ترجم البخاري " باب رقية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الحافظ في " الفتح " (10 / 207) : " ويؤخذ من هذا الحديث أن الإضافة في الترجمة للفاعل، والتوقيف لا يضاف فيه إلا للرسول صلى الله عليه وسلم .
ت- قوله: ((فعرضوها عليه)) ولو كانت مما شرع ابتداءً أي بالمنقول عنه لم يعرضوها عليه، إذ هي معلومة عنده، فلما عرضوها دل على أنها كانت منهم ولهم في الجاهلية قبل التشريع .
ث- قوله: (( كانت عندنا)) أي: في الجاهلية، كما هي ظاهر لا يخفى قبل ورود الشرع ، فلو كان شيئا ممنوعا لنهاهم عنه لمّا عرضوها عليه ؛ فلما صوبهم دل على مشروعية ذلك وقد جاء في بعض ألفظ رقاهم كلمات ليست في كتاب الله ولا في سنة رسوله .
ج - أن الرقية من باب العلاج والتداوي ، وهذا صنيع كثير من العلماء فقد بوبوا على أحاديث الرقية في كتاب الطب من كتبهم كصنيع البخاري وأبي داود والترمذي وعيرهم.
2- وروى مسلم أيضاً عن عوف بن مالك الأشجعي، قال:" كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: (( اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك)).
ووجه الدلالة منه من ثلاثة وجوه أيضاً:
أ- قوله: ((كنا نرقي في الجاهلية))، هكذا بالفعل المضارع ، مما يدل أنهم استمروا في الرقية حتى بعد مجيء الإسلام ، ولم يمتنعوا عنها حتى بلغهم النهي ، فلما بلغهم جاءوا يستفسرون عن رقاهم التي كانوا يرقون بها فلما وجدها خالية من الشرك رخص وأذن لهم فيها وليس من شك أن رقيتهم لم يرد بها الشرع ، والإذن فيها إذن لكل ما خلى من محظور من مباح .
ب - قوله: (( اعرضوا عليّ رقاكم )) جليّ في أن تلك الرقى لم يرد بها الشرع أيضاً، وإنما هي من فعلهم ومعقولهم وتجاربهم في الجاهلية فإقراره لذلك إقرار لاجتهادهم ومعقولهم .
ت- قوله: (( لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك)) وهذا ظاهر في إطلاق الإباحة في هذا الباب ما لم يكن في الرقى شرك ، فيقال كل رقية واضحة اللفظ والمعنى خالية من الشرك فهي من هذا الباب .
3- حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه – في الصحيحين في قصة اللديغ ، وفيه قال له النبي - صلى الله عليه وسلم- : (( وما أدراك أنها رقية؟)).
وفي رواية أبي داود(3418) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : « مِنْ أَيْنَ عَلِمْتُمْ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ أَحْسَنْتُمْ وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ».
ووجه الدلالة من ثلاثة وجوه .
أ – هذا الاستفسار منه - صلى الله عليه وسلم- يبين أنهم اجتهدوا وقد جاء مبينا عند ابن حبان (6112). قَالَ أبو سعيد: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا دَرَيْتُ أَنَّهَا رُقْيَةٌ، شَيْءٌ أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي نَفْسِي..
ب - جاء في بعض طرق الحديث أن بعضهم سأل الصحابي الذي رقى اللديغ فقال له ، أكنت ترقي ؟ فقال : لا.فلو كان عنده علم بشيء من الرقية الشرعية التوقيفية مسبقا ما اجتهد في ذلك الموقف الذي دفعه بعض الانتهاء منه إلى الاستفسار عما قام به .
ج - لو كانت رقياه للذيغ توقيفية لما توقفوا في أخذ ما أعطي لهم من الأجرة حتى يسألوا عنها النبي - صلى الله عليه وسلم- لأنهم سألوه عما قام به من عمل دون دليل مسبق عليه ، بل لما سألوه عن ذلك أصلاً.
4- وروى أبو داود وأحمد من حديث الشفاء بنت عبد الله، قالت: دخل عليّ النبي - صلى الله عليه وسلم- وأنا عند حفصة، فقال لي: (( ألا تعلّمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة)). والحديث صحيح أنظر الصحيحة (178) ولفظ رقيتها واضح جدا أن ألفاظها ليست من كلام الله ولا كلام رسوله ،بل هو شيئا كانت تقوله دون وحي مسبق .
وهذه هي رقياها : (( بسم الله ، صلوب، حين يعود من أفواهها، ولا تضر أحدا، اللهم اكشف البأس، رب الناس، قال: ترقي بها على عود كركم سبع مرات، وتضعه مكانا نظيفا، ثم تدلكه على حجر، وتطليه على النملة )).
5- وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: (( أرخص النبي - صلى الله عليه وسلم- في رقية الحية لبني عمرو)) ولم يبين لفظ الرقية التي كانوا يرقون بها للعقرب .
6 - حديث عم خارجة بن الصلت عند أبي داود والنسائي وأحمد وغيرهم وفيه أيضا أنه استفسر من النبي صلى الله عليه وسلم على ما قام به من رقية المجنون الموثق في الحديد. وفي الباب غير هذا.
7 - عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كنت أرقي من حمة العين في الجاهلية فلما أسلمت ذكرتها لرسول الله -r- فقال: << اعرضها علي>> فعرضتها عليه ، فقال: << ارق بها فلا بأس بها >>. ولولا ذلك ما رقيت بها إنساناً أبداً.
قال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (5/132)(ح 8444 ) بتحرير الحافظين الجليلين: العراقي وابن حجر :رواه الطبراني وإسناده حسن.
فهذا عبادة بن الصامت كانت له رقية خاصة بحمة العين فذكرها للنبي - r- فطلب منه أن يعرضها عليه ، فلما تبين أنها خالية من أي محظور قال له : << ارق بها لا بأس بها >> فهذا أمر بالرقية إذا جاءه محتاج وهو كان معروفا بها .
8 - ففي سنن الترمذي (ح 1557)قال :حدثنا قتيبة حدثنا بشر بن المفضل عن محمد بن زيد عن عمير مولى أبي اللحم قال : شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول لله- r- وكلموه أني مملوك قال فأمرني فقلدت السيف فإذا أنا أجره فأمر لي بشيء من خرتي المتاع وعرضت عليه رقية كنت أرقي بها المجانين فأمرني بطرح بعضها وحبس بعضها .
قال وفي الباب عن ابن عباس وهذا حديث حسن صحيح . وأخرجه أحمد وزاد فيه (5/223): قال محمد بن زيد(( وأدركته وهو يرقى بها المجانين ))وهو السنن الكبرى للنسائي (7/72).قال الشيخ الألباني : صحيح ، وصححه شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند.
ففي هذه الأخبار دلالة واضحة على أن تلك الرقى لم تكن بأمر الشرع، بل كانت بالاجتهاد، ولما لم تكن شركية ولا متضمنة لمحظور أذن ورخص لهم فيها ، إذنه للمباح ، لأن التداوي والعلاج هو من باب الاجتهاد الذي كان عندهم ، وهذا القدر كافٍ في الاستدلال على أن الرقى ووسائلها يمكن القول بأنها غير توقيفية .