الحنين إلى الوطن في الشعر الأندلسي
محمد حمادة إمام
حَقًّا، بلادي وإنْ جارتْ عليَّ عزيزة، هذا إذا جارت، فما بالنا إن لم يتعدَّ أهلُها، ولم تجُر، فلم ولن يَقْدِر الإنسانُ على التنكُّر لوطنه، وطرْد حُبِّه له مِن جَنَانِه، وكيانِه.
وكثيرًا ما يَغْضَب المرءُ، ولكنه سرعان ما يحنُّ إليه، ويئنُّ مِن وطأة الاغتراب ذاكرًا مآربَ قضاها الشباب هنالك، فتُثمر تلك الذكرى أفانينَ مِن الصُّوَر، تسيل رقةً، وتمُوج عذوبة وسلاسة.
وأوضحُ دليلٍ في الحنين إلى الوطن وأبْيَنُه، حالُ سيِّدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما خرج مهاجرًا - من مكة إلى المدينة، إذ لم يكَدْ يبتعد عن معالمها، حتى وَلَّى وجهَه شطرَها، قائلًا: ((يا مكة، لأنتِ أحبُّ بلاد الله إلى الله، ولأنِت أحبُّ بلاد الله إليَّ، ولولا أن قومَك أخرجوني منكِ ما خرجتُ))، فنزل جبريل - عليه السلام - بقوله تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ [محمد: 13][1].
"فالحنين إلى الأوطان والأهل والأحباب، مِن رقة القلب وعلامات الرشد؛ لما فيه من الدلائل على كرَم الأصل، وتمام العقل.
وقد بين الله - تعالى - فضْل الوطن، وكلَف النفوس به، في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾[2]؛ فجَعَل خروجَهم مِن ديارهم كُفْءَ قتلِهم لأنفسهم.
وللقُدماء كلماتٌ مأثورة في الحنين، ممَّا يدلُّ على نُبْل هذه العاطفة، وعُمْقها في النفس الإنسانية.
قال أعرابيٌّ: لا تَشْكُ بلدًا فيه قبائلُك، ولا تَجْفُ أرضًا فيه قوابلُك[3]، وقال آخرُ: ليس الإنسان أقنعَ بشيء منه بوطنه؛ لأنه يتبرَّم بكل شيء رديء، ويتذمَّم مِن كل شيء كريه، إلا مِن وطنِه وإنْ كان رديء التربة، كريه الغذاء، ولولا حبُّ الناس للأوطان، لَخَرِبَ أخابثُ الأرض والبلدان"[4].
وللعرب - خاصة الأندلسيين - نصيبٌ كبير، وحظٌّ وافر من الأشعار في هذا الفن، رابطين فيها بين الحنين إلى الأوطان، والحنين إلى الشباب وأيامه وذكرياته.
فهذا القاضي، أبو عبد الله محمد بن [أبي] عيسى[5]، يُصوِّر مشاعره، ويعرضها مع أحاسيسه، بعد أن خرج من الأندلس إلى غيرها، يومَها ذَرَفَتْ عيناه الدمع على أيام الشباب، التي كانت في جبين الدهر كواكبَ سواطعَ، ونجومًا لوامعَ، فهي أيام مكتظَّة بالمآثِر والمعالي؛ حيث كان يتنقل في قرطبة، بين الأحبَّة في إيناس وأمان، وقد أعاد إليه ذكراها وُرْقٌ مغرِّدة، فإذا به حينئذ يُقِيم موازنةً بين ماضِيه المجيد، وشبابِه السعيد، الذي التحَف بنضارته، وأتحَف روحَه ببهجة رفاقه وأحبته - وبين حاله المروِّع في المشيب؛ فيقول[6]: [من البسيط]
ماذا أُكَابِدُ مِنْ وُرْقٍ مُغَرِّدة
على قضيبٍ بذات الجِزْعِ مَيَّاسِ[7]
رَدَّدْنَ شَجْوًا شَجَا قلبَ الخليِّ فَهَلْ
في عَبْرةٍ ذرفتْ في الحُبِّ مِن بَاسِ
ذكَّرْنه الزَّمنَ الماضي بقُرطبَةٍ
بين الأحبَّة في أَمْنٍ وإيناسِ
هُمُ الصَّبابةُ لولا همةٌ شَرُفَتْ
فَصَيَّرَتْ قَلْبَهُ كالجنَدْلِ القَاسِي
وعلى مثل هذا اللحن يَعْزف أبو بكر محمد بن أزرق[8]، باكيًا شبابَه ومَعاهدَه، وحِمَى أحبابه، وخاصة غانيته، التي ولهته، متعجِّبًا مِن تَوارُد الأحزان، وتوافُق الأشجان بينه وبين هذا الطائر الشجيِّ؛ فكلاهما صَبٌّ، ولِعهْد الصِّبا ووطنِه مُحِبٌّ، فيقول[9]: [من السريع]
هَلْ عَلِمَ الطّائرُ في أَيْكه
بأنَّ قلبي للحِمى طائرُ
ذكَّرني عَهْدَ الصِّبا شَجْوُهُ
وكُلُّ صَبٍّ للصِّبا ذاكِرُ
سقَى عُهُودًا لهمُ بِالحِمى
دَمْعٌ لَهُ ذِكْرهُمُ نَاثرُ
عبارات افتتَحها الشاعر بتعجُّب، واختَتمها بدُعاء؛ بيانًا لإقامته بين حيرة ووجد، وهذا يصوِّر مدَى صبره على غُربته، ووفائه لمعهد شَبيبَتِه، وقد قسا عليه الزمان، وقلاه الخلَّان.
وهذا ابن دراج القسطلي، يبكي شبابَه، الذي بَلِيَتْ بُرُوده وثيابُه، ويندب دياره، التي كانت عامرة أيامَه بصنوف اللَّهو والتصابي، معدِّدًا توابع فقدِه، وما كثَّرت لديه من حسرات، وتتابع الآهات فيقول[10]: [من الطويل]
أضاء لها فجرُ النُّهَى فَنَهَاَهَا ♦♦♦ عن الدَّنِفِ المُضْنَى بِحَرِّ هَواها[11]
إلى أن يقول:
فيا لَلشَّباب الغضِّ أنهج بُرْدُهُ
ويا لَرياضِ الَّلهْوِ جَفَّ سَفَاها[12]
وما هي إلا الشَّمْسُ حَلَّتْ بمفْرقي
فأعْشَى عُيونَ الغانياتِ سَنَاها
وعينُ الصِّبا عارَ المشيبُ سَوادَها
فَعَنْ أيِّ عَيْنٍ بَعْدَ تِلْك أُرَاها