مهمة الشاعر


د. نزار نبيل أبو منشار

يتساءل كثير من الناس عن معنى عبارة "الشعر في جوف الشاعر"، وعن الدور الذي تسمو به هذه المَلَكة بنفس الشاعر وكيانه؛ ليتميز دوراً وأداءً، ويتمايز عن الجمهور برسالته التي تنبع من الأصول الآتية:
1- الفهم السليم:
يخطئ البعض إن ظنّوا أن الشاعر هو آلة تصوير، يذكر الحديث بقالب شعري له رونق خاص، ومن الخطأ المحض أن نقصر دور الشاعر في الحياة على تسجيل الوقائع وأرشفتها، فلم يخلق الشعراء لهذا، ولم يودع الله فيهم أسرار قوة المنطق والبلاغة ليفهموا الحياة بصورتها المجزوءة المهزولة.

بتصوري، الشاعر بمهاراته وقدراته يسد مسد الإعلام العام، فهو وارث لفهم الحقائق وهضمها، ودراسة المجريات وتقليب الرأي فيها، وصهر المعرفة في شكلٍ حكيمٍ يخيطه بحروفه العذبة، ليحرك القلب والعقل بإلقائه الهادف.

وإني لأعيب على رجل آتاه الله العقل، وزين دربه بالفهم، واستنارت بصيرته بالمعرفة، ثم يشطب ذاته، ويلغي دور عقله، ويتقهقر إلى حضيض الهائمين الذين عرفوا الشعر طريقاً موصلاً إلى الشهرة أو المادة، فأمعنوا في المديح بحق وبغير حق، وصار القلم الشريف يحابي ويرفع من هم أهل الوضاعة والدناءة، وبذلك بات الشاعر أداة يقلّبها ذووا النفوذ والمصالح والمطامع، وفقد هيبته وذاته، ونزل بمحض إرادته عن سلم الدور الريادي في أمته [1].

لن أعمم، لله الحمد والفضل، فقد وهب أرض الإسراء رجالاً تبرد الشمس ولا تبرد عزائمهم، وتفقد الأرض جاذبيتها ولا يفقد نظمهم جاذبيته، أولئك هم حراس العلم الحق، وأتباع الديانة الرصينة، وبلغاء الأمة الذين يستحقون أن يظلوا في رأس هرم الصدارة، ينظر إليهم الناس بعين الوقار والاحترام.

ولعل دور الشاعر لا يقل أهمية عن دور وزارات التخطيط والإعلام والدراسات مجتمعة، فهذه كلها من لبّ وظيفته، وهي مكملات رسالته النهضوية، فهو في الوقت ذلته دارسٌ باحث ٌمخطط ٌإعلاميٌ بارع.

2- بعث الأمل:
حين نخصص الحديث عن مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإننا نترك لذهن القارئ أن يستوعب - إن استطاع - حجم الابتلاء اللاذع، والدسائس المغرضة، والفتن المتراكبة، التي نزلت بهذا الشعب الصابر المحتسب.

لذلك؛ فإن دور الشاعر في الحياة أن يكون منارة الأمل، وصوت التوجيه، وصائغ الحِكَمِ والثوابت بقوالب العزة، وهو حصن أمام الفتن، وسدّ منيع أمام أمواج التغريب والاستشراق، وهو قبل ذلك وبعده: صاحب رسالة سامية، يذود عن الحمى، ويحيي الضمائر إذا جفّت، ويرفع الهمم إن أوحلت، وينتشل الأمة بوعيه وقصائده إذا ارتكست.

وشعبنا له باع طويل في الصبر، وله من التجارب ما يؤسس للمخزون العلمي والذهني الذي هو قاعدة العمل الكفاحي، وإن حكمة الله تعالى قد اقتضت أن يعيش هذا الشعب بين فكي الرحى، يقاسي الأمرّين تحت وطأة احتلال غاشم مرعب، وتخلٍ عربي مُفرِطِ ومُفَرِّط، وهذه من روائع تدبير الله الحكيم، فهو الذي قال في سورة محمد: ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد: 4] [2].

ومن سمات الخصم أن يجد له أعواناً يخدمونه في تمهيد الطريق، وشطب ذاكرة العداء من قلب الأمم المستضعفة، واستئصال شأفة العمل الجهادي المقاوم، وهنا ينبري لسان الشاعر الحق في فضح أعوان الشيطان وأولياءه، ولا يترك لهم أرضاً يفترشونها ولا سماءً يلتحفون بها، فيشلّ دورهم التخريبي، ويعطّل تأثيرهم بوعيه وحصانته وحكمته، وبالتالي؛ يشكل درع الصدّ الأول أمام هجمات أعداء الله والأمة، لينتقل من بعدها إلى رأس العدو المباشر.

وإن من مهمة الشاعر في أرضه ووطنه أن يزرع بين أحشائها بذار الأمل، حتى إذا سمت داخله، وصارت ظلالها وارفة أفاض بها على المجتمع، فالشعر كالكأس متى امتلأت واستوعبت ما فيها لحدها الأقصى؛ كان الإشباع، وبعده.. فإن الكأس تفيض بما فيها من خير عميم على من حولها.

وهذا المعنى قديم حديث، والمصاعب والمشاكل متلاحقة، ما صَفَت في زمن نبي مرسل، كيف وقد طغت النفوس، وهزلت الضمائر، وناحت غربان الخراب فوق جنان قد أصابها المحل والقحط.

فإذا امتلأ صدر الناس باليأس واعتراهم الإحباط لفترة ما، كان على الشاعر أن يشعّ بالأمل من بلّورة أدبه، وإن دهمه القنوط والتراخي، زمجر الشاعر بالإرادة والعزيمة المتوثبة، ليقلب السحر على الساحر، ويَفلّ حديد الاحتلال بفولاذ القوة المنهمر من كلامه الموزون [3].

تحت هذا اللواء الشامخ، كان لا بد للشاعر أن يكون عقائدياً حتى يبدع، وإلا ذهب الشعر ما بين هَمَل الأمة، يتلاعبون به في نوادي السمر، ومجالس المفاخرة البغيضة، ليضحيَ جسداً بلا روح وله خوار..

فينبغي للشاعر أن يغوص في بحار المبادئ خوضه في أبحر الشعر، فالشعر وسيلة لا غاية، والمبدأ غاية لا وسيلة.

ما أجمل أن يتجلى الصراع بعد فهم عميق وشمولي، تجد فيه أهل البلاغة الشعرية ينسابون مع كل خفقة في قلب أقلامهم، يؤكدون دلالات الوحي السماوي، يعلمون الناس حقيقة المعادلة، بعد أن تشربت أرواحهم قول الله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214] [4]، وأشرأبت أعناقهم للأمل الذي بثه رسول الله في حديثه الشريف: " والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" [5].

إن الواقع الفلسطيني ليحتم علينا أن ننتبه بكل إحساساتنا ومشاعرنا لئلا يتدفق اليأس إلى أعماق القلوب، وإلا خسرنا المعركة بعد عشرات السنين التي علّمنا الدنيا فيها دروس الصبر والمصابرة.

وقد حذر علماء الأمة من تفشي هذه الظاهرة الماحقة، وسطروا من الكتب والمصنفات والمباحث العلمية ما شكل أساس الوقاية من هذا المرض، ومن ذلك، ما قاله الشيخ أحمد بن صالح السديس: ((ظهر في الناس يوم اليأس، وفقد الكثيرون الأمل، وكانت مصائب الأمة ونكساتها وحروبها وانهزاماتها سبباً في أن ينظروا إلى واقعهم بعين السخط والتشاؤم، وأن يغضوا الطرف عن أسباب النصر وبشائره، فخارت منهم القوى، وتمكن منهم العدى، وما أحوجهم إلى استنطاق التاريخ وقراءة النصوص، ومعرفة البشائر، وليس ذلك ليركنوا إلى الأماني، ويسلكوا درب التواكل، ولكن ليهتدوا من القوي، ويأخذوا بالأسباب والوسائل في عزم صادق، وجهد متواصل وفاعل، بعيداً عن اليأس والقنوط، الذي هو أول الانكسار، وبداية الانهزام.

يكفي العدو من الغنيمة: اليأس والانكسار، ذلك أن من يئس من النصر لم يعمل من أجله، ومن رضي وقنع بالذل؛ طال لبثه ومكوثه فيه [6]..


[1] دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، مكتبة وهبة –مصر، الطبعة الأولى (1995م)، ص 32.

[2]. سورة محمد / الآية: 4.

[3] انظر: أسطورة الإطار (دفاع عن العلم والعقلانية)، كارل ر. بوبر، ترجمة أ. د. يمني طريف الخولي، مطابع السياسة - الكويت، طبعة عام 2003م، ص 91.. وفيه حديث طويل عن هذه الجزئية لمن أراد الاستزادة.

[4]. سورة البقرة / الآية: 214.

[5] رواه البخاري.

[6]. انظر: مجلة البيان، لندن، العدد 188، السنة الثامنة عشرة، ص 18، مقالة الشيخ أحمد بن صالح السديس.