تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1142 الى صـ 1148
الحلقة (202)
وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان [ ص: 1142 ] والحاكم والبيهقي في: "سننه" عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك أخرجوه من طرق، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر .
قال الترمذي : هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، وقد رواه شريك أيضا عن عبد الله بن محمد بن عقيل من حديثه، كذا في: "فتح البيان".
وإن كانت أي: المولودة واحدة أي: امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت فلها النصف أي: نصف ما ترك، ولم يكمل لها لأنها ناقصة، ولذلك لم يجعل لها الثلثان اللذان هما نصيب الابن معها. ثم ذكر بعد ميراث الأولاد ميراث الوالدين فقال: ولأبويه أي: الميت، وهو كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه، والمراد بالأبوين الأب والأم، والتثنية على لفظ الأب للتغليب لكل واحد منهما السدس مما ترك من المال إن كان له ولد ذكر أو أنثى فإن لم يكن له للميت ولد ذكر أو أنثى: وورثه أبواه فلأمه الثلث أي ثلث المال مما ترك، والباقي للأب للذكر مثل حظ الأنثيين، لكن قرر لها الثلث تنزيلا لها منزلة البنت مع الابن لا منفردة؛ حطا لها عن درجتها؛ لقيام البنت مقام الميت في الجملة، قاله المهايمي .
فإن كان له أي: للميت إخوة من الأب والأم، أو من الأب أو من الأم، ذكورا أو إناثا فلأمه السدس يعني لأم الميت سدس التركة من بعد وصية يوصي بها أو دين خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه الفروض المذكورة إنما تقسم للورثة من بعد إنفاذ وصية يوصي بها الميت إلى الثلث، ومن بعد قضاء دين على الميت.
وقرئ في (السبع): يوصي مبنيا للمفعول وللفاعل.
[ ص: 1143 ] قال الحافظ ابن كثير : أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية.
وروى أحمد والترمذي وابن ماجه وأصحاب التفاسير من حديث ابن إسحاق ، عن الحارث بن عبد الله الأعور ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: إنكم تقرءون هذه الآية: من بعد وصية يوصي بها أو دين وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه .
ثم قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث الحارث ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم، لكن كان حافظا للفرائض، معتنيا بها وبالحساب، فالله أعلم.
قال السيوطي في: "الإكليل": في الآية أن الميراث إنما يقسم بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا، وفيها مشروعية الوصية، واستدل بتقديمها في الذكر من قال بتقديمها على الدين في التركة، وأجاب من أخرها بأنها قدمت؛ لئلا يتهاون بها، واستدل بعمومها من أجاز الوصية بما قل أو كثر، ولو استغرق المال ، ومن أجازها للوارث والكافر، حربيا أو ذميا، واستدل بها من قال: إن الدين يمنع انتقال التركة إلى ملك الوارث ، ومن قال: إن دين الحج والزكاة مقدم على الميراث ، لعموم قوله: أو دين انتهى.
وقد روى الإمام أحمد وابن ماجه بسند صحيح عن سعد بن الأطول أن أخاه مات وترك ثلاث مائة درهم، وترك عيالا فأردت أن أنفقها على عياله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه فقال: يا رسول الله! قد أديت عنه، إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة، قال: فأعطها فإنها محقة .
[ ص: 1144 ] لطيفة:
(فائدة) وصف الوصية بقوله: يوصي بها هو الترغيب في الوصية والندب إليها.
وإيثار (أو) المفيدة للإباحة في قوله: (أو دين) على (الواو) للدلالة على تساويهما في الوجوب، وتقدمهما على القسمة مجموعين أو منفردين، وتقديم الوصية على الدين - ذكرا مع تأخرها عنه حكما - ما قدمنا من إظهار كمال العناية بتنفيذها؛ لكونها مظنة التفريط في أدائها ولاطرادها، بخلاف الدين، أفاده أبو السعود .
آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا أي: لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم، والمعنى: فرض الله الفرائض - على ما هو - على حكمة، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة، والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع، وأنتم لا تدرون تفاوتها، فتولى الله ذلك فضلا منه، ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير، وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لأمر القسمة، ورد لما كان في الجاهلية.
قال السمرقندي : ويقال: معنى الآية أن الله تعالى علمكم قسمة المواريث، وأنكم لا تدرون أيهم أقرب موتا فيرث منه الآخر، انتهى.
فريضة من الله نصبت نصب مصدر مؤكد لفعل محذوف، أي: فرض الله ذلك فرضا، أو لقوله تعالى: يوصيكم الله فإنه في معنى: يأمركم ويفرض عليكم.
إن الله كان عليما أي: بالمصالح والرتب حكيما أي: في كل ما قضى وقدر، فيدخل فيه بيان أنصباء الذكر والأنثى دخولا أوليا.
[ ص: 1145 ] القول في تأويل قوله تعالى:
ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم [12]
ولكم نصف ما ترك أزواجكم من المال إن لم يكن لهن ولد ذكر أو أنثى منكم أو من غيركم فإن كان لهن ولد على نحو ما فصل فلكم الربع مما تركن من المال، والباقي لباقي الورثة من بعد وصية يوصين بها أو دين أي: من بعد استخراج وصيتهن وقضاء دينهن ولهن الربع مما تركتم من المال إن لم يكن لكم ولد ذكر أو أنثى، منهن أو من غيرهن فإن كان لكم ولد على النحو الذي فصل فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين الكلام فيه كما تقدم، وفي تكرير ذكر الوصية والدين من الاعتناء بشأنهما ما لا يخفى.
لطيفة:
في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء ؛ لأنه تعالى حيث ذكر الرجال في هذه الآية ذكرهم على سبيل المخاطبة، وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة، وأيضا خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات، وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك، وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء، كما فضلوا عليهن في النصيب، كذا يستفاد من [ ص: 1146 ] الرازي.
وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة أي: تورث كذلك وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أي: الإخوة والأخوات من الأم أكثر من ذلك أي: من واحد فهم شركاء في الثلث يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم.
قال المجد في: "القاموس": والكلالة: من لا ولد له ولا والد، أو ما لم يكن من النسب لحا، أو من تكلل نسبه بنسبك، كابن العم وشبهه، أو هي الإخوة للأم، أو بنو العم الأباعد، أو ما خلا الوالد والولد، أو هي من العصبة من ورث منه الإخوة للأم، فهذه سبعة أقوال محكية عن أئمة اللغة.
وقال ابن بري : اعلم أن الكلالة في الأصل هي مصدر (كل الميت يكل كلا وكلالة) فهو كل إذا لم يخلف ولدا ولا والدا يرثانه، هذا أصلها.
قال: ثم قد تقع الكلالة على العين دون الحدث، فتكون اسما للميت الموروث، وإن كانت في الأصل اسما للحدث على حد قولهم: هذا خلق الله أي: مخلوق الله.
قال: وجاز أن تكون اسما للوارث على حد قولهم: رجل عدل أي: عادل، وماء غور أي: غائر.
قال: والأول هو اختيار البصريين من أن الكلالة اسم للموروث ، قال: وعليه جاء التفسير في الآية: إن الكلالة الذي لم يخلف ولدا ولا والدا، فإذا جعلتها للميت كان انتصابها في الآية على وجهين:
أحدهما: أن تكون خبر (كان) تقديره: وإن كان الموروث كلالة، أي: كلا ليس له ولد ولا والد.
والوجه الثاني: أن يكون انتصابها على الحال من الضمير في (يورث) أي: يورث وهو كلالة، وتكون (كان) هي التامة التي ليست مفتقرة إلى خبر.
قال: ولا يصح أن تكون الناقصة كما ذكره الحوفي؛ لأن خبرها لا يكون إلا الكلالة، ولا فائدة في قوله (يورث) والتقدير إن وقع أو حضر رجل يموت كلالة، أي: يورث وهو كلالة أي: كل.
وإن جعلتها للحدث دون العين جاز انتصابها على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون انتصابها على المصدر، على تقدير حذف مضاف تقديره: يورث وراثة كلالة، كما قال الفرزدق:
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة
أي ورثتموها [ ص: 1147 ] وراثة قرب لا وراثة بعد.
وقال عامر بن الطفيل :
وما سودتني عامر عن كلالة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ومنه قولهم: هو ابن عم كلالة أي: بعيد النسب، فإذا أرادوا القرب قالوا: هو ابن عم دنية.
والوجه الثاني: أن تكون الكلالة مصدرا واقعا موقع الحال، على حد قولهم: جاء زيد ركضا، أي: راكضا، وهو ابن عمي دنية أي: دانيا، وابن عمي كلالة أي: بعيدا في النسب.
والوجه الثالث: أن تكون خبر (كان) على تقدير حذف مضاف، تقديره: وإن كان الموروث ذا كلالة.
قال: فهذه خمسة أوجه في نصب الكلالة:
أحدها: أن تكون خبر (كان).
والثاني: أن تكون حالا.
الثالث: أن تكون مصدرا، على تقدير حذف مضاف.
الرابع: أن تكون مصدرا في موضع الحال.
الخامس: أن تكون خبر (كان) على تقدير حذف مضاف، فهذا هو الوجه الذي عليه أهل البصرة والعلماء باللغة، أعني أن الكلالة اسم للموروث دون الوارث.
قال: وقد أجاز قوم من أهل اللغة - وهم أهل الكوفة - أن تكون الكلالة اسما للوارث، واحتجوا في ذلك بأشياء منها:
قراءة الحسن: (وإن كان رجل يورث كلالة) بكسر الراء، فالكلالة على ظاهر هذه القراءة هي ورثة الميت، وهم الإخوة للأم.
واحتجوا أيضا بقول جابر أنه قال: يا رسول الله، إنما يرثني كلالة.
فإذا ثبت حجة هذا الوجه كان انتصاب (كلالة) أيضا على مثل ما انتصبت في الوجه الخامس من الوجه الأول، وهو أن تكون خبر (كان) ويقدر حذف مضاف؛ ليكون الثاني هو الأول، تقديره: وإن كان رجل يورث ذا كلالة، كما تقول: ذا قرابة ليس فيهم ولد ولا والد، قال: وكذلك إذا جعلته حالا من الضمير في (يورث) تقديره: ذا كلالة.
قال: وذهب ابن جني في قراءة من قرأ: [ ص: 1148 ] (يورث كلالة) و: (يورث كلالة) أن مفعولي (يورث ويورث) محذوفان أي: يورث وارثه ماله، قال: فعلى هذا يبقى (كلالة) على حاله الأولى التي ذكرتها، فيكون نصبه على خبر (كان) أو على المصدر، وتكون (الكلالة) للموروث لا للوارث.
قال: والظاهر أن الكلالة مصدر يقع على الوارث وعلى الموروث، والمصدر قد يقع للفاعل تارة وللمفعول أخرى، والله أعلم.
قال ابن الأثير : الأب والابن طرفان للرجل، فإذا مات ولم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب الطرفين كلالة.
وفي الأساس: ومن المجاز: كل فلان كلالة، إذا لم يكن ولدا ولا والدا، أي: كل عن بلوغ القرابة المماسة.
وقال الأزهري: ذكر الله الكلالة في سورة النساء في موضعين:
أحدهما قوله: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس
والموضع الثاني قوله تعالى: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك [النساء: 176] الآية.
فجعل الكلالة هنا الأخت للأب والأم، والإخوة للأب والأم، فجعل للأخت الواحدة نصف ما ترك الميت، وللأختين الثلثين، وللإخوة والأخوات جميع المال بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وجعل للأخ والأخت من الأم في الآية الأولى الثلث، لكل واحد منهما السدس، فبين بسياق الآيتين أن الكلالة تشتمل على الإخوة للأم مرة، ومرة على الإخوة والأخوات للأب والأم.
ودل قول الشاعر أن الأب ليس بكلالة، وأن سائر الأولياء من العصبة بعد الولد كلالة; وهو قوله:
فإن أبا المرء أحمى له ومولى الكلالة لا يغضب