أربع وعشرون حكمة وبركة في تناول وتأخير وجبة السحور‎

الشيخ جعفر الطلحاوي

وفي السَّحر والسُّحور بركة عظيمة تشمل منافع الدنيا والآخرة . . .



1) من بركة السَّحر التأهب للصبح بفعل ما أراد المسلم من تهجد قليل أو إيتار إن لم يكن قد أوتر أو تناول السُّحور إن أراد الصوم أو الاغتسال أو الوضوء أو غير ذلك مما يحتاج إليه قبل الفجر.



2) من بركة السُّحور الإباحة بعد الحظر عنه من أول الليل فكأنها إباحة زائدة على الإفطار آخر النهار وهذا مبناه على أحد معانى البركة وهو الزيادة .



3) من بركة السُّحور أنه مدرجة لنيل محبة الله تعالى لأنه رخصة واللّه تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتي عزائمه- صحيح الجامع حديث رقم: 1885 - قالت عائشة -رضي الله عنها -: وما عزائمُه؟ قال صلوات الله وسلامه عليه : «فرائضُهُ». أو كَمَا يكرَهُ أَن تُؤتَى معصيتهُ " صحيح الجامع حديث رقم: 1886- هذا والترغيب في السُّحور ترغيب في قبول الرخصة.



4) من بركة الاستيقاظ وقت السَّحر كونه زيادة في العمر لكون النوم موتاً واليقظة حياة ففي مدة الحياة معنيان اكتساب الطاعة للمعاد والمرافق للمعاش وهو مما خُصَّت به هذه الأمة .



5) من بركة تناول طعام السُّحور التقوِّي على العبادة، والاستعانة على طاعة الله تعالى أثناء النهار من صلاة وقراءة وذكر وسعي على الرزق احتسابا. فإن الجائع جوعا زائدا يكسل عن العبادة كما يكسل عن عمله اليومي، والوظيفي وهذا محسوس مشاهد .في الحديث عن ابن عباس – رضي الله عنهما - "استعينوا بطعام السحر على صيام النهار وبقيلولة النهار على قيام الليل"رواه ابن ماجه والحاكم وله شاهد في علل ابن أبي حاتم عنه وتشهد له رواية لابن داسه في سنن أبي داود.



القيلولة: هي النوم في الظهيرة وقال الأزهري: القيلولة والمقيل عند العرب الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن معه نوم بدليل قوله سبحانه وتعالى {وأحسن مقيلاً} والجنة لا نوم فيها ، وعمل السلف والخلف على أن القيلولة مطلوبة لإعانتها على قيام الليل



وإنما تطلب القيلولة لمن يقوم الليل ويسهر في الخير فإن فيها معونة على التهجد كما أن في السُّحور معونة على صيام النهار فالقيلولة من غير قيام الليل كالسُّحور من غير صيام النهار



والنفس إذا أخذت حظها من نوم النهار استقبلت السهر بنشاط وقوة انبساط فأفاد ندب التسحر والنوم وسط النهار بقصد التقوى على الطاعة.



وعن إسحاق ابن أبي فروة أنه قال: القائلة من عمل أهل الخير، وهي مجمة للفؤاد، مقواة على قيام الليل، وعند البزار في مسنده من حديث قتادة: سمعت أنسا يقول: ثلاث من أطاقهن أطاق الصوم من أكل قبل أن يشرب وتسحر وقال، معنى قال نام بالنهار. ولمحمد بن نصر في قيام الليل له من حديث مجاهد قال: بلغ عمر أن عاملا له لا يقيل فكتب إليه: أما بعد فقل، فإن الشيطان لا يقيل. المقاصد الحسنة (ص: 111)







6) ومن بركة تناول طعام السُّحور مدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، فالمتسحر طيب النفس حسن المعاملة صبور ،حليم



7) ومن بركة السُّحور اتباع السنة، وما من شك في أن البركة في اتباع السنة والمتسحر إذا نوى بسُّحوره امتثال أمر النبي r والاقتداء بفعله، كان سحوره عبادة، يحصل له به أجر بهذه النية، وإذا نوى الصائم بأكله وشربه تقوية بدنه على الصيام والقيام كان مثاباً على ذلك أيضاً. وفي الصحيح "وإنما لكل امرئ مانوي"



8) ومن بركة الاستيقاظ وقت السَّحر أن المسلم يقوم من آخر الليل في ذلك الوقت الشريف وقت تنزل الرحمة للذكر والدعاء والصلاة وذلك مظنة الإجابة ووقت صلاة الله والملائكة على المتسحرين، لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - " السَّحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" أخرجه أحمد.



9) ومن بركة السُّحور أنه فيه مخالفة لأهل الكتاب وتميز عنهم ، والمسلم مطلوب منه البعد عن التشبه بهم. في الحديث الصحيح.عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَكْلَةُ السَّحَرِ".([1]) صحيح مسلم كتاب الصيام. باب فضل السَّحور وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر. والمعنى أن السُّحور هو الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب لأن الله تعالى أباحته لنا إلى الصبح بعد ما كان حراماً علينا أيضاً في بدء الإسلام، وحرمه عليهم بعد أن يناموا أو مطلقاً، ومخالفتنا إياهم تقع موقع الشكر لتلك النعمة..، كذا في المرقاة.



والقصد بهذا الحديث الحث على السُّحور والإعلام بأن هذا من الدين وذلك لأن اللّه أباح لنا إلى الفجر ما حرم عليهم من نحو أكل وشرب وجماع بعد النوم ، ولذلك كان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكرهون ترك العمل يوم الجمعة لئلا يصنعوا فيه كما فعل اليهود والنصارى في السبت والأحد.



10) ومن بركة السَّحر أن المسلم ربما توضأ وصلى وقد قال تعالى "وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً" الإسراء/79







11) ومن بركة السَّحر أن المسلم إذا توضأ وأدام الاستيقاظ ذاكرا داعيا متأهبا حتى يطلع الفجر، كان مصليا ففي الصحيح "انتظار الصلاة صلاة" وناهيك بفضل انتظار الصلاة أجرا وثوابا ففي الصحيح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أَلا أدلكم على مَا يمحو الله بِهِ الْخَطَايَا وَيرْفَع بِهِ الدَّرَجَات؟ " قَالُوا: بلَى يَا رَسُول الله: قَالَ: " إسباغ الْوضُوء على المكاره، وَكَثْرَة الخطا إِلَى الْمَسَاجِد، وانتظار الصَّلَاة بعد الصَّلَاة، فذلكم الرِّبَاط، فذلكم الرِّبَاط " مرَّتَيْنِ. الجمع بين الصحيحين (3/ 307)



12) ومن بركة تأخير السُّحور أنه مدرجة لإدراك صلاة الفجر مع الجماعة في وقتها الأول " وأحب الأعمال إلى الله تعالى الصلاة على وقتها" كما في الصحيح . ولذا تجد أن المصلين في صلاة الفجر في رمضان أكثر منهم في غيره من الشهور؛ لأنهم قاموا من أجل السُّحور.



وقد ترجم البخاري في صحيحه لحديث تناول زيد بن ثابت - رضي الله عنه – السَّحور مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قيامه - رضي الله عنه - لصلاة الصبح معه صلوات الله وسلامه عليه فقال كتاب التهجد. باب مَنْ تَسَحَّرَ فَلَمْ يَنَمْ حَتَّى صَلَّى الصُّبْحَ وعن سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ – رضي الله عنه - كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي ثُمَّ يَكُونُ سُرْعَةٌ بِي أَنْ أُدْرِكَ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[2]. كتاب مواقيت الصلاة باب وَقْتِ الْفَجْرِ.



13) ومن بركة تناول السَّحور أنه يبارك للصائم في القليل منه بحيث تحصل له به الإعانة على الصوم ويدل له حديث سعيد بن منصور مرسلا" تسحروا ولو بلقمة".وعند ابن عساكر من حديث عبد الله بن سراقة بلفظ "تسحروا ولو بالماء"وعند أبي يعلى من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ "تسحروا ولو بجرعة ماء"



14) ومن بركة السُّحور انتفاء التبعة فيه بدليل حديث الديلمي " ثلاثة لا يحاسب العبد عليها أكل السَّحور وما أفطر عليه وما أكل مع الإخوان" وعن ابن عباس – رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة ليس عليهم حساب فيما طعموا إن شاء الله تعالى إذا كان حلالاً: الصائم والمتسحر والمرابط في سبيل الله" أخرجه البزار والطبراني في الكبير.



15) ومن بركة السُّحور أداء العبادات في نهار الصوم بنشاط وحيوية وفي الحديث الصحيح "ليصل أحدكم نشاطه" وقد قال تعالى "خذوا ماآتيناكم بقوة "



16) ومن بركة السُّحور ما ينال المسلم من الثواب والأجر من الله تعالى في امتثاله لهدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتناوله لهذه الأكلة بقدر ما يتيسر له كمًا وزمانًا ونيةً ، ورغبته في مخالفة أهل الكتاب كما هو حداؤه في صلواته ، "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين "آمين "



17) ومن بركة السُّحور من آخر الليل ، وأداء صلاة الفجر في أول وقتها طيب النفس وأريحيتها للحديث الصحيح "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ثَلاَثَ عُقَدٍ إِذَا نَامَ، بِكُلِّ عُقْدَةٍ يَضْرِبُ: عَلَيْكَ لَيْلاً طَوِيلاً، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ الله انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ وَإِذَا تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عنْهُ عُقْدَتَانِ، فَإِذَا صَلَّى انْحَلَّتِ الْعُقَدُ، فَأَصْبَحَ نَشِيطاً طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ[3]".




18) ومن بركة السُّحور تدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام أو أول الشهر[4] للحديث الصحيح "إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى"وعن حَفْصَةَ زَوْجِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ".[5] الإجماع إحكام النية والعزيمة أجمعت الرأي وأزمعته وعزمت عليه بمعنى . والمعنى من لم يصمم العزم على الصوم (قبل الفجر: الصبح الصادق فلا صيام له عندَ أهلِ العِلْمِ: لا صِيَامَ لِمَن لم يُجْمِعْ الصّيَامَ قبلَ طُلُوعِ الفَجْرِ في رَمَضَانَ أَو في قَضَاءِ رَمَضَانَ أو في صيَامِ نَذْرٍ إذا لَمْ يَنْوِهِ مِنَ اللّيْلِ لَمْ يُجْزِهِ.
وَأَمّا صِيَامُ التّطَوّعِ فَمُبَاحٌ لَهُ أَن يَنْوِيَهُ بَعْدَ مَا أَصْبَحَ.




"منْ لَمْ يُبَيّت الصِّيامَ قَبْلَ الفجر فلا صيام لهُ" رواهُ الخمْسةُ



19) ومن بركة السَّحور أنه بتناوله تخف مشقة أداء عبادة الصوم وغيرها من أنماط العبادة بالنهار فيؤديها المسلم بإقبال وهمة لا بضجر وتسخط وملل. وتيسير الصوم عليه من غير إضرار به ، وما أكثر صور اليسر في مشروعية الصوم وقد تعرضنا لكثير من هذه الصور في بحثنا "من حكم الصوم وأسراره "يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا"و السُّحور قد سنه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لأمته وهو كما وصفه الله تعالى "عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم". وهذا من كمال شفقته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على أمته ونصحهم.



20) ومن بركة السُّحور أنه بسببه تحصل الرغبة في الازدياد من الصيام لخفة المشقة فيه على المتسحر فيرغب في الصيام، ولا يتضايق منه.



21) ومن بركة السُّحور التسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك أو يجتمع معه على الأكل أو يعود مريضا أو يشيع ميتا .وفي الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِماً؟". قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا.



قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟". قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِيناً؟". قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضاً؟". قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ".[6]



بلا محاسبة ولا مجازاة على قبيح الأعمال، وإلا فمجرد الإيمان يقتضي دخول الجنة بفضل الله تعالى.



فينبغي للصائم أن يحرص على السُّحور ، ولا يتركه لغلبة النوم أو غيره، وعليه أن يكون سهلاً ليناً عند إيقاظه من النوم.طيب النفس. مسروراً بامتثال أمر رسول الله r حريصاً على الخير، لأن نبينا r أكّد السُّحور، فأمر به وبين أنه شعار صيام المسلمين والفارق بين صيامهم وصيام أهل الكتاب، ونهى عن تركه.



22) وعلى كل حال فالسحور كله بركة بمعنيي البركة :بقاء ودوام القدرة على الصوم أو الزيادة في القدرة على الصوم أو زيادة في الأجر. وزيادة في إباحة الأكل وزيادة في الرخص المباحة التي يحب اللّه أن تُؤتى وزيادة في الحياة وزيادة في الرفق وزيادة في اكتساب الطاعة فكأنه جعل السحور وقتاً لزيادة النعمة ودفعاً للنقمة فتدبر.



23) و السَّحور غداء الصائم في صحيح ابن حبان من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو الغداء المبارك"، يعني السَّحور عن الْعِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ قال: "دَعَانِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلَى السّحُورِ في رَمَضَانَ فقالَ هَلُمّ إلَى الْغَدَاءِ المُبَارَكِ"[7].‏



أي الكثير الخير لما يحصل بسببه من قوة وزيادة قدرة على الصوم



والغداء مأكول الصباح، وأطلق عليه غداء لأنه يقوم مقامه.



قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : دعاني عمر أتغدّى معه في رمضان، يعني السُّحور.قال الخطابي: إنما سماه غداء لأن الصائم يتقوى به على صيام النهار فكأن قد تغدى والعرب تقول غدا فلان لحاجته إذا بكر فيها، وذلك من لدن وقت السحر إلى وقت طلوع الشمس. انتهى



24) هذا ومن الحكمة في تأخير السحور، عدم التفات النفس إلى الأكل والشرب حين الشروع في الصوم حتى لا يخرج ذلك بالمسلم عن كمال الصوم، فإن شرط العبودية أن يتوجه المكلف بقلبه وقالبه إلى فعل ما كُلف به فإن التفت إلى تمني فعل ما منعه الله منه في الصوم فكأنه دخله بلا قلب والمدار على القلب، فلو أن الشارع أمرنا بعدم تأخير السحور لربما اشتاقت النفس إلى الأكل عند الفجر، فلما أمرنا بتأخيره إلى قبيل الفجر قل التفات النفس إلى الأكل والشرب فدخلت للصوم بكليتها، ومعلوم أن العمل القليل مع الأدب خير من الكثير بلا أدب. وإذا كان العبد عنده التفات إلى الأكل والشرب أول شروعه في الصوم فكيف سيكون حاله أواخر النهار، فلا تكاد النفس تنشرح لفعل ما كلفت به أبدا وعبادة المكره لا يقبلها الله تعالى: ومن هنا كره الشارع قيام العبد للصلاة ونفسه تتوق إلى الطعام. عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ"[8] عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَلَا يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ وَتُقَامُ الصَّلَاةُ فَلَا يَأْتِيهَا حَتَّى يَفْرُغَ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَام"[9] وفي رواية بنفس التخريج " إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلَا يَعْجَلْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ وَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ " ومن هنا كره أيضا العلماء الوضوء بالماء الشديد السخونة أو البرودة لنفرة النفس منه ونفرة العبد من العبادة تبعده عن حضرة ربه. ومراد الشارع بالطهارة تقريبه منها فلا يجتمع التقريب والتبعيد في عمل واحد، فإنه إن حضر هذا غاب هذا. ومن المعلوم أن الله تعالى أمرنا بالإحسان إلى أنفسنا، ومن الإحسان إليها تعجيل فطرها وتأخير سحورها، هذا وبالله التوفيق ومنه وحده العصمة من الزلل والخطأ والخلل في القول والعمل.



-----------------------------------------------------------------

([1]) رواه مسلم (1096).

[2] صحيح البخاري كتاب مواقيت الصلاة. باب وَقْتِ الْفَجْرِ.

[3] ‏ مسند الإمام أحمد صحيح البخاري كتاب التهجد. باب عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ. كِتَاب بَدْءِ الْخَلْقِ. باب صِفَةِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ.
صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الحثّ عَلَى صلاة الوقت وإن قلَّت سنن أبي داوود كتاب الطهارة باب قيام الليل..


[4] حيث تشترط النية لكل يوم على انفراده قال ابن قدامة: تعتبر النية في رمضان لكل يوم في قول الجمهور، وهذا مشهور من مذهب أحمد وله قول أنه يجزئه نية واحدة لجميع الشهر من أوله ؛ وهو كقول مالك وإسحاق. ، وقوّى هذا القول ابن عقيل بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لكل امريء ما نوى" وهذا قد نوى جميع الشهر، ولأن رمضان بمنزلة العبادة الواحدة لأن الفطر في ليالية عبادة أيضاً يستعان بها على صوم نهاره

[5] سنن أبي داود كتاب الصيام. باب النية في الصوم.

[6] ‏صحيح مسلم كتاب الزكاة باب من جمع الصدقة وأعمال البر. وكتاب فضائل الصحابة -رضي الله عنهم-. باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي اللهُ عنه

[7] سنن أبي داود كتاب الصيام. باب من سمى السحور الغداء

[8] صحيح البخاري كِتَاب الْأَذَانِ. باب إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ.

[9] صحيح البخاري كِتَاب الْأَذَانِ. باب إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ.