تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) }
شيماء محمد
**مسائل النزول
فيمن نزلت هذه الآية
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنبأنا معمر عن قتادة في قوله: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}حتى بلغ{فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين}قال:«هذه في المنافقين».)
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) أجمع جميع أهل التّأويل على أنّ هذه الآية نزلت في قومٍ من أهل النّفاق، وأنّ هذه الصّفة صفتهم.
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): قوله تعالى: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر}
- حدّثنا محمّد بن يحيى ثنا أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}يعني- المنافقين من الأوس والخزرج، ومن كان على أمرهم».
- حدّثنا عصام بن روّاد بن الجرّاح، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية في قوله: {ومن النّاس من يقول آمنّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}قال: «هؤلاء المنافقون».قال أبو محمّدٍ: وكذلك فسّره الحسن، وقتادة، والسّدّيّ)
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى:{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر}
روى إسماعيل السدي، عن ابن عباس قال:"هم المنافقون".
قال أهل اللغة: النفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع،وهو جُحْرٌ يخرج منه اليربوع إذا أخذ عليه الجُحْرالذي يدخل فيه، فقيل: منافق؛ لأنه يدخل الإسلام باللفظ ويخرج منه بالعقد).
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله:«{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}يعني: المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير عن ابن عباس، أن سورة البقرة إلى المائة منها هي رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {ومن الناس من يقول آمنابالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}قال: «المراد بهذه الآية المنافقون».
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن قتادة في قوله: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر}حتى بلغ{وما كانوا مهتدين}قال:«هذه في المنافقين».
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ):هذه الآية نزلت في المنافقين.
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (شرع تعالى في بيان حال المنافقين الّذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولمّا كان أمرهم يشتبه على كثيرٍ من النّاس أطنب في ذكرهم بصفاتٍ متعدّدةٍ، كلٌّ منها نفاقٌ، كما أنزل سورة براءةٌ فيهم، وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النّور وغيرها من السّور، تعريفًا لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبّس بها أيضًا، فقال تعالى:{ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلّا أنفسهم وما يشعرون (9)}
النّفاق:هو إظهار الخير وإسرار الشّرّ،وهو أنواعٌ:اعتقاديٌّ،وهو الّذي يخلد صاحبه في النّار،وعمليٌّوهو من أكبر الذّنوب، كما سيأتي تفصيله في موضعه، إن شاء اللّه تعالى، وهذا كما قال ابن جريجٍ: «المنافق يخالف قوله فعله، وسرّه علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه».
وإنّما نزلت صفات المنافقين في السّور المدنيّة؛ لأنّ مكّة لم يكن فيها نفاقٌ، بل كان خلافه، من النّاس من كان يظهر الكفر مستكرها، وهو في الباطن مؤمنٌ، فلمّا هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليّتهم يعبدون الأصنام، على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع حلفاء الخزرج، وبنو النّضير، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فلمّا قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقلّ من أسلم من اليهود إلّا عبد اللّه بن سلام، رضي اللّه عنه، ولم يكن إذ ذاك نفاقٌ أيضًا؛ لأنّه لم يكن للمسلمين بعد شوكةٌ تخاف، بل قد كان، عليه الصّلاة والسّلام، وادع اليهود وقبائل كثيرةً من أحياء العرب حوالي المدينة، فلمّا كانت وقعة بدرٍ العظمى وأظهر اللّه كلمته، وأعلى الإسلام وأهله، قال عبد اللّه بن أبيّ بن سلول، وكان رأسًا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيّد الطّائفتين في الجاهليّة، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلمّا كانت وقعة بدرٍ قال: هذا أمرٌ قد توجّه فأظهر الدّخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممّن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثمّ وجد النّفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فأمّا المهاجرون فلم يكن فيهم أحدٌ، لأنّه لم يكن أحدٌ يهاجر مكرهًا، بل يهاجر ويترك ماله، وولده، وأرضه رغبةً فيما عند اللّه في الدّار الآخرة
{ومن النّاس من يقول آمنّا باللّهوباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}أي: يقولون ذلك قولًا ليس وراءه شيءٌ آخر
**مسائل نحوية وصرفية
1- الاختلاف في لفظ الناس
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ):كان أصل النون أن تكسر لالتقاء الساكنين، لكنها تفتح مع الألف واللام
واختلف النحويون في لفظة النّاسفقال قوم:«هي من نسي فأصل ناس نسي قلب فجاء نيس تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا فقيل ناس، ثم دخلت الألف واللام».
وقال آخرون:ناس اسم من أسماء الجموع دون هذا التعليل، دخلت عليه الألف واللام.
وقال آخرون:«أصل ناس أناس دخلت الألف واللام فجاء الأناس، حذفت الهمزة فجاء الناس أدغمت اللام في النون لقرب المخارج».
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ)أمّا قوله: {ومن النّاس}فإنّفي النّاس وجهين:أحدهماأن يكون جمعًا لا واحد له من لفظه، وإنّما واحدهم إنسانٌ وواحدتهم إنسانةٌ.
والوجه الآخر:أن يكون أصله أناسٌ أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها، ثمّ دخلتها الألف واللاّم المعرّفتان، فأدغمت اللاّم الّتي دخلت مع الألف فيها للتّعريف في النّون، كما قيل في: {لكنّا هو اللّه ربّي}على ما قد بيّنّا في اسم اللّه الّذي هو اللّه.
وقد زعم بعضهم أنّ النّاس لغةٌ غير أناسٍ، وأنّه سمع العرب تصغّره نويسٌ من النّاس، وأنّ الأصل لو كان أناسٌ لقيل في التّصغير: أنيسٌ، فردّ إلى أصله.
** مسائل بلاغية
3- الانتقال من المفرد إلى الجمع
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ):({ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}
ثم قال: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر}فجعل اللفظ واحداً، ثم قال: {وما هم بمؤمنين}فجعل اللفظ جميعاً، وذلك أن(من)اللفظ بها لفظ واحد، ويكون جميعاً في المعنى، ويكون اثنين، فإن لفظت بفعله على معناه: فهو صحيح، وإن جعلت فعله على لفظه واحداً: فهو صحيح
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ): وقوله تعالى: {من يقول آمنّا باللّه}رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ من ومعناها، وحسن ذلك لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة،ولا يجوز أنيرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحيد
** مسائل تفسيرية
1- سبب تسمية اليوم الآخر
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) وقوله:{وباليوم الآخر}يعني بالبعث يوم القيامة، وإنّما سمّي يوم القيامة اليوم الآخر: لأنّه آخر يومٍ، لا يوم بعده سواه.
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ): وسمى الله تعالى يوم القيامة باليوم الآخر لأنه لا ليل بعده، ولا يقال يوم إلا لما تقدمه ليل
2- معني (ماهم بمؤمنين)
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) وقوله: {وما هم بمؤمنين}يعني بمصدّقين بما يزعمون أنّهم به مصدّقون). [
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى:{وما هم بمؤمنين}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ قوله: {وما هم بمؤمنين}قال: «مصدّقين».
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى:{وما هم بمؤمنين}فنفى عنهم الإيمان؛ لأنهم لا اعتقاد لهم ولا عمل)
** مسائل عقائدية
1- الرد على الكرامية
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ): نفى تعالى الإيمان عن المنافقين، وفي ذلك رد على الكرامية في قولهم إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب
2- الرد على الجهمية:
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ أمّا تأويل قوله: {وما هم بمؤمنين}ونفيه عنهم جلّ ذكره اسم الإيمان، وقد أخبر عنهم أنّهم قد قالوا بألسنتهم آمنّا باللّه وباليوم الآخر؛ فإنّ ذلك من اللّه جلّ وعزّ تكذيبٌ لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان بقلوبهم والإقرار بالبعث، وإعلامٌ منه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّ الّذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم، وضدّ ما في عزائم نفوسهم.
وفي هذه الآية دلالةٌ واضحةٌ على بطول ما زعمته الجهميّة من أنّ الإيمان هو التّصديق بالقول دون سائر المعاني غيره، وقد أخبر اللّه جلّ ثناؤه عن الّذين ذكرهم في كتابه من أهل النّفاق أنّهم قالوا بألسنتهم: {آمنّا باللّه وباليوم الآخر}ثمّ نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين، إذ كان اعتقادهم غير مصدّقٍ قيلهم ذلك.
تفسير قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) }
** مسائل تفسيرية
1- معنى يخادعون الله
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({يخادعون}في معنى: يخدعون، ومعناها: يظهرون غير ما في أنفسهم، ولا يكاد يجئ يفاعل إلاّ من اثنين، إلا في حروف هذا أحدهما؛ قوله:{قاتلهم الله}معناها: قتلهم الله). [مجاز القرآن: 1/31]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون}
أما قوله: {يخادعون اللّه والّذين آمنوا}ولا تكون المفاعلة إلا من شيئين، فإنه إنمّا يقول: {يخادعون اللّه} عند أنفسهم يمنونها أن لا يعاقبوا وقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم، ذلك لحجة الله الواقعة على خلقه بمعرفته.
{وما يخدعون إلاّ أنفسهم}وقال بعضهم: (يخادعون)، يقول: يخدعون أنفسهم بالمخادعة
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({يخادعون}يظهرون خلاف ما في نفوسهم.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وقوله: {يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلّا أنفسهم}يريد: إنهم يخادعون المؤمنين باللّه فإذا خادعوا المؤمنين: فكأنهم خادعوا الله، وخداعهم إيّاهم: قولهم لهم إذا لقولهم: {قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم} أي: مردتهم، قالوا: {إنّا معكم، إنّما نحن مستهزؤن}.
وما يُخَادِعون إلّاأنفسهملأن وبال هذه الخديعة وعاقبتها راجعة عليهم، وهم لا يشعرون). [تفسير غريب القرآن: 40]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلّا أنفسهم وما يشعرون (9)}
يعني به: المنافقين أيضاً.
ومعنى {يخادعون}: يظهرون غير ما في نفوسهم، والتقية تسمّى -أيضاً- خداعاً، فكأنهم لمّا أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر صارت تقيتهم خداعاً، وجاء بـ"فاعل" لغير اثنين؛ لأن هذا المثال يقع كثيراً في اللغة للواحد نحو "عاقبت اللص" و"طارقت النعل".
وقوله عزّ وجلّ: {وما يخدعون إلّا أنفسهم}تأويله أن الخداع يرجععليهم بالعذاب والعقاب،{وما يشعرون}أي: وما يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب، يقال: "ما شعرت به" أي: ما علمت به، و"ليت شعري ما صنعت" معناه: ليت علمي). [معاني القرآن: 1/85]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى:{يخادعون الله والذين آمنوا}
المخادعة في اللغة: إظهار خلاف الاعتقاد، وتسمى التقية خداعاً، وهو يكون من واحد.
قال ابن كيسان: لأن فيه معنى راوغت كأنه قابل شيئاً بشيء). [معاني القرآن: 1/89]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى:{وما يخدعون إلا أنفسهم}أي أن عقوبة ذلك ترجع عليهم، لها، وبها نقرأ.
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ)وخداع المنافق ربّه والمؤمنين إظهاره بلسانه من القول والتّصديق خلاف الّذي في قلبه من الشّكّ والتّكذيب ليدرأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حكم اللّه عزّ وجلّ، اللاّزم من كان بمثل حاله من التّكذيب لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التّصديق والإقرار، من القتل والسّباء، فذلك خداعه ربّه وأهل الإيمان باللّه
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يُخَادِعُونَ}: ينافقون).
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ):اختلف المتأولون في قوله تعالى: {يخادعون اللّه}.
فقال الحسن بن أبي الحسن: «المعنى يخادعون رسول الله فأضاف الأمر إلى الله تجوزا لتعلق رسوله به، ومخادعتهم هي تحيلهم في أن يفشي رسول الله والمؤمنون لهم أسرارهم فيتحفظون مما يكرهونه ويتنبهون من ضرر المؤمنين على ما يحبونه».
وقال جماعة من المتأولين: «بل يخادعون الله والمؤمنين، وذلك بأن يظهروا من الإيمان خلاف ما أبطنوا من الكفر ليحقنوا دماءهم ويحرزوا أموالهم ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا وفازوا، وإنما خدعوا أنفسهم لحصولهم في العذاب وما شعروا لذلك».
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى:{وما يخدعون إلاّ أنفسهم}
إن قال لنا قائلٌ:أوليس المنافقون قد خدعوا المؤمنين بما أظهروا بألسنتهم من قيل الحقّ عن أنفسهم وأموالهم وذراريّهم حتّى سلمت لهم دنياهم وإن كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم؟
قيل:خطأٌ أن يقال إنّهم خدعوا المؤمنين؛ لأنّا إذا قلنا ذلك أوجبنا لهم حقيقة خدعةٍ جازت لهم على المؤمنين، كما أنّا لو قلنا: قتل فلانٌ فلانًا، أوجبنا له حقيقة قتلٍ كان منه لفلانٍ، ولكنّا نقول: خادع المنافقون ربّهم والمؤمنين، ولم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم، كما قال جلّ ثناؤه دون غيرها، نظير ما تقول في رجلٍ قاتل آخر فقتل نفسه ولم يقتل صاحبه: قاتل فلانٌ فلانًا ولم يقتل إلاّ نفسه، فتوجب له مقاتلة صاحبه، وتنفي عنه قتله صاحبه، وتوجب له قتل نفسه.
فكذلك تقول: خادع المنافق ربّه والمؤمنين، ولم يخدع إلاّ نفسه، فتثبت منه مخادعة ربّه والمؤمنين، وتنفي أن يكون خدع غير نفسه؛ لأنّ الخادع هو الّذي قد صحّت له الخديعة ووقع منه فعلها، فالمنافقون لم يخدعوا غير أنفسهم، لأنّ ما كان لهم من مالٍ وأهلٍ فلم يكن المسلمون ملكوه عليهم في حال خداعهم إيّاهم عنه بنفاقهم ولا قبلها فيستنقذوه بخداعهم منهم، وإنّما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الّذي في ضمائرهم، وبحكم اللّه لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريّهم في ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إليه من الملّة، واللّه بما يخفون من أمورهم عالمٌ. وإنّما الخادع من ختل غيره عن شيئه، والمخدوع غير عالمٍ بموضع خديعة خادعه، فأمّا والمخادع عارفٌ بخداع صاحبه إيّاه، وغير لاحقه من خداعه إيّاه مكروهٌ، بل إنّما يتجافى للظّانّ به أنّه له مخادعٌ استدراجًا ليبلغ غايةً يتكامل له عليه الحجّة للعقوبة الّتي هو به موقعٌ عند بلوغه إيّاها. والمستدرج غير عالمٍ بحال نفسه عند مستدرجه، ولا عارفٍ باطّلاعه على ضميره، وأنّ إمهال مستدرجه إيّاه وتركه معالجة عقوبته على جرمه ليبلغ المخاتل المخادع من استحقاقه عقوبة مستدرجه بكثرة إساءته وطول عصيانه إيّاه وكثرة صفح المستدرج وطول عفوه عنه أقصى غايةٍ، فإنّما هو خادعٌ نفسه لا شكّ دون من حدّثته نفسه أنّه له مخادعٌ، ولذلك نفى اللّه جلّ ثناؤه عن المنافق أن يكون خدع غير نفسه، إذ كانت الصّفة الّتي وصفنا صفته.
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى:{يخادعون اللّه والّذين آمنوا}أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون بجهلهم أنّهم يخدعون اللّه بذلك، وأنّ ذلك نافعهم عنده، وأنّه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين، {وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون}يقول: وما يغرّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلّا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم، كما قال تعالى: {إنّ المنافقين يخادعون اللّه وهو خادعهم}
2- معني مايشعرون
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى:{وما يشعرون}يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وما يشعرون}وما يدرون،
فأخبر اللّه تعالى ذكره عن المنافقين، أنّهم لا يشعرون بأنّ اللّه خادعهم بإملائه لهم واستدراجه إيّاهم الّذي هو من اللّه جلّ ثناؤه إبلاغٌ إليهم في الحجّة والمعذرة، ومنهم لأنفسهم خديعةٌ، ولها في الآجل مضرّةٌ. كالّذي؛حدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: سألت ابن زيدٍ عن قوله: {وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون}قال:«ما يشعرون أنّهم ضرّوا أنفسهم بما أسرّوا من الكفر والنّفاق وقرأ قول اللّه:{يوم يبعثهم اللّه جميعًا}قال: هم المنافقون حتّى بلغ{ويحسبون أنّهم على شيءٍ}قد كان الإيمان ينفعهم عندكم».)
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ):
قال تعالى: {وما يشعرون}أي: وما يشعرون بذلك، والمعنى: ما تحل عاقبة الخدع إلا بهم)
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والخدع: منع الحق).[ياقوتة الصراط: 170]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ): وقوله تعالى: {وما يشعرون}:معناه وما يعلمون علم تفطن وتهد، وهي لفظة مأخوذة من الشعار كأن الشيء المتفطن له شعار للنفس، والشعار الثوب الذي يلي جسد الإنسان، وهو مأخوذ من الشعر، والشاعر المتفطن لغريب المعاني.
واختلف ما الذي نفى الله عنهم أن يشعروا له؛فقالت طائفة:«وما يشعرون أن ضرر تلك المخادعة راجع عليهم لخلودهم في النار».
وقال آخرون:«وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم في قولهم آمنا»).
يتبع