامة العثيمين رحمه الله, كتاب: البلاغة الواضحة, لمصطفى أمين وعلي الجارم. قال الشيخ رحمه الله: البلاغة... من أراد أن يمتع ذهنه قليلاً فليذهب إليها لأنها فيها متعة, وأحسن كتاب مرَّ عليّ بالنسبة للطالب كتاب البلاغة الواضحة.
ومن الأمور التي ينبه إليها: البعد عن السجع في الدعاء, فالدعاء يكون بتذلل وحوف ورجاء, قال الإمام الغزالي رحمه الله: آداب الدعاء: أن لا يتكلف السجع في الدعاء, فإن حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع, والتكلف لا يناسبه. قال بعضهم: ادع بلسان الذلة والافتقار, لا بلسان الفصاحة والانطلاق.

والسجع منه محمود ومنه مذموم, قال العلامة العثيمين رحمه الله: السجع الذي يُذمّ هو الذي يأتي بتكلف, أو يقصد به إثبات باطل, أو إبطال حق...أما إذا كان السجع يأتي عفوًا, وبدون تكلف, ولا يراد به إبطال حق, ولا إثبات باطل فإنه حسن, وهو من الفصاحة والبلاغة.
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ