تقييد العلم بالكتابة



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد أمر الله عباده بكتابة الدَّين فقال سبحانه: { وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ } (البقرة/282) فإذا كان أمره بكتابة الدَّين مصروفا لحفظ الحقوق والبعد عن الريبة؛ وجب علينا تقييد العلم لصعوبة حفظه، والخوف من دخول الريب والشك فيه، فالكتاب شاهد عند التنازع.
و قد قال الشاعر:
العلم صيد والكتابة قيده
قيد صيودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة
وتتركها بين الخلائق طالقة
و قد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتبة للوحي، يكتبون كل ما أُنزل منه تباعاً.
وقال صلى الله عليه وسلم : «قيدوا العلم بالكتاب» رواه الدارمي في السنن، والحاكم في المستدرك وصححه الألباني.
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما - قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق. رواه أبو داود في السنن وصححه الألباني.
ولقد أنفق علماؤنا أموالهم وأوقاتهم في تقييد علوم الشريعة وتدوينها؛ فظفرت الأمة بتراث عظيم.
فهذا سعيد بن جبير يقول: ربما أتيت ابن عباس فكتبت في صحيفتي حتى أملأها، كتبت في نعلي حتى أملأها، وكتبت في كفِّي.
وقد قيل: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين، حتى متى مع المحبرة؟ فقال: مع المحبرة إلى المقبرة.
ويقول أحمد بن عقبة: سألت يحيى بن معين، كم كتبت من الحديث؟ قال: كتبت بيدي هذه ستمائة ألف حديث.
وروي عن الربيع أنه قال: خرج علينا الشافعي ذات يوم ونحن مجتمعون، فقال لنا: اعلموا رحمكم الله أن هذا العلم (يعني يتفلت وينسى) يندُّ كما تند الإبل، فاجعلوا الكتب له حماة، والأقلام عليه رعاة.
وقال الشافعي أيضاً: كنت أكتب في الأكتاف والعظام، وكنت أذهب إلى الديوان فأستوهب الظهور فأكتب فيها.
وقال عمار بن رجاء: سمعت عبيد بن يعيش يقول: أقمت ثلاثين سنة ما أكلت بيدي بالليل، كانت أختي تلقمني وأنا أكتب.
قال أبو أحمد بن عدي: كان إسماعيل – يعني ابن زيد الجرجاني – يكتب في الليلة سبعين ورقة بخط دقيق.
ومكث محمد بن جرير أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة.
وقال إبراهيم المعروف بابن ديزيل: «كتبت في بعض الليالي فجلست كثيرا، وكتبت ما لا أحصيه حتى عييت، ثم خرجت أتأمل السماء، فكان أول الليل فعدت إلى بيتي وكتبت إلى أن عييت، ثم خرجت فإذا الوقت آخر الليل، فأتممت جزئي وصليت الصبح، ثم حضرت عند تاجر يكتب حسابا له، فورَّخه يوم السبت، فقلت: سبحان الله، أليس اليوم الجمعة؟! فضحك، وقال لعلك لم تحضر أمس الجامع؟ قال: فراجعت نفسي فإذا أنا كتبت ليلتين ويوما».
قال الخليل بن أحمد: ما سمعت شيئًا إلا كتبته، ولا كتبت شيئا إلا حفظته، ولا حفظت شيئا إلا انتفعت به.
و يقال إن محمد بن أحمد بن تميم التميمي، أبو العرب - وكان جدّه ملكاً على تونس -، كتب بيده ثلاثة آلاف كتاب وخمسمائة.
و هذا أحمد بن عبد الدايم بن نعمة المقدسي الصالحي قال عنه ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة: «كان يكتب خطاً حسناً، ويكتب سريعاً. فكتب ما لا يوصف كثرة من الكتب الكبار، والأجزاء المنثورة لنفسه وبالأجرة، حتى كان يكتب في اليوم إذا تفرغ تسعة كراريس أو أكثر، ويكتب مع اشتغاله بمصالحه الكراسين والثلاثة. وكتب: «الخرقي» في ليلة واحدة وكتب: «تاريخ الشام» لابن عساكر مرتين و:«المغني» للشيخ موفق الدين مرات. وذكر: أنه كتب بيده ألفي مجلدة، وأنه لازم الكتابة أزيد من خمسين سنة».
وغيره كثير فقد جادت هذه الأمة بأبناء عظماء، أسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعمل بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتدوين علوم شرعه، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين، وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.



اعداد: وليد دويدار