أثر الانقسامات والثورات على الخلافة الأموية
النار من مستصغر الشرر.. ونيران الثورات والتمرد تبدأ في نفس المرء كرد فعل على لفحات محرقة تلسع حياة الناس وتمس كيانهم، أو تبدأ لغرض أو هوى في النفس، ثم تنتشر داخل المجتمع كالنار في الهشيم، وتزيدها رياح دعاة الفتن والأطماع اشتعالاُ وانتشاراً.. حينئذ يصعب إخمادها.
ولكل ثورة أو تمرد ضد السلطة أسبابها وعواملها بصرف النظر عن نوعها وأهدافها وقربها من الحق أو الباطل.. ويشترك في هذه الأسباب كل المجتمع.. وتتحمل السلطة الجزء الأكبر من هذه الأسباب؛ لأنها أكثر معرفة بظروف رعيتها وأحوالهم، وأكثر قدرة على معالجة الأخطاء وسد أبواب الفتن.
وكلما زادت أخطاء السلطة أو زاد ضعفها كانت أكثر عرضة لكل تمرد وثورة في الداخل ولكل طامع في الخارج..
وأكثر ما يثور الناس عليه هو الظلم وتدهور أحوال الناس المادية، وكذلك وجود الانقسامات الداخلية وتوسعها.. ويزداد الوضع سوءاً كلما أصر الحاكم على إبقاء أسباب الاضطرابات أو ضعف عن معالجة هذه الأسباب.
ورغم أن ما في الدولة الأموية من خير كثير وما قدمته للإسلام والأمة، إلا أن حكمها شابه كثير من الخلل، وعانى مجتمعها من الصراعات الداخلية في مراحل متعددة من تاريخها؛ ولذلك كثرت فيها الثورات وحركات التمرد، وتعددت أسبابها وتنوعت أهدافها بين المطالب والمطامع..
وفي هذا التقرير نذكر نبذة بسيطة من هذه الثورات والصراعات خلال الحكم الأموي؛ لنتعرف على بعض أسباب ضعف وسقوط هذه الخلافة.
الثورات وبوابة العصبية القبلية:
ظهر أثر هذه العصبية بعد وفاة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وتخلي ابنه معاوية (الثاني) عن الخلافة، فقد نصرت قبيلة كلب اليمانية مروان بن الحكم حين رشح نفسه للخلافة، وقاتلت معه الضحاك بن قيس الفهري زعيم القيسية في الشام، وكان يدعو لعبد الله بن الزبير. وانتصر مروان في وقعة (مرج راهط) سنة 64هـ بسواعد الكلبيين. وقتل الضحاك بن قيس في الموقعة وهزم القيسية. ومن بعدها تأصلت العداوة بين اليمانية والقيسية (المضرية). وظل اليمانية حلفاء بني أمية حتى خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك حين ثار عليه يزيد بن المهلب بن أبي صفرة زعيم اليمانية.
وتمتد جذور هذه الثورة إلى أيام الحجاج الثقفي حين كان أميراً على العراق والمشرق. فقد كان الحجاج يكره يزيد بن المهلب؛ لأنه كان يتيه عليه. فهو ابن المهلب بن أبي صفرة والقائد الشهير الذي أخمد ثورات الخوارج وقارعهم تسعة عشر عاماً، وأفنى الكثير منهم. وكان من قادة عبد الله بن الزبير ثم تحول إلى عبد الملك بن مروان بعد مقتل مصعب بن الزبير سنة 71هـ في وقعة (دير الجاثليق)، فولاه عبد الملك على خراسان. وبعد وفاته سنة 82هـ خلفه ابنه يزيد في إمارة خراسان .
وفي سنة 85هـ طلب الحجاج من الخليفة أن يأذنه في خلعه، وادعى أنه يميل إلى آل الزبير وأنه اختان أموالاً من خراج خراسان فوافقه الخليفة، ولكنه أمره أن يولي على خراسان أخاه المفضل بن المهلب، فامتثل لأمر الخليفة وولاه وهو كاره.
ولما توفي عبد الملك خلفه ابنه الوليد، فسارع الحجاج إلى عزل المفضل عن خراسان وولى عليها قتيبة بن مسلم. ثم قبض على يزيد بن المهلب وعلى أخيه المفضل وسجنهما وعزل أخويهما عبد الملك وحبيب ابني المهلب عن أعمالهما.
وتمكن السجينان من الهرب من سجن الحجاج وتوجها إلى فلسطين ودخلا على سليمان في (الرملة) مستجيرين فأجارهما. وكتب إلى أخيه الوليد بذلك فأقره على ما فعل . ولما تولى سليمان الخلافة بعد وفاة أخيه الوليد سنة 96هـ، ولى يزيد بن المهلب أميراً على العراق، وولى أخاه عبد الملك أميراً على خراسان ؛ فاشتد بذلك عضد اليمانية.
ولكن عمر بن عبد العزيز الذي خلف سليمان سنة 99هـ عزل يزيد ابن المهلب عن العراق وقبض عليه وسجنه وطالبه بالأموال التي اختانها من خراسان حين كان أميراً عليها. ولما مرض عمر المرض الذي توفي فيه هرب يزيد من سجنه؛ خشية من يزيد بن عبد الملك الذي سيخلف عمر بعد موته؛ لأنه كان ناقماً عليه..
وتوجه يزيد بن المهلب بعد هربه إلى العراق فاجتمع حوله اليمانية، واستولى على البصرة. فلما تولى الخلافة يزيد ولى على العراق أخاه مسلمة بن عبد الملك وأرسله على رأس جيش من أهل الشام لقتال يزيد بن المهلب.
وفي الموقعة الجارية بينهما سنة 102هـ قتل يزيد بن المهلب واجتمع بالبصرة من نجا من آل المهلب، فحملتهم السفن إلى السند. وبعد قتل يزيد بن المهلب وما حل بآل المهلب انقلب اليمانية على الوليد بن يزيد فمال إلى القيسية.
ولما تولى الخلافة هشام بن عبد الملك بعد وفاة أخيه يزيد سنة 105هـ أراد أن يتقرب من اليمانية فولى خالد بن عبد الله القسري على العراق - وكان من زعمائهم - وبعد خمس عشرة سنة من ولايته على العراق عزله هشام سنة 120هـ؛ لأنه بلغه أنه يذكره بسوء، وأنه أثرى ثراء فاحشاً من أموال الخراج، وأنه ازدرى قرشياً من آل عمرو بن سعيد بن العاص وبسط لسانه عليه في مجلس العامة، محتقراً قدره، وأنه قدم أهل الذمة وقربهم، وأنه تكبر وتجبر وذل أناساً بغير حق.
فعزله الخليفة وولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي - ابن أخي الحجاج عدو اليمانية - وأمره بحبس خالداً مع ابنه وأخيه وأبناء أخيه. وبعد أن لبثوا في السجن سنة أمره الخليفة بإخلاء سبيلهم، فقدم خالد إلى دمشق وأقام فيها.
وفي سنة 126هـ حدثت حرائق في دمشق فاتهم بها خالد وأبناؤه، فقبض عليهم كلثوم بن عياض القسري - نائب الخليفة في دمشق وحبسهم - ولما علم الخليفة (وهو مقيم بالرصافة) بالأمر كتب إلى عامله بإطلاق سبيلهم فأخلاهم. وظل خالد مقيماً بدمشق حتى توفي هشام سنة 126هـ وتولى من بعده ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك فاستدعى خالداً وطالبه بالأموال التي دخلت عليه من خراج خراسان وأرسل إلى عمر بن يوسف الثقفي أمير العراق، وأمره بتعذيبه، فمات خالد تحت العذاب.
نقم اليمانية على بني أمية قتل يزيد بن المهلب وما حل بآل المهلب من قتل وتشريد. وزاد في نقمتهم قتل خالد بن عبد الله القسري؛ فأتمروا على الوليد بن يزيد وقتلوه بعد سنة من خلافته، وبايعوا لابن عمه ومنافسه يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأطلق يدهم بالانتقام من القيسية (المضرية)؛ فكان ذلك سببا لاشتداد النزاع بينهم وبين اليمانية.
فأعلن القيسية الثورة في حمص وفلسطين والأردن بزعامة بعض أمراء البيت الأموي؛ ثأراً لمقتل الوليد. واستطاع يزيد بمساعدة اليمانية قمع هذه الثورات. غير أن خلافته لم تطل أكثر من ستة أشهر وتوفي سنة 126هـ. وتولى الخلافة من بعده أخوه إبراهيم بعهد منه، فلم تتم له الخلافة إلا سبعين يوماً.
فقد أقبل مروان بن محمد بن الحكم - وهو يومئذ شيخ بني أمية - على رأس جيش من القيسية كانوا قد بايعوه، فدخل دمشق وهرب إبراهيم، وانتقم القيسية من اليمانية بكل أنواع الانتقام.
شرارة الأهواء وثورة ابن الأشعث
هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي أمير كندة، كان من أشهر قادة العرب.
هذه واحدة من الثورات العديدة التي قام بها أهل العراق ضد الدولة الأموية، ولم يكن نشوبها على أساس مذهبي - كما هو الحال بالنسبة لثورات الخوارج والشيعة. بل دفع إليها الكراهية المتبادلة بين قائدها وبين والي العراق الحجّاج بن يوسف.
وقائد هذه الثورة هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، وقد بدأت هذه الثورة العارمة من إقليم سجستان، ذلك الإقليم الذي أتعب الأمويين وكان كثير الانتقاض والتمرد عليهم، فلما كانت ولاية الحجّاج بن يوسف على العراق 75هـ ـ 95هـ صبر على مضض على تجاوزات رتبيل ملك سجستان ضد الدولة واستغلاله الظروف الصعبة التي كانت تمر بها، ومنعه الجزية، فلما انتهت مشاكل العراق الخطيرة، وكسرت شوكة الخوارج سنة 78هـ، قرر أن يؤدب رتبيل، فأرسل الحجّاج إليه جيشاً بقيادة عبيد الله بن أبي بكرة سنة 79هـ، وأمره الحجّاج أن يتوغل في بلاد رتبيل، وأن يدك حصونهم وقلاعهم، ففعل ما أمر به الحجّاج، وتمكن من هزيمة رتبيل واجتياح بلاده وغنم غنائم كثيرة. ولكن رتبيل أخذ في التقهقر فأطمع المسلمين في اللحاق به حتى وصلوا قريباً من مدينته العظمى، عند ذاك بدأ الترك يغلقون على المسلمين الطرق والشعاب وحصروهم وقتل عامة جيش المسلمين.
فأراد الحجّاج تأديب رتبيل وعقابه، فاستأذن عبد الملك بن مروان في أن يبعث جيشاً كبيراً، بلغ عدده أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة وأهل البصرة. وأنفق عليه ألفي ألف (مليونين) سوى أعطيات المقاتلين، وبالغ في تجهيزه بالخيول الروائع والسلاح الكامل، وبلغ من فخامة الجيش أن سماه الناس جيش الطواويس.
وأسند قيادته إلى عبد الرحمن بن الأشعث، والحجّاج بإسناده قيادة هذا الجيش الكبير لابن الأشعث - وهو يعلم موقفه منه - يهيء للثورة عليه وعلى الدولة الأموية.
وقد نُبه الحجّاج إلى هذا الخطأ الفادح، حيث قال له عم ابن الأشعث إسماعيل بن الأشعث: لا تبعثه فإني أخاف خلافه، والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطان. ولكن يبدو أن الحجّاج قد خانه ذكاؤه هذه المرة، أو كان مفرطاً في ثقته بنفسه، فلم يسمع نصيحة إسماعيل ورد مستخفاً بعبد الرحمن، فقال: هو لي أهيب وفيّ أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج عن طاعتي.
ومضى عبد الرحمن بهذا الجيش العظيم إلى سجستان لتأديب رتبيل، وكان ذلك في سنة 80هـ، فلما بلغته الأخبار، كتب إلى عبد الرحمن يعتذر إليه مما حل بالمسلمين في بلاده ويطلب منه الصلح ولكن عبد الرحمن لم يقبل، وأخذ يتوغل في بلاده. وهنا حاول رتبيل أن يكرر مع عبد الرحمن ما صنعه مع عبيد الله بن أبي بكرة، فأخذ يخلي البلاد والحصون أمامه ليوقعه في شرك، ولكن ابن الأشعث فطن إلى ذلك. وكان كما يقول الطبري: وطفق ابن الأشعث كلما حوى بلداً بعث إليه عاملاً وبعث معه أعواناً، ووضع البرد فيما بين كل بلد وبلد، وجعل الارصاد على العقاب والشعاب ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا جاز من أرضه أرضاً عظيمة، وملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الدخول في أرض رتبيل، وقال: نكتفي بما أصبناه العام في بلادهم، حتى نجبيها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل ننتقصهم في كل طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم، وفي أقصى بلادهم وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله.
وقد كتب إلى الحجّاج بما حققه من فتوحات وبخطته التي اعتزم تنفيذها، ولكن الحجّاج ـ ودون أن يستشير أحداً من أهل الحرب ـ رفض هذا الرأي واستهجنه، وكتب إلى ابن الأشعث ثلاثة كتب عل التوالي سفه فيها رأي ابن الأشعث، وهدده فيها بالعزل إن لم يفعل ما يأمره به ورماه فيها ببعض الأوصاف المقذعة.
وبرفض الحجّاج رأي ابن الأشعث، وبأسلوبه القاسي، وتعامله السيئ، أذكى نار الفتنة وعجل بأسباب الثورة عليه. وقد أعماه فرط ثقته بنفسه واحتقاره لغيره عما ستؤدي إليه تلك التصرفات الهوجاء من عواقب خطيرة وأثارت مكاتبات الحجّاج حفيظة عبد الرحمن بن الأشعث وحركت ما في نفسه من كره للحجّاج فجمع الناس وخطبهم مبيناً لهم نصحه لهم ومعرضاً برأي الحجّاج، وطلب منهم الرأي، فثار إليه الناس فقالوا: بل نأبى على عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع.
ومن هنا بدأت ثورة ابن الأشعث، وهذه الثورة وإن لم تكن لها جذور بعيدة وإن لم تسبقها خطوات إعداد كبيرة إلا أنها كانت من أخطر الثورات التي قامت على الدولة الأموية أو أخطرها؛ حيث هددت كيان الخلافة بالزوال واضطرت الخليفة إلى مساومة أصحابها بما لم يساوم به غيرهم من أصحاب الثورات السابقة.
وانحدر ابن الأشعث بجيشه وانضم إليه خلق كبير في طريقه إلى العراق قاصداً الحجّاج، فلما جاء الخبر الحجّاج أصيب بالهلع والذعر، فكتب إلى عبد الملك يخبره بالأمر ويطلب منه المدد، فتوالت الكتب بينه وبين عبد الملك، وتوالى إرسال الجيوش من عبد الملك في كل يوم إلى الحجّاج.
قرر الحجاج مواجهة ابن الأشعث ومن معه قبل دخولهم العراق، فأرسل الكتائب تلو الكتائب، ولكن لم تستطع إيقاف زحف ابن الأشعث فهزمها. وتقدم حتى دخل البصرة بعد أن خرج منها الحجّاج فاراً بنفسه ومن معه من أهل الشام، ونزل بالزاوية. عند ذلك أيقن الحجّاج بصدق المهلب في نصحه له فقال: لله أبوه، أي صاحب حرب هو، أشار علينا بالرأي فلم نقبل.
وانضم إلى ابن الأشعث جموع كثيرة من أهل البصرة، والتقى ابن الأشعث بالحجّاج في الزاوية وتتالت الهزائم بجيش الحجّاج، إلا أنه سنحت فرصة لفرقة من فرق الحجّاج حيث تمكنت من إلحاق الهزيمة بإحدى فرق ابن الأشعث، فاستغل الحجّاج الفرصة وكثف الهجوم على خصمه، فاضطر ابن الأشعث إلى التراجع وسار نحو الكوفة تاركاً البصرة، فبايعه أهل الكوفة ولحق به أهل البصرة، وانضم إليه أهل المسالح والثغور.
وبلغ عدد من معه مائة ألف ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم من مواليهم، وقد دفعت الموالي أسباباً كثيرة للاشتراك في ثورة ابن الأشعث:
- السياسة المالية التي اتبعها الحجّاج نحوهم وإجبارهم على دفع الجزية بعد إسلامهم.
- حرمانهم من الأعطيات والأرزاق عند اشتراكهم في الفتوح.
- حرمانهم من المساواة وشعورهم بالظلم من ممارسة بعض ولاة الدولة الأموية.
ولما رأى أهل الشام وبنو أمية قوة ابن الأشعث أشاروا على عبد الملك بعزل الحجّاج، وقالوا: إن كان إنما يرضي أهل العراق أن تنزع عنهم الحجّاج فانزعه عنهم، تخلص لك طاعتهم، فإن عزله له أيسر من حربهم. فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان بالجيش إلى العراق وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجّاج عنهم، وأن يجري عليهم العطاء، وأن ينزل ابن الأشعث أي بلد شاء من العراق ويكون والياً، فإن قبلوا ذلك نزعنا عنهم الحجّاج ويكون محمد بن مروان مكانه على العراق، وإن أبوا فالحجّاج أمير الجميع وولي القتال.
ولم يكن أمر أشق على الحجّاج ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه من هذا الأمر، وكان من الطبيعي أن يستاء الحجّاج من هذا، وعزّ عليه أن يضحي به عبد الملك بن مروان، بعد كل ما قدمه له من خدمات. وكتب إليه يذكره بما حدث من أهل العراق مع عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال له: يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلاً حتى يخالفونك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك. ألم ترى وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على عثمان بن عفان، فلما سألهم ما يريدون قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه، إن الحديد بالحديد يفلح خار الله لك فيما رأيت. والسلام عليك.
غير أن عبد الملك كان مقتنعاً بالفكرة، وأن مصلحة الدولة عنده فوق كل اعتبار، ورأى في ذلك منع الحرب.
ولكن من حسن حظ الحجّاج أنه لما عرضت الفكرة على أهل العراق رفضوها بقوة، مع أن ابن الأشعث قبلها، وحثهم على قبولها، لكنهم لم يوافقوه، بل جددوا خلع عبد الملك، وظنوا الفرصة قد واتتهم للتخلص من الحكم الأموي.
وكان الأولى بابن الأشعث أن لا ينساق لما تطلبه الجماهير، فقد ضاعت فرصة كبيرة في التخلص من الحجّاج، وكان يمكنهم رفع سقف المطالب والضغط على عبد الملك حتى يستجيب لرفع المظالم، وإقامة العدل، والتقيد بالكتاب والسنة. وإن انحرف عن شروطهم أمكنهم بعد ذلك عزله. ولكن يبدو أن الحس السياسي لدى زعماء ثورة ابن الأشعث كان غائباً، كما أن مبايعة أهل العراق لابن الأشعث جاءت في لحظات عاطفية ثورية، ولم تكن نتيجة لمعرفة تامة به، وهل يستحق عن جدارة أن يكون أميرهم.
رفض ابن الأشعث تنازل عبد الملك في خلع الحجّاج؛ فعندها سلم محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك قيادة الجيوش الأموية للحجّاج وقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع ونطيع لك.
وبدأ الفريقان يستعدان للقتال، فاشتبكا في أشهر وقائعهم ـ التي زادت عن ثمانين موقعة ـ في دير الجماجم، والتي استمرت مائة يوم حتى حلت الهزيمة بابن الأشعث في الرابع من جماد الآخرة سنة 83هـ. ثم دارت معركة أخرى بعدها في مسكن في شعبان من نفس السنة، فهزم ابن الأشعث أيضاً، ثم ولى هارباً إلى سجستان، حيث كان تصالح مع رتبيل على أن يسقط عنه الخراج إن ظفر، وإن هزم يأوي إليه ويحميه. ولكن الحجّاج هدد رتبيل إن لم يسلم إليه ابن الأشعث ليغزون بلاده بألف ألف مقاتل. فرضخ للتهديد وعزم على تسليمه إليه، فلما أحسَ ابن الأشعث بغدر رتبيل ألقى بنفسه من فوق القصر الذي كان فيه فمات. فأخذ رأسه وأرسلها إلى الحجّاج وكان ذلك سنة 85هـ.
وهكذا انتهت حياة ابن الأشعث الذي قاد أخطر ثورة ضد عبد الملك بن مروان، أريقت فيها دماء عشرات الألوف من المسلمين. وهي ثورة دفعت إليها الأحقاد الشخصية المتأصلة في نفس ابن الأشعث والحجّاج كل منهما للآخر من ناحية، وبغض أهل العراق للحكم الأموي من ناحية ثانية، ومظالم الحجّاج العظيمة التي دفعت بجمهور كبير من العلماء للانضمام للثورة والتخلص من الطاغية الحجّاج.
موقف العلماءمن ثورة ابن الأشعث
يختلف موقف العلماء من حركة ابن الأشعث اختلافاً كثيراً عن موقفهم تجاه الحركات الأخرى ضد الدولة الأموية، إذ شارك جمهور غفير من العلماء في حركة ابن الأشعث هذه، سواء بتحريض الناس على المشاركة فيها أو بمشاركتهم المباشرة في القتال مع ابن الأشعث ضد الحجّاج.
ولعل من أسباب كثرة تلك الأعداد المذكورة إدخال غير العلماء فيها من أهل العبادة والصلاح، وإن لم يشتهر عنهم العلم، حيث تردد إطلاق اسم القراء على هؤلاء المشاركين، ولعله يشمل العلماء وأهل الصلاح، والزهادة والمشهورين بكثرة التعبد
من أشهر العلماء المشاركين في حركة ابن الأشعث
وبتتبع كثير من المصادر أمكن حصر العديد من أسماء العلماء المشاركين في تلك الحركة، منهم:
ـ الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه: فقد كان ممن يؤلب على الحجّاج ويدعو إلى الانضمام إلى ابن الأشعث، ولكنه لم يشارك مشاركة فعالة في القتال لكبر سنه.
ـ ومنهم أبو الشعثاء سليم بن اسود المحاربي، فقد شارك مع ابن الأشعث، وقيل قتل يوم الزاوية.
ـ وعبد الرحمن بن أبي ليلى، كان من كبار المشاركين في تلك الحركة والمحرضين على القتال فيها. وتوفي بوقعة الجماجم، حيث اقتحم به فرسه الفرات فغرق.
ـ الإمام الشعبي: ولكن في مشاركته شيء من الإكراه؛ إذ لم يكن في بداية الأمر على قناعة بالمشاركة. حيث روي عنه أنه قال: فلم أزل عنده ـ أي الحجّاج ـ بأحسن منزلة حتى كان شأن ابن الأشعث، فأتاني أهل الكوفة، فقالوا: يا أبا عمرو، إنك زعيم القراء، فلم يزالوا حتى خرجت معهم.
ـ سعيد بن جبير، كان يحض على القتال، ونجا من القتل وتوارى عن الحجّاج مدة، ولكن تمكن منه عندما قبض عليه والي مكة وأرسله إليه فقتله الحجّاج سنة أربع وتسعين.
وغير ذلك من العلماء، وهذا يدل على أن حركة بن الأشعث لقيت من الدعم والمشاركة من العلماء ما لم تلقه أي حركة قامت ضد الدولة الأموية.
وقد كان لمشاركة العلماء في هذه الحركة ـ بهذا الحجم ـ أثر كبير على الحركة؛ فقد كانت مشاركتهم وراء انضمام كثير من الناس لتلك الحركة، ولاسيما أن بعض الفقهاء والقراء كانوا يسعون لإقناع أكبر عدد للانضمام إلى القتال خاصة من فئة العلماء.
كما كان للعلماء المشاركين أثر كبير في ميدان القتال، فكانت لهم كتيبة خاصة بهم تسمى كتيبة القراء. وكان بعض العلماء يبعثون الحماس في أتباع ابن الأشعث بما يلقونه من خطب وما يصدرونه من نداءات أثناء القتال كان لها أثر في غرس الثقة في النفوس والثبات في مواطن اللقاء.
وقد لقي الحجّاج وجيشه عنتاً ومشقة من كتيبة القراء، فقد كان أصحابها يحملون حملة صادقة على جيش الحجّاج فما يعمد بها، ويضربون الكتائب حتى يفرقونها؛ لذا عبأ الحجّاج لهذه الكتيبة ثلاث كتائب توقف زحفها وتقلل من خطرها عليه.
أسباب مشاركة العلماء في ثورة ابن الأشعث
انضم إلى حركة ابن الأشعث فئات وطوائف شتى، كل فئة مدفوعة بدافع تسعى لتحقيقه من خلال المشاركة في هذه الحركة، فهناك دوافع إقليمية، ودوافع عرقية، وأخرى اجتماعية، ولم يكن شيء من هذه حرّك العلماء للمشاركة في هذه الفتنة، وإنما انطلقوا من دوافع دينية وشرعية بحسب ما وصل إليه اجتهادهم.
وقد كان القاسم المشترك لكل هذه الدوافع شخصية الحجّاج الظالمة، المتعسفة، الجائرة، والمتعطشة لسفك الدماء؛ ولذلك كان العلماء ينقمون على الحجّاج تعديه لبعض حدود الإسلام وانتهاكه لبعض حرماته، وكانوا ينقمون عليه سوء معاملته وسوء نظرته للعلماء.
معارضة بعض العلماء لثورة ابن الأشعث
كان هناك عدد من العلماء عارضوها أو اعتزلوها ولم يروا المشاركة فيها. ومن أبرز هؤلاء أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي، فهو من الذين لم يشاركوا في هذه الثورة.
وأبو قلابة الجرمي، لم يشارك وكان يعتب على غيره ممن شارك.
ومنهم إبراهيم النخعي، لم يشارك وكان يعيب على سعيد بن جبير مشاركته فيها. وقد قيل له: أين كنت يوم الزاوية؟، قال: في بيتي. قالوا: فأين كنت يوم الجماجم؟، قال: في بيتي. قالوا: فإن علقمة شهد صفين مع علي، فقال: بخ بخ من لنا مثل علي بن أبي طالب ورجاله.
وممن لم يشارك في حركة ابن الأشعث أيوب السحتياني، فقد روي عنه أنه يقول في العلماء الذين خرجوا مع ابن الأشعث: لا أعلم أحداً منهم قتل إلا رغب له عن مصرعه، أو نجا إلا ندم على ما كان منه.
ومنهم طلق بن حبيب، فكان معتزلاً الفتنة، وكان يقول: اتقوها بالتقوى.
ومنهم مطرف بن عبد الله الشخير، فقد امتنع عن المشاركة في هذه الفتنة، وحين جاءه ناس يدعونه للمشاركة امتنع، فلما أكثروا عليه، قال: أرأيتم هذا الذي تدعوني إليه، هل يزيد على أن يكون جهاداً في سبيل الله؟، قالوا: لا. قال: فإني لا أخاطر بين هلكة أقع فيها وبين فضل أصيبه.
ومنهم مجاهد بن جبر، فإنه لم يشارك، وحين دعي للمشاركة قال لمن دعاه: عده باباً من أبواب الخير تخلفت عنه.
ومنهم خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي ومحمد بن سيرين، فقد ورد ذكرهما مع الذين لم يشاركوا في فتنة ابن الأشعث.
يتبع