تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 21 من 24 الأولىالأولى ... 1112131415161718192021222324 الأخيرةالأخيرة
النتائج 401 إلى 420 من 470

الموضوع: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

  1. #401
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (401)
    صــ 333 إلى صــ 347


    فقالت : اللهم إن علي نذرا شكرا إن رزقتني [ ص: 333 ] ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس ، فيكون من سدنته وخدامه . قال : وقوله : " نذرت لك ما في بطني محررا " إنها للحرة ابنة الحرائر " محررا " للكنيسة يخدمها .

    6876 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " إذ قالت امرأة عمران الآية كلها قال : نذرت ما في بطنها ، ثم سيبتها .
    القول في تأويل قوله - جل ثناؤه - ( فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " فلما وضعتها " فلما وضعت حنة النذيرة ، ولذلك أنث . ولو كانت " الهاء " عائدة على " ما " التي في قوله : " إني نذرت لك ما في بطني محررا " لكان الكلام : " فلما وضعته قالت رب إني وضعته أنثى " .

    ومعنى قوله : ( وضعتها ) " ولدتها . يقال منه : " وضعت المرأة تضع وضعا " . [ ص: 334 ]

    " قالت رب إني وضعتها أنثى أي : ولدت النذيرة أنثى " والله أعلم بما وضعت " .

    واختلف القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأته عامة القرأة : ( وضعت ) خبرا من الله - عز وجل - عن نفسه : أنه العالم بما وضعت من غير قيلها : " رب إني وضعتها أنثى " .

    وقرأ ذلك بعض المتقدمين : " والله أعلم بما وضعت على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة : " والله أعلم بما ولدت مني " .

    قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها ، لا يتدافعون صحتها . وذلك قراءة من قرأ " والله أعلم بما وضعت " ولا يعترض بالشاذ عنها عليها .

    فتأويل الكلام إذا : والله أعلم من كل خلقه بما وضعت ثم رجع - جل ذكره - إلى الخبر عن قولها ، وأنها قالت - اعتذارا إلى ربها مما كانت نذرت في حملها فحررته لخدمة ربها - : " وليس الذكر كالأنثى " ؛ لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها ، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدس والقيام بخدمة الكنيسة ؛ لما يعتريها من الحيض والنفاس " وإني سميتها مريم " كما : -

    6877 - حدثني ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى " أي : لما جعلتها محررا له نذيرة .

    6878 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق : [ ص: 335 ] " وليس الذكر كالأنثى " لأن الذكر هو أقوى على ذلك من الأنثى .

    6879 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وليس الذكر كالأنثى " كانت المرأة لا يستطاع أن يصنع بها ذلك - يعني - أن تحرر للكنيسة فتجعل فيها تقوم عليها وتكنسها فلا تبرحها مما يصيبها من الحيض والأذى ، فعند ذلك قالت : " ليس الذكر كالأنثى " .

    6880 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " قالت رب إني وضعتها أنثى " وإنما كانوا يحررون الغلمان - قال : " وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم " .

    6881 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : كانت امرأة عمران حررت لله ما في بطنها ، وكانت على رجاء أن يهب لها غلاما ؛ لأن المرأة لا تستطيع ذلك - يعني - القيام على الكنيسة لا تبرحها ، وتكنسها لما يصيبها من الأذى .

    6882 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أن امرأة عمران ظنت أن ما في بطنها غلام ، فوهبته لله . فلما وضعت إذا هي جارية ، فقالت تعتذر إلى الله : " رب إني وضعتها أنثى ، وليس الذكر كالأنثى " تقول : إنما يحرر الغلمان . يقول الله : " والله أعلم بما وضعت " فقالت : " وإني سميتها مريم " . [ ص: 336 ]

    6883 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة : أنه أخبره عن عكرمة وأبي بكر ، عن عكرمة : " فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى " " وليس الذكر كالأنثى " يعني : في المحيض ، ولا ينبغي لامرأة أن تكون مع الرجال . أمها تقول ذلك .
    القول في تأويل قوله - جل ثناؤه - ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ( 36 ) )

    قال أبو جعفر : تعني بقولها : " وإني أعيذها بك وذريتها " وإني أجعل معاذها ومعاذ ذريتها من الشيطان الرجيم بك .

    وأصل " المعاذ " الموئل والملجأ والمعقل .

    فاستجاب الله لها ، فأعاذها الله وذريتها من الشيطان الرجيم ، فلم يجعل له عليها سبيلا .

    6884 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من نفس مولود يولد إلا والشيطان ينال منه تلك الطعنة ، ولها يستهل الصبي ، إلا ما كان من مريم ابنة عمران ، فإنها لما وضعتها قالت : " رب إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " فضرب دونها حجاب ، فطعن فيه . [ ص: 337 ]

    6885 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كل مولود من ولد آدم له طعنة من الشيطان ، وبها يستهل الصبي ، إلا ما كان من مريم ابنة عمران وولدها ، فإن أمها قالت حين وضعتها : " إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " فضرب دونهما حجاب ، فطعن في الحجاب .

    6886 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحوه .

    6887 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عمرو ، عن شعيب بن خالد ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب قال : سمعت أبا هريرة يقول : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من بني آدم مولود يولد إلا قد مسه الشيطان حين يولد ، فيستهل صارخا بمسه إياه ، غير مريم وابنها . قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : " إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " . [ ص: 338 ]

    6888 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن أبي ذئب ، عن عجلان مولى المشمعل ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كل مولود يولد من بني آدم يمسه الشيطان بإصبعه ، إلا مريم وابنها .

    6889 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال : حدثني عمي عبد الله بن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث : أن أبا يونس سليما مولى أبي هريرة حدثه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه ، إلا مريم وابنها .

    6890 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني عمران ، أن [ ص: 339 ] أبا يونس حدثه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله .

    6891 - حدثني الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان ، فيستهل صارخا من مسة الشيطان ، إلا مريم وابنها . ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " .

    6892 - حدثني المثنى قال : حدثني الحماني قال : حدثنا قيس ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من مولود يولد إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين ، إلا عيسى ابن مريم ومريم . ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " . [ ص: 340 ]

    6893 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ما ولد مولود إلا وقد استهل ، غير المسيح ابن مريم ، لم يسلط عليه الشيطان ولم ينهزه . [ ص: 341 ]

    6894 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا المنذر بن النعمان الأفطس : أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما ولد عيسى أتت الشياطين إبليس ، فقالوا : أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها ! فقال : هذا في حادث حدث ! وقال : مكانكم ! فطار حتى جاء خافقي الأرض ، فلم يجد شيئا ، ثم جاء البحار فلم يجد شيئا ، ثم طار أيضا فوجد عيسى قد ولد عند مذود حمار ، وإذا الملائكة قد حفت حوله ، فرجع إليهم فقال : إن نبيا قد ولد البارحة ، ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها ، إلا هذه ! فأيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة ، ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة .

    6895 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " وذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : كل بني آدم طعن الشيطان في جنبه ، إلا عيسى ابن مريم وأمه ، جعل بينهما وبينه حجاب ، فأصابت الطعنة الحجاب ، ولم ينفذ إليهما شيء وذكر لنا أنهما كانا لا يصيبان الذنوب كما يصيبها سائر بني آدم . وذكر لنا أن عيسى كان يمشي على البحر كما يمشي على البر ، مما أعطاه الله تعالى من اليقين والإخلاص . [ ص: 342 ]

    6896 - حدثني المثنى قال : حدثني إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " قال : إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : كل آدمي طعن الشيطان في جنبه غير عيسى وأمه ، كانا لا يصيبان الذنوب كما يصيبها بنو آدم . قال : وقال عيسى - صلى الله عليه وسلم - فيما يثني على ربه : وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم ، فلم يكن له علينا سبيل .

    6897 - حدثنا الربيع بن سليمان قال : حدثنا شعيب بن الليث قال : حدثنا الليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال : قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه ، إلا عيسى ابن مريم ، ذهب يطعن فطعن في الحجاب .

    6898 - حدثنا الربيع قال : حدثنا شعيب قال : أخبرنا الليث ، عن [ ص: 343 ] جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال : قال أبو هريرة : أرأيت هذه الصرخة التي يصرخها الصبي حين تلده أمه ؟ فإنها منها .

    6899 - حدثني أحمد بن الفرج قال : حدثنا بقية بن الوليد قال : حدثنا الزبيدي ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد يستهل صارخا .
    [ ص: 344 ] القول في تأويل قوله ( فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك : أن الله - جل ثناؤه - تقبل مريم من أمها حنة ، وتحريرها إياها للكنيسة وخدمتها وخدمة ربها " بقبول حسن " .

    " والقبول " مصدر من : " قبلها ربها " فأخرج المصدر على غير لفظ الفعل . ولو كان على لفظه لكان : " فتقبلها ربها تقبلا حسنا " . وقد تفعل العرب ذلك كثيرا : أن يأتوا بالمصادر على أصول الأفعال ، وإن اختلفت ألفاظها في الأفعال بالزيادة ، وذلك كقولهم : " تكلم فلان كلاما " ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل : " تكلم فلان تكلما " . ومنه قوله : " وأنبتها نباتا حسنا " ولم يقل : إنباتا حسنا .

    وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : لم نسمع العرب تضم القاف في " قبول " وكان القياس الضم ؛ لأنه مصدر مثل : " الدخول ، والخروج " . قال : ولم أسمع بحرف آخر في كلام العرب يشبهه .

    6900 - حدثت بذلك عن أبي عبيد قال : أخبرني اليزيدي ، عن أبي عمرو .

    وأما قوله : " وأنبتها نباتا حسنا " فإن معناه : وأنبتها ربها في غذائه ورزقه نباتا حسنا ، حتى تمت فكملت امرأة بالغة تامة ، كما : - [ ص: 345 ]

    6901 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال الله - عز وجل - : " فتقبلها ربها بقبول حسن " قال : تقبل من أمها ما أرادت بها للكنيسة ، وأجرها فيها " وأنبتها " قال : نبتت في غذاء الله .
    القول في تأويل قوله ( وكفلها زكريا )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : " وكفلها "

    فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة : " وكفلها " مخففة " الفاء " ، بمعنى : ضمها زكريا إليه ، اعتبارا بقول الله - عز وجل - : ( يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ) [ سورة آل عمران : 44 ] .

    وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين . ( وكفلها زكريا ) ، بمعنى : وكفلها الله زكريا .

    قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ : ( وكفلها ) مشددة " الفاء " بمعنى : وكفلها الله زكريا ، بمعنى : وضمها الله إليه ؛ لأن زكريا أيضا ضمها إليه بإيجاب الله له ضمها إليه بالقرعة التي أخرجها الله له ، والآية التي أظهرها لخصومه فيها ، فجعله بها أولى منهم ، إذ قرع فيها من شاحه فيها . [ ص: 346 ] وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومه في مريم إذا تنازعوا فيها أيهم تكون عنده ، تساهموا بقداحهم ، فرموا بها في نهر الأردن . فقال بعض أهل العلم : ارتز قدح زكريا ، فقام ولم يجر به الماء ، وجرى بقداح الآخرين الماء . فجعل الله ذلك لزكريا علما أنه أحق المتنازعين فيها بها .

    وقال آخرون : بل اصاعد قدح زكريا في النهر ، وانحدرت قداح الآخرين مع جرية الماء وذهبت ، فكان ذلك له علما من الله في أنه أولى القوم بها .

    قال أبو جعفر : وأي الأمرين كان من ذلك فلا شك أن ذلك كان قضاء من الله بها لزكريا على خصومه بأنه أولاهم بها ، وإذا كان ذلك كذلك ، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضم الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تشاحهم فيها ، واختصامهم في أولاهم بها . [ ص: 347 ]

    وإذ كان ذلك كذلك ; كان بينا أن أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد " كفلها " .

    وأما ما اعتل به القارئون ذلك بتخفيف " الفاء " من قول الله : ( أيهم يكفل مريم ) ، وأن ذلك موجب صحة اختيارهم التخفيف في قوله : " وكفلها " فحجة دالة على ضعف احتيال المحتج بها .

    ذلك أنه غير ممتنع ذو عقل من أن يقول قائل : " كفل فلان فلانا فكفله فلان " . فكذلك القول في ذلك : ألقى القوم أقلامهم : أيهم يكفل مريم ، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام .

    قال أبو جعفر : وكذلك اختلفت القرأة في قراءة " زكريا " .

    فقرأته عامة قرأة المدينة بالمد .

    وقرأته عامة قرأة الكوفة بالقصر .

    وهما لغتان معروفتان ، وقراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين ، وليس في القراءة بإحداهما خلاف لمعنى القراءة الأخرى ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب .

    غير أن الصواب عندنا - إذا مد " زكريا " أن ينصب بغير تنوين ؛ لأنه اسم من أسماء العجم لا يجرى ، ولأن قراءتنا في " كفلها " بالتشديد ، وتثقيل " الفاء " . ف " زكرياء " منصوب بالفعل الواقع عليه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #402
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (402)
    صــ 348 إلى صــ 362


    [ ص: 348 ]

    وفي " زكريا " لغة ثالثة لا تجوز القراءة بها ؛ لخلافها مصاحف المسلمين ، وهو " زكري " بحذف المدة و " الياء " الساكنة ، تشبهه العرب بالمنسوب من الأسماء ، فتنونه وتجريه في أنواع الإعراب مجاري " ياء " النسبة .

    قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : وضمها الله إلى زكريا ، من قول الشاعر :


    فهو لضلال الهوام كافل


    يراد به : لما ضل من متفرق النعم ومنتشره ضام إلى نفسه وجامع . وقد روي :


    فهو لضلال الهوافي كافل


    بمعنى أنه لما ند فهرب من النعم ضام من قولهم : " هفا الظليم " إذا أسرع الطيران .

    يقال منه للرجل : " ما لك تكفل كل ضالة " ؟ يعني به : تضمها إليك وتأخذها .

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6902 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال حدثنا محمد بن ربيعة ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة في قوله : ( إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت ) قال : ألقوا أقلامهم فجرت بها الجرية ، إلا قلم زكريا اصاعد ، فكفلها زكريا .

    6903 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وكفلها زكريا " قال : ضمها إليه . قال : ألقوا أقلامهم - يقول : عصيهم - قال : فألقوها تلقاء جرية الماء ، فاستقبلت عصا زكريا جرية الماء ، فقرعهم .

    6904 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال الله - عز وجل - : " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا " فانطلقت بها أمها في خرقها - يعني أم مريم بمريم - حين ولدتها إلى المحراب وقال بعضهم : انطلقت حين بلغت إلى المحراب وكان الذين يكتبون التوراة إذا جاءوا إليهم بإنسان يجربونه ، اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه . وكان زكريا أفضلهم يومئذ ، وكان بينهم ، وكانت خالة مريم تحته . فلما أتوا بها اقترعوا [ ص: 350 ] عليها ، وقال لهم زكريا : أنا أحقكم بها ، تحتي أختها . فأبوا ، فخرجوا إلى نهر الأردن ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها : أيهم يقوم قلمه فيكفلها . فجرت الأقلام ، وقام قلم زكريا على قرنته كأنه في طين ، فأخذ الجارية . وذلك قول الله - عز وجل - : " وكفلها زكريا " فجعلها زكريا معه في بيته ، وهو المحراب .

    6905 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وكفلها زكريا " يقول : ضمها إليه .

    6906 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وكفلها زكريا " قال : سهمهم بقلمه .

    6907 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .

    6908 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال : كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم . قال : فتشاح عليها أحبارهم ، فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها . قال قتادة : وكان زكريا زوج أختها ، فكفلها ، وكانت عنده وحضنها . [ ص: 351 ]

    6909 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة : أنه أخبره ، عن عكرمة وأبي بكر ، عن عكرمة قال : ثم خرجت بها يعني : أم مريم بمريم في خرقها تحملها إلى بني الكاهن بن هارون ، أخي موسى بن عمران . قال : وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فإني حررتها ، وهي ابنتي ، ولا يدخل الكنيسة حائض ، وأنا لا أردها إلى بيتي . فقالوا : هذه ابنة إمامنا - وكان عمران يؤمهم في الصلاة - وصاحب قرباننا . فقال زكريا : ادفعوها إلي ، فإن خالتها عندي . قالوا : لا تطيب أنفسنا ، هي ابنة إمامنا . فذلك حين اقترعوا ، فاقترعوا بأقلامهم عليها - بالأقلام التي يكتبون بها التوراة - فقرعهم زكريا ، فكفلها .

    6910 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جعلها زكريا معه في محرابه ، قال الله - عز وجل - : " وكفلها زكريا " قال حجاج قال : ابن جريج : " الكاهن " في كلامهم : العالم .

    6911 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وكفلها زكريا " بعد أبيها وأمها ، يذكرها باليتم ، ثم قص خبرها وخبر زكريا .

    6912 - حدثنا المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن [ ص: 352 ] عطاء ، عن سعيد بن جبير قوله : " وكفلها زكريا " قال : كانت عنده .

    6913 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير قوله : " وكفلها زكريا " قال : جعلها زكريا معه في محرابه .

    6914 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا " وتقارعها القوم ، فقرع زكريا ، فكفلها زكريا .

    وقال آخرون : بل كان زكريا بعد ولادة حنة ابنتها مريم ، كفلها بغير اقتراع ولا استهام عليها ، ولا منازعة أحد إياه فيها . وإنما كفلها ؛ لأن أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة ، وعند زكريا خالتها ألاشباع ابنة فاقوذ وقد قيل : إن اسم أم يحيى خالة عيسى : إشبع .

    6915 - حدثنا بذلك القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبأي : أن اسم أم يحيى أشبع . [ ص: 353 ]

    فضمها إلى خالتها أم يحيى ، فكانت إليهم ومعهم ، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذر أمها التي نذرت فيها .

    قالوا : والاقتراع فيها بالأقلام ، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة أصابتهم ، ضعف زكريا عن حمل مئونتها ، فتدافعوا حمل مئونتها ، لا رغبة منهم ، ولا تنافسا عليها وعلى احتمال مئونتها . وسنذكر قصتها على قول من قال ذلك ، إذا بلغنا إليها إن شاء الله تعالى .

    6916 - حدثنا بذلك ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق .

    فعلى هذا التأويل تصح قراءة من قرأ : " وكفلها زكريا " بتخفيف " الفاء " لو صح التأويل . غير أن القول متظاهر من أهل التأويل بالقول الأول : أن استهام القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها ، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سهمه منها فالجا على سهام خصومه فيها . فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف .
    القول في تأويل قوله ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : أن زكريا كان كلما دخل عليها المحراب ، بعد إدخاله إياها المحراب ، وجد عندها رزقا من الله لغذائها .

    فقيل إن ذلك الرزق الذي كان يجده زكريا عندها ، فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء . [ ص: 354 ]

    ذكر من قال ذلك :

    6917 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا الحسن بن عطية ، عن شريك ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وجد عندها رزقا " قال : وجد عندها عنبا في مكتل في غير حينه .

    6918 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد في قوله : " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " قال : العنب في غير حينه .

    6919 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " وجد عندها رزقا " قال : فاكهة في غير حينها .

    6920 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا أبو إسحاق الكوفي ، عن الضحاك : أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف يعني في قوله : " وجد عندها رزقا " .

    6921 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك مثله .

    6922 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو قال : أخبرنا هشيم ، عن بعض أشياخه ، عن الضحاك مثله .

    6923 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : أخبرنا هشيم قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك مثله .

    6924 - حدثنا يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا من سمع الحكم بن عتيبة يحدث ، عن مجاهد قال : كان يجد عندها العنب في غير حينه .

    6925 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، [ ص: 355 ] عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وجد عندها رزقا " قال : عنبا وجده زكريا عند مريم في غير زمانه .

    6926 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .

    6927 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي قال : حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد في قوله : " وجد عندها رزقا " قال : فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف .

    6928 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " قال : كنا نحدث أنها كانت تؤتى بفاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء .

    6929 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " وجد عندها رزقا " قال : وجد عندها ثمرة في غير زمانها .

    6930 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : جعل زكريا دونها عليها سبعة أبواب ، فكان يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء .

    6931 - حدثني موسى [ بن عبد الرحمن ] قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : قال : جعلها زكريا معه في بيت - وهو المحراب - فكان يدخل عليها في الشتاء فيجد عندها فاكهة الصيف ، ويدخل في الصيف فيجد عندها فاكهة الشتاء . [ ص: 356 ]

    6932 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وجد عندها رزقا " قال : كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء .

    6933 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " قال : وجد عندها ثمار الجنة ، فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف .

    6934 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني بعض أهل العلم : أن زكريا كان يجد عندها ثمرة الشتاء في الصيف ، وثمرة الصيف في الشتاء .

    6935 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن قال : كان زكريا إذا دخل عليها - يعني على مريم المحراب - وجد عندها رزقا من السماء ، من الله ، ليس من عند الناس . وقالوا : لو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده ، لم يسألها عنه .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن زكريا كان إذا دخل إليها المحراب وجد عندها من الرزق فضلا عما كان يأتيها به ، الذي كان يمونها في تلك الأيام .

    ذكر من قال ذلك :

    6936 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : كفلها بعد هلاك أمها فضمها إلى خالتها أم يحيى ، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذر أمها الذي نذرت فيها ، فجعلت تنبت وتزيد . قال : ثم أصابت بني إسرائيل أزمة وهي على ذلك من حالها ، حتى ضعف زكريا عن حملها ، فخرج على بني إسرائيل فقال : يا بني إسرائيل ، أتعلمون والله لقد ضعفت عن [ ص: 357 ] حمل ابنة عمران . فقالوا : ونحن لقد جهدنا وأصابنا من هذه السنة ما أصابكم . فتدافعوها بينهم وهم لا يرون لهم من حملها بدا ، حتى تقارعوا بالأقلام ، فخرج السهم بحملها على رجل من بني إسرائيل نجار يقال له جريج ، قال : فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه ، فكانت تقول له : يا جريج ، أحسن بالله الظن ؛ فإن الله سيرزقنا . فجعل جريج يرزق بمكانها ، فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها ، فإذا أدخله عليها وهي في الكنيسة ، أنماه الله وكثره ، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلا من الرزق ، وليس بقدر ما يأتيها به جريج ، فيقول : " يا مريم ، أنى لك هذا " ؟ فتقول : " هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " .

    قال أبو جعفر : وأما " المحراب " فهو مقدم كل مجلس ومصلى ، وهو سيد المجالس وأشرفها وأكرمها ، وكذلك هو من المساجد ، ومنه قول عدي بن زيد :


    كدمى العاج في المحاريب أو كالبيض في الروض زهره مستنير
    [ ص: 358 ]

    و " المحاريب " جمع " محراب " وقد يجمع على محارب .
    القول في تأويل قوله ( قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ( 37 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " قال " زكريا : " يامريم أنى لك هذا ؟ من أي وجه لك هذا الذي أرى عندك من الرزق ؟ قالت مريم مجيبة له : " هو من عند الله تعني : أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها وأعطاها .

    وإنما كان زكريا يقول ذلك لها ؛ لأنه كان - فيما ذكر لنا - يغلق عليها سبعة أبواب ، ويخرج . ثم يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء . فكان يعجب مما يرى من ذلك ، ويقول لها تعجبا مما يرى : " أنى لك هذا " ؟ فتقول : من عند الله .

    6937 - حدثني بذلك المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع .

    6938 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني بعض أهل العلم ، فذكر نحوه .

    6939 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله " قال : فإنه وجد عندها الفاكهة الغضة حين لا توجد الفاكهة [ ص: 359 ] عند أحد ، فكان زكريا يقول : " يا مريم أنى لك هذا " ؟

    وأما قوله : " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " فخبر من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقه ، بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبده . لأنه - جل ثناؤه - لا ينقص سوقه ذلك إليه كذلك خزائنه ، ولا يزيد إعطاؤه إياه ، ومحاسبته عليه في ملكه ، وفيما لديه شيئا ، ولا يعزب عنه علم ما يرزقه ، وإنما يحاسب من يعطي ما يعطيه ، من يخشى النقصان من ملكه ، ودخول النفاد عليه بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف ، ومن كان جاهلا بما يعطى على غير حساب .
    القول في تأويل قوله ( هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ( 38 ) )

    قال أبو جعفر : وأما قوله : " هنالك دعا زكريا ربه ، فمعناها : عند ذلك ، أي : عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رزقها ، وفضله الذي آتاها من غير تسبب أحد من الآدميين في ذلك لها ومعاينته عندها الثمرة [ ص: 360 ] الرطبة التي لا تكون في حين رؤيته إياها عندها في الأرض طمع بالولد ، مع كبر سنه ، من المرأة العاقر . فرجا أن يرزقه الله منها الولد ، مع الحال التي هما بها ، كما رزق مريم على تخليها من الناس ما رزقها من ثمرة الصيف في الشتاء وثمرة الشتاء في الصيف ، وإن لم يكن مثله مما جرت بوجوده في مثل ذلك الحين العادات في الأرض ، بل المعروف في الناس غير ذلك ، كما أن ولادة العاقر غير الأمر الجارية به العادات في الناس . فرغب إلى الله - جل ثناؤه - في الولد ، وسأله ذرية طيبة .

    وذلك أن أهل بيت زكريا - فيما ذكر لنا - كانوا قد انقرضوا في ذلك الوقت ، كما : -

    6940 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فلما رأى زكريا من حالها ذلك يعني : فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف قال : إن ربا أعطاها هذا في غير حينه ، لقادر على أن يرزقني ذرية طيبة ! ورغب في الولد ، فقام فصلى ، ثم دعا ربه سرا فقال : ( رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ) [ سورة مريم : 4 - 6 ] ، وقوله : ( رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ) وقال : ( رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ) [ سورة الأنبياء : 89 ] .

    6941 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، [ ص: 361 ] قال : فلما رأى ذلك زكريا - يعني فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف - عند مريم قال : إن الذي يأتي بهذا مريم في غير زمانه ، قادر أن يرزقني ولدا ، قال الله - عز وجل - : " هنالك دعا زكريا ربه " قال : فذلك حين دعا .

    6942 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة قال : فدخل المحراب وغلق الأبواب ، وناجى ربه فقال : ( رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ) إلى قوله : ( رب رضيا ) ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله ) الآية .

    6943 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني بعض أهل العلم قال : فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسن ولا ولد له ، وقد انقرض أهل بيته فقال : " رب هب لي من لدنك ذرية طيبه إنك سميع الدعاء " ثم شكا إلى ربه فقال : ( رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ) إلى ( واجعله رب رضيا ) ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ) الآية .

    وأما قوله : " رب هب لي من لدنك ذرية طيبة " فإنه يعني ب " الذرية " النسل ، وب " الطيبة " المباركة ، كما : -

    6944 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة " يقول : مباركة . [ ص: 362 ]

    وأما قوله : " من لدنك " فإنه يعني : من عندك .

    وأما " الذرية " فإنها جمع ، وقد تكون في معنى الواحد ، وهي في هذا الموضع الواحد . وذلك أن الله - عز وجل - قال في موضع آخر ، مخبرا عن دعاء زكريا : ( فهب لي من لدنك وليا ) [ سورة مريم : 5 ] ، ولم يقل : أولياء - فدل على أنه سأل واحدا . وإنما أنث " طيبة " لتأنيث الذرية ، كما قال الشاعر :


    أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ، ذاك الكمال


    فقال : " ولدته أخرى " فأنث ، وهو ذكر ، لتأنيث لفظ " الخليفة " كما قال الآخر :


    فما تزدري من حية جبلية سكات ، إذا ما عض ليس بأدردا


    فأنث " الجبلية " لتأنيث لفظ " الحية " ثم رجع إلى المعنى فقال : " إذا ما عض " لأنه كان أراد حية ذكرا ، وإنما يجوز هذا فيما لم يقع عليه " فلان " من الأسماء ، ك " الدابة ، والذرية ، والخليفة " .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #403
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (403)
    صــ 363 إلى صــ 377


    فأما إذا سمي رجل بشيء من ذلك ، [ ص: 363 ] فكان في معنى " فلان " لم يجز تأنيث فعله ولا نعته .

    وأما قوله : " إنك سميع الدعاء " فإن معناه : إنك سامع الدعاء ، غير أن " سميع " أمدح ، وهو بمعنى : ذو سمع له .

    وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه : إنك تسمع ما تدعى به .

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية ، فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال : رب هب لي من عندك ولدا مباركا ، إنك ذو سمع دعاء من دعاك .
    القول في تأويل قوله ( فنادته الملائكة )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة : " فنادته الملائكة " على التأنيث بالتاء ، يراد بها : جمع " الملائكة " . وكذلك تفعل العرب في جماعة الذكور إذا تقدمت أفعالها ، أنثت أفعالها ، ولا سيما الأسماء التي في ألفاظها التأنيث ، كقولهم : جاءت الطلحات " .

    وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بالياء ، بمعنى فناداه جبريل ، فذكروه للتأويل ، كما قد ذكرنا آنفا أنهم يؤنثون فعل الذكر للفظ ، فكذلك يذكرون [ ص: 364 ] فعل المؤنث أيضا للفظ . واعتبروا ذلك فيما أرى بقراءة يذكر أنها قراءة عبد الله بن مسعود ، وهو ما : -

    6945 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، أن قراءة ابن مسعود : ( فناداه جبريل وهو قائم يصلي في المحراب ) .

    وكذلك تأول قوله : " فنادته الملائكة " جماعة من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6946 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فنادته الملائكة " وهو جبريل أو : قالت الملائكة ، وهو جبريل " أن الله يبشرك بيحيى " .

    قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف جاز أن يقال على هذا التأويل : " فنادته الملائكة " و " الملائكة " جمع لا واحد ؟ قيل : ذلك جائز في كلام العرب ، بأن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع ، كما يقال في الكلام : " خرج فلان على بغال البرد " وإنما ركب بغلا واحدا " وركب السفن " وإنما ركب سفينة واحدة . وكما يقال : " ممن سمعت هذا الخبر " ؟ فيقال : " من الناس " وإنما سمعه من رجل واحد . وقد قيل إن منه قوله : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ) [ سورة آل عمران : 173 ] ، والقائل كان فيما كان ذكر - واحدا وقوله : ( وإذا مس الناس ضر ) [ ص: 365 ] [ سورة الروم : 33 ] ، والناس بمعنى واحد . وذلك جائز عندهم فيما لم يقصد فيه قصد واحد .

    قال أبو جعفر : وإنما الصواب من القول عندي في قراءة ذلك ، أنهما قراءتان معروفتان أعني " التاء " و " الياء " فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . وذلك أنه لا اختلاف في معنى ذلك باختلاف القراءتين ، وهما جميعا فصيحتان عند العرب ، وذلك أن " الملائكة " إن كان مرادا بها جبريل ، كما روي عن عبد الله ، فإن التأنيث في فعلها فصيح في كلام العرب للفظها ، إن تقدمها الفعل . وجائز فيه التذكير لمعناها .

    وإن كان مرادا بها جمع " الملائكة " فجائز في فعلها التأنيث ، وهو من قبلها ، للفظها . وذلك أن العرب إذا قدمت على الكثير من الجماعة فعلها ، أنثته ، فقالت : " قالت النساء " . وجائز التذكير في فعلها ، بناء على الواحد ، إذا تقدم فعله ، فيقال : " قال الرجال " .

    وأما الصواب من القول في تأويله ، فأن يقال : إن الله - جل ثناؤه - أخبر أن الملائكة نادته . والظاهر من ذلك ، أنها جماعة من الملائكة دون الواحد ، وجبريل واحد .

    ولا يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب ، دون الأقل ما وجد إلى ذلك سبيل . ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد ، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني .

    وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم ، منهم : قتادة ، والربيع [ ص: 366 ] بن أنس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وجماعة غيرهم . وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فيما مضى .
    القول في تأويل قوله ( وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى )

    قال أبو جعفر : وتأويل قوله : " وهو قائم : " فنادته الملائكة في حال قيامه مصليا . فقوله : " وهو قائم " خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا .

    وقوله : " يصلي " في موضع نصب على الحال من " القيام " وهو رفع بالياء .

    وأما " المحراب " فقد بينا معناه ، وأنه مقدم المسجد .

    واختلفت القرأة في قراءة قوله : " أن الله يبشرك " .

    فقرأته عامة القرأة : ( أن الله ) بفتح " الألف " من " أن " بوقوع " النداء " عليها ، بمعنى : فنادته الملائكة بذلك .

    وقرأه بعض قرأة أهل الكوفة : ( إن الله يبشرك ) بكسر " الألف " بمعنى : قالت الملائكة : إن الله يبشرك ، لأن النداء قول . وذكروا أنها في قراءة عبد الله : ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب يا زكريا إن الله يبشرك ) قالوا : وإذا بطل النداء أن يكون عاملا في قوله : " يا زكريا " فباطل أيضا [ ص: 367 ] أن يكون عاملا في " إن " .

    والصواب من القراءة في ذلك عندنا : " أن الله يبشرك " بفتح " أن " بوقوع النداء عليه ، بمعنى : فنادته الملائكة بذلك .

    وليست العلة التي اعتل بها القارئون بكسر " إن " من أن عبد الله كان يقرؤها كذلك ، فقرأوها كذلك [ لهم بعلة ] وذلك أن عبد الله إن كان قرأ ذلك كذلك ، فإنما قرأها بزعمهم ، وقد اعترض بنداء زكريا بين " إن " وبين قوله : " فنادته " وإذا اعترض به بينهما ، فإن العرب تعمل حينئذ النداء في " أن " وتبطله عنها . أما الإبطال ، فلأنه بطل عن العمل في المنادى قبله ، فأسلكوا الذي بعده مسلكه في بطول عمله . وأما الإعمال ، فلأن النداء فعل واقع . كسائر الأفعال .

    وأما قراءتنا ، فليس نداء زكريا ب " يا زكريا " معترضا به بين " أن " وبين قوله : " فنادته " . وإذا لم يكن ذلك بينهما ، فالكلام الفصيح من كلام العرب إذا نصبت بقول : " ناديت " اسم المنادى وأوقعوه عليه ، أن يوقعوه كذلك على " أن " بعده . وإن كان جائزا إبطال عمله ، فقوله : " نادته " قد وقع على مكني " زكريا " فكذلك الصواب أن يكون واقعا على " أن " وعاملا فيها . [ ص: 368 ]

    مع أن ذلك هو القراءة المستفيضة في قراءة أمصار الإسلام . ولا يعترض بالشاذ على الجماعة التي تجيء مجيء الحجة .

    وأما قوله : " يبشرك " فإن القرأة اختلفت في قراءته .

    فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والبصرة : ( أن الله يبشرك ) بتشديد " الشين " وضم " الياء " على وجه تبشير الله زكريا بالولد ، من قول الناس : " بشرت فلانا البشراء بكذا وكذا " أي : أتته بشارات البشراء بذلك .

    وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة وغيرهم : ( أن الله يبشرك ) ، بفتح " الياء " وضم " الشين " وتخفيفها ، بمعنى : أن الله يسرك بولد يهبه لك ، من قول الشاعر :


    بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة أتتك من الحجاج يتلى كتابها


    وقد قيل : إن " بشرت " لغة أهل تهامة من كنانة وغيرهم من قريش ، وأنهم يقولون : " بشرت فلانا بكذا ، فأنا أبشره بشرا " و " هل أنت باشر بكذا " ؟ وينشد لهم البيت في ذلك :


    وإذا رأيت الباهشين إلى العلى غبرا أكفهم بقاع ممحل
    [ ص: 369 ]

    فأعنهم ، وابشر بما بشروا به ، وإذا هم نزلوا بضنك فانزل


    فإذا صاروا إلى الأمر ، فالكلام الصحيح من كلامهم بلا ألف فيقال : " ابشر فلانا بكذا " ولا يكادون يقولون : " بشره بكذا ، ولا أبشره " .

    وقد روي عن حميد بن قيس أنه كان يقرأ : ( يبشرك ) ، بضم " الياء " وكسر " الشين " وتخفيفها . وقد : -

    6947 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن معاذ الكوفي قال : من قرأ : ( يبشرهم ) مثقلة ، فإنه من البشارة ، ومن قرأ : ( يبشرهم ) ، مخففة ، بنصب " الياء " فإنه من السرور ، يسرهم .

    قال أبو جعفر : والقراءة التي هي القراءة عندنا في ذلك ، ضم " الياء " وتشديد " الشين " بمعنى التبشير . لأن ذلك هي اللغة السائرة والكلام المستفيض المعروف في الناس ، مع أن جميع قرأة الأمصار مجمعون في قراءة : ( فبم تبشرون ) [ سورة الحجر : 54 ] ، على التشديد . والصواب في سائر ما في القرآن من نظائره ، أن يكون مثله في التشديد وضم " الياء " . [ ص: 370 ]

    وأما ما روي عن معاذ الكوفي من الفرق بين معنى التخفيف والتشديد في ذلك ، فلم نجد أهل العلم بكلام العرب يعرفونه من وجه صحيح ، فلا معنى لما حكي من ذلك عنه ، وقد قال جرير بن عطية :


    يا بشر حق لوجهك التبشير هلا غضبت لنا ؟ وأنت أمير !


    فقد علم أنه أراد بقوله " التبشير " الجمال والنضارة والسرور ، فقال " التبشير " ولم يقل " البشر " فقد بين ذلك أن معنى التخفيف والتثقيل في ذلك واحد .

    6948 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " إن الله يبشرك بيحيى " قال : بشرته الملائكة بذلك .

    وأما قوله : " بيحيى " فإنه اسم ، أصله " يفعل " من قول القائل : " حيي فلان فهو يحيى " وذلك إذا عاش . " فيحيى " " يفعل " من قولهم " حيي " .

    وقيل : إن الله - جل ثناؤه - سماه بذلك ، لأنه يتأول اسمه : أحياه بالإيمان .

    ذكر من قال ذلك :

    6949 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " أن الله يبشرك بيحيى ، يقول : عبد أحياه الله بالإيمان .

    6950 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي [ ص: 371 ] جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة قوله : " إن الله يبشرك بيحيى " ، قال : إنما سمي يحيى ، لأن الله أحياه بالإيمان .
    القول في تأويل قوله ( مصدقا بكلمة من الله )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : أن الله يبشرك يا زكريا بيحيى ابنا لك ، " مصدقا بكلمة من الله " يعني : بعيسى ابن مريم .

    ونصب قوله : " مصدقا " على القطع من " يحيى " لأن " مصدقا " نعت له ، وهو نكرة ، و " يحيى " غير نكرة .

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6951 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال : حدثنا محمد بن ربيعة قال : حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد قال : قالت امرأة زكريا لمريم : إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك ! قال : فوضعت امرأة زكريا يحيى ، ومريم عيسى ، ولذا قال : " مصدقا بكلمة من الله " قال : يحيى مصدق بعيسى .

    6952 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن الرقاشي في قول الله : " يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله " قال : مصدقا بعيسى ابن مريم . [ ص: 372 ]

    6953 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    6954 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا سليمان قال : حدثنا أبو هلال قال : حدثنا قتادة في قوله : " مصدقا بكلمة من الله ، قال : مصدقا بعيسى .

    6955 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " مصدقا بكلمة من الله ، يقول : مصدقا بعيسى ابن مريم ، وعلى سنته ومنهاجه .

    6956 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " مصدقا بكلمة من الله " يعني : عيسى ابن مريم .

    6957 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة : " مصدقا بكلمة من الله " يقول : مصدقا بعيسى ابن مريم ، يقول على سننه ومنهاجه .

    6958 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " مصدقا بكلمة من الله " قال : كان أول رجل صدق عيسى ، وهو كلمة من الله وروح .

    6959 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " مصدقا بكلمة من الله " يصدق بعيسى .

    6960 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله " كان يحيى أول من صدق بعيسى وشهد أنه كلمة من الله ، وكان يحيى ابن خالة عيسى ، وكان أكبر من عيسى . [ ص: 373 ]

    6961 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة عن ابن عباس قوله : " مصدقا بكلمة من الله " قال : عيسى ابن مريم ، هو الكلمة من الله ، اسمه المسيح .

    6962 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : أخبرني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : قوله : " مصدقا بكلمة من الله " قال : كان عيسى ويحيى ابني خالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك ! فذلك تصديقه بعيسى : سجوده في بطن أمه . وهو أول من صدق بعيسى وكلمة عيسى ، ويحيى أكبر من عيسى .

    6963 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله " قال : الكلمة التي صدق بها : عيسى .

    6964 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لقيت أم يحيى أم عيسى ، وهذه حامل بيحيى ، وهذه حامل بعيسى ، فقالت امرأة زكريا : يا مريم ، استشعرت أني حبلى ! قالت مريم : استشعرت أني أيضا حبلى ! قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك ! فذلك قوله : " مصدقا بكلمة من الله " .

    6965 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قول الله : " أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله " قال : مصدقا بعيسى ابن مريم .

    قال أبو جعفر : وقد زعم بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل البصرة ، [ ص: 374 ] أن معنى قوله : " مصدقا بكلمة من الله " بكتاب من الله ، من قول العرب : " أنشدني فلان كلمة كذا " يراد به : قصيدة كذا جهلا منه بتأويل " الكلمة " واجتراء على ترجمة القرآن برأيه .
    القول في تأويل قوله ( وسيدا )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " وسيدا " وشريفا في العلم والعبادة .

    ونصب السيد عطفا على قوله : " مصدقا " .

    وتأويل الكلام : أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بهذا ، وسيدا .

    " والسيد " " الفيعل " من قول القائل : " ساد يسود " كما : -

    6966 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وسيدا " إي والله ، لسيد في العبادة والحلم والعلم والورع .

    6967 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا مسلم قال : حدثنا أبو هلال قال : حدثنا قتادة في قوله : " وسيدا " قال : السيد ، لا أعلمه إلا قال : في العلم والعبادة . [ ص: 375 ]

    6968 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة قال : السيد الحليم .

    6969 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، " وسيدا " قال : الحليم .

    6970 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : " وسيدا " قال : السيد التقي .

    6971 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " وسيدا " قال : السيد الكريم على الله .

    6972 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل قال : زعم الرقاشي أن السيد ، الكريم على الله .

    6973 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قول الله - عز وجل - : " وسيدا " قال : السيد الحليم التقي .

    6974 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وسيدا " قال : يقول : تقيا حليما .

    6975 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان في قوله : " وسيدا " قال : حليما تقيا .

    6976 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد في قوله : " وسيدا " قال : السيد : الشريف .

    6977 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال : حدثنا بقية بن الوليد ، [ ص: 376 ] عن عبد الملك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في قول الله - عز وجل - : " وسيدا " قال : السيد الفقيه العالم .

    6978 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وسيدا " قال : يقول : حليما تقيا .

    6979 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة : " وسيدا " قال : السيد الذي لا يغلبه الغضب .
    القول في تأويل قوله ( وحصورا ونبيا من الصالحين ( 39 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك : ممتنعا من جماع النساء ، من قول القائل : " حصرت من كذا أحصر " إذا امتنع منه . ومنه قولهم : " حصر فلان في قراءته " إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها . وكذلك " حصر العدو " حبسهم الناس ومنعهم إياهم التصرف ، ولذلك قيل للذي لا يخرج مع ندمائه شيئا ، " حصور " كما قال الأخطل :


    وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار


    ويروى : " بسآر " . ويقال أيضا للذي لا يخرج سره ويكتمه " حصور " [ ص: 377 ] لأنه يمنع سره أن يظهر ، كما قال جرير :


    ولقد تساقطني الوشاة ، فصادفوا حصرا بسرك يا أميم ضنينا


    وأصل جميع ذلك واحد ، وهو المنع والحبس .

    وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6980 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن خلف قال : حدثنا حماد بن شعيب ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله في قوله : " وسيدا وحصورا " قال : الحصور ، الذي لا يأتي النساء .

    6981 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : حدثني ابن العاص : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب ، إلا ما كان من يحيى بن زكريا . قال : ثم دلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده إلى الأرض ، فأخذ عويدا صغيرا ، ثم قال : وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود ، وبذلك سماه الله " سيدا وحصورا " .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #404
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (404)
    صــ 378 إلى صــ 392


    [ ص: 378 ]

    6982 - حدثني يونس قال : أخبرنا أنس بن عياض ، عن يحيى بن سعيد قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ليس أحد إلا يلقى الله يوم القيامة ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا ، كان حصورا ، معه مثل الهدبة .

    6983 - حدثنا أحمد بن الوليد القرشي قال : حدثنا عمر بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : قال ابن العاص - إما عبد الله ، وإما أبوه - : ما أحد يلقى الله إلا وهو ذو ذنب ، إلا يحيى بن زكريا . قال وقال سعيد بن المسيب : " وسيدا وحصورا " قال : الحصور ، الذي لا يغشى النساء ، ولم يكن ما معه إلا مثل هدبة الثوب .

    6984 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن عبد الملك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في قوله : " وحصورا " قال : الحصور الذي لا يشتهي النساء . ثم ضرب بيده إلى الأرض فأخذ نواة فقال : ما كان معه إلا مثل هذه .

    6985 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير قال : الحصور ، الذي لا يأتي النساء .

    6986 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد مثله .

    6987 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد مثله .

    6988 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود قال : حدثنا محمد بن ربيعة قال : [ ص: 379 ] حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد : " وحصورا " قال : الذي لا يأتي النساء .

    6989 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : الحصور : لا يقرب النساء .

    6990 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل قال : زعم الرقاشي : " الحصور " الذي لا يقرب النساء .

    6991 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : " الحصور " الذي لا يولد له ، وليس له ماء .

    6992 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وحصورا " قال : هو الذي لا ماء له .

    6993 - حدثنا بشر قال : حدثنا سويد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وحصورا " كنا نحدث أن الحصور الذي لا يقرب النساء .

    6994 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا سليمان قال : حدثنا أبو هلال قال : حدثنا قتادة في قوله : " وسيدا وحصورا " قال : الحصور الذي لا يأتي النساء .

    6995 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة مثله .

    6996 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله .

    6997 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : الحصور الذي لا ينزل الماء .

    6998 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد : " وحصورا " قال : الحصور الذي لا يأتي النساء . [ ص: 380 ]

    6999 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وحصورا " قال : الحصور ، الذي لا يريد النساء .

    7000 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : " وحصورا " قال : لا يقرب النساء .

    وأما قوله : " ونبيا من الصالحين " فإنه يعني : رسولا لربه إلى قومه ، ينبئهم عنه بأمره ونهيه ، وحلاله وحرامه ، ويبلغهم عنه ما أرسله به إليهم .

    ويعني بقوله : " من الصالحين " من أنبيائه الصالحين .

    وقد دللنا فيما مضى على معنى " النبوة " وما أصلها ، بشواهد ذلك والأدلة الدالة على الصحيح من القول فيه ، بما أغنى عن إعادته .
    [ ص: 381 ] القول في تأويل قوله ( قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر )

    قال أبو جعفر : يعني أن زكريا قال إذ نادته الملائكة : " أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين " " أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر " ؟ يعني : من بلغ من السن ما بلغت لم يولد له " وامرأتي عاقر " .

    " والعاقر " من النساء التي لا تلد . يقال منه : " امرأة عاقر ، ورجل عاقر " كما قال عامر بن الطفيل :


    لبئس الفتى ! إن كنت أعور عاقرا جبانا ، فما عذري لدى كل محضر ! !


    وأما " الكبر " فمصدر : " كبر فهو يكبر كبرا " .

    وقيل : " بلغني الكبر " وقد قال في موضع آخر : ( قد بلغت من الكبر ) [ ص: 382 ] [ سورة مريم : 8 ] ، لأن ما بلغك فقد بلغته . وإنما معناه : قد كبرت ، وهو كقول القائل : " قد بلغني الجهد " بمعنى : أني في جهد .

    فإن قال قائل : وكيف قال زكريا وهو نبي الله : " رب أني يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر " وقد بشرته الملائكة بما بشرته به عن أمر الله إياها به ؟ أشك في صدقهم ؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصف به أهل الإيمان بالله ! فكيف الأنبياء والمرسلون ؟ أم كان ذلك منه استنكارا لقدرة ربه ؟ فذلك أعظم في البلية !

    قيل : كان ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - على غير ما ظننت ، بل كان قيله ما قال من ذلك ، كما : -

    7001 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : لما سمع النداء - يعني زكريا ، لما سمع نداء الملائكة بالبشارة بيحيى - جاءه الشيطان فقال له : يا زكريا ، إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله ، إنما هو من الشيطان يسخر بك ! ولو كان من الله أوحاه إليك كما يوحي إليك في غيره من الأمر ! فشك مكانه ، وقال : " أني يكون لي غلام " ذكر ؟ يقول : من أين ؟ " وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر " .

    7002 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة قال : فأتاه الشيطان فأراد أن يكدر عليه نعمة ربه فقال : هل تدري من ناداك ؟ قال : نعم ! نادتني ملائكة ربي ! قال : بل ذلك الشيطان ! [ ص: 383 ] لو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءك ! فقال : " رب اجعل لي آية " .

    فكان قوله ما قال من ذلك ، ومراجعته ربه فيما راجع فيه بقوله : " أنى يكون لي غلام " للوسوسة التي خالطت قلبه من الشيطان حتى خيلت إليه أن النداء الذي سمعه كان نداء من غير الملائكة ، فقال : " رب أني يكون لي غلام " مستثبتا في أمره ، ليتقرر عنده بآية يريها الله في ذلك - أنه بشارة من الله على ألسن ملائكته ، ولذلك قال : " رب اجعل لي آية " .

    وقد يجوز أن يكون قيله ذلك ، مسألة منه ربه : من أي وجه يكون الولد الذي بشر به ؟ أمن زوجته ؟ فهي عاقر - أم من غيرها من النساء ؟ فيكون ذلك على غير الوجه الذي قاله عكرمة والسدي ومن قال مثل قولهما .
    القول في تأويل قوله ( قال كذلك الله يفعل ما يشاء ( 40 ) )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " كذلك الله " أي هو ما وصف به نفسه أنه هين عليه أن يخلق ولدا من الكبير الذي قد يئس من الولد ، ومن العاقر التي لا يرجى من مثلها الولادة ، كما خلقك يا زكريا من قبل خلق الولد منك ولم تك شيئا ، لأنه الله الذي لا يتعذر عليه خلق شيء أراده ، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءه ، لأن قدرته القدرة التي لا تشبهها قدرة ، كما : -

    7003 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن [ ص: 384 ] السدي قال : " كذلك الله يفعل ما يشاء " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا .
    القول في تأويل قوله ( قال رب اجعل لي آية )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - ، خبرا عن زكريا ، قال زكريا : رب إن كان هذا النداء الذي نوديته ، والصوت الذي سمعته ، صوت ملائكتك وبشارة منك لي ، فاجعل لي آية يقول : علامة أن ذلك كذلك ، ليزول عني ما قد وسوس إلي الشيطان فألقاه في قلبي ، من أن ذلك صوت غير الملائكة ، وبشارة من عند غيرك ، كما : -

    7004 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : " رب اجعل لي آية " قال : قال - يعني زكريا - : يا رب ، فإن كان هذا الصوت منك ، فاجعل لي آية .

    وقد دللنا فيما مضى على معنى " الآية " وأنها العلامة ، بما أغنى عن إعادته .

    وقد اختلف أهل العربية في سبب ترك العرب همزها ، ومن شأنها همز كل " ياء " جاءت بعد " ألف " ساكنة .

    فقال بعضهم : ترك همزها ، لأنها كانت " أية " فثقل عليهم التشديد ، فأبدلوه " ألفا " لانفتاح ما قبل التشديد كما قالوا : " أيما فلان فأخزاه الله " .

    وقال آخرون منهم : بل هي " فاعلة " منقوصة . [ ص: 385 ]

    فسئلوا فقيل لهم : فما بال العرب تصغرها " أيية " ولم يقولوا " أوية " . فقالوا : قيل ذلك ، كما قيل في " فاطمة " " هذه فطيمة " . فقيل لهم : فإنهم إنما يصغرون " فاعلة " على " فعيلة " إذا كان اسما في معنى فلان وفلانة ، فأما في غير ذلك فليس من تصغيرهم " فاعلة " على " فعيلة " .

    وقال آخرون : إنه " فعلة " صيرت ياؤها الأولى " ألفا " كما فعل ب " حاجة ، وقامة " .

    فقيل لهم : إنما تفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة .

    وقال من أنكر ذلك من قيلهم : لو كان كما قالوا : لقيل في " نواة " ناية ، وفي " حياة " حاية .
    القول في تأويل قوله ( قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا )

    قال أبو جعفر : فعاقبه الله - فيما ذكر لنا - بمسألته الآية ، بعد مشافهة الملائكة إياه بالبشارة ، فجعل آيته على تحقيق ما سمع من البشارة من الملائكة [ ص: 386 ] بيحيى أنه من عند الله آية من نفسه ، جمع تعالى ذكره بها العلامة التي سألها ربه على ما يبين له حقيقة البشارة أنها من عند الله ، وتمحيصا له من هفوته ، وخطإ قيله ومسألته .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7005 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " إنما عوقب بذلك ، لأن الملائكة شافهته مشافهة بذلك ، فبشرته بيحيى ، فسأل الآية بعد كلام الملائكة إياه . فأخذ عليه بلسانه ، فجعل لا يقدر على الكلام إلا ما أومأ وأشار ، فقال الله تعالى ذكره ، كما تسمعون : " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " .

    7006 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " أن الله يبشرك بيحيى مصدقا " قال : شافهته الملائكة ، فقال : " رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " يقول : إلا إيماء ، وكانت عقوبة عوقب بها ، إذ سأل الآية مع مشافهة الملائكة إياه بما بشرته به .

    7007 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك " قال : ذكر لنا ، والله أعلم ، أنه عوقب ، لأن الملائكة شافهته مشافهة ، فبشرته بيحيى ، فسأل الآية بعد ، فأخذ بلسانه .

    7008 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذكر لنا ، والله أعلم ، أنه عوقب ، لأن الملائكة شافهته فبشرته بيحيى ، قالت : " إن الله يبشرك بيحيى ، فسأل بعد كلام الملائكة إياه الآية ، فأخذ عليه لسانه ، فجعل لا يقدر على الكلام إلا رمزا - يقول : يومئ إيماء .

    7009 - حدثني أبو عبيد الوصابي قال : حدثنا محمد بن حمير قال : حدثنا صفوان بن عمرو ، عن جبير بن نفير في قوله : " قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " قال : ربا لسانه في فيه حتى ملأه ، ثم أطلقه الله بعد ثلاث .

    قال أبو جعفر : وإنما اختارت القرأة النصب في قوله : " ألا تكلم الناس " لأن معنى الكلام : قال آيتك أن لا تكلم الناس فيما يستقبل ثلاثة أيام فكانت " أن " هي التي تصحب الاستقبال ، دون التي تصحب الأسماء فتنصبها . ولو كان المعنى فيه : آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام أي : أنك على هذه الحال ثلاثة أيام كان وجه الكلام الرفع . لأن " أن " كانت تكون حينئذ بمعنى [ ص: 388 ] الثقيلة خففت . ولكن لم يكن ذلك جائزا ، لما وصفت من أن ذلك بالمعنى الآخر .

    وأما " الرمز " فإن الأغلب من معانيه عند العرب : الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحيانا ، وذلك غير كثير فيهم . وقد يقال للخفي من الكلام الذي هو مثل الهمس بخفض الصوت : " الرمز " ومنه قول جؤية بن عائذ :


    وكان تكلم الأبطال رمزا وهمهمة لهم مثل الهدير


    يقال منه : " رمز فلان فهو يرمز ويرمز رمزا ويترمز ترمزا " ويقال : " ضربه ضربة فارتمز منها " أي اضطرب للموت ، قال الشاعر :


    خررت منها لقفاي أرتمز


    وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عنى الله - عز وجل - به في إخباره عن زكريا من قوله : " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " ، وأي معاني " الرمز " عنى بذلك ؟

    فقال بعضهم : عنى بذلك : آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا تحريكا بالشفتين ، من غير أن ترمز بلسانك الكلام .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 389 ]

    7010 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد في قوله : " إلا رمزا " ، قال : تحريك الشفتين .

    7011 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ثلاثة أيام إلا رمزا " قال : إيماؤه بشفتيه .

    7012 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    وقال آخرون : بل عنى الله بذلك : الإيماء والإشارة .

    ذكر من قال ذلك :

    7013 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : " إلا رمزا " قال : الإشارة .

    7014 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " إلا رمزا " قال : الرمز أن يشير بيده أو رأسه ، ولا يتكلم .

    7015 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " إلا رمزا " قال : الرمز : أن أخذ بلسانه ، فجعل يكلم الناس بيده .

    7016 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إلا رمزا " قال : والرمز الإشارة .

    7017 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " الآية ، قال : [ ص: 390 ] جعل آيته أن لا يكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ، إلا أنه يذكر الله . والرمز : الإشارة ، يشير إليهم .

    7018 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " إلا رمزا " إلا إيماء .

    7019 - حدثنا عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

    7020 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إلا رمزا " يقول : إشارة .

    7021 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عبد الله بن كثير : " إلا رمزا " إلا إشارة .

    7022 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " قال : أمسك بلسانه ، فجعل يومئ بيده إلى قومه : أن سبحوا بكرة وعشيا .
    القول في تأويل قوله ( واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ( 41 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك : قال الله - جل ثناؤه - لزكريا : يا زكريا ، " آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " بغير خرس ولا عاهة ولا مرض ، " واذكر ربك كثيرا " فإنك لا تمنع ذكره ، ولا يحال بينك وبين تسبيحه وغير ذلك من ذكره ، وقد : - [ ص: 391 ]

    7023 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب قال : لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر ، لرخص لزكريا حيث قال : " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا " أيضا .

    وأما قوله : " وسبح بالعشي " فإنه يعني : عظم ربك بعبادته بالعشي .

    و " العشي " من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ، كما قال الشاعر :


    فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ، و لا الفيء من برد العشي تذوق


    فالفيء ، إنما تبتدئ أوبته عند زوال الشمس ، ويتناهى بمغيبها . [ ص: 392 ]

    وأما " الإبكار " فإنه مصدر من قول القائل : " أبكر فلان في حاجة فهو يبكر إبكارا " وذلك إذا خرج فيها من بين مطلع الفجر إلى وقت الضحى ، فذلك " إبكار " . يقال فيه : " أبكر فلان " و " بكر يبكر بكورا " . فمن " الإبكار " قول عمر بن أبي ربيعة :


    أمن آل نعم أنت غاد فمبكر


    ومن " البكور " قول جرير :


    ألا بكرت سلمى فجد بكورها وشق العصا بعد اجتماع أميرها


    ويقال من ذلك : " بكر النخل يبكر بكورا وأبكر يبكر إبكارا " و " الباكور " من الفواكه : أولها إدراكا .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #405
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (405)
    صــ 393 إلى صــ 407


    ذكر من قال ذلك :

    7024 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وسبح بالعشي والإبكار " قال : [ ص: 393 ] الإبكار أول الفجر ، والعشي ميل الشمس حتى تغيب .

    7025 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
    القول في تأويل قوله ( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ( 42 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " والله سميع عليم إذ قالت امرأة عمران رب نذرت لك ما في بطني محررا " " وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك " .

    ومعنى قوله : " اصطفاك " ، اختارك واجتباك لطاعته وما خصك به من كرامته .

    وقوله : " وطهرك " يعني : طهر دينك من الريب والأدناس التي في أديان نساء بني آدم

    " واصطفاك على نساء العالمين " يعني : اختارك على نساء العالمين في زمانك ، بطاعتك إياه ، ففضلك عليهم ، كما روي عن رسول الله صلى الله [ ص: 394 ] عليه وسلم أنه قال : " خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد " يعني بقوله : " خير نسائها " خير نساء أهل الجنة .

    7026 - حدثني بذلك الحسين بن علي الصدائي قال : حدثنا محاضر بن المورع قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر قال : سمعت عليا بالعراق يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة .

    7027 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثني المنذر بن عبد الله الحزامي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خير نساء الجنة مريم بنت عمران ، وخير نساء الجنة خديجة بنت خويلد . [ ص: 395 ]

    7028 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين " ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : حسبك بمريم بنت عمران ، وامرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ، من نساء العالمين قال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " خير نساء ركبن الإبل صوالح نساء قريش ، أحناه على ولد في صغره ، وأرعاه على زوج في ذات يده " قال قتادة : وذكر لنا أنه كان يقول : " لو علمت أن مريم ركبت الإبل ، ما فضلت عليها أحدا " . [ ص: 396 ]

    7029 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين " قال : كان أبو هريرة يحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش ، أحناه على ولد ، وأرعاه لزوج في ذات يده قال أبو هريرة : ولم تركب مريم بعيرا قط . [ ص: 397 ]

    7030 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : " وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين " قال : كان ثابت البناني يحدث ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد .

    7031 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم العسقلاني قال : حدثنا شعبة قال : حدثنا عمرو بن مرة قال : سمعت مرة الهمداني يحدث ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كمل من الرجال كثير ، [ ص: 398 ] ولم يكمل من النساء إلا مريم ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد .

    7032 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو الأسود المصري قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن عمارة بن غزية ، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان : أن فاطمة بنت حسين بن علي حدثته : أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما وأنا عند عائشة ، فناجاني ، فبكيت ، ثم ناجاني فضحكت ، فسألتني عائشة عن ذلك ، فقلت : لقد عجلت ! أخبرك بسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! ! فتركتني . فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألتها عائشة فقالت : نعم ، ناجاني فقال : جبريل كان يعارض القرآن كل عام مرة ، وإنه قد عارض القرآن مرتين ; وإنه ليس من نبي إلا عمر نصف عمر الذي كان قبله ، وإن عيسى أخي كان عمره عشرين ومئة سنة ، وهذه لي ستون ، وأحسبني ميتا في عامي هذا ، وإنه لم ترزأ امرأة من نساء العالمين بمثل ما رزئت ، ولا تكوني دون امرأة صبرا ! قالت : فبكيت ، ثم قال : أنت سيدة [ ص: 399 ] نساء أهل الجنة إلا مريم البتول . فتوفي عامه ذلك .

    7033 - حدثني المثنى قال حدثنا أبو الأسود قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن عمرو بن الحارث ، أن أبا زياد الحميري حدثه ، أنه سمع عمار بن سعد يقول : قال [ ص: 400 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فضلت خديجة على نساء أمتي ، كما فضلت مريم على نساء العالمين .

    وبمثل الذي قلنا في معنى قوله : " وطهرك " ، أنه : وطهر دينك من الدنس والريب ، قاله مجاهد .

    7034 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " إن الله اصطفاك وطهرك " قال : جعلك طيبة إيمانا .

    7035 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    7036 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " واصطفاك على نساء العالمين " قال : ذلك للعالمين يومئذ .

    وكانت الملائكة - فيما ذكر ابن إسحاق - تقول ذلك لمريم شفاها .

    7037 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : [ ص: 401 ] كانت مريم حبيسا في الكنيسة ، ومعها في الكنيسة غلام اسمه يوسف ، وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيرا حبيسا ، فكانا في الكنيسة جميعا ، وكانت مريم ، إذا نفد ماؤها وماء يوسف ، أخذا قلتيهما فانطلقا إلى المفازة التي فيها الماء الذي يستعذبان منه ، فيملآن قلتيهما ، ثم يرجعان إلى الكنيسة ، والملائكة في ذلك مقبلة على مريم : " يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين " فإذا سمع ذلك زكريا قال : إن لابنة عمران لشأنا .
    القول في تأويل قوله ( يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ( 43 ) )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله - خبرا عن قيل ملائكته لمريم : " يا مريم اقنتي لربك " أخلصي الطاعة لربك وحده .

    وقد دللنا على معنى " القنوت " ، بشواهده فيما مضى قبل . والاختلاف بين أهل التأويل فيه في هذا الموضع ، نحو اختلافهم فيه هنالك . وسنذكر قول بعضهم أيضا في هذا الموضع .

    فقال بعضهم : معنى " اقنتي " أطيلي الركود .

    ذكر من قال ذلك :

    7038 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، [ ص: 402 ] عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يا مريم اقنتي لربك " قال : أطيلي الركود ، يعني القنوت .

    7039 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    7040 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج " اقنتي لربك " قال قال مجاهد : أطيلي الركود في الصلاة يعني القنوت .

    7041 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد قال : لما قيل لها : " يا مريم اقنتي لربك " قامت حتى ورم كعباها .

    7042 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد قال : لما قيل لها : " يا مريم اقنتي لربك " قامت حتى ورمت قدماها .

    7043 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي ليلى ، عن مجاهد : " اقنتي لربك " قال : أطيلي الركود .

    7044 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " يا مريم اقنتي لربك " قال : القنوت : الركود . يقول : قومي لربك في الصلاة . يقول : اركدي لربك : أي انتصبي له في الصلاة " واسجدي واركعي مع الراكعين " .

    7045 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : " يا مريم اقنتي لربك " قال : كانت تصلي حتى ترم قدماها . [ ص: 403 ]

    7046 - حدثني ابن البرقي قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا الأوزاعي : " يا مريم اقنتي لربك " قال : كانت تقوم حتى يسيل القيح من قدميها .

    وقال آخرون : معناه : أخلصي لربك .

    ذكر من قال ذلك :

    7047 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد : " يا مريم اقنتي لربك " قال : أخلصي لربك .

    وقال آخرون : معناه : أطيعي ربك .

    ذكر من قال ذلك :

    7048 - حدثني الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " اقنتي لربك " قال : أطيعي ربك .

    7049 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " اقنتي لربك " أطيعي ربك .

    7050 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا محمد بن حرب قال حدثنا ابن لهيعة ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كل حرف يذكر فيه القنوت من القرآن ، فهو طاعة لله .

    7051 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " يا مريم اقنتي لربك " قال يقول : اعبدي ربك . [ ص: 404 ]

    قال أبو جعفر : وقد بينا أيضا معنى " الركوع " " والسجود " بالأدلة الدالة على صحته ، وأنهما بمعنى الخشوع لله ، والخضوع له بالطاعة والعبودة .

    فتأويل الآية ، إذا : يا مريم أخلصي عبادة ربك لوجهه خالصا ، واخشعي لطاعته وعبادته مع من خشع له من خلقه ، شكرا له على ما أكرمك به من الاصطفاء والتطهير من الأدناس ، والتفضيل على نساء عالم دهرك .
    القول في تأويل قوله ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله ذلك : الأخبار التي أخبر بها عباده عن امرأة عمران وابنتها مريم ، وزكريا وابنه يحيى ، وسائر ما قص في الآيات من قوله : " إن الله اصطفى آدم ونوحا " ثم جمع جميع ذلك تعالى ذكره بقوله : " ذلك " فقال : هذه الأنباء من " أنباء الغيب " أي : من أخبار الغيب .

    ويعني ب " الغيب " أنها من خفي أخبار القوم التي لم تطلع أنت ، يا محمد ، عليها ولا قومك ، ولم يعلمها إلا قليل من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم .

    ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنه أوحى ذلك إليه ، حجة على نبوته ، وتحقيقا لصدقه ، وقطعا منه به عذر منكري رسالته من كفار أهل الكتابين ، الذين يعلمون أن محمدا لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها ، ولم يدرك معرفتها مع خمولها عند أهلها ، إلا بإعلام الله ذلك إياه . إذ كان معلوما عندهم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أمي لا يكتب فيقرأ الكتب ، فيصل إلى علم ذلك من [ ص: 405 ] قبل الكتب ، ولا صاحب أهل الكتب فيأخذ علمه من قبلهم .

    وأما " الغيب " فمصدر من قول القائل : " غاب فلان عن كذا فهو يغيب عنه غيبا وغيبة " .

    وأما قوله : " نوحيه إليك " فإن تأويله : ننزله إليك .

    وأصل " الإيحاء " إلقاء الموحي إلى الموحى إليه .

    وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء ، وبإلهام ، وبرسالة ، كما قال - جل ثناؤه - : ( وأوحى ربك إلى النحل ) [ سورة النحل : 68 ] ، بمعنى : ألقى ذلك إليها فألهمها ، وكما قال : ( وإذ أوحيت إلى الحواريين ) [ سورة المائدة : 111 ] ، بمعنى : ألقيت إليهم علم ذلك إلهاما ، وكما قال الراجز :


    أوحى لها القرار فاستقرت


    بمعنى ألقى إليها ذلك أمرا ، وكما قال - جل ثناؤه - : ( فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ) [ سورة مريم : 11 ] ، بمعنى : فألقى ذلك إليهم إيماء . والأصل [ ص: 406 ] فيه ما وصفت ، من إلقاء ذلك إليهم . وقد يكون إلقاؤه ذلك إليهم إيماء ، ويكون بكتاب . ومن ذلك قوله : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) [ سورة الأنعام : 121 ] ، يلقون إليهم ذلك وسوسة ، وقوله : ( وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) [ سورة الأنعام : 19 ] ، ألقى إلي بمجيء جبريل عليه السلام به إلي من عند الله - عز وجل - .

    وأما " الوحي " فهو الواقع من الموحي إلى الموحى إليه ، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب " وحيا " لأنه واقع فيما كتب ثابت فيه ، كما قال كعب بن زهير :


    أتى العجم والآفاق منه قصائد بقين بقاء الوحي في الحجر الأصم


    يعني به : الكتاب الثابت في الحجر . وقد يقال في الكتاب خاصة ، إذا كتبه الكاتب : " وحى " بغير ألف ، ومنه قولرؤبة :


    كأنه بعد رياح تدهمه ومرثعنات الدجون تثمه
    إنجيل أحبار وحى منمنمه
    [ ص: 407 ] القول في تأويل قوله ( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " وما كنت لديهم " وما كنت ، يا محمد ، عندهم فتعلم ما نعلمكه من أخبارهم التي لم تشهدها ، ولكنك إنما تعلم ذلك فتدرك معرفته ، بتعريفناكه .

    ومعنى قوله : " لديهم " عندهم .

    ومعنى قوله : " إذ يلقون " ، حين يلقون أقلامهم .

    وأما " أقلامهم " فسهامهم التي استهم بها المستهمون من بني إسرائيل على كفالة مريم ، على ما قد بينا قبل في قوله : " وكفلها زكريا " .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7052 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا هشام بن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : " وما كنت لديهم " يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #406
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (406)
    صــ 408 إلى صــ 422


    7053 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، [ ص: 408 ] عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يلقون أقلامهم ، زكريا وأصحابه ، استهموا بأقلامهم على مريم حين دخلت عليهم .

    7054 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    7055 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون " كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم ، فتشاح عليها بنو إسرائيل ، فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها ، فقرعهم زكريا ، وكان زوج أختها ، " فكفلها زكريا " يقول : ضمها إليه .

    7056 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " يلقون أقلامهم " قال : تساهموا على مريم أيهم يكفلها ، فقرعهم زكريا .

    7057 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم " وإن مريم لما وضعت في المسجد ، اقترع عليها أهل المصلى وهم يكتبون الوحي ، فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها ، فقال الله - عز وجل - لمحمد - صلى الله عليه وسلم - : " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون " .

    7058 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد [ ص: 409 ] قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم " اقترعوا بأقلامهم أيهم يكفل مريم ، فقرعهم زكريا .

    7059 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم " قال : حيث اقترعوا على مريم ، وكان غيبا عن محمد - صلى الله عليه وسلم - حين أخبره الله .

    وإنما قيل : " أيهم يكفل مريم " لأن إلقاء المستهمين أقلامهم على مريم ، إنما كان لينظروا أيهم أولى بكفالتها وأحق . ففي قوله - عز وجل - : " إذ يلقون أقلامهم " دلالة على محذوف من الكلام ، وهو : " لينظروا أيهم يكفل ، وليتبينوا ذلك ويعلموه " .

    فإن ظن ظان أن الواجب في " أيهم " النصب ، إذ كان ذلك معناه ، فقد ظن خطأ . وذلك أن " النظر " و " التبين " و " العلم " مع " أي " يقتضي استفهاما واستخبارا ، وحظ " أي " في الاستخبار ، الابتداء وبطول عمل المسألة والاستخبار عنه . وذلك أن معنى قول القائل : " لأنظرن أيهم قام " لأستخبرن الناس : أيهم قام ، وكذلك قولهم : " لأعلمن " .

    وقد دللنا فيما مضى قبل أن معنى " يكفل " يضم ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
    [ ص: 410 ] القول في تأويل قوله ( وما كنت لديهم إذ يختصمون ( 44 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وما كنت ، يا محمد ، عند قوم مريم ، إذ يختصمون فيها أيهم أحق بها وأولى .

    وذلك من الله - عز وجل - ، وإن كان خطابا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فتوبيخ منه - عز وجل - للمكذبين به من أهل الكتابين . يقول : كيف يشك أهل الكفر بك منهم وأنت تنبئهم هذه الأنباء ولم تشهدها ، ولم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمور ، ولست ممن قرأ الكتب فعلم نبأهم ، ولا جالس أهلها فسمع خبرهم ؟

    كما : -

    7060 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وما كنت لديهم إذ يختصمون " أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها . يخبره بخفي ما كتموا منه من العلم عندهم ، لتحقيق نبوته والحجة عليهم لما يأتيهم به مما أخفوا منه .
    القول في تأويل قوله ( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " إذ قالت الملائكة " وما كنت لديهم إذ يختصمون ، وما كنت لديهم أيضا إذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله يبشرك . [ ص: 411 ]

    " والتبشير " إخبار المرء بما يسره من خبر .

    وقوله : " بكلمة منه " يعني برسالة من الله وخبر من عنده ، وهو من قول القائل : " ألقى فلان إلي كلمة سرني بها " بمعنى : أخبرني خبرا فرحت به ، كما قال - جل ثناؤه - : ( وكلمته ألقاها إلى مريم ) [ سورة النساء : 171 ] ، يعني : بشرى الله مريم بعيسى ، ألقاها إليها .

    فتأويل الكلام : وما كنت ، يا محمد ، عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم : يا مريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده ، هي ولد لك اسمه المسيح عيسى ابن مريم .

    وقد قال قوم - وهو قول قتادة - : إن " الكلمة " التي قال الله - عز وجل - : " بكلمة منه " هو قوله : " كن " .

    7061 - حدثنا بذلك الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " بكلمة منه " قال : قوله : " كن " .

    فسماه الله - عز وجل - " كلمته " لأنه كان عن كلمته ، كما يقال لما قدر الله من شيء : " هذا قدر الله وقضاؤه " يعني به : هذا عن قدر الله وقضائه حدث ، وكما قال - جل ثناؤه - : ( وكان أمر الله مفعولا ) [ سورة النساء : 47 - سورة الأحزاب : 37 ] ، يعني به : ما أمر الله به ، وهو المأمور [ به ] الذي كان عن أمر الله - عز وجل - . [ ص: 412 ]

    وقال آخرون : بل هي اسم لعيسى سماه الله بها ، كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء .

    وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : " الكلمة " هي عيسى .

    7062 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه " قال : عيسى هو الكلمة من الله .

    قال أبو جعفر : وأقرب الوجوه إلى الصواب عندي ، القول الأول . وهو أن الملائكة بشرت مريم بعيسى عن الله - عز وجل - برسالته وكلمته التي أمرها أن تلقيها إليها : أن الله خالق منها ولدا من غير بعل ولا فحل ، ولذلك قال - عز وجل - : " اسمه المسيح " فذكر ، ولم يقل : " اسمها " فيؤنث ، و " الكلمة " مؤنثة ، لأن " الكلمة " غير مقصود بها قصد الاسم الذي هو بمعنى " فلان " وإنما هي بمعنى البشارة ، فذكرت كنايتها كما تذكر كناية " الذرية " و " الدابة " والألقاب ، على ما قد بيناه قبل فيما مضى .

    فتأويل ذلك كما قلنا آنفا ، من أن معنى ذلك : إن الله يبشرك ببشرى ثم بين عن البشرى أنها ولد اسمه المسيح .

    وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه إنما ذكر فقال : " اسمه المسيح " وقد قال : " بكلمة منه " و " الكلمة " عنده هي عيسى لأنه في المعنى كذلك ، كما قال - جل ثناؤه - : ( أن تقول نفس يا حسرتا ) ، ثم قال ( بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها ) [ سورة الزمر : 56 - 59 ] ، وكما يقال : " ذو الثدية " ، لأن يده [ ص: 413 ] كانت قصيرة قريبة من ثدييه ، فجعلها كأن اسمها " ثدية " ولولا ذلك لم تدخل " الهاء " في التصغير .

    وقال بعض نحويي الكوفة نحو قول من ذكرنا من نحويي البصرة : في أن " الهاء " من ذكر " الكلمة " وخالفه في المعنى الذي من أجله ذكر قوله " اسمه " و " الكلمة " متقدمة قبله . فزعم أنه إنما قيل : " اسمه " وقد قدمت " الكلمة " ولم يقل : " اسمها " لأن من شأن العرب أن تفعل ذلك فيما كان من النعوت والألقاب والأسماء التي لم توضع لتعريف المسمى به ، ك " فلان " و " فلان " وذلك ، مثل " الذرية " و " الخليفة " و " الدابة " ولذلك جاز عنده أن يقال : " ذرية طيبة " و " ذرية طيبا " ولم يجز أن يقال : " طلحة أقبلت ومغيرة قامت " .

    وأنكر بعضهم اعتلال من اعتل في ذلك ب " ذي الثدية " وقالوا : إنما أدخلت " الهاء " في " ذي الثدية " لأنه أريد بذلك القطعة من الثدي ، كما قيل : " كنا في لحمة ونبيذة " يراد به القطعة منه . وهذا القول نحو قولنا الذي قلناه في ذلك .

    وأما قوله : " اسمه المسيح عيسى ابن مريم " ، فإنه - جل ثناؤه - أنبأ عباده عن نسبة عيسى ، وأنه ابن أمه مريم ، ونفى بذلك عنه ما أضاف إليه الملحدون في الله - جل ثناؤه - من النصارى ، من إضافتهم بنوته إلى الله - عز وجل - ، وما قرفت أمه به المفترية عليها من اليهود ، كما : - [ ص: 414 ]

    7063 - حدثني به ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين " أي : هكذا كان أمره ، لا ما يقولون فيه .

    وأما " المسيح " ، فإنه " فعيل " صرف من " مفعول " إلى " فعيل " وإنما هو " ممسوح " يعني : مسحه الله فطهره من الذنوب ، ولذلك قال إبراهيم : " المسيح " الصديق . . .

    7064 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم مثله .

    7065 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم مثله .

    وقال آخرون : مسح بالبركة .

    7066 - حدثنا ابن البرقي قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال : قال سعيد : إنما سمي " المسيح " ، لأنه مسح بالبركة .
    [ ص: 415 ] القول في تأويل قوله ( وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ( 45 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله " وجيها " ذا وجه ومنزلة عالية عند الله ، وشرف وكرامة . ومنه يقال للرجل الذي يشرف وتعظمه الملوك والناس " وجيه " يقال منه : " ما كان فلان وجيها ، ولقد وجه وجاهة " " وإن له لوجها عند السلطان وجاها ووجاهة " و " الجاه " مقلوب ، قلبت ، واوه من أوله إلى موضع العين منه ، فقيل : " جاه " وإنما هو " وجه " و " فعل " من الجاه : " جاه يجوه " . مسموع من العرب : " أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا " بمعنى : أن يستقبلني في وجهي بأعظم منه .

    وأما نصب " الوجيه " فعلى القطع من " عيسى " ، لأن " عيسى " معرفة ، و " وجيه " نكرة ، وهو من نعته . ولو كان مخفوضا على الرد على " الكلمة " كان جائزا .

    وبما قلنا من أن تأويل ذلك : وجيها في الدنيا والآخرة عند الله قال : فيما بلغنا ، محمد بن جعفر .

    7067 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وجيها " قال : وجيها في الدنيا والأخرة عند الله .

    وأما قوله : " ومن المقربين " فإنه يعني أنه ممن يقربه الله يوم القيامة ، فيسكنه في جواره ويدنيه منه ، كما : - [ ص: 416 ]

    7068 - حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ومن المقربين " يقول : من المقربين عند الله يوم القيامة .

    7069 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ومن المقربين " يقول : من المقربين عند الله يوم القيامة .

    7070 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
    القول في تأويل قوله ( ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ( 46 ) )

    قال أبو جعفر : وأما قوله : " ويكلم الناس في المهد " فإن معناه : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، وجيها عند الله ، ومكلما الناس في المهد .

    ف " يكلم " وإن كان مرفوعا ، لأنه في صورة " يفعل " بالسلامة من العوامل فيه ، فإنه في موضع نصب ، وهو نظير قول الشاعر :


    بت أعشيها بعضب باتر يقصد في أسوقها وجائر
    [ ص: 417 ]

    وأما " المهد " فإنه يعني به : مضجع الصبي في رضاعه ، كما : -

    7071 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : " ويكلم الناس في المهد " قال : مضجع الصبي في رضاعه .

    وأما قوله : " وكهلا " فإنه : ومحتنكا فوق الغلومة ، ودون الشيخوخة ، يقال منه : " رجل كهل وامرأة كهلة " كما قال الراجز :


    ولا أعود بعدها كريا أمارس الكهلة والصبيا
    [ ص: 418 ]

    وإنما عنى - جل ثناؤه - بقوله : " ويكلم الناس في المهد وكهلا " ويكلم الناس طفلا في المهد دلالة على براءة أمه مما قرفها به المفترون عليها ، وحجة له على نبوته وبالغا كبيرا بعد احتناكه ، بوحي الله الذي يوحيه إليه ، وأمره ونهيه ، وما ينزل عليه من كتابه .

    وإنما أخبر الله - عز وجل - عباده بذلك من أمر المسيح ، وأنه كذلك كان ، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلمون كهولا وشيوخا احتجاجا به على القائلين فيه من أهل الكفر بالله من النصارى الباطل ، وأنه كان [ منذ أنشأه ] مولودا طفلا ثم كهلا يتقلب في الأحداث ، ويتغير بمرور الأزمنة عليه والأيام ، من صغر إلى كبر ، ومن حال إلى حال وأنه لو كان ، كما قال الملحدون فيه ، كان ذلك غير جائز عليه . فكذب بذلك ما قاله الوفد من أهل نجران الذين حاجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ، واحتج به عليهم [ ص: 419 ] لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأعلمهم أنه كان كسائر بني آدم ، إلا ما خصه الله به من الكرامة التي أبانه بها منهم ، كما : -

    7072 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين " : يخبرهم بحالاته التي يتقلب بها في عمره ، كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارا وكبارا ، إلا أن الله خصه بالكلام في مهده آية لنبوته ، وتعريفا للعباد مواقع قدرته .

    7073 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين " يقول : يكلمهم صغيرا وكبيرا .

    7074 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " ويكلم الناس في المهد وكهلا " قال : يكلمهم صغيرا وكبيرا .

    7075 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وكهلا ومن الصالحين " قال : الكهل الحليم .

    7076 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : كلمهم صغيرا وكبيرا وكهلا وقال ابن جريج ، وقال مجاهد : الكهل الحليم .

    7077 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " ويكلم الناس في المهد وكهلا " قال : كلمهم في المهد صبيا ، وكلمهم كبيرا . [ ص: 420 ]

    وقال آخرون : معنى قوله : " وكهلا " ، أنه سيكلمهم إذا ظهر .

    ذكر من قال ذلك :

    7078 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعته - يعني ابن زيد - يقول في قوله : " ويكلم الناس في المهد وكهلا " قال : قد كلمهم عيسى في المهد ، وسيكلمهم إذا قتل الدجال ، وهو يومئذ كهل .

    ونصب " كهلا " عطفا على موضع " ويكلم الناس " .

    وأما قوله : " ومن الصالحين " فإنه يعني : من عدادهم وأوليائهم ، لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل .
    القول في تأويل قوله ( قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( 47 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - ، قالت مريم إذ قالت لها الملائكة أن الله يبشرك بكلمة منه : " رب أنى يكون لي ولد " من أي وجه يكون لي ولد ؟ أمن قبل زوج أتزوجه وبعل أنكحه ، أم تبتدئ في خلقه من غير بعل ولا فحل ، ومن غير أن يمسني بشر ؟ فقال الله لها " كذلك الله يخلق ما يشاء " يعني : هكذا يخلق الله منك ولدا لك من غير أن يمسك بشر ، فيجعله آية للناس وعبرة ، فإنه يخلق ما يشاء ويصنع ما يريد ، فيعطي الولد [ ص: 421 ] من يشاء من غير فحل ومن فحل ، ويحرم ذلك من يشاء من النساء وإن كانت ذات بعل ، لأنه لا يتعذر عليه خلق شيء أراد خلقه ، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئا ما أراد [ خلقه ] فيقول له : " كن فيكون " ما شاء ، مما يشاء ، وكيف شاء ، كما : -

    7079 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء " يصنع ما أراد ، ويخلق ما يشاء ، من بشر أو غير بشر " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن " مما يشاء وكيف يشاء " فيكون " ما أراد .
    القول في تأويل قوله ( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ( 48 ) )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة الكوفيين : ( ويعلمه ) بالياء ، ردا على قوله : " كذلك الله يخلق ما يشاء " " ويعلمه الكتاب " فألحقوا الخبر في قوله : " ويعلمه " بنظير الخبر في قوله : " يخلق ما يشاء " وقوله : " فإنما يقول له كن فيكون " . [ ص: 422 ]

    وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين وبعض البصريين : ( ونعلمه ) بالنون ، عطفا به على قوله : " نوحيه إليك " كأنه قال : " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك " " ويعلمه الكتاب " . وقالوا : ما بعد " نوحيه " في صلته إلى قوله : " كن فيكون " ثم عطف بقوله : " ونعلمه " عليه .

    قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مختلفتان ، غير مختلفتي المعاني ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الصواب في ذلك ، لاتفاق معنى القراءتين ، في أنه خبر عن الله بأنه يعلم عيسى الكتاب ، وما ذكر أنه يعلمه .

    وهذا ابتداء خبر من الله - عز وجل - لمريم ما هو فاعل بالولد الذي بشرها به من الكرامة ورفعة المنزلة والفضيلة ، فقال : كذلك الله يخلق منك ولدا ، من غير فحل ولا بعل ، فيعلمه الكتاب ، وهو الخط الذي يخطه بيده والحكمة ، وهي السنة التي يوحيها إليه في غير كتاب والتوراة ، وهي التوراة التي أنزلت على موسى ، كانت فيهم من عهد موسى والإنجيل ، إنجيل عيسى ولم يكن قبله ، ولكن الله أخبر مريم قبل خلق عيسى أنه موحيه إليه .

    وإنما أخبرها بذلك فسماه لها ، لأنها قد كانت علمت فيما نزل من الكتب أن الله باعث نبيا ، يوحى إليه كتابا اسمه الإنجيل ، فأخبرها الله - عز وجل - أن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي سمعت بصفته الذي وعد أنبياءه من قبل أنه منزل عليه الكتاب الذي يسمى إنجيلا هو الولد الذي وهبه لها وبشرها به .

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #407
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (407)
    صــ 423 إلى صــ 437





    ذكر من قال ذلك :

    7080 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : " ويعلمه الكتاب " قال : بيده . [ ص: 423 ]

    7081 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ويعلمه الكتاب والحكمة " قال : الحكمة السنة .

    7082 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة في قوله : " ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل " قال : " الحكمة " السنة " والتوراة والإنجيل " قال : كان عيسى يقرأ التوراة والإنجيل .

    7083 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ويعلمه الكتاب والحكمة " ، قال : الحكمة السنة .

    7084 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : أخبرها - يعني أخبر الله مريم - ما يريد به فقال : " ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة " التي كانت فيهم من عهد موسى " والإنجيل " كتابا آخر أحدثه إليه لم يكن عندهم علمه ، إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء قبله .
    القول في تأويل قوله ( ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " ورسولا " ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل ، فترك ذكر " ونجعله " لدلالة الكلام عليه ، كما قال الشاعر :


    ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
    [ ص: 424 ]

    وقوله : " أني قد جئتكم بآية من ربكم " يعني : ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل بأنه نبيي وبشيري ونذيري وحجتي على صدقي في ذلك : " أني قد جئتكم بآية من ربكم " يعني : بعلامة من ربكم تحقق قولي ، وتصدق خبري أني رسول من ربكم إليكم ، كما : -

    7085 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم " أي : يحقق بها نبوتي ، أني رسول منه إليكم .
    القول في تأويل قوله ( أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم " ثم بين عن الآية ما هي ، فقال : " أني أخلق لكم " .

    فتأويل الكلام : ورسولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم ، بأن أخلق لكم من الطين كهيئة الطير . [ ص: 425 ]

    " والطير " جمع " طائر " .

    واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأه بعض أهل الحجاز : ( كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائرا ) ، على التوحيد .

    وقرأه آخرون : ( كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا ) ، على الجماع فيهما .

    قال أبو جعفر : وأعجب القراءات إلي في ذلك قراءة من قرأ : " كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا ، على الجماع فيهما جميعا ، لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله ، وأنه موافق لخط المصحف . واتباع خط المصحف مع صحة المعنى واستفاضة القراءة به ، أعجب إلي من خلاف المصحف .

    وكان خلق عيسى ما كان يخلق من الطير ، كما : -

    7086 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق : أن عيسى صلوات الله عليه جلس يوما مع غلمان من الكتاب ، فأخذ طينا ، ثم قال : أجعل لكم من هذا الطين طائرا ؟ قالوا : وتستطيع ذلك ! قال : نعم ! بإذن ربي . ثم هيأه ، حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه ، ثم قال : " كن طائرا بإذن الله " فخرج يطير بين كفيه . فخرج الغلمان بذلك من أمره ، فذكروه لمعلمهم ، [ ص: 426 ] فأفشوه في الناس . وترعرع ، فهمت به بنو إسرائيل ، فلما خافت أمه عليه حملته على حمير لها ، ثم خرجت به هاربة .

    وذكر أنه لما أراد أن يخلق الطير من الطين سألهم : أي الطير أشد خلقا ؟ فقيل له : الخفاش ، كما : -

    7087 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قوله : " أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير " قال : أي الطير أشد خلقا ؟ قالوا : الخفاش ، إنما هو لحم . قال ففعل .

    قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف قيل : " فأنفخ فيه " وقد قيل : " أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير " ؟

    قيل : لأن معنى الكلام : فأنفخ في الطير . ولو كان ذلك : " فأنفخ فيها " . كان صحيحا جائزا ، كما قال في المائدة ، ( فتنفخ فيها ) [ سورة المائدة : 110 ] : يريد : فتنفخ في الهيئة . وقد ذكر أن ذلك في إحدى القراءتين : " فأنفخها " بغير " في " . وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول : " رب ليلة قد بتها ، وبت فيها " قال الشاعر : [ ص: 427 ]


    ما شق جيب ولا قامتك نائحة ولا بكتك جياد عند أسلاب


    بمعنى : ولا قامت عليك ، وكما قال الآخر :


    إحدى بني عيذ الله استمر بها حلو العصارة حتى ينفخ الصور

    [ ص: 428 ] القول في تأويل قوله ( وأبرئ الأكمه والأبرص )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : " وأبرئ " وأشفي . يقال منه : " أبرأ الله المريض " إذا شفاه منه ، " فهو يبرئه إبراء " و " برأ المريض فهو يبرأ برءا " وقد يقال أيضا : " برئ المريض فهو يبرأ " لغتان معروفتان .

    واختلف أهل التأويل في معنى " الأكمه " .

    فقال بعضهم : هو الذي لا يبصر بالليل ، ويبصر بالنهار .

    ذكر من قال ذلك :

    7088 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وأبرئ الأكمه " قال : الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، فهو يتكمه .

    7089 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    وقال آخرون : هو الأعمى الذي ولدته أمه كذلك .

    ذكر من قال ذلك :

    7090 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كنا نحدث أن " الأكمه " الذي ولد وهو أعمى مغموم العينين .

    7091 - حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، في قوله : " وأبرئ الأكمه والأبرص " قال : كنا نحدث أن الأكمه الذي يولد وهو أعمى ، مضموم العينين . [ ص: 429 ]

    7092 - حدثت عن المنجاب قال : حدثنا بشر ، عن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : الأكمه ، الذي يولد وهو أعمى .

    وقال آخرون : بل هو الأعمى .

    ذكر من قال ذلك :

    7093 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وأبرئ الأكمه " هو الأعمى .

    7094 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : الأعمى .

    7095 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وأبرئ الأكمه " قال : الأكمه الأعمى .

    7096 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور عن الحسن في قوله : " وأبرئ الأكمه " قال : الأعمى .

    وقال آخرون : هو الأعمش .

    ذكر من قال ذلك :

    7097 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : " وأبرئ الأكمه " قال : الأعمش .

    قال أبو جعفر : والمعروف عند العرب من معنى " الكمه " العمى ، يقال منه : " كمهت عينه فهي تكمه كمها ، وأكمهتها أنا " إذا أعميتها ، كما قال سويد بن أبي كاهل : [ ص: 430 ]


    كمهت عينيه حتى ابيضتا فهو يلحى نفسه لما نزع


    ومنه قول رؤبة :


    هرجت فارتد ارتداد الأكمه في غائلات الحائر المتهته


    وإنما أخبر الله - عز وجل - عن عيسى صلوات الله عليه أنه يقول ذلك لبني إسرائيل ، احتجاجا منه بهذه العبر والآيات عليهم في نبوته ، وذلك أن : الكمه والبرص لا علاج لهما ، فيقدر على إبرائه ذو طب بعلاج ، فكان ذلك من أدلته على صدق قيله : إنه لله رسول ، لأنه من المعجزات ، مع سائر الآيات التي أعطاه الله إياها دلالة على نبوته .

    فأما ما قال عكرمة من أن " الكمه " العمش ، وما قاله مجاهد : من أنه [ ص: 431 ] سوء البصر بالليل ، فلا معنى لهما . لأن الله لا يحتج على خلقه بحجة تكون لهم السبيل إلى معارضته فيها ، ولو كان مما احتج به عيسى على بني إسرائيل في نبوته ، أنه يبرئ الأعمش ، أو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، لقدروا على معارضته بأن يقولوا : " وما في هذا لك من الحجة ، وفينا خلق ممن يعالج ذلك ، وليسوا لله أنبياء ولا رسلا "

    ففي ذلك دلالة بينة على صحة ما قلنا ، من أن " الأكمه " هو الأعمى الذي لا يبصر شيئا لا ليلا ولا نهارا . وهو بما قال قتادة : - من أنه المولود كذلك - أشبه ، لأن علاج مثل ذلك لا يدعيه أحد من البشر ، إلا من أعطاه الله مثل الذي أعطى عيسى ، وكذلك علاج الأبرص .
    القول في تأويل قوله ( وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم )

    قال أبو جعفر : وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء الله ، يدعو لهم ، فيستجيب له ، كما : -

    7098 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن مغفل : أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة ، أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر ، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر : أن اطلعي به إلى الشام . ففعلت الذي أمرت به . فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة ، وكانت نبوته ثلاث سنين ، ثم رفعه الله إليه قال : وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى [ ص: 432 ] في الجماعة الواحدة خمسون ألفا ، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ، ومن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه ، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله .

    وأما قوله : " وأنبئكم بما تأكلون " فإنه يعني : وأخبركم بما تأكلون ، مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكلكموه " وما تدخرون " يعني بذلك : وما ترفعونه فتخبأونه ولا تأكلونه .

    يعلمهم أن من حجته أيضا على نبوته مع المعجزات التي أعلمهم أنه يأتي بها حجة على نبوته وصدقه في خبره أن الله أرسله إليهم : من خلق الطير من الطين ، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ، التي لا يطيقها أحد من البشر ، إلا من أعطاه الله ذلك علما له على صدقه ، وآية له على حقيقة قوله ، من أنبيائه ورسله ، ومن أحب من خلقه إنباءه الغيب الذي لا سبيل لأحد من البشر الذين سبيلهم سبيله ، عليه .

    قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وما كان في قوله لهم : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " من الحجة له على صدقه ، وقد رأينا المتنجمة والمتكهنة تخبر بذلك كثيرا فتصيب ؟

    قيل : إن المتنجم والمتكهن معلوم منهما عند من يخبرانه بذلك ، أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه . ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ومن سائر أنبياء الله ورسله ، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ، ولا طلب لمعرفته باحتيال ، ولكن ابتداء بإعلام الله إياه ، [ ص: 433 ] من غير أصل تقدم ذلك احتذاه ، أو بنى عليه ، أو فزع إليه ، كما يفزع المتنجم إلى حسابه ، والمتكهن إلى رئيه . فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها ، وبين علم سائر المتكذبة على الله ، أو المدعية علم ذلك ، كما : -

    7099 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما بلغ عيسى تسع سنين أو عشرا أو نحو ذلك ، أدخلته أمه الكتاب ، فيما يزعمون . فكان عند رجل من المكتبيين يعلمه كما يعلم الغلمان ، فلا يذهب يعلمه شيئا مما يعلمه الغلمان إلا بدره إلى علمه قبل أن يعلمه إياه ، فيقول : ألا تعجبون لابن هذه الأرملة ، ما أذهب أعلمه شيئا إلا وجدته أعلم به مني ! !

    7100 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : لما كبر عيسى أسلمته أمه يتعلم التوراة ، فكان يلعب مع الغلمان غلمان القرية التي كان فيها ، فيحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم .

    7101 - حدثني يعقوب بن إبراهيم . قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن سعيد بن جبير في قوله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " قال : كان عيسى ابن مريم ، إذ كان في الكتاب ، يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون .

    7102 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ، قال : إن عيسى ابن مريم كان يقول للغلام في الكتاب : [ ص: 434 ] " يا فلان ، إن أهلك قد خبأوا لك كذا وكذا من الطعام ، فتطعمني منه " ؟

    قال أبو جعفر : فهكذا فعل الأنبياء وحججها ، إنما تأتي بما أتت به من الحجج بما قد يوصل إليه ببعض الحيل ، على غير الوجه الذي يأتي به غيرها ، بل من الوجه الذي يعلم الخلق أنه لا يوصل إليه من ذلك الوجه بحيلة إلا من قبل الله .

    وبنحو ما قلناه في تأويل قوله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7103 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " قال : بما أكلتم البارحة ، وما خبأتم منه عيسى ابن مريم يقوله .

    7104 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    7105 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عطاء بن أبي رباح - يعني قوله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " - قال : الطعام والشيء يدخرونه في بيوتهم ، غيبا علمه الله إياه .

    7106 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " قال : " ما تأكلون " ما أكلتم البارحة من طعام ، وما خبأتم منه .

    7107 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : كان - يعني عيسى ابن مريم - يحدث الغلمان وهو معهم في الكتاب بما يصنع آباؤهم ، وبما يرفعون لهم ، وبما يأكلون . ويقول للغلام : [ ص: 435 ] " انطلق ، فقد رفع لك أهلك كذا وكذا ، وهم يأكلون كذا وكذا " فينطلق الصبي فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء . فيقولون له : من أخبرك بهذا ؟ فيقول : عيسى ! فذلك قول الله - عز وجل - : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " فحبسوا صبيانهم عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ! فجمعوهم في بيت ، فجاء عيسى يطلبهم ، فقالوا : ليس هم هاهنا ، فقال : ما في هذا البيت ؟ فقالوا : خنازير . قال عيسى : كذلك يكونون ! ففتحوا عنهم ، فإذا هم خنازير . فذلك قوله : ( على لسان داود وعيسى ابن مريم ) [ سورة المائدة : 78 ] .

    7108 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " وما تدخرون في بيوتكم " قال : ما تخبأون مخافة الذي يمسك أن يخلفه .

    وقال آخرون : إنما عنى بقوله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " ما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم ، وما تدخرون منها .

    ذكر من قال ذلك :

    7109 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " فكان القوم لما سألوا المائدة فكانت خوانا ينزل عليه أينما كانوا ثمرا من ثمار الجنة ، فأمر القوم أن [ ص: 436 ] لا يخونوا فيه ولا يخبأوا ولا يدخروا لغد ، بلاء ابتلاهم الله به . فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئا أنبأهم به عيسى ابن مريم ، فقال : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " .

    7110 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون " قال : أنبئكم بما تأكلون من المائدة وما تدخرون منها . قال : فكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت : أن يأكلوا ولا يدخروا ، فادخروا وخانوا ، فجعلوا خنازير حين ادخروا وخانوا ، فذلك قوله : ( فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) [ سورة المائدة : 115 ] .

    قال ابن يحيى قال : عبد الرزاق قال : معمر ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن عمار بن ياسر ، ذلك .

    وأصل " يدخرون " من " الفعل " " يفتعلون " من قول القائل : " ذخرت الشيء " بالذال ، " فأنا أذخره " . ثم قيل : " يدخر " كما قيل : " يدكر " من : " ذكرت الشيء " يراد به " يذتخر " . فلما اجتمعت " الذال " و " التاء " وهما متقاربتا المخرج ، ثقل إظهارهما على اللسان ، فأدغمت إحداهما في الأخرى ، وصيرتا " دالا " مشددة ، صيروها عدلا بين " الذال " و " التاء " . ومن العرب من يغلب " الذال " على " التاء " فيدغم " التاء " في " الذال " فيقول : وما تذخرون " " وهو مذخر لك " " وهو مذكر " .

    واللغة التي بها القراءة ، الأولى ، وذلك إدغام " الذال " في " التاء " وإبدالهما [ ص: 437 ] " دالا " مشددة . لا يجوز القراءة بغيرها ، لتظاهر النقل من القرأة بها ، وهي اللغة الجودى ، كما قال زهير :


    إن الكريم الذي يعطيك نائله عفوا ، ويظلم أحيانا فيظلم

    يروى " بالظاء " يريد : " فيفتعل " من " الظلم " ويروى " بالطاء " أيضا .
    القول في تأويل قوله ( إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ( 49 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : إن في خلقي من الطين الطير بإذن الله ، وفي إبرائي الأكمه والأبرص ، وإحيائي الموتى ، وإنبائي إياكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ، ابتداء من غير حساب وتنجيم ، ولا كهانة وعرافة لعبرة لكم ومتفكرا ، تتفكرون في ذلك فتعتبرون به أني محق في قولي لكم : " إني رسول من ربكم إليكم " وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق " إن كنتم مؤمنين " يعني : إن كنتم مصدقين حجج الله وآياته ، مقرين بتوحيده ، وبنبيه موسى والتوراة التي جاءكم بها .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #408
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (408)
    صــ 438 إلى صــ 452





    [ ص: 438 ] القول في تأويل قوله ( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وبأني قد جئتكم بآية من ربكم ، وجئتكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ، ولذلك نصب " مصدقا " على الحال من " جئتكم " .

    والذي يدل على أنه نصب على قوله : " وجئتكم " دون العطف على قوله : " وجيها " قوله : " لما بين يدي من التوراة " . ولو كان عطفا على قوله " وجيها " لكان الكلام : ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وليحل لكم بعض الذي حرم عليكم .

    وإنما قيل : " ومصدقا لما بين يدي من التوراة " لأن عيسى صلوات الله عليه ، كان مؤمنا بالتوراة مقرا بها ، وأنها من عند الله . وكذلك الأنبياء كلهم ، يصدقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله ، وإن اختلف بعض شرائع أحكامهم ، لمخالفة الله بينهم في ذلك . مع أن عيسى كان - فيما بلغنا - عاملا بالتوراة لم يخالف شيئا من أحكامها ، إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل ، مما كان مشددا عليهم فيها ، كما : -

    7111 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهب بن منبه يقول : إن عيسى كان على شريعة موسى - صلى الله عليه وسلم - ، وكان يسبت ، ويستقبل بيت المقدس ، فقال لبني إسرائيل : إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة ، إلا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ، وأضع عنكم من الآصار . [ ص: 439 ]

    7112 - حدثني بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم " كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى ، وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل والثروب ، وأشياء من الطير والحيتان .

    7113 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم " قال : كان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء به موسى . قال : وكان حرم عليهم فيما جاء به موسى من التوراة ، لحوم الإبل والثروب ، فأحلها لهم على لسان عيسى - وحرمت عليهم الشحوم ، وأحلت لهم فيما جاء به عيسى - وفي أشياء من السمك ، وفي أشياء من الطير مما لا صيصية له ، وفي أشياء حرمها عليهم ، وشددها عليهم ، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل ، فكان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء به موسى صلوات الله عليه .

    7114 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم " قال : لحوم الإبل والشحوم . لما بعث عيسى أحلها لهم ، وبعث إلى اليهود فاختلفوا وتفرقوا .

    7115 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن [ ص: 440 ] جعفر بن الزبير : " ومصدقا لما بين يدي من التوراة " أي : لما سبقني منها - " ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم " أي : أخبركم أنه كان حراما عليكم فتركتموه ، ثم أحله لكم تخفيفا عنكم ، فتصيبون يسره ، وتخرجون من تباعته .

    7116 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : " ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم " قال : كان حرم عليهم أشياء ، فجاءهم عيسى ليحل لهم الذي حرم عليهم ، يبتغي بذلك شكرهم .
    القول في تأويل قوله ( وجئتكم بآية من ربكم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك : وجئتكم بحجة وعبرة من ربكم ، تعلمون بها حقيقة ما أقول لكم . كما : -

    7117 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وجئتكم بآية من ربكم " قال : ما بين لهم عيسى من الأشياء كلها ، وما أعطاه ربه .

    7118 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وجئتكم بآية من ربكم " ما بين لهم عيسى من الأشياء كلها .

    ويعني بقوله : " من ربكم " من عند ربكم .
    [ ص: 441 ] القول في تأويل قوله ( فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ( 51 ) ( 50 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك : وجئتكم بآية من ربكم تعلمون بها يقينا صدقي فيما أقول " فاتقوا الله " يا معشر بني إسرائيل ، فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى ، فأوفوا بعهده الذي عاهدتموه فيه " وأطيعون " فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم ربي وربكم ، فاعبدوه ، فإنه بذلك أرسلني إليكم ، وبإحلال بعض ما كان محرما عليكم في كتابكم ، وذلك هو الطريق القويم ، والهدى المتين الذي لا اعوجاج فيه ، كما : -

    7119 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم " تبريا من الذي يقولون فيه - يعني : ما يقول فيه النصارى - واحتجاجا لربه عليهم " فاعبدوه هذا صراط مستقيم " أي : هذا الذي قد حملتكم عليه وجئتكم به .

    قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : " إن الله ربي وربكم فاعبدوه " .

    فقرأته عامة قرأة الأمصار : ( إن الله ربي وربكم فاعبدوه ) بكسر " ألف " " إن " على ابتداء الخبر .

    وقرأه بعضهم : ( أن الله ربي وربكم ) ، بفتح " ألف " " إن " بتأويل : [ ص: 442 ] وجئتكم بآية من ربكم ، أن الله ربي وربكم ، على رد " أن " على " الآية " والإبدال منها .

    قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندنا ما عليه قرأة الأمصار ، وذلك كسر ألف " إن " على الابتداء ، لإجماع الحجة من القرأة على صحة ذلك . وما اجتمعت عليه فحجة ، وما انفرد به المنفرد عنها فرأي . ولا يعترض بالرأي على الحجة .

    وهذه الآية وإن كان ظاهرها خبرا ، ففيه الحجة البالغة من الله لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - على الوفد الذين حاجوه من أهل نجران ، بإخبار الله - عز وجل - عن أن عيسى كان بريئا مما نسبه إليه من نسبه إلى غير الذي وصف به نفسه ، من أنه لله عبد كسائر عبيده من أهل الأرض ، إلا ما كان الله - جل ثناؤه - خصه به من النبوة والحجج التي آتاه دليلا على صدقه - كما آتى سائر المرسلين غيره من الأعلام والأدلة على صدقهم - وحجة على نبوته .
    القول في تأويل قوله ( فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ( 52 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " فلما أحس عيسى منهم الكفر " فلما وجد عيسى منهم الكفر . [ ص: 443 ]

    " والإحساس " هو الوجود ، ومنه قول الله - عز وجل - : ( هل تحس منهم من أحد ) [ سورة مريم : 98 ] .

    فأما " الحس " بغير " ألف " فهو الإفناء والقتل ، ومنه قوله : ( إذ تحسونهم بإذنه ) [ سورة آل عمران : 152 ] .

    " والحس " أيضا العطف والرقة ، ومنه قول الكميت :


    هل من بكى الدار راج أن تحس له ، أو يبكي الدار ماء العبرة الخضل
    ؟

    يعني بقوله : " أن تحس له " أن ترق له .

    فتأويل الكلام : فلما وجد عيسى - من بني إسرائيل الذين أرسله الله إليهم - جحودا لنبوته ، وتكذيبا لقوله ، وصدا عما دعاهم إليه من أمر الله ، قال : " من أنصاري إلى الله " ؟ ، يعني بذلك : قال عيسى : من أعواني على المكذبين بحجة الله ، والمولين عن دينه ، والجاحدين نبوة نبيه ، " إلى الله " - عز وجل - ؟

    ويعني بقوله : " إلى الله " مع الله .

    وإنما حسن أن يقال : " إلى الله " بمعنى : مع الله ، لأن من شأن العرب إذا ضموا الشيء إلى غيره ، ثم أرادوا الخبر عنهما بضم أحدهما مع الآخر إذا ضم إليه ، جعلوا مكان " مع " " إلى " أحيانا ، وأحيانا تخبر عنهما ب " مع " فتقول : " الذود إلى الذود إبل " بمعنى : إذا ضممت الذود إلى الذود صارت إبلا . فأما إذا كان الشيء مع الشيء لم يقولوه ب " إلى " ولم يجعلوا مكان " مع " " إلى " . [ ص: 444 ]

    غير جائز أن يقال : " قدم فلان وإليه مال " بمعنى : ومعه مال .

    وبمثل ما قلنا في تأويل قوله : " من أنصاري إلى الله " ، قال جماعة من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7120 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " من أنصاري إلى الله " يقول : مع الله .

    7121 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " من أنصاري إلى الله " يقول : مع الله .

    وأما سبب استنصار عيسى عليه السلام من استنصر من الحواريين ، فإن بين أهل العلم فيه اختلافا .

    فقال بعضهم : كان سبب ذلك ما : -

    7122 - حدثني به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : لما بعث الله عيسى ، فأمره بالدعوة ، نفته بنو إسرائيل وأخرجوه ، فخرج هو وأمه يسيحون في الأرض . فنزل في قرية على رجل فضافهم وأحسن إليهم . وكان لتلك المدينة ملك جبار معتد ، فجاء ذلك الرجل يوما وقد وقع عليه هم وحزن ، فدخل منزله ومريم عند امرأته . فقالت مريم لها : ما شأن زوجك ؟ أراه حزينا ! قالت : لا تسألي ! قالت : أخبريني ! لعل الله يفرج كربته ! قالت : فإن لنا ملكا يجعل على كل رجل منا يوما يطعمه هو وجنوده [ ص: 445 ] ويسقيهم من الخمر ، فإن لم يفعل عاقبه ، وإنه قد بلغت نوبته اليوم الذي يريد أن نصنع له فيه ، وليس لذلك عندنا سعة ! قالت : فقولي له لا يهتم ، فإني آمر ابني فيدعو له ، فيكفى ذلك . قالت مريم لعيسى في ذلك ، قال عيسى : يا أمه ، إني إن فعلت كان في ذلك شر . قالت : فلا تبال ، فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا ! قال عيسى : فقولي له : إذا اقترب ذلك ، فاملأ قدورك وخوابيك ماء ، ثم أعلمني . قال : فلما ملأهن أعلمه ، فدعا الله ، فتحول ما في القدور لحما ومرقا وخبزا ، وما في الخوابي خمرا لم ير الناس مثله قط وإياه طعاما . فلما جاء الملك أكل ، فلما شرب الخمر سأل : من أين هذه الخمر ؟ قال له : هي من أرض كذا وكذا . قال الملك : فإن خمري أوتى بها من تلك الأرض ، فليس هي مثل هذه ! قال : هي من أرض أخرى . فلما خلط على الملك اشتد عليه ، قال : فأنا أخبرك ، عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ، وإنه دعا الله ، فجعل الماء خمرا . قال الملك وكان له ابن يريد أن يستخلفه ، فمات قبل ذلك بأيام ، وكان أحب الخلق إليه فقال : إن رجلا دعا الله حتى جعل الماء خمرا ، ليستجابن له حتى يحيي ابني ! فدعا عيسى فكلمه ، فسأله أن يدعو الله فيحيي ابنه ، فقال عيسى : لا تفعل ، فإنه إن عاش كان شرا . فقال الملك : لا أبالي ، أليس أراه ، فلا أبالي ما كان . فقال عيسى عليه السلام : فإن أحييته تتركوني أنا وأمي نذهب أينما شئنا ؟ قال الملك : نعم . فدعا الله فعاش الغلام . فلما رآه أهل [ ص: 446 ] مملكته قد عاش ، تنادوا بالسلاح وقالوا : أكلنا هذا ، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف ابنه ، فيأكلنا كما أكلنا أبوه ! ! فاقتتلوا ، وذهب عيسى وأمه ، وصحبهما يهودي ، وكان مع اليهودي رغيفان ، ومع عيسى رغيف ، فقال له عيسى : شاركني . فقال اليهودي : نعم . فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم ، فلما ناما جعل اليهودي يريد أن يأكل الرغيف ، فلما أكل لقمة قال له عيسى : ما تصنع ؟ فيقول : لا شيء ! فيطرحها ، حتى فرغ من الرغيف كله . فلما أصبحا قال له عيسى : هلم طعامك ! فجاء برغيف ، فقال له عيسى : أين الرغيف الآخر ؟ قال : ما كان معي إلا واحد . فسكت عنه عيسى ، فانطلقوا ، فمروا براعي غنم ، فنادى عيسى : يا صاحب الغنم ، أجزرنا شاة من غنمك . قال : نعم ، أرسل صاحبك يأخذها . فأرسل عيسى اليهودي ، فجاء بالشاة فذبحوها وشووها ، ثم قال لليهودي : كل ، ولا تكسرن عظما . فأكلا . فلما شبعوا ، قذف عيسى العظام في الجلد ، ثم ضربها بعصاه وقال : قومي بإذن الله ! فقامت الشاة تثغو ، فقال : يا صاحب الغنم ، خذ شاتك . فقال له الراعي : من أنت ؟ فقال : أنا عيسى ابن مريم . قال : أنت الساحر ! وفر منه . قال : عيسى لليهودي : بالذي أحيى هذه الشاة بعدما أكلناها ، كم كان معك رغيفا ؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد ، فمروا بصاحب بقر ، فنادى عيسى فقال : يا صاحب البقر ، أجزرنا من بقرك هذه عجلا . قال : ابعث صاحبك يأخذه . قال : انطلق يا يهودي فجئ به . فانطلق فجاء به . فذبحه وشواه وصاحب البقر ينظر ، فقال له عيسى : كل ولا تكسرن عظما . فلما فرغوا ، قذف العظام في الجلد ثم ضربه بعصاه ، وقال : قم بإذن الله . فقام وله خوار ، قال : خذ [ ص: 447 ] عجلك . قال : ومن أنت ؟ قال : أنا عيسى . قال : أنت السحار ! ثم فر منه . قال اليهودي : يا عيسى أحييته بعد ما أكلناه ! قال عيسى : فبالذي أحيا الشاة بعد ما أكلناها ، والعجل بعد ما أكلناه ، كم كان معك رغيفا ؟ فحلف بالله ما كان معه إلا رغيف واحد . فانطلقا ، حتى نزلا قرية ، فنزل اليهودي أعلاها وعيسى في أسفلها ، وأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسى وقال : أنا الآن أحيي الموتى ! وكان ملك تلك المدينة مريضا شديد المرض ، فانطلق اليهودي ينادي : من يبتغي طبيبا ؟ حتى أتى ملك تلك القرية ، فأخبر بوجعه ، فقال : أدخلوني عليه فأنا أبرئه ، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه . فقيل له : إن وجع الملك قد أعيى الأطباء قبلك ، ليس من طبيب يداويه ولا يفيء دواؤه شيئا إلا أمر به فصلب . قال : أدخلوني عليه ، فإني سأبرئه . فأدخل عليه فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات ، فجعل يضربه بعصاه وهو ميت ويقول : قم بإذن الله ! فأخذ ليصلب ، فبلغ عيسى ، فأقبل إليه وقد رفع على الخشبة ، فقال : أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم ، أتتركون لي صاحبي ؟ قالوا : نعم . فأحيى الله الملك لعيسى ، فقام وأنزل اليهودي فقال : يا عيسى أنت أعظم الناس علي منة ، والله لا أفارقك أبدا . قال عيسى فيما حدثنا به محمد بن الحسين بن موسى قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي لليهودي : أنشدك بالذي أحيى الشاة والعجل بعد ما أكلناهما ، وأحيى هذا بعد ما مات ، وأنزلك من الجذع بعد ما رفعت عليه لتصلب ، كم كان معك رغيفا ؟ قال : فحلف بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد ، قال : لا بأس ! فانطلقا ، حتى مرا على كنز قد حفرته السباع والدواب ، فقال اليهودي : يا عيسى ، لمن هذا المال ؟ قال عيسى : دعه ، فإن له أهلا يهلكون عليه . فجعلت نفس اليهودي تطلع [ ص: 448 ] إلى المال ، ويكره أن يعصى عيسى ، فانطلق مع عيسى . ومر بالمال أربعة نفر ، فلما رأوه اجتمعوا عليه ، فقال : اثنان لصاحبيهما : انطلقا فابتاعا لنا طعاما وشرابا ودوابا نحمل عليها هذا المال . فانطلق الرجلان فابتاعا دوابا وطعاما وشرابا ، وقال أحدهما لصاحبه : هل لك أن نجعل لصاحبينا في طعامهما سما ، فإذا أكلا ماتا ، فكان المال بيني وبينك ، فقال الآخر : نعم ! ففعلا . وقال الآخران : إذا ما أتيانا بالطعام ، فليقم كل واحد إلى صاحبه فيقتله ، فيكون الطعام والدواب بيني وبينك . فلما جاءا بطعامهما قاما فقتلاهما ، ثم قعدا على الطعام فأكلا منه ، فماتا . وأعلم ذلك عيسى ، فقال لليهودي : أخرجه حتى نقتسمه ، فأخرجه ، فقسمه عيسى بين ثلاثة ، فقال اليهودي : يا عيسى ، اتق الله ولا تظلمني ، فإنما هو أنا وأنت ! ! وما هذه الثلاثة ؟ قال له عيسى : هذا لي ، وهذا لك ، وهذا الثلث لصاحب الرغيف . قال اليهودي : فإن أخبرتك بصاحب الرغيف ، تعطيني هذا المال ؟ فقال عيسى : نعم . قال : أنا هو . قال : عيسى : خذ حظي وحظك وحظ صاحب الرغيف ، فهو حظك من الدنيا والآخرة . فلما حمله مشى به شيئا ، فخسف به . وانطلق عيسى ابن مريم ، فمر بالحواريين وهم يصطادون السمك ، فقال : ما تصنعون ؟ فقالوا : نصطاد السمك . فقال : أفلا تمشون حتى نصطاد الناس ؟ قالوا : ومن أنت ؟ قال : أنا عيسى ابن مريم ، فآمنوا به وانطلقوا معه . فذلك قول الله - عز وجل - : " من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون " . [ ص: 449 ]

    7122 م - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ، الآية قال : استنصر فنصره الحواريون ، وظهر عليهم .

    وقال آخرون : كان سبب استنصار عيسى من استنصر ، لأن من استنصر الحواريين عليه كانوا أرادوا قتله .

    ذكر من قال ذلك :

    7123 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " فلما أحس عيسى منهم الكفر " قال : كفروا وأرادوا قتله ، فذلك حين استنصر قومه " قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله " .

    " والأنصار " جمع " نصير " كما " الأشراف " جمع " شريف " " والأشهاد " جمع " شهيد " .

    وأما " الحواريون " فإن أهل التأويل اختلفوا في السبب الذي من أجله سموا " حواريون " .

    فقال بعضهم : سموا بذلك لبياض ثيابهم .

    ذكر من قال ذلك :

    7124 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال : مما روى أبي قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن ميسرة ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير قال : إنما سموا " الحواريين " ببياض ثيابهم . [ ص: 450 ]

    وقال آخرون : سموا بذلك : لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب .

    ذكر من قال ذلك :

    7125 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبي أرطأة قال : " الحواريون " الغسالون الذين يحورون الثياب ، يغسلونها .

    وقال آخرون : هم خاصة الأنبياء وصفوتهم .

    ذكر من قال ذلك :

    7126 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن روح بن القاسم ، أن قتادة ذكر رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : كان من الحواريين . فقيل له : من الحواريون ؟ قال : الذين تصلح لهم الخلافة .

    7127 - حدثت عن المنجاب قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا بشر ، عن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله : " إذ قال الحواريون " قال : أصفياء الأنبياء .

    قال أبو جعفر : وأشبه الأقوال التي ذكرنا في معنى " الحواريين " قول من قال : " سموا بذلك لبياض ثيابهم ، ولأنهم كانوا غسالين " .

    وذلك أن " الحور " عند العرب شدة البياض ، ولذلك سمي " الحوارى " من الطعام " حوارى " لشدة بياضه ، ومنه قيل للرجل الشديد البياض مقلة العينين " أحور " وللمرأة " حوراء " . وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سموا بالذي ذكرنا ، من تبييضهم الثياب ، وأنهم كانوا قصارين ، فعرفوا بصحبة عيسى ، واختياره إياهم لنفسه أصحابا وأنصارا ، فجرى ذلك الاسم لهم ، واستعمل ، [ ص: 451 ] حتى صار كل خاصة للرجل من أصحابه وأنصاره : " حواريه " ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - .

    7128 - " إن لكل نبي حواريا ، وحواري الزبير " .

    يعني خاصته . وقد تسمي العرب النساء اللواتي مساكنهن القرى والأمصار " حواريات " وإنما سمين بذلك لغلبة البياض عليهن ، ومن ذلك قول أبي جلدة اليشكري :


    فقل للحواريات يبكين غيرنا ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح


    ويعني بقوله : " قال الحواريون " قال هؤلاء الذين صفتهم ما ذكرنا ، من تبييضهم الثياب : " آمنا بالله " صدقنا بالله ، واشهد أنت يا عيسى بأننا مسلمون .

    قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله - عز وجل - أن الإسلام دينه الذي ابتعث به [ ص: 452 ] عيسى والأنبياء قبله ، لا النصرانية ولا اليهودية وتبرئة من الله لعيسى ممن انتحل النصرانية ودان بها ، كما برأ إبراهيم من سائر الأديان غير الإسلام ، وذلك احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على وفدنجران ، كما : -

    7129 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فلما أحس عيسى منهم الكفر " والعدوان " قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله " وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم " واشهد بأنا مسلمون " لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه - يعني وفد نصارى نجران .
    القول في تأويل قوله ( ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ( 53 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله - عز وجل - عن الحواريين أنهم قالوا : " ربنا آمنا " أي : صدقنا " بما أنزلت " يعني : بما أنزلت على نبيك عيسى من كتابك " واتبعنا الرسول " يعني بذلك : صرنا أتباع عيسى على دينك الذي ابتعثته به ، وأعوانه على الحق الذي أرسلته به إلى عبادك وقوله : " فاكتبنا مع الشاهدين " يقول : فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحق ، وأقروا لك بالتوحيد ، وصدقوا رسلك ، واتبعوا أمرك ونهيك ، فاجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به من كرامتك ، وأحلنا محلهم ، ولا تجعلنا ممن كفر بك ، وصد عن سبيلك ، وخالف أمرك ونهيك .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #409
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (409)
    صــ 453 إلى صــ 467




    [ ص: 453 ]

    يعرف خلقه - جل ثناؤه - بذلك سبيل الذين رضي أقوالهم وأفعالهم ، ليحتذوا طريقهم ، ويتبعوا منهاجهم ، فيصلوا إلى مثل الذي وصلوا إليه من درجات كرامته ويكذب بذلك الذين انتحلوا من الملل غير الحنيفية المسلمة ، في دعواهم على أنبياء الله أنهم كانوا على غيرها ويحتج به على الوفد الذين حاجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجران : بأن قيل من رضي الله عنه من أتباع عيسى كان خلاف قيلهم ، ومنهاجهم غير منهاجهم ، كما : -

    7130 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين " أي : هكذا كان قولهم وإيمانهم .
    القول في تأويل قوله ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ( 54 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : ومكر الذين كفروا من بني إسرائيل ، وهم الذين ذكر الله أن عيسى أحس منهم الكفر .

    وكان مكرهم الذي وصفهم الله به ، مواطأة بعضهم بعضا على الفتك بعيسى وقتله ، وذلك أن عيسى صلوات الله عليه ، بعد إخراج قومه إياه وأمه من بين أظهرهم ، عاد إليهم ، فيما : -

    7131 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ثم إن عيسى سار بهم يعني : بالحواريين الذين كانوا [ ص: 454 ] يصطادون السمك ، فآمنوا به واتبعوه إذ دعاهم حتى أتى بني إسرائيل ليلا فصاح فيهم ، فذلك قوله : ( فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ) الآية [ سورة الصف : 14 ] .

    وأما مكر الله بهم : فإنه - فيما ذكر السدي - إلقاؤه شبه عيسى على بعض أتباعه حتى قتله الماكرون بعيسى ، وهم يحسبونه عيسى ، وقد رفع الله - عز وجل - عيسى قبل ذلك ، كما : -

    7132 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ثم إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلا من الحواريين في بيت ، فقال عيسى لأصحابه : من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة ؟ فأخذها رجل منهم ، وصعد بعيسى إلى السماء ، فذلك قوله : " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " . فلما خرج الحواريون أبصروهم تسعة عشر ، فأخبروهم أن عيسى قد صعد به إلى السماء ، فجعلوا يعدون القوم فيجدونهم ينقصون رجلا من العدة ، ويرون صورة عيسى فيهم ، فشكوا فيه . وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى وصلبوه ، فذلك قول الله - عز وجل - : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) [ سورة النساء : 157 ] .

    وقد يحتمل أن يكون معنى " مكر الله بهم " ، استدراجه إياهم ليبلغ الكتاب أجله ، كما قد بينا ذلك في قول الله : ( الله يستهزئ بهم ) [ سورة البقرة : 15 ] .
    [ ص: 455 ] القول في تأويل قوله ( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : ومكر الله بالقوم الذين حاولوا قتل عيسى مع كفرهم بالله ، وتكذيبهم عيسى فيما أتاهم به من عند ربهم إذ قال الله - جل ثناؤه - : " إني متوفيك " ف " إذ " صلة من قوله : " ومكر الله " يعني : ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى " إني متوفيك ورافعك إلي ، فتوفاه ورفعه إليه .

    ثم اختلف أهل التأويل في معنى " الوفاة " التي ذكرها الله - عز وجل - في هذه الآية .

    فقال بعضهم : " هي وفاة نوم " وكان معنى الكلام على مذهبهم : إني منيمك ورافعك في نومك .

    ذكر من قال ذلك :

    7133 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " إني متوفيك " قال : يعني وفاة المنام ، رفعه الله في منامه قال الحسن : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لليهود : " إن عيسى لم يمت ، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة .

    وقال آخرون : معنى ذلك : إني قابضك من الأرض ، فرافعك إلي ، قالوا : ومعنى " الوفاة " القبض ، لما يقال : " توفيت من فلان مالي عليه " بمعنى : قبضته واستوفيته . قالوا : فمعنى قوله : " إني متوفيك ورافعك " أي : قابضك من [ ص: 456 ] الأرض حيا إلى جواري ، وآخذك إلى ما عندي بغير موت ، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك .

    ذكر من قال ذلك :

    7134 - حدثنا علي بن سهل قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب ، عن مطر الوراق في قول الله : " إني متوفيك " قال : متوفيك من الدنيا ، وليس بوفاة موت .

    7135 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " إني متوفيك " قال : متوفيك من الأرض .

    7136 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا " قال : فرفعه إياه إليه ، توفيه إياه ، وتطهيره من الذين كفروا .

    7137 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح : أن كعب الأحبار قال : ما كان الله - عز وجل - ليميت عيسى ابن مريم ، إنما بعثه الله داعيا ومبشرا يدعو إليه وحده ، فلما رأى عيسى قلة من اتبعه وكثرة من كذبه ، شكا ذلك إلى الله - عز وجل - ، فأوحى الله إليه : " إني متوفيك ورافعك إلي " وليس من رفعته عندي ميتا ، وإني سأبعثك على الأعور الدجال فتقتله ، ثم تعيش بعد ذلك أربعا وعشرين سنة ، ثم أميتك ميتة الحي .

    قال كعب الأحبار : وذلك يصدق حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث [ ص: 457 ] قال : كيف تهلك أمة أنا في أولها ، وعيسى في آخرها .

    7138 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " يا عيسى إني متوفيك " أي قابضك .

    7139 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " إني متوفيك ورافعك إلي " قال : " متوفيك " : قابضك قال : " ومتوفيك " و " رافعك " واحد قال : ولم يمت بعد ، حتى يقتل الدجال ، وسيموت . وقرأ قول الله - عز وجل - : " ويكلم الناس في المهد وكهلا " قال : رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلا قال : وينزل كهلا .

    7140 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قول الله - عز وجل - : " يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي " الآية كلها ، قال : رفعه الله إليه ، فهو عنده في السماء .

    وقال آخرون : معنى ذلك : إني متوفيك وفاة موت .

    ذكر من قال ذلك :

    7141 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " إني متوفيك " يقول : إني مميتك .

    7142 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني أنه قال : توفى الله عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه . [ ص: 458 ]

    7143 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : والنصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار ، ثم أحياه الله .

    وقال آخرون : معنى ذلك : إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا . وقال : هذا من المقدم الذي معناه التأخير ، والمؤخر الذي معناه التقديم .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا ، قول من قال : " معنى ذلك : إني قابضك من الأرض ورافعك إلي " لتواتر الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال ، ثم يمكث في الأرض مدة ذكرها ، اختلفت الرواية في مبلغها ، ثم يموت فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه .

    7144 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن حنظلة بن علي الأسلمي ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ليهبطن الله عيسى ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا ، يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يجد من يأخذه ، وليسلكن الروحاء حاجا أو معتمرا ، أو ليثنين بهما جميعا . [ ص: 459 ]

    7145 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن قتادة ، عن عبد الرحمن بن آدم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ، ودينهم واحد . وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وأنه خليفتي على أمتي . وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه : فإنه رجل مربوع الخلق ، إلى الحمرة والبياض ، سبط الشعر ، كأن شعره يقطر ، وإن لم يصبه بلل ، بين ممصرتين ، يدق الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويفيض المال ، ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها ، ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذاب الدجال وتقع في الأرض الأمنة حتى ترتع الأسود مع الإبل ، والنمر مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، وتلعب الغلمان بالحيات ، لا يضر بعضهم بعضا ، فيثبت في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ، ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه . [ ص: 460 ]

    قال أبو جعفر : ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله - عز وجل - ، لم يكن بالذي يميته ميتة أخرى ، فيجمع عليه ميتتين ، لأن الله - عز وجل - إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يميتهم ثم يحييهم ، كما قال - جل ثناؤه - : ( الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ) [ سورة الروم : 40 ] . [ ص: 461 ]

    فتأويل الآية إذا : قال الله لعيسى : يا عيسى ، إني قابضك من الأرض ، ورافعك إلي ، ومطهرك من الذين كفروا فجحدوا نبوتك .

    وهذا الخبر ، وإن كان مخرجه مخرج خبر ، فإن فيه من الله - عز وجل - احتجاجا على الذين حاجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عيسى من وفد نجران بأن عيسى لم يقتل ولم يصلب كما زعموا ، وأنهم واليهود الذين أقروا بذلك وادعوا على عيسى - كذبة في دعواهم وزعمهم ، كما : -

    7146 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : ثم أخبرهم - يعني الوفد من نجران - ورد عليهم فيما أقروا لليهود بصلبه ، كيف رفعه وطهره منهم ، فقال : " إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي " .

    وأما " مطهرك من الذين كفروا " فإنه يعني : منظفك ، فمخلصك ممن كفر بك ، وجحد ما جئتهم به من الحق من اليهود وسائر الملل غيرها ، كما : -

    7147 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " ومطهرك من الذين كفروا ، قال : إذ هموا منك بما هموا .

    7148 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، [ ص: 462 ] عن الحسن في قوله : " ومطهرك من الذين كفروا " قال : طهره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه .
    القول في تأويل قوله - عز وجل - ( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وجاعل الذين اتبعوك على منهاجك وملتك من الإسلام وفطرته ، فوق الذين جحدوا نبوتك وخالفوا سبيلهم [ من ] جميع أهل الملل ، فكذبوا بما جئت به وصدوا عن الإقرار به ، فمصيرهم فوقهم ظاهرين عليهم ، كما : -

    7149 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " هم أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسنته ، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة .

    7150 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " ثم ذكر نحوه .

    7151 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 463 ] ابن جريج : " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " ثم ذكر نحوه .

    7152 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " قال : ناصر من اتبعك على الإسلام ، على الذين كفروا إلى يوم القيامة .

    7153 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " أما " الذين اتبعوك " فيقال : هم المؤمنون ، ويقال : بل هم الروم .

    7154 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " قال : جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة . قال : المسلمون من فوقهم ، وجعلهم أعلى ممن ترك الإسلام إلى يوم القيامة .

    وقال آخرون : معنى ذلك : وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق اليهود .

    ذكر من قال ذلك :

    7155 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله : " ومطهرك من الذين كفروا " قال : الذين كفروا من بني إسرائيل " وجاعل الذين اتبعوك " قال : الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم " فوق الذين كفروا " النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة . قال : فليس بلد فيه أحد من النصارى ، إلا وهم فوق يهود ، في شرق ولا غرب ، هم في البلدان كلها مستذلون .
    [ ص: 464 ] القول في تأويل قوله ( ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ( 55 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " ثم إلي " ثم إلى الله ، أيها المختلفون في عيسى " مرجعكم " يعني مصيركم يوم القيامة " فأحكم بينكم " يقول : فأقضي حينئذ بين جميعكم في أمر عيسى بالحق " فيما كنتم فيه تختلفون " من أمره .

    وهذا من الكلام الذي صرف من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة ، وذلك أن قوله : " ثم إلي مرجعكم " إنما قصد به الخبر عن متبعي عيسى والكافرين به .

    وتأويل الكلام : وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ، ثم إلي مرجع الفريقين : الذين اتبعوك ، والذين كفروا بك ، فأحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون . ولكن رد الكلام إلى الخطاب لسبوق القول ، على سبيل ما ذكرنا من الكلام الذي يخرج على وجه الحكاية ، كما قال : ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ) [ سورة يونس : 22 ] .
    [ ص: 465 ] القول في تأويل قوله ( فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين ( 57 ) ( 56 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " فأما الذين كفروا " فأما الذين جحدوا نبوتك يا عيسى ، وخالفوا ملتك ، وكذبوا بما جئتهم به من الحق ، وقالوا فيك الباطل ، وأضافوك إلى غير الذي ينبغي أن يضيفوك إليه ، من اليهود والنصارى وسائر أصناف الأديان ، فإني أعذبهم عذابا شديدا ، أما في الدنيا فبالقتل والسباء والذلة والمسكنة ، وأما في الآخرة فبنار جهنم خالدين فيها أبدا " وما لهم من ناصرين " يقول : وما لهم من عذاب الله مانع ، ولا عن أليم عقابه لهم دافع بقوة ولا شفاعة ، لأنه العزيز ذو الانتقام .

    وأما قوله : " وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فإنه يعني تعالى ذكره : وأما الذين آمنوا بك يا عيسى - يقول : صدقوك - فأقروا بنبوتك وبما جئتهم به من الحق من عندي ، ودانوا بالإسلام الذي بعثتك به ، وعملوا بما فرضت من فرائضي على لسانك ، وشرعت من شرائعي ، وسننت من سنني . كما :

    7156 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " وعملوا الصالحات " يقول : أدوا فرائضي .

    " فيوفيهم أجورهم " يقول : فيعطيهم جزاء أعمالهم الصالحة كاملا لا يبخسون منه شيئا ولا ينقصونه . [ ص: 466 ]

    وأما قوله : " والله لا يحب الظالمين " فإنه يعني : والله لا يحب من ظلم غيره حقا له ، أو وضع شيئا في غير موضعه .

    فنفى - جل ثناؤه - عن نفسه بذلك أن يظلم عباده ، فيجازي المسيء ممن كفر جزاء المحسنين ممن آمن به ، أو يجازي المحسن ممن آمن به واتبع أمره وانتهى عما نهاه عنه فأطاعه ، جزاء المسيئين ممن كفر به وكذب رسله وخالف أمره ونهيه . فقال : إني لا أحب الظالمين ، فكيف أظلم خلقي ؟

    وهذا القول من الله تعالى ذكره ، وإن كان خرج مخرج الخبر ، فإنه وعيد منه للكافرين به وبرسله ، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله ، لأنه أعلم الفريقين جميعا أنه لا يبخس هذا المؤمن حقه ، ولا يظلم كرامته فيضعها فيمن كفر به وخالف أمره ونهيه ، فيكون لها بوضعها في غير أهلها ظالما .
    القول في تأويل قوله ( ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ( 58 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " ذلك " هذه الأنباء التي أنبأ بها نبيه عن عيسى وأمه مريم ، وأمها حنة وزكريا وابنه يحيى ، وما قص من أمر الحواريين واليهود من بنى إسرائيل " نتلوها عليك " يا محمد ، يقول : نقرؤها عليك يا محمد على لسان جبريل - صلى الله عليه وسلم - ، بوحيناها إليك " من [ ص: 467 ] الآيات " يقول : من العبر والحجج على من حاجك من وفد نصارى نجران ، ويهود بني إسرائيل الذين كذبوك وكذبوا ما جئتهم به من الحق من عندي " والذكر " يعني : والقرآن " الحكيم " يعني : ذي الحكمة الفاصلة بين الحق والباطل ، وبينك وبين ناسبي المسيح إلى غير نسبه ، كما : -

    7157 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم " القاطع الفاصل الحق ، الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى وعما اختلفوا فيه من أمره ، فلا تقبلن خبرا غيره .

    7158 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم " قال : القرآن .

    7159 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " والذكر " يقول : القرآن " الحكيم " الذي قد كمل في حكمته .
    القول في تأويل قوله ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ( 59 ) )



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #410
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (410)
    صــ 468 إلى صــ 482






    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - : إن شبه عيسى في خلقي إياه من غير فحل فأخبر به ، يا محمد ، الوفد من نصارى نجران عندي ، كشبه آدم الذي [ ص: 468 ] خلقته من تراب ثم قلت له : " كن " فكان من غير فحل ولا ذكر ولا أنثى . يقول : فليس خلقي عيسى من أمه من غير فحل ، بأعجب من خلقي آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وأمري إذا أمرته أن يكون فكان لحما . يقول : فكذلك خلقى عيسى : أمرته أن يكون فكان .

    وذكر أهل التأويل أن الله - عز وجل - أنزل هذه الآية احتجاجا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على الوفد من نصارى نجران الذين حاجوه في عيسى .

    ذكر من قال ذلك :

    7160 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عامر قال : كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى في عيسى قولا فكانوا يجادلون النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية في سورة آل عمران : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " إلى قوله " فنجعل لعنة الله على الكاذبين " .

    7161 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " وذلك أن رهطا من أهل نجران قدموا على محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان فيهم السيد والعاقب فقالوا لمحمد : ما شأنك تذكر صاحبنا ؟ فقال : من هو ؟ قالوا : عيسى ، تزعم أنه عبد الله ! فقال محمد : [ ص: 469 ] أجل ، إنه عبد الله . قالوا له : فهل رأيت مثل عيسى ، أو أنبئت به ؟ ثم خرجوا من عنده ، فجاءه جبريل - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربنا السميع العليم فقال : قل لهم إذا أتوك : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم " إلى آخر الآية .

    7162 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " ذكر لنا أن سيدي أهل نجران وأسقفيهم : السيد والعاقب ، لقيا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن عيسى فقالا كل آدمي له أب ، فما شأن عيسى لا أب له ؟ فأنزل الله - عز وجل - فيه هذه الآية : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " .

    7163 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " لما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمع به أهل نجران ، أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم . منهم : العاقب ، والسيد ، وماسرجس ، ومار يحز . فسألوه ما يقول [ ص: 470 ] في عيسى ، فقال : هو عبد الله وروحه وكلمته . قالوا هم : لا ! ولكنه هو الله ، نزل من ملكه فدخل في جوف مريم ، ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمره ! فهل رأيت قط إنسانا خلق من غير أب ؟ فأنزل الله - عز وجل - : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " . 7164 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريح ، عن عكرمة قوله : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " قال : نزلت في العاقب والسيد من أهل نجران ، وهما نصرانيان . قال ابن جريج : بلغنا أن نصارى أهل نجران قدم وفدهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيهم السيد والعاقب ، وهما يومئذ سيدا أهل نجران ، فقالوا : يا محمد ، فيما تشتم صاحبنا ؟ قال : من صاحبكما ! قالا عيسى ابن مريم ، تزعم أنه عبد ! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أجل ، إنه عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . فغضبوا وقالوا : إن كنت صادقا فأرنا عبدا يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه ، الآية ، لكنه الله . فسكت حتى أتاه جبريل فقال : يا محمد : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) [ سورة المائدة : 17 ، 72 ] الآية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا جبريل ، إنهم سألوني أن أخبرهم بمثل عيسى . قال جبريل : مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له : كن فيكون . فلما أصبحوا عادوا ، فقرأ عليهم الآيات .

    7165 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إن مثل عيسى عند الله " فاسمع ، " كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين " فإن قالوا : [ ص: 471 ] خلق عيسى من غير ذكر ، فقد خلقت آدم من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر ، فكان كما كان عيسى لحما ودما وشعرا وبشرا ، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا .

    7166 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله - عز وجل - : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " قال : أتى نجرانيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا له : هل علمت أن أحدا ولد من غير ذكر ، فيكون عيسى كذلك ؟ قال : فأنزل الله - عز وجل - : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " أكان لآدم أب أو أم ! ! كما خلقت هذا في بطن هذه ؟

    قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فكيف قال : " كمثل آدم خلقه " " وآدم " معرفة ، والمعارف لا توصل ؟

    قيل : إن قوله : " خلقه من تراب " غير صلة لآدم ، وإنما هو بيان عن أمره على وجه التفسير عن المثل الذي ضربه ، وكيف كان .

    وأما قوله : " ثم قال له كن فيكون " فإنما قال : " فيكون " وقد ابتدأ الخبر عن خلق آدم ، وذلك خبر عن أمر قد تقضى ، وقد أخرج الخبر عنه مخرج الخبر عما قد مضى فقال - جل ثناؤه - : " خلقه من تراب ثم قال له كن " لأنه بمعنى الإعلام من الله نبيه أن تكوينه الأشياء بقوله : " كن " ثم قال : " فيكون " [ ص: 472 ] خبرا مبتدأ ، وقد تناهى الخبر عن أمر آدم عند قوله : " كن " .

    فتأويل الكلام إذا : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن " واعلم ، يا محمد ، أن ما قال له ربك " كن " فهو كائن .

    فلما كان في قوله : " كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن " دلالة على أن الكلام يراد به إعلام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وسائر خلقه أنه كائن ما كونه ابتداء من غير أصل ولا أول ولا عنصر ، استغنى بدلالة الكلام على المعنى ، وقيل : " فيكون " فعطف بالمستقبل على الماضي على ذلك المعنى .

    وقد قال بعض أهل العربية : " فيكون " رفع على الابتداء ، ومعناه : كن فكان ، فكأنه قال : فإذا هو كائن .
    القول في تأويل قوله ( الحق من ربك فلا تكن من الممترين ( 60 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : الذي أنبأتك به من خبر عيسى ، وأن مثله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له ربه " كن " هو الحق من ربك ، يقول : هو الخبر الذي هو من عند ربك " فلا تكن من الممترين " يعني : فلا تكن من الشاكين في أن ذلك كذلك ، كما : -

    7167 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " الحق من ربك فلا تكن من الممترين " يعني : فلا تكن في شك من عيسى أنه - كمثل آدم - ، عبد الله ورسوله ، وكلمة الله وروحه . [ ص: 473 ]

    7168 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " الحق من ربك فلا تكن من الممترين " يقول : فلا تكن في شك مما قصصنا عليك أن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمة منه وروح ، وأن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون .

    7169 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " الحق من ربك " ما جاءك من الخبر عن عيسى " فلا تكن من الممترين " أي : قد جاءك الحق من ربك فلا تمتر فيه .

    7170 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " فلا تكن من الممترين " قال : والممترون الشاكون .

    " والمرية " " والشك " " والريب " واحد سواء ، كهيئة ما تقول : " أعطني " " وناولني " " وهلم " فهذا مختلف في الكلام وهو واحد .
    القول في تأويل قوله ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ( 61 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " فمن حاجك فيه " فمن جادلك ، يا محمد ، في المسيح عيسى ابن مريم .

    والهاء في قوله : " فيه " عائدة على ذكر عيسى . وجائز أن تكون عائدة [ ص: 474 ] على " الحق " الذي قال تعالى ذكره : " الحق من ربك " .

    ويعني بقوله : " من بعد ما جاءك من العلم " من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بينته لك في عيسى أنه عبد الله " فقل تعالوا " هلموا فلندع " أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل " يقول : ثم نلتعن .

    يقال في الكلام : " ما له ؟ بهله الله " أي : لعنه الله " وما له ؟ عليه بهلة الله " يريد اللعن ، وقال لبيد ، وذكر قوما هلكوا فقال :


    نظر الدهر إليهم فابتهل


    يعني : دعا عليهم بالهلاك .

    " فنجعل لعنة الله على الكاذبين " منا ومنكم في أنه عيسى ، كما : - [ ص: 475 ]

    7171 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم " أي : في عيسى : أنه عبد الله ورسوله ، من كلمة الله وروحه " فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم " إلى قوله : " على الكاذبين " .

    7172 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم " أي : من بعد ما قصصت عليك من خبره ، وكيف كان أمره " فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم " الآية .

    7173 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم " يقول : من حاجك في عيسى من بعد ما جاءك فيه من العلم .

    7174 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " قال : منا ومنكم .

    7175 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : وحدثني ابن لهيعة ، عن سليمان بن زياد الحضرمي ، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي : أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ليت بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا يروني ! من شدة ما كانوا يمارون النبي - صلى الله عليه وسلم - .
    [ ص: 476 ] القول في تأويل قوله ( إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين ( 63 ) ( 62 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : إن هذا الذي أنبأتك به ، يا محمد ، من أمر عيسى فقصصته عليك من أنبائه ، وأنه عبدي ورسولي وكلمتي ألقيتها إلى مريم وروح مني ، لهو القصص والنبأ الحق ، فاعلم ذلك . واعلم أنه ليس للخلق معبود يستوجب عليهم العبادة بملكه إياهم إلا معبودك الذي تعبده ، وهو الله العزيز الحكيم .

    ويعني بقوله : " العزيز " العزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ، وادعى معه إلها غيره ، أو عبد ربا سواه " الحكيم " في تدبيره ، لا يدخل ما دبره وهن ، ولا يلحقه خلل .

    " فإن تولوا " يعني : فإن أدبر هؤلاء الذين حاجوك في عيسى ، عما جاءك من الحق من عند ربك في عيسى وغيره من سائر ما آتاك الله من الهدى والبيان ، [ ص: 477 ] فأعرضوا عنه ولم يقبلوه

    " فإن الله عليم بالمفسدين " يقول : فإن الله ذو علم بالذين يعصون ربهم ، ويعملون في أرضه وبلاده بما نهاهم عنه ، وذلك هو إفسادهم . يقول تعالى ذكره : فهو عالم بهم وبأعمالهم ، يحصيها عليهم ويحفظها ، حتى يجازيهم عليها جزاءهم .

    وبنحو ما قلنا قي ذلك قال أهل التأويل :

    ذكر من قال ذلك :

    7176 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إن هذا لهو القصص الحق " أي : إن هذا الذي جئت به من الخبر عن عيسى ، " لهو القصص الحق " من أمره .

    7177 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " إن هذا لهو القصص " إن هذا الذي قلنا في عيسى " لهو القصص الحق " .

    7178 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " إن هذا لهو القصص الحق " قال : إن هذا القصص الحق في عيسى ، ما ينبغي لعيسى أن يتعدى هذا ولا يجاوزه : أن يتعدى أن يكون كلمة الله ألقاها إلى مريم ، وروحا منه ، وعبد الله ورسوله .

    7179 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " إن هذا لهو القصص الحق " إن هذا الذي قلنا في [ ص: 478 ] عيسى ، هو الحق " وما من إله إلا الله " الآية .

    فلما فصل - جل ثناؤه - بين نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين الوفد من نصارى نجران ، بالقضاء الفاصل والحكم العادل ، أمره إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله ، وأنه لا ولد له ولا صاحبة ، وأن عيسى عبده ورسوله ، وأبوا إلا الجدل والخصومة أن يدعوهم إلى الملاعنة . ففعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فلما فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، انخزلوا فامتنعوا من الملاعنة ، ودعوا إلى المصالحة ، كالذي : -

    7180 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عامر قال : فأمر - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - بملاعنتهم - يعني : بملاعنة أهل نجران - بقوله : " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم " الآية . فتواعدوا أن يلاعنوه وواعدوه الغد . فانطلقوا إلى السيد والعاقب ، وكانا أعقلهم ، فتابعاهم . فانطلقوا إلى رجل منهم عاقل ، فذكروا له ما فارقوا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما صنعتم ! ! وندمهم ، وقال لهم : إن كان نبيا ثم دعا عليكم لا يغضبه الله فيكم أبدا ، ولئن كان ملكا فظهر عليكم لا يستبقيكم أبدا . قالوا : فكيف لنا وقد واعدنا ! فقال لهم : إذا غدوتم إليه فعرض عليكم الذي فارقتموه عليه ، فقولوا : " نعوذ بالله " ! فإن دعاكم أيضا فقولوا له : " نعوذ بالله " ! ولعله أن يعفيكم من ذلك . فلما غدوا غدا النبي - صلى الله عليه وسلم - محتضنا حسنا آخذا بيد الحسين ، وفاطمة تمشي خلفه . فدعاهم إلى الذي فارقوه عليه بالأمس ، [ ص: 479 ] فقالوا : " نعوذ بالله " ! ثم دعاهم فقالوا : " نعوذ بالله " ! مرارا قال : فإن أبيتم فأسلموا ولكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين كما قال الله - عز وجل - ، فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون كما قال الله - عز وجل - . قالوا : ما نملك إلا أنفسنا ! قال : فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء كما قال الله - عز وجل - . قالوا : ما لنا طاقة بحرب العرب ، ولكن نؤدي الجزية . قال : فجعل عليهم في كل سنة ألفي حلة ، ألفا في رجب ، وألفا في صفر . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران ، حتى الطير على الشجر أو : العصافير على الشجر لو تموا على الملاعنة .

    حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير قال : فقلت للمغيرة : إن الناس يروون في حديث أهل نجران أن عليا كان معهم ! فقال : أما الشعبي فلم يذكره ، فلا أدري لسوء رأي بني أمية في علي ، أو لم يكن في الحديث !

    7181 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إن هذا لهو القصص الحق " إلى قوله : " فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " فدعاهم إلى النصف ، وقطع عنهم الحجة . فلما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من الله عنه ، والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمره بما أمره به من ملاعنتهم ، إن ردوا عليه دعاهم إلى ذلك ، فقالوا : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه . فانصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب ، وكان ذا رأيهم ، فقالوا : يا عبد المسيح ، ما ترى ؟ قال : [ ص: 480 ] والله يا معشر النصارى ، لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم ، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل ، ثم انصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمن رأيه . فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا ، يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم عندنا رضى .

    7182 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا عيسى بن فرقد ، عن أبي الجارود ، عن زيد بن علي في قوله : " تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم " الآية ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي وفاطمة والحسن والحسين . [ ص: 481 ]

    7183 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم " الآية ، فأخذ - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - بيد الحسن والحسين وفاطمة ، وقال لعلي : اتبعنا . فخرج معهم ، فلم يخرج يومئذ النصارى ، وقالوا : إنا نخاف أن يكون هذا هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليس دعوة النبي كغيرها ! ! فتخلفوا عنه يومئذ ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لو خرجوا لاحترقوا ! فصالحوه على صلح : على أن له عليهم ثمانين ألفا ، فما عجزت الدراهم ففي العروض : الحلة بأربعين وعلى أن له عليهم ثلاثا وثلاثين درعا ، وثلاثا وثلاثين بعيرا ، وأربعة وثلاثين فرسا غازية كل سنة ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضامن لها حتى نؤديها إليهم .

    7184 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دعا وفدا من وفد نجران من النصارى ، وهم الذين حاجوه ، في عيسى ، فنكصوا عن ذلك وخافوا وذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : والذي نفس محمد بيده ، إن كان العذاب لقد تدلى على أهل نجران ، ولو فعلوا لاستؤصلوا عن جديد الأرض .

    7185 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم " قال : بلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ليداعي أهل نجران ، فلما رأوه خرج ، هابوا وفرقوا ، فرجعوا قال معمر ، قال قتادة : لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل نجران ، أخذ بيد حسن وحسين وقال لفاطمة : اتبعينا . فلما رأى ذلك أعداء الله ، رجعوا . [ ص: 482 ]

    7186 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لو خرج الذين يباهلون النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا .

    7187 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا زكريا ، عن عدي قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله .

    7188 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده ، لو لاعنوني ما حال الحول وبحضرتهم منهم أحد إلا أهلك الله الكاذبين .

    7189 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثنا ابن زيد قال : قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو لاعنت القوم ، بمن كنت تأتي حين قلت " أبناءنا وأبناءكم " ؟ قال : حسن وحسين .

    7190 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا المنذر بن ثعلبة قال : حدثنا علباء بن أحمر اليشكري قال : لما نزلت هذه الآية : " فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم " الآية ، أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ، ودعا اليهود ليلاعنهم ، فقال شاب من اليهود ، ويحكم ! أليس عهدكم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير ؟ ! لا تلاعنوا ! فانتهوا .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #411
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (411)
    صــ 483 إلى صــ 498




    [ ص: 483 ] القول في تأويل قوله ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ( 64 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " قل " يا محمد ، لأهل الكتاب ، وهم أهل التوراة والإنجيل " تعالوا " هلموا " إلى كلمة سواء " يعني : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم ، والكلمة العدل ، هي أن نوحد الله فلا نعبد غيره ، ونبرأ من كل معبود سواه ، فلا نشرك به شيئا .

    وقوله : " ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا " يقول : ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله ، ويعظمه بالسجود له كما يسجد لربه " فإن تولوا " يقول : فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها ، فلم يجيبوك إليها " فقولوا " أيها المؤمنون ، للمتولين عن ذلك " اشهدوا بأنا مسلمون " .

    واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية .

    فقال بعضهم : نزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    ذكر من قال ذلك :

    7191 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم . [ ص: 484 ]

    7192 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دعا اليهود إلى كلمة السواء .

    7193 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : بلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دعا يهود أهل المدينة إلى ذلك ، فأبوا عليه ، فجاهدهم قال : دعاهم إلى قول الله - عز وجل - : " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " الآية .

    وقال آخرون : بل نزلت في الوفد من نصارى نجران .

    ذكر من قال ذلك :

    7194 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " الآية ، إلى قوله : " فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " قال : فدعاهم إلى النصف ، وقطع عنهم الحجة - يعني وفد نجران .

    7195 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ثم دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . - يعني الوفد من نصارى نجران - فقال : " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " الآية .

    7196 - حدثني يونس قال : أخبرني ابن وهب قال : حدثنا ابن زيد قال قال : يعني - جل ثناؤه - : " إن هذا لهو القصص الحق " في عيسى على ما قد بيناه فيما مضى قال : فأبوا - يعني الوفد من نجران - فقال : ادعهم إلى أيسر من هذا ، " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " [ ص: 485 ] فقرأ حتى بلغ أربابا من دون الله " فأبوا أن يقبلوا هذا ولا الآخر .

    قال أبو جعفر : وإنما قلنا عنى بقوله : " يا أهل الكتاب " أهل الكتابين ، لأنهما جميعا من أهل الكتاب ، ولم يخصص - جل ثناؤه - بقوله : " يا أهل الكتاب " بعضا دون بعض . فليس بأن يكون موجها ذلك إلى أنه مقصود به أهل التوراة ، بأولى منه بأن يكون موجها إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل ، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دون غيرهم من أهل التوراة . وإذ لم يكن أحد الفريقين بذلك بأولى من الآخر لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر ، ولا أثر صحيح فالواجب أن يكون كل كتابي معنيا به . لأن إفراد العبادة لله وحده ، وإخلاص التوحيد له ، واجب على كل مأمور منهي من خلق الله . واسم " أهل الكتاب " يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل ، فكان معلوما بذلك أنه عني به الفريقان جميعا .

    وأما تأويل قوله : " تعالوا " فإنه : أقبلوا وهلموا . وإنما " هو تفاعلوا " من " العلو " فكأن القائل لصاحبه : " تعال إلي " قائل " تفاعل " من " العلو " كما يقال : " تدان مني " من " الدنو " و " تقارب مني " من " القرب " . [ ص: 486 ]

    وقوله : " إلى كلمة سواء " . فإنها الكلمة العدل ، " والسواء " من نعت " الكلمة " .

    وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع " سواء " في الإعراب " لكلمة " وهو اسم لا صفة .

    فقال بعض نحويي البصرة : جر " سواء " لأنها من صفة " الكلمة " وهي العدل ، وأراد مستوية . قال : ولو أراد " استواء " كان النصب . وإن شاء أن يجعلها على " الاستواء " ويجر ، جاز ، ويجعله من صفة " الكلمة " مثل " الخلق " لأن " الخلق " هو " المخلوق " . " والخلق " قد يكون صفة واسما ، ويجعل " الاستواء " مثل " المستوي " قال - عز وجل - : ( الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ) [ سورة الحج : 25 ] ، لأن " السواء " للآخر ، وهو اسم ليس بصفة فيجرى على الأول ، وذلك إذا أراد به " الاستواء " . فإن أراد به " مستويا " جاز أن يجري على الأول . والرفع في ذا المعنى جيد ، لأنها لا تغير عن حالها ولا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث فأشبهت الأسماء التي هي مثل " عدل " و " رضى " و " جنب " وما أشبه ذلك . وقالوا : [ في قوله ] : ( أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ) [ سورة الجاثية : 21 ] ، ف " السواء " للمحيا والممات بهذا ، المبتدأ .

    وإن شئت أجريته على الأول ، وجعلته صفة مقدمة ، كأنها من سبب الأول [ ص: 487 ] فجرت عليه . وذلك إذا جعلته في معنى " مستوي " . والرفع وجه الكلام كما فسرت لك .

    وقال بعض نحويي الكوفة : " سواء " مصدر وضع موضع الفعل ، يعني موضع " متساوية " : و " متساو " فمرة يأتي على الفعل ، ومرة على المصدر . وقد يقال في " سواء " بمعنى عدل : " سوى وسوى " كما قال - جل ثناؤه - : ( مكانا سوى ) و ( سوى ) [ سورة طه : 58 ] ، يراد به : عدل ونصف بيننا وبينك . وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك ( " إلى كلمة عدل بيننا وبينكم " ) .

    وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله : " إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " بأن " السواء " هو العدل ، قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7197 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " عدل بيننا وبينكم " ألا نعبد إلا الله " الآية .

    7198 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا " بمثله . [ ص: 488 ]

    وقال آخرون : هو قول " لا إله إلا الله " .

    ذكر من قال ذلك :

    7199 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : قال أبو العالية : " كلمة السواء " لا إله إلا الله .

    وأما قوله : " ألا نعبد إلا الله " فإن " أن " في موضع خفض على معنى : تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله .

    وقد بينا - معنى " العبادة " في كلام العرب فيما مضى ، ودللنا على الصحيح من معانيه بما أغنى عن إعادته .

    وأما قوله : " ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا " فإن " اتخاذ بعضهم بعضا " ما كان بطاعة الأتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاصي الله ، وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله ، كما قال - جل ثناؤه - : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ) [ سورة التوبة : 31 ] ، كما : -

    7200 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : " ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله " يقول : لا يطع بعضنا بعضا في معصية الله . ويقال إن تلك الربوبية : أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة ، وإن لم يصلوا لهم . [ ص: 489 ]

    وقال آخرون : " اتخاذ بعضهم بعضا أربابا " سجود بعضهم لبعض .

    ذكر من قال ذلك :

    7201 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : " ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله " قال : سجود بعضهم لبعض .

    وأما قوله : " فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " فإنه يعني : فإن تولى الذين تدعونهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا ، فقولوا أنتم ، أيها المؤمنون ، لهم : اشهدوا علينا بأنا بما توليتم عنه ، من توحيد الله ، وإخلاص العبودية له ، وأنه الإله الذي لا شريك له " مسلمون " يعني : خاضعون لله به ، متذللون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا .

    وقد بينا معنى " الإسلام " فيما مضى ، ودللنا عليه بما أغنى عن إعادته .
    القول في تأويل قوله ( يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ( 65 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " يا أهل الكتاب " يا أهل التوراة والإنجيل " لم تحاجون " لم تجادلون " في إبراهيم " وتخاصمون فيه ، يعني : في إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه .

    وكان حجاجهم فيه : ادعاء كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه كان [ ص: 490 ] منهم ، وأنه كان يدين دين أهل نحلته . فعابهم الله - عز وجل - بادعائهم ذلك ، ودل على مناقضتهم ودعواهم ، فقال : وكيف تدعون أنه كان على ملتكم ودينكم ، ودينكم إما يهودية أو نصرانية ، واليهودي منكم يزعم أن دينه إقامة التوراة والعمل بما فيها ، والنصراني منكم يزعم أن دينه إقامة الإنجيل وما فيه ، وهذان كتابان لم ينزلا إلا بعد حين من مهلك إبراهيم ووفاته ؟ فكيف يكون منكم ؟ فما وجه اختصامكم فيه ، وادعاؤكم أنه منكم ، والأمر فيه على ما قد علمتم ؟

    وقيل : نزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم ، وادعاء كل فريق منهم أنه كان منهم .

    ذكر من قال ذلك :

    7202 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثني محمد بن إسحاق وحدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا ! فأنزل الله - عز وجل - فيهم " يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون " قالت النصارى : كان نصرانيا ! وقالت اليهود : كان يهوديا ! فأخبرهم الله أن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده ، وبعده كانت اليهودية والنصرانية . [ ص: 491 ]

    7203 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم " يقول : " لم تحاجون في إبراهيم " وتزعمون أنه كان يهوديا أو نصرانيا ، " وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده " فكانت اليهودية بعد التوراة ، وكانت النصرانية بعد الإنجيل ، " أفلا تعقلون " ؟

    وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في دعوى اليهود إبراهيم أنه منهم .

    ذكر من قال ذلك :

    7204 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دعا يهود أهل المدينة إلى كلمة السواء ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم ، وزعموا أنه مات يهوديا . فأكذبهم الله - عز وجل - ونفاهم منه فقال : " يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون " .

    7205 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

    7206 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم " قال : اليهود والنصارى ، برأه الله - عز وجل - منهم ، حين ادعت كل أمة أنه منهم ، وألحق به المؤمنين ، من كان من أهل الحنيفية .

    7207 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله . [ ص: 492 ]

    وأما قوله : " أفلا تعقلون " فإنه يعني : " أفلا تعقلون " تفقهون خطأ قيلكم : إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا ، وقد علمتم أن اليهودية والنصرانية حدثت من بعد مهلكه بحين ؟
    القول في تأويل قوله ( ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( 66 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " ها أنتم " القوم الذين [ قالوا في إبراهيم ما قالوا " حاججتم " ] ، خاصمتم وجادلتم " فيما لكم به علم " من أمر دينكم الذي وجدتموه في كتبكم ، وأتتكم به رسل الله من عنده ، وفي غير ذلك مما أوتيتموه وثبتت عندكم صحته " فلم تحاجون " يقول : فلم تجادلون وتخاصمون " فيما ليس لكم به علم " يعني : في الذي لا علم لكم به من أمر إبراهيم ودينه ، ولم تجدوه في كتب الله ، ولا أتتكم به أنبياؤكم ، ولا شاهدتموه فتعلموه ؟ كما : -

    7208 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم [ ص: 493 ] أما " الذي لهم به علم " فما حرم عليهم وما أمروا به . وأما " الذي ليس لهم به علم " فشأن إبراهيم .

    7209 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم " يقول : فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم " فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم " فيما لم تشاهدوا ولم تروا ولم تعاينوا " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " .

    7210 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

    وقوله : " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " يقول : والله يعلم ما غاب عنكم فلم تشاهدوه ولم تروه ، ولم تأتكم به رسله من أمر إبراهيم وغيره من الأمور ومما تجادلون فيه ، لأنه لا يغيب عنه شيء ، ولا يعزب عنه علم شيء في السموات ولا في الأرض " وأنتم لا تعلمون " من ذلك إلا ما عاينتم فشاهدتم ، أو أدركتم علمه بالإخبار والسماع .
    القول في تأويل قوله ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ( 67 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا تكذيب من الله - عز وجل - دعوى الذين جادلوا في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى ، وادعوا أنه كان على ملتهم وتبرئة لهم منه ، وأنهم لدينه مخالفون وقضاء منه - عز وجل - لأهل الإسلام ولأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم هم أهل دينه ، وعلى منهاجه وشرائعه ، دون سائر أهل الملل والأديان غيرهم . [ ص: 494 ]

    يقول الله - عز وجل - : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولا كان من المشركين ، الذين يعبدون الأصنام والأوثان أو مخلوقا دون خالقه الذي هو إله الخلق وبارئهم " ولكن كان حنيفا " يعني : متبعا أمر الله وطاعته ، مستقيما على محجة الهدى التي أمر بلزومها " مسلما " يعني : خاشعا لله بقلبه ، متذللا له بجوارحه ، مذعنا لما فرض عليه وألزمه من أحكامه .

    وقد بينا اختلاف أهل التأويل في معنى " الحنيف " فيما مضى ، ودللنا على القول الذي هو أولى بالصحة من أقوالهم ، بما أغنى عن إعادته .

    وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7211 - حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عامر ، قال : قالت اليهود : إبراهيم على ديننا . وقالت النصارى : هو على ديننا . فأنزل الله - عز وجل - ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا " الآية ، فأكذبهم الله ، وأدحض حجتهم - يعني : اليهود الذين ادعوا أن إبراهيم مات يهوديا .

    7212 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله . [ ص: 495 ]

    7213 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم بن عبد الله - لا أراه إلا يحدثه عن أبيه - : أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ، ويتبعه ، فلقي عالما من اليهود ، فسأله عن دينه ، وقال : إني لعلي أن أدين دينكم ، فأخبرني عن دينكم . فقال له اليهودي : إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله . قال زيد : ما أفر إلا من غضب الله ، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيع . فهل تدلني على دين ليس فيه هذا ؟ قال : ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا ! قال : وما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم ، لم يك يهوديا ولا نصرانيا ، وكان لا يعبد إلا الله . فخرج من عنده فلقي عالما من النصارى ، فسأله عن دينه فقال : إني لعلي أن أدين دينكم ، فأخبرني عن دينكم . قال : إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله . قال : لا أحتمل من لعنة الله شيئا ، ولا من غضب الله شيئا أبدا ، وأنا أستطيع ، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا ؟ فقال له نحوا مما قاله اليهودي : لا أعلمه إلا أن يكون حنيفا . فخرج من عنده ، وقد رضي الذي أخبراه والذي اتفقا عليه من شأن إبراهيم ، فلم يزل رافعا يديه إلى الله وقال : اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم . [ ص: 496 ]

    أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال : حدثنا محمد بن جرير الطبري :
    [ ص: 497 ] القول في تأويل قوله ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ( 68 ) )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " إن أولى الناس بإبراهيم " إن أحق الناس بإبراهيم ونصرته وولايته " للذين اتبعوه " يعني : الذين سلكوا طريقه ومنهاجه ، فوحدوا الله مخلصين له الدين ، وسنوا سنته ، وشرعوا شرائعه ، وكانوا لله حنفاء مسلمين غير مشركين به " وهذا النبي " يعني : محمدا - صلى الله عليه وسلم - " والذين آمنوا " يعني : والذين صدقوا محمدا ، وبما جاءهم به من عند الله " والله ولي المؤمنين " يقول : والله ناصر المؤمنين بمحمد ، المصدقين له في نبوته وفيما جاءهم به من عنده ، على من خالفهم من أهل الملل والأديان .

    وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7214 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه " يقول : الذين اتبعوه على ملته وسنته ومنهاجه وفطرته " وهذا النبي " وهو نبي الله محمد " والذين آمنوا " معه ، وهم المؤمنون الذين صدقوا نبي الله واتبعوه . كان محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين معه من المؤمنين ، أولى الناس بإبراهيم . [ ص: 498 ]

    7215 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

    7216 - حدثنا محمد بن المثنى ، وجابر بن الكردي ، والحسن بن أبي يحيى المقدسي ، قالوا : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن لكل نبي ولاة من النبيين ، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي ، ثم قرأ : " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين " .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #412
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (412)
    صــ 499 إلى صــ 517




    [ ص: 499 ]

    7217 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال : حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، عن عبد الله ، أراه قال : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر نحوه .

    7218 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس : يقول الله سبحانه : " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه " وهم المؤمنون .
    [ ص: 500 ] القول في تأويل قوله ( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ( 69 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " ودت " تمنت " طائفة " يعني جماعة " من أهل الكتاب " وهم أهل التوراة من اليهود ، وأهل الإنجيل من النصارى " لو يضلونكم " يقولون : لو يصدونكم أيها المؤمنون ، عن الإسلام ، ويردونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر ، فيهلكونكم بذلك .

    و " الإضلال " في هذا الموضع ، الإهلاك ، من قول الله - عز وجل - : ( وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد ) [ سورة السجدة : 10 ] ، يعني : إذا هلكنا ، ومنه قول الأخطل في هجاء جرير :



    كنت القذى في موج أكدر مزبد قذف الأتي به فضل ضلالا


    يعنى : هلك هلاكا ، وقول نابغة بني ذبيان :



    فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل



    يعني مهلكوه . [ ص: 501 ]

    " وما يضلون إلا أنفسهم " وما يهلكون - بما يفعلون من محاولتهم صدكم عن دينكم - أحدا غير أنفسهم ، يعني ب " أنفسهم " : أتباعهم وأشياعهم على ملتهم وأديانهم ، وإنما أهلكوا أنفسهم وأتباعهم بما حاولوا من ذلك لاستيجابهم من الله بفعلهم ذلك سخطه ، واستحقاقهم به غضبه ولعنته ، لكفرهم بالله ، ونقضهم الميثاق الذي أخذ الله عليهم في كتابهم ، في اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه ، والإقرار بنبوته .

    ثم أخبر جل ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون ، من محاولة صد المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة والردى ، على جهل منهم بما الله بهم محل من عقوبته ، [ ص: 502 ] ومدخر لهم من أليم عذابه ، فقال تعالى ذكره : " وما يشعرون " أنهم لا يضلون إلا أنفسهم ، بمحاولتهم إضلالكم أيها المؤمنون .

    ومعنى قوله : " وما يشعرون " وما يدرون ولا يعلمون . وقد بينا تأويل ذلك بشواهده في غير هذا الموضع ، فأغنى ذلك عن إعادته .
    القول في تأويل قوله ( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ( 70 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " يا أهل الكتاب " من اليهود والنصارى " لم تكفرون " يقول : لم تجحدون " بآيات الله " يعني : بما في كتاب الله الذي أنزله إليكم على ألسن أنبيائكم ، من آيه وأدلته " وأنتم تشهدون " أنه حق من عند ربكم .

    وإنما هذا من الله - عز وجل - ، توبيخ لأهل الكتابين على كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وجحودهم نبوته ، وهم يجدونه في كتبهم ، مع شهادتهم أن ما في كتبهم حق ، وأنه من عند الله ، كما : -

    7219 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " يقول : تشهدون [ ص: 503 ] أن نعت محمد نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابكم ، ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به ، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل : " النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته " .

    7220 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " يقول : تشهدون أن نعت محمد في كتابكم ، ثم تكفرون به ولا تؤمنون به ، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل : " النبي الأمي " .

    7221 - حدثني محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " " آيات الله " محمدا ، وأما " تشهدون " فيشهدون أنه الحق ، يجدونه مكتوبا عندهم .

    7222 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " أن الدين عند الله الإسلام ، ليس لله دين غيره .
    القول في تأويل قوله ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : يا أهل التوراة والإنجيل " لم تلبسون " يقول : لم تخلطون " الحق بالباطل " . [ ص: 504 ]

    وكان خلطهم الحق بالباطل ، إظهارهم بألسنتهم من التصديق بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من عند الله ، غير الذي في قلوبهم من اليهودية والنصرانية .

    كما : -

    7223 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن الصيف ، وعدي بن زيد ، والحارث بن عوف ، بعضهم لبعض : تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية ، حتى نلبس عليهم دينهم ، لعلهم يصنعون كما نصنع ، فيرجعوا عن دينهم ! فأنزل الله - عز وجل - فيهم : " يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل " إلى قوله : " والله واسع عليم " .

    7224 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل " يقول : لم تلبسون اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل غيره ، الإسلام ، ولا يجزى إلا به ؟

    7225 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله إلا أنه قال : الذي لا يقبل من أحد غيره ، الإسلام ولم يقل : " ولا يجزى إلا به " .

    7226 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل " الإسلام باليهودية والنصرانية .

    وقال آخرون : في ذلك بما : - [ ص: 505 ]

    7227 - حدثني به يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله - عز وجل - : " لم تلبسون الحق بالباطل " قال : " الحق " التوراة التي أنزل الله على موسى ، و " الباطل " الذي كتبوه بأيديهم .

    قال أبو جعفر : وقد بينا معنى " اللبس " فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته .
    القول في تأويل قوله ( وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ( 71 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : ولم تكتمون ، يا أهل الكتاب ، الحق ؟

    و " الحق " الذي كتموه : ما في كتبهم من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - ومبعثه ونبوته ، كما : -

    7227 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وتكتمون الحق وأنتم تعلمون " كتموا شأن محمد ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر .

    7229 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وتكتمون الحق وأنتم تعلمون " يقول : يكتمون شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر .

    7230 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 506 ] ابن جريج : " تكتمون الحق " الإسلام ، وأمر محمد - صلى الله عليه وسلم - " وأنتم تعلمون " أن محمدا رسول الله ، وأن الدين الإسلام .

    وأما قوله : " وأنتم تعلمون " فإنه يعني به : وأنتم تعلمون أن الذي تكتمونه من الحق حق ، وأنه من عند الله . وهذا القول من الله - عز وجل - ، خبر عن تعمد أهل الكتاب الكفر به ، وكتمانهم ما قد علموا من نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ووجدوه في كتبهم ، وجاءتهم به أنبياؤهم .
    القول في تأويل قوله - جل ثناؤه - ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ( 72 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في صفة المعنى الذي أمرت به هذه الطائفة من أمرت به : من الإيمان وجه النهار ، وكفر آخره .

    فقال بعضهم : كان ذلك أمرا منهم إياهم بتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - في نبوته وما جاء به من عند الله ، وأنه حق ، في الظاهر من غير تصديقه في ذلك بالعزم واعتقاد القلوب على ذلك وبالكفر به وجحود ذلك كله في آخره .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 507 ]

    7231 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره " فقال بعضهم لبعض : أعطوهم الرضى بدينهم أول النهار ، واكفروا آخره ، فإنه أجدر أن يصدقوكم ، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون ، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم .

    7232 - حدثني المثنى قال : حدثنا معلى بن أسد قال : حدثنا خالد ، عن حصين ، عن أبي مالك في قوله : " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره " قال : قالت اليهود : آمنوا معهم أول النهار ، واكفروا آخره ، لعلهم يرجعون معكم .

    7233 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون " كان أحبار قرى عربية اثني عشر حبرا ، فقالوا لبعضهم : ادخلوا في دين محمد أول النهار ، وقولوا : " نشهد أن محمدا حق صادق " فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا : " إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم ، فحدثونا أنمحمدا كاذب ، وأنكم لستم على شيء ، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم " لعلهم يشكون ، يقولون : هؤلاء كانوا معنا أول النهار ، فما بالهم ؟ فأخبر الله - عز وجل - رسوله - صلى الله عليه وسلم - بذلك .

    7234 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين ، عن أبي مالك الغفاري قال : قالت اليهود بعضهم لبعض : أسلموا أول النهار ، وارتدوا آخره لعلهم يرجعون . فأطلع الله على سرهم ، فأنزل الله - عز وجل - : [ ص: 508 ] " وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون " .

    وقال آخرون : بل الذي أمرت به من الإيمان : الصلاة ، وحضورها معهم أول النهار ، وترك ذلك آخره .

    ذكر من قال ذلك :

    7235 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار " يهود تقوله ، . صلت مع محمد صلاة الصبح ، وكفروا آخر النهار ، مكرا منهم ، ليروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة ، بعد أن كانوا اتبعوه .

    7236 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله .

    7237 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار " الآية ، وذلك أن طائفة من اليهود قالوا : إذا لقيتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أول النهار فآمنوا ، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم ، لعلهم يقولون : هؤلاء أهل الكتاب ، وهم أعلم منا ! لعلهم ينقلبون عن دينهم ، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم .

    قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذا : " وقالت طائفة من أهل الكتاب " يعني : من اليهود الذين يقرأون التوراة " آمنوا " صدقوا " بالذي أنزل على الذين آمنوا " وذلك ما جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الدين الحق وشرائعه وسننه " وجه النهار " يعني : أول النهار . [ ص: 509 ]

    وسمى أوله " وجها " له ، لأنه أحسنه ، وأول ما يواجه الناظر فيراه منه ، كما يقال لأول الثوب : " وجهه " وكما قال ربيع بن زياد :



    من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار



    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7238 - حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وجه النهار " أول النهار .

    7239 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وجه النهار " أول النهار " واكفروا آخره " يقول : آخر النهار .

    7240 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره ) [ ص: 510 ] ، قال : قال : صلوا معهم الصبح ، ولا تصلوا معهم آخر النهار ، لعلكم تستزلونهم بذلك .

    وأما قوله : " واكفروا آخره " فإنه يعني به ، أنهم قالوا : واجحدوا ما صدقتم به من دينهم في وجه النهار ، في آخر النهار " لعلهم يرجعون " : يعني بذلك : لعلهم يرجعون عن دينهم معكم ويدعونه : كما : -

    7241 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " لعلهم يرجعون " يقول : لعلهم يدعون دينهم ، ويرجعون إلى الذي أنتم عليه .

    7242 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

    7243 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لعلهم يرجعون " لعلهم ينقلبون عن دينهم .

    7244 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لعلهم يرجعون " لعلهم يشكون .

    7245 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " لعلهم يرجعون " قال : يرجعون عن دينهم .
    [ ص: 511 ] القول في تأويل قوله ( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم فكان يهوديا .

    وهذا خبر من الله عن قول الطائفة الذين قالوا لإخوانهم من اليهود : " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار " .

    و " اللام " التي في قوله : " لمن تبع دينكم " نظيرة " اللام " التي في قوله : ( عسى أن يكون ردف لكم ) ، بمعنى : ردفكم ، ( بعض الذي تستعجلون ) [ سورة النمل : 72 ] .

    وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7246 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " هذا قول بعضهم لبعض .

    7247 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

    7247 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " قال : لا تؤمنوا إلا لمن تبع اليهودية .

    7248 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن يزيد في قوله : [ ص: 512 ] " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " قال : لا تؤمنوا إلا لمن آمن بدينكم ، ومن خالفه فلا تؤمنوا له .
    القول في تأويل قوله ( قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : قوله : " قل إن الهدى هدى الله " اعتراض به في وسط الكلام ، خبرا من الله عن أن البيان بيانه والهدى هداه . قالوا : وسائر الكلام بعد ذلك متصل بالكلام الأول ، خبرا عن قيل اليهود بعضها لبعض . فمعنى الكلام عندهم : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو أن يحاجوكم عند ربكم أي : ولا تؤمنوا أن يحاجكم أحد عند ربكم . ثم قال الله - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : قل ، يا محمد : " إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء " و " إن الهدى هدى الله " .

    ذكر من قال ذلك :

    7249 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، حسدا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم ، وإرادة أن يتبعوا على دينهم . [ ص: 513 ]

    7250 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    وقال آخرون : تأويل ذلك : قل يا محمد : " إن الهدى هدى الله " إن البيان بيان الله " أن يؤتى أحد " قالوا : ومعناه : لا يؤتى أحد من الأمم مثل ما أوتيتم ، كما قال : ( يبين الله لكم أن تضلوا ) [ سورة النساء : 176 ] ، بمعنى : لا تضلون ، وكقوله : ( كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به ) [ سورة الشعراء : 200 - 201 ] ، يعني : أن لا يؤمنوا " مثل ما أوتيتم " يقول : مثل ما أوتيت ، أنت يا محمد ، وأمتك من الإسلام والهدى " أو يحاجوكم عند ربكم " قالوا : ومعنى " أو " : " إلا " أي : إلا أن " يحاجوكم " يعني : إلا أن يجادلوكم عند ربكم عند ما فعل بهم ربكم .

    ذكر من قال ذلك :

    7251 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : قال الله - عز وجل - لمحمد - صلى الله عليه وسلم - : " قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " يقول ، مثل ما أوتيتم يا أمة محمد " أو يحاجوكم عند ربكم " تقول اليهود : فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة ، حتى أنزل علينا المن والسلوى فإن الذي أعطيتكم أفضل فقولوا : " إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء " الآية .

    فعلى هذا التأويل ، جميع هذا الكلام ، [ أمر ] من الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله لليهود ، وهو متلاصق بعضه ببعض لا اعتراض فيه . و " الهدى " [ ص: 514 ] الثاني رد على " الهدى " الأول ، و " أن " في موضع رفع على أنه خبر عن " الهدى " .

    وقال آخرون : بل هذا أمر من الله نبيه أن يقوله لليهود . وقالوا : تأويله : " قل " يا محمد " إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد " من الناس " مثل ما أوتيتم " يقول : مثل الذي أوتيتموه أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله ، ومثل نبيكم ، فلا تحسدوا المؤمنين على ما أعطيتهم ، مثل الذي أعطيتكم من فضلي ، فإن الفضل بيدي أوتيه من أشاء .

    ذكر من قال ذلك :

    7252 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " يقول : لما أنزل الله كتابا مثل كتابكم ، وبعث نبيا مثل نبيكم ، حسدتموهم على ذلك " قل إن الفضل بيد الله " الآية .

    7253 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

    وقال آخرون : بل تأويل ذلك : " قل " يا محمد : " إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله . قالوا : وهذا آخر القول الذي أمر الله به نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله لليهود من هذه الآية . قالوا : وقوله : " أو يحاجوكم " مردود على قوله : " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " .

    وتأويل الكلام - على قول أهل هذه المقالة - : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، فتتركوا الحق : أن يحاجوكم به عند ربكم من اتبعتم دينه فاخترتموه : أنه محق ، وأنكم تجدون نعته في كتابكم . فيكون حينئذ قوله : " أو يحاجوكم " مردودا [ ص: 515 ] على جواب نهي متروك ، على قول هؤلاء .

    ذكر من قال ذلك :

    7254 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " يقول : هذا الأمر الذي أنتم عليه : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " أو يحاجوكم عند ربكم " قال : قال بعضهم لبعض : لا تخبروهم بما بين الله لكم في كتابه ، " ليحاجوكم " قال : ليخاصموكم به عند ربكم " قل إن الهدى هدى الله " .

    [ قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون قوله : " قل إن الهدى هدى الله " ] معترضا به ، وسائر الكلام متسق على سياق واحد . فيكون تأويله حينئذ : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم بمعنى : لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " أو يحاجوكم عند ربكم " بمعنى : أو أن يحاجوكم عند ربكم . . . . . . . . أحد بإيمانكم ، [ ص: 516 ] لأنكم أكرم على الله بما فضلكم به عليهم . فيكون الكلام كله خبرا عن قول الطائفة التي قال الله - عز وجل - : " وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار " سوى قوله : " قل إن الهدى هدى الله " . ثم يكون الكلام مبتدأ بتكذيبهم في قولهم : " قل " يا محمد ، للقائلين ما قالوا من الطائفة التي وصفت لك قولها لتباعها من اليهود " إن الهدى هدى الله " إن التوفيق توفيق الله والبيان بيانه ، " وإن الفضل بيده يؤتيه من يشاء " لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود .

    وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها ، لأنه أصحها معنى ، وأحسنها استقامة ، على معنى كلام العرب ، وأشدها اتساقا على نظم الكلام وسياقه . وما عدا ذلك من القول ، فانتزاع يبعد من الصحة ، على استكراه شديد للكلام .
    القول في تأويل قوله ( قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ( 73 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " قل " يا محمد ، لهؤلاء اليهود الذين وصفت قولهم لأوليائهم " إن الفضل بيد الله " إن التوفيق للإيمان والهداية للإسلام ، بيد الله وإليه ، دونكم ودون سائر خلقه " يؤتيه من يشاء " من [ ص: 517 ] خلقه ، يعني : يعطيه من أراد من عباده ، تكذيبا من الله - عز وجل - لهم في قولهم لتباعهم : " لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " . فقال الله - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : قل لهم : ليس ذلك إليكم ، إنما هو إلى الله الذي بيده الأشياء كلها ، وإليه الفضل ، وبيده ، يعطيه من يشاء " والله واسع عليم " يعني : والله ذو سعة بفضله على من يشاء أن يتفضل عليه " عليم " ذو علم بمن هو منهم للفضل أهل .

    7255 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة ، عن ابن جريج في قوله : " قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء " قال : الإسلام .
    القول في تأويل قوله ( يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( 74 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : " يختص برحمته من يشاء " " يفتعل " من قول القائل : " خصصت فلانا بكذا ، أخصه به " .

    وأما " رحمته " في هذا الموضع ، فالإسلام والقرآن ، مع النبوة ، كما : -





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #413
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (413)
    صــ 518 إلى صــ 533






    7256 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يختص برحمته من يشاء " قال : النبوة ، يخص بها من يشاء . [ ص: 518 ]

    [ الفاتحة ] [ الفاتحة 001 ] بسم الله الرحمن الرحيم [ الفاتحة 002 ] الحمد لله رب العالمين [ 7257 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    7258 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " يختص برحمته من يشاء " قال : يختص بالنبوة من يشاء .

    7259 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة ، عن ابن جريج : " يختص برحمته من يشاء " قال : القرآن والإسلام .

    7260 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج مثله .

    " والله ذو الفضل العظيم " يقول : ذو فضل يتفضل به على من أحب وشاء من خلقه . ثم وصف فضله بالعظم فقال : " فضله عظيم " لأنه غير مشبهه في عظم موقعه ممن أفضله عليه [ فضل ] من أفضال خلقه ، ولا يقاربه في جلالة خطره ولا يدانيه .
    [ ص: 519 ] القول في تأويل قوله ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما )

    قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله - عز وجل - : أن من أهل الكتاب - وهم اليهود من بني إسرائيل - أهل أمانة يؤدونها ولا يخونونها ، ومنهم الخائن أمانته ، الفاجر في يمينه المستحل .

    فإن قال قائل : وما وجه إخبار الله - عز وجل - بذلك نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد علمت أن الناس لم يزالوا كذلك : منهم المؤدي أمانته والخائنها ؟

    قيل : إنما أراد جل وعز بإخباره المؤمنين خبرهم - على ما بينه في كتابه بهذه الآيات - تحذيرهم أن يأتمنوهم على أموالهم ، وتخويفهم الاغترار بهم ، لاستحلال كثير منهم أموال المؤمنين .

    فتأويل الكلام : ومن أهل الكتاب الذي إن تأمنه ، يا محمد ، على عظيم من المال كثير ، يؤده إليك ولا يخنك فيه ، ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنك فيه فلا يؤده إليك ، إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة . [ ص: 520 ]

    و " الباء " في قوله : " بدينار " و " على " يتعاقبان في هذا الموضع ، كما يقال : " مررت به ، ومررت عليه " .

    واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " إلا ما دمت عليه قائما " .

    فقال بعضهم : " إلا ما دمت له متقاضيا " .

    ذكر من قال ذلك :

    7261 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إلا ما دمت عليه قائما " إلا ما طلبته واتبعته .

    7262 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إلا ما دمت عليه قائما " قال : تقتضيه إياه .

    7263 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إلا ما دمت عليه قائما " قال : مواظبا .

    7264 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    وقال آخرون : معنى ذلك : " إلا ما دمت قائما على رأسه " .

    ذكر من قال ذلك :

    7265 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " إلا ما دمت عليه قائما " يقول : يعترف [ ص: 521 ] بأمانته ما دمت قائما على رأسه ، فإذا قمت ثم جئت تطلبه كافرك الذي يؤدي ، والذي يجحد .

    قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الآية ، قول من قال : " معنى ذلك : إلا ما دمت عليه قائما بالمطالبة والاقتضاء " . من قولهم : " قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي " أي عمل في تخليصه ، وسعى في استخراجه منه حتى استخرجه . لأن الله - عز وجل - إنما وصفهم باستحلالهم أموال الأميين ، وأن منهم من لا يقضي ما عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة . وليس القيام على رأس الذي عليه الدين ، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما هو له مستحل ، ولكن قد يكون - مع استحلاله الذهاب بما عليه لرب الحق - إلى استخراجه السبيل بالاقتضاء والمحاكمة والمخاصمة . فذلك الاقتضاء ، هو قيام رب المال باستخراج حقه ممن هو عليه .
    القول في تأويل قوله ( ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : أن من استحل الخيانة من اليهود ، وجحود حقوق العربي التي هي له عليه ، فلم يؤد ما ائتمنه العربي عليه إلا ما دام له متقاضيا مطالبا من أجل أنه يقول : لا حرج علينا فيما أصبنا من أموال العرب [ ص: 522 ] ولا إثم ، لأنهم على غير الحق ، وأنهم مشركون .

    واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو قولنا فيه .

    ذكر من قال ذلك :

    7266 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " الآية ، قالت اليهود : ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل .

    7267 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ليس علينا في الأميين سبيل " قال : ليس علينا في المشركين سبيل يعنون من ليس من أهل الكتاب .

    7268 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " قال : يقال له : ما بالك لا تؤدي أمانتك ؟ فيقول : ليس علينا حرج في أموال العرب ، قد أحلها الله لنا ! !

    7269 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير : لما نزلت " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كذب أعداء الله ، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي ، إلا الأمانة ، فإنها مؤداة إلى البر والفاجر . [ ص: 523 ]

    7270 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا هشام بن عبيد الله ، عن يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير قال : لما قالت اليهود : " ليس علينا في الأميين سبيل " يعنون أخذ أموالهم ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ذكر نحوه إلا أنه قال : إلا وهو تحت قدمي هاتين ، إلا الأمانة ، فإنها مؤداة ولم يزد على ذلك .

    7271 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون : ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء ، لأنهم أميون . فذلك قوله : ( ليس علينا في الأميين سبيل ) ، إلى آخر الآية .

    وقال آخرون في ذلك ، ما : -

    7272 - حدثنا به القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " قال : بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية ، فلما أسلموا تقاضوهم ثمن بيوعهم ، فقالوا : ليس لكم علينا أمانة ، ولا قضاء لكم عندنا ، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه ! قال : وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم ، فقال الله - عز وجل - : " ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " .

    7273 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن صعصعة قال : قلت لابن عباس : إنا نغزو أهل الكتاب فنصيب من ثمارهم ؟ قال : وتقولون كما قال أهل الكتاب : " ليس علينا في الأميين سبيل ! ! [ ص: 524 ]

    7274 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن صعصعة : أن رجلا سأل ابن عباس فقال : إنا نصيب في الغزو أو : [ العذق ] ، الشك من الحسن من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ، فقال ابن عباس : فتقولون ماذا ؟ قال نقول : ليس علينا بذلك بأس ! قال : هذا كما قال أهل الكتاب : " ليس علينا في الأميين سبيل " ! إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم .
    [ ص: 525 ] القول في تأويل قوله ( ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ( 75 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : إن القائلين منهم : " ليس علينا في أموال الأميين من العرب حرج أن نختانهم إياه " يقولون بقيلهم إن الله أحل لنا ذلك ، فلا حرج علينا في خيانتهم إياه ، وترك قضائهم الكذب على الله عامدين الإثم بقيل الكذب على الله ، إنه أحل ذلك لهم . وذلك قوله - عز وجل - : " وهم يعلمون " كما : -

    7275 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فيقول على الله الكذب وهو يعلم يعني الذي يقول منهم - إذا قيل له : ما لك لا تؤدي أمانتك ؟ - : ليس علينا حرج في أموال العرب ، قد أحلها الله لنا !

    7276 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " يعني : ادعاءهم أنهم وجدوا في كتابهم قولهم : " ليس علينا في الأميين سبيل " .
    القول في تأويل قوله ( بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين ( 76 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا إخبار من الله - عز وجل - عمن أدى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاء الله ومراقبته ، عنده . فقال - جل ثناؤه - : ليس الأمر كما يقول [ ص: 526 ] هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود ، من أنه ليس عليهم في أموال الأميين حرج ولا إثم ، ثم قال : بلى ، ولكن من أوفى بعهده واتقى - يعني : ولكن الذي أوفى بعهده ، وذلك وصيته إياهم التي أوصاهم بها في التوراة ، من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاءهم به .

    و " الهاء " في قوله : " من أوفى بعهده " عائدة على اسم " الله " في قوله : " ويقولون على الله الكذب " .

    يقول : بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه ، فآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وصدق به وبما جاء به من الله ، من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها ، وغير ذلك من أمر الله ونهيه " واتقى " يقول : واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به ، وسائر معاصيه التي حرمها عليه ، فاجتنب ذلك مراقبة وعيد الله وخوف عقابه " فإن الله يحب المتقين " يعني : فإن الله يحب الذين يتقونه فيخافون عقابه ويحذرون عذابه ، فيجتنبون ما نهاهم عنه وحرمه عليهم ، ويطيعونه فيما أمرهم به .

    وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول : هو اتقاء الشرك .

    7277 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " بلى من أوفى بعهده واتقى " يقول : اتقى الشرك " فإن الله يحب المتقين " يقول : الذين يتقون الشرك . [ ص: 527 ]

    وقد بينا اختلاف أهل التأويل في ذلك والصواب من القول فيه ، بالأدلة الدالة عليه ، فيما مضى من كتابنا ، بما فيه الكفاية عن إعادته .
    القول في تأويل قوله ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ( 77 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : إن الذين يستبدلون - بتركهم عهد الله الذي عهد إليهم ، ووصيته التي أوصاهم بها في الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه ، باتباع محمد وتصديقه والإقرار به وما جاء به من عند الله - وبأيمانهم الكاذبة التي يستحلون بها ما حرم الله عليهم من أموال الناس التي ائتمنوا عليها " ثمنا " يعني عوضا وبدلا خسيسا من عرض الدنيا وحطامها " أولئك لا خلاق لهم في الآخرة " يقول : فإن الذين يفعلون ذلك لا حظ لهم في خيرات الآخرة ، ولا نصيب لهم من نعيم الجنة وما أعد الله لأهلها فيها دون غيرهم .

    وقد بينا اختلاف أهل التأويل فيما مضى في معنى " الخلاق " ودللنا على [ ص: 528 ] أولى أقوالهم في ذلك بالصواب ، بما فيه الكفاية .

    وأما قوله : " ولا يكلمهم الله " فإنه يعني : ولا يكلمهم الله بما يسرهم " ولا ينظر إليهم " يقول : ولا يعطف عليهم بخير ، مقتا من الله لهم ، كقول القائل لآخر : " انظر إلي نظر الله إليك " بمعنى : تعطف علي تعطف الله عليك بخير ورحمة وكما يقال للرجل : " لا سمع الله لك دعاءك " يراد : لا استجاب الله لك ، والله لا يخفى عليه خافية ، وكما قال الشاعر :



    دعوت الله حتى خفت أن لا يكون الله يسمع ما أقول



    وقوله " ولا يزكيهم " يعني : ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم " ولهم عذاب أليم " يعني : ولهم عذاب موجع .

    واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية ، ومن عني بها .

    فقال بعضهم نزلت في أحبار من أحبار اليهود .

    ذكر من قال ذلك :

    7278 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية : " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " [ ص: 529 ] ، في أبي رافع ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وكعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب .

    وقال آخرون : بل نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له .

    ذكر من قال ذلك :

    7279 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم ، لقي الله وهو عليه غضبان فقال الأشعث بن قيس : في والله كان ذلك : كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني ، فقدمته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألك بينة ؟ قلت : لا ! فقال لليهودي : " احلف . قلت : يا رسول الله ، إذا يحلف فيذهب مالي ! فأنزل الله - عز وجل - : "إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " الآية . [ ص: 530 ]

    7280 - حدثنا مجاهد بن موسى قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا جرير بن حازم ، عن عدي بن عدي ، عن رجاء بن حيوة والعرس أنهما حدثاه ، عن أبيه عدي بن عميرة قال : كان بين امرئ القيس ورجل من حضرموت خصومة ، فارتفعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال للحضرمي : " بينتك ، وإلا فيمينه " . قال : يا رسول الله ، إن حلف ذهب بأرضي ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه ، لقي الله وهو عليه غضبان . فقال امرؤ القيس : يا رسول الله ، فما لمن تركها ، وهو يعلم أنها حق ؟ قال : الجنة . قال : فإني أشهدك أني قد تركتها قال جرير : فكنت مع أيوب السختياني حين سمعنا هذا الحديث من عدي ، فقال أيوب : إن عديا قال في حديث العرس بن عميرة : فنزلت هذه الآية : " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " إلى آخر الآية قال جرير : ولم أحفظ يومئذ من عدي . [ ص: 531 ]

    7281 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال آخرون : إن الأشعث بن قيس اختصم هو ورجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أرض كانت في يده لذلك الرجل ، أخذها لتعززه في الجاهلية ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أقم بينتك . قال الرجل : ليس يشهد لي أحد على الأشعث ! قال : فلك يمينه . فقام الأشعث ليحلف ، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية ، فنكل الأشعث وقال : إني أشهد الله وأشهدكم أن خصمي صادق . فرد إليه أرضه ، وزاده من أرض نفسه زيادة كثيرة ، مخافة أن يبقى في يده شيء من حقه ، فهي لعقب ذلك الرجل بعده . [ ص: 532 ]

    7282 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن شقيق ، عن عبد الله قال : من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر ، لقي الله وهو عليه غضبان ، ثم أنزل الله تصديق ذلك : " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " الآية . ثم إن الأشعث بن قيس خرج إلينا فقال : ما حدثكم أبو عبد الرحمن ؟ فحدثناه بما قال : فقال : صدق ، لفي أنزلت ! كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " شاهداك أو يمينه . فقلت : إذا يحلف ولا يبالي ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر ، لقي الله وهو عليه غضبان " ثم أنزل الله - عز وجل - تصديق ذلك : " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " الآية . [ ص: 533 ]

    وقال آخرون بما : -

    7283 - حدثنا به محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : أخبرني داود بن أبي هند ، عن عامر : أن رجلا أقام سلعته أول النهار ، فلما كان آخره جاء رجل يساومه ، فحلف لقد منعها أول النهار من كذا وكذا ، ولولا المساء ما باعها به ، فأنزل الله - عز وجل - : " إن الذي يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " .

    7284 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن رجل ، عن مجاهد نحوه .

    7285 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ) الآية ، إلى : " ولهم عذاب أليم " أنزلهم الله بمنزلة السحرة .

    7286 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن عمران بن حصين كان يقول : من حلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال أخيه ، فليتبوأ مقعده من النار . فقال له قائل : شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال لهم : إنكم لتجدون ذلك . ثم قرأ هذه الآية : " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " الآية .

    7287 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال : حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة ، عن هشام قال : قال محمد ، عن عمران بن حصين : من حلف على يمين مصبورة فليتبوأ بوجهه مقعده من النار . ثم قرأ هذه الآية كلها : " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #414
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (414)
    صــ 534 إلى صــ 549



    [ ص: 534 ]

    7288 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب قال : إن اليمين الفاجرة من الكبائر . ثم تلا " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " .

    7289 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أن عبد الله بن مسعود كان يقول : كنا نرى ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من الذنب الذي لا يغفر : يمين الصبر ، إذا فجر فيها صاحبها .
    [ ص: 535 ] القول في تأويل قوله ( وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ( 78 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وإن من أهل الكتاب وهم اليهود الذين كانوا حوالي مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عهده ، من بني إسرائيل .

    و " الهاء والميم " في قوله : " منهم " عائدة على " أهل الكتاب " الذين ذكرهم في قوله : " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك " .

    وقوله " لفريقا " يعني : جماعة " يلوون " يعني : يحرفون " ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب " يعني : لتظنوا أن الذي يحرفونه بكلامهم من كتاب الله وتنزيله . يقول الله - عز وجل - : وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم فحرفوه وأحدثوه من كتاب الله ، ويزعمون أن ما لووا به ألسنتهم من التحريف والكذب والباطل فألحقوه في كتاب الله " من عند الله " يقول : مما أنزله الله على أنبيائه " وما هو من عند الله " يقول : وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم فأحدثوه ، مما أنزله الله إلى أحد من أنبيائه ، ولكنه مما أحدثوه من قبل أنفسهم افتراء على الله .

    يقول - عز وجل - : " ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " يعني بذلك : أنهم يتعمدون قيل الكذب على الله ، والشهادة عليه بالباطل ، والإلحاق بكتاب [ ص: 536 ] الله ما ليس منه ، طلبا للرياسة والخسيس من حطام الدنيا .

    وبنحو ما قلنا في معنى " يلوون ألسنتهم بالكتاب " قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7290 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب " قال : يحرفونه .

    7291 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    7292 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب " حتى بلغ : " وهم يعلمون " هم أعداء الله اليهود ، حرفوا كتاب الله ، وابتدعوا فيه ، وزعموا أنه من عند الله .

    7293 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

    7294 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب " وهم اليهود ، كانوا يزيدون في كتاب الله ما لم ينزل الله .

    7295 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب " قال : فريق من أهل الكتاب " يلوون ألسنتهم " وذلك تحريفهم إياه عن موضعه .

    قال أبو جعفر : وأصل " اللي " الفتل والقلب . من قول القائل : " لوى [ ص: 537 ] فلان يد فلان " إذا فتلها وقلبها ، ومنه قول الشاعر :



    لوى يده الله الذي هو غالبه


    يقال منه : " لوى يده ولسانه يلوي ليا " " وما لوى ظهر فلان أحد " إذا لم يصرعه أحد ، ولم يفتل ظهره إنسان " وإنه لألوى بعيد المستمر " إذا كان شديد الخصومة ، صابرا عليها ، لا يغلب فيها ، قال الشاعر :



    فلو كان في ليلى شدا من خصومة للويت أعناق الخصوم الملاويا



    [ ص: 538 ] القول في تأويل قوله ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وما ينبغي لأحد من البشر .

    و " البشر " جمع بني آدم لا واحد له من لفظه مثل : " القوم " و " الخلق " . وقد يكون اسما لواحد " أن يؤتيه الله الكتاب " يقول : أن ينزل الله عليه كتابه " والحكم " يعني : ويعلمه فصل الحكمة " والنبوة " يقول : ويعطيه النبوة " ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله " يعني : ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله ، وقد آتاه الله ما آتاه من الكتاب والحكم والنبوة . ولكن إذا آتاه الله ذلك ، فإنما يدعوهم إلى العلم بالله ، ويحدوهم على معرفة شرائع دينه ، وأن يكونوا رؤساء في المعرفة بأمر الله ونهيه ، وأئمة في طاعته وعبادته ، بكونهم معلمي الناس الكتاب ، وبكونهم دارسيه . [ ص: 539 ]

    وقيل : إن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أتدعونا إلى عبادتك ؟ كما : -

    7296 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك ، كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الربيس : أوذاك تريد منا يا محمد ، وإليه تدعونا ! أو كما قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : معاذ الله أن نعبد غير الله ، أو نأمر بعبادة غيره ! ما بذلك بعثني ، ولا بذلك أمرني أو كما قال . فأنزل الله - عز وجل - في ذلك من قولهم : " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة " الآية إلى قوله : " بعد إذ أنتم مسلمون " .

    7297 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي ، فذكر نحوه .

    7298 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله " [ ص: 540 ] ، يقول : ما كان ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، يأمر عباده أن يتخذوه ربا من دون الله .

    7299 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

    - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم ، بتحريفهم كتاب الله عن موضعه ، فقال الله - عز وجل - : " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله " ثم يأمر الناس بغير ما أنزل الله في كتابه .
    القول في تأويل قوله ( ولكن كونوا ربانيين )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بذلك : " ولكن " يقول لهم : " كونوا ربانيين " فترك " القول " استغناء بدلالة الكلام عليه .

    وأما قوله : " كونوا ربانيين " فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله .

    فقال بعضهم : معناه : كونوا حكماء علماء .

    ذكر من قال ذلك :

    7301 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين : " كونوا ربانيين " قال : حكماء علماء .

    7302 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين : " كونوا ربانيين " قال : حكماء علماء . [ ص: 541 ]

    7303 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن أبي رزين مثله .

    7304 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي رزين : " ولكن كونوا ربانيين " حكماء علماء .

    7305 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : " كونوا ربانيين " قال : كونوا فقهاء علماء .

    7306 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " كونوا ربانيين " قال : فقهاء .

    7307 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    7308 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال أخبرني القاسم ، عن مجاهد قوله : " ولكن كونوا ربانيين " قال : فقهاء .

    7309 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولكن كونوا ربانيين " قال : كونوا فقهاء علماء .

    7310 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن منصور بن المعتمر ، عن أبي رزين في قوله : " كونوا ربانيين " قال : علماء حكماء قال معمر : قال قتادة .

    7311 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " كونوا ربانيين " أما " الربانيون " فالحكماء الفقهاء .

    7312 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرنا سفيان ، عن [ ص: 542 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : " الربانيون " الفقهاء العلماء ، وهم فوق الأحبار .

    7313 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ولكن كونوا ربانيين " يقول : كونوا حكماء فقهاء .

    7314 - حدثت عن المنجاب قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن يحيى بن عقيل في قوله : ( الربانيون والأحبار ) [ سورة المائدة : 63 ] ، قال : الفقهاء العلماء .

    7315 - حدثت عن المنجاب قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس مثله .

    7316 - حدثني ابن سنان القزاز قال : حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " كونوا ربانيين " قال : كونوا حكماء فقهاء .

    7317 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " كونوا ربانيين " يقول : كونوا فقهاء علماء .

    وقال آخرون : بل هم الحكماء الأتقياء .

    ذكر من قال ذلك :

    7318 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير قوله : " كونوا ربانيين " قال : حكماء أتقياء . [ ص: 543 ]

    وقال آخرون : بل هم ولاة الناس وقادتهم .

    ذكر من قال ذلك :

    7319 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : " كونوا ربانيين " قال : الربانيون : الذين يربون الناس ، ولاة هذا الأمر ، يربونهم : يلونهم . وقرأ : ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار ) [ سورة المائدة : 63 ] ، قال : الربانيون : الولاة ، والأحبار العلماء .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال عندي بالصواب في " الربانيين " أنهم جمع " رباني " وأن " الرباني " المنسوب إلى " الربان " الذي يرب الناس ، وهو الذي يصلح أمورهم ، و " يربها " ويقوم بها ، ومنه قول علقمة بن عبدة :



    وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي وقبلك ربتني ، فضعت ، ربوب



    يعني بقوله : " ربتني " : ولي أمري والقيام به قبلك من يربه ويصلحه ، فلم يصلحوه ، ولكنهم أضاعوني فضعت .

    يقال منه : " رب أمري فلان ، فهو يربه ربا ، وهو رابه " . فإذا أريد به المبالغة في مدحه قيل : " هو ربان " كما يقال : " هو نعسان " من قولهم : " نعس ينعس " . وأكثر ما يجيء من الأسماء على " فعلان " ما كان من الأفعال ماضيه على " فعل " مثل قولهم : " هو سكران ، وعطشان ، وريان " من " سكر يسكر ، وعطش يعطش ، وروي يروى " . وقد يجيء مما كان ماضيه على " فعل يفعل " نحو ما قلنا من " نعس ينعس " و " رب يرب " .

    فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا وكان " الربان " ما ذكرنا ، [ ص: 544 ] و " الرباني " هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفت وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين ، يرب أمور الناس ، بتعليمه إياهم الخير ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم وكان كذلك الحكيم التقي لله ، والوالي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وليه المقسطون من المصلحين أمور الخلق ، بالقيام فيهم بما فيه صلاح عاجلهم وآجلهم ، وعائدة النفع عليهم في دينهم ، ودنياهم كانوا جميعا يستحقون أن [ يكونوا ] ممن دخل في قوله - عز وجل - : " ولكن كونوا ربانيين " .

    ف " الربانيون " إذا ، هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا . ولذلك قال مجاهد : " وهم فوق الأحبار " لأن " الأحبار " هم العلماء ، و " الرباني " الجامع إلى العلم والفقه ، البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية ، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم .
    القول في تأويل قوله ( بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ( 79 ) )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز وبعض البصريين : ( بما كنتم تعلمون ) بفتح " التاء " وتخفيف " اللام " يعني : بعلمكم الكتاب ودراستكم إياه وقراءتكم . [ ص: 545 ]

    واعتلوا لاختيارهم قراءة ذلك كذلك ، بأن الصواب كذلك ، لو كان التشديد في " اللام " وضم " التاء " لكان الصواب في : " تدرسون " بضم " التاء " وتشديد " الراء " .

    وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : ( بما كنتم تعلمون الكتاب ) بضم " التاء " من " تعلمون " وتشديد " اللام " بمعنى : بتعليمكم الناس الكتاب ودراستكم إياه .

    واعتلوا لاختيارهم ذلك ، بأن من وصفهم بالتعليم ، فقد وصفهم بالعلم ، إذ لا يعلمون إلا بعد علمهم بما يعلمون . قالوا : ولا موصوف بأنه " يعلم " إلا وهو موصوف بأنه " عالم " . قالوا : فأما الموصوف بأنه " عالم " فغير موصوف بأنه معلم غيره . قالوا : فأولى القراءتين بالصواب أبلغهما في مدح القوم ، وذلك وصفهم بأنهم كانوا يعلمون الناس الكتاب ، كما : -

    7320 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن ابن عيينة ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد أنه قرأ : " بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون " مخففة بنصب " التاء " وقال ابن عيينة : ما علموه حتى علموه !

    قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك ، قراءة من قرأه بضم " التاء " وتشديد " اللام " . لأن الله - عز وجل - وصف القوم بأنهم أهل عماد للناس في دينهم ودنياهم ، وأهل إصلاح لهم ولأمورهم وتربية .

    يقول - جل ثناؤه - : " ولكن كونوا ربانيين " على ما بينا قبل من معنى " الرباني " [ ص: 546 ] ثم أخبر تعالى ذكره عنهم أنهم صاروا أهل إصلاح للناس وتربية لهم بتعليمهم إياهم كتاب ربهم .

    و " دراستهم " إياه : تلاوته .

    وقد قيل : " دراستهم " الفقه .

    وأشبه التأويلين بالدراسة ما قلنا : من تلاوة الكتاب ، لأنه عطف على قوله : " تعلمون الكتاب " " والكتاب " هو القرآن ، فلأن تكون الدراسة معنيا بها دراسة القرآن ، أولى من أن تكون معنيا بها دراسة الفقه الذي لم يجر له ذكر .

    ذكر من قال ذلك :

    7321 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : قال يحيى بن آدم قال : أبو زكريا : كان عاصم يقرؤها : ( بما كنتم تعلمون الكتاب ) ، قال : القرآن ( وبما كنتم تدرسون ) ، قال : الفقه .

    فمعنى الآية : ولكن يقول لهم : كونوا ، أيها الناس ، سادة الناس ، وقادتهم في أمر دينهم ودنياهم ، ربانيين بتعليمكم إياهم كتاب الله وما فيه من حلال وحرام ، وفرض وندب ، وسائر ما حواه من معاني أمور دينهم ، وبتلاوتكم إياه ودراستكموه .
    [ ص: 547 ] القول في تأويل قوله ( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ( 80 ) )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : " ولا يأمركم " .

    فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة : ( ولا يأمركم ) ، على وجه الابتداء من الله بالخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يأمركم ، أيها الناس ، أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا . واستشهد قارئو ذلك كذلك بقراءة ذكروها عن ابن مسعود أنه كان يقرؤها ، وهي : ( " ولن يأمركم " ) ، فاستدلوا بدخول " لن " على انقطاع الكلام عما قبله ، وابتداء خبر مستأنف . قالوا : فلما صير مكان " لن " في قراءتنا " لا " وجبت قراءته بالرفع .

    وقرأه بعض الكوفيين والبصريين : ( ولا يأمركم ) ، بنصب " الراء " ، عطفا على قوله : " ثم يقول للناس " . وكان تأويله عندهم : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب ، ثم يقول للناس ، ولا أن يأمركم بمعنى : ولا كان له أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا .

    قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك : " ولا يأمركم " بالنصب على الاتصال بالذي قبله ، بتأويل : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولا أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا . لأن الآية نزلت في سبب القوم الذين قالوا لرسول [ ص: 548 ] الله - صلى الله عليه وسلم - : " أتريد أن نعبدك " ؟ فأخبرهم الله - جل ثناؤه - أنه ليس لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه ، ولا إلى اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا . ولكن الذي له : أن يدعوهم إلى أن يكونوا ربانيين .

    فأما الذي ادعى من قرأ ذلك رفعا ، أنه في قراءة عبد الله : " ولن يأمركم " استشهادا لصحة قراءته بالرفع ، فذلك خبر غير صحيح سنده ، وإنما هو خبر رواه حجاج ، عن هارون الأعور أن ذلك في قراءة عبد الله كذلك . ولو كان ذلك خبرا صحيحا سنده ، لم يكن فيه لمحتج حجة . لأن ما كان على صحته من القراءة من الكتاب الذي جاء به المسلمون وراثة عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، لا يجوز تركه لتأويل على قراءة أضيفت إلى بعض الصحابة ، بنقل من يجوز في نقله الخطأ والسهو . [ ص: 549 ]

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : وما كان للنبي أن يأمركم ، أيها الناس ، " أن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا " يعني بذلك آلهة يعبدون من دون الله ، كما ليس له أن يقول لهم : كونوا عبادا لي من دون الله .

    ثم قال - جل ثناؤه - نافيا عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر عباده بذلك : " أيأمركم بالكفر " أيها الناس ، نبيكم ، بجحود وحدانية الله " بعد إذ أنتم مسلمون " يعني : بعد إذ أنتم له منقادون بالطاعة ، متذللون له بالعبودة أي أن ذلك غير كائن منه أبدا . وقد : -

    7322 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : " ولا يأمركم " النبي - صلى الله عليه وسلم - " أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا " .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #415
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (415)
    صــ 550 إلى صــ 565




    [ ص: 550 ] القول في تأويل قوله ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : واذكروا ، يا أهل الكتاب ، " إذ أخذ الله ميثاق النبيين " يعني : حين أخذ الله ميثاق النبيين " وميثاقهم " ما وثقوا به على أنفسهم طاعة الله فيما أمرهم ونهاهم .

    وقد بينا أصل " الميثاق " باختلاف أهل التأويل فيه ، بما فيه الكفاية .

    : " لما آتيتكم من كتاب وحكمة " فاختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق ( لما آتيتكم ) بفتح " اللام " من " لما " إلا أنهم اختلفوا في قراءة : " آتيتكم " .

    فقرأه بعضهم : " آتيتكم " على التوحيد .

    وقرأه آخرون : ( آتيناكم ) على الجمع .

    ثم اختلف أهل العربية إذا قرئ ذلك كذلك .

    فقال بعض نحويي البصرة : " اللام " التي مع " ما " في أول الكلام " لام الابتداء " نحو قول القائل : " لزيد أفضل منك " لأن " ما " اسم ، والذي بعدها صلة لها ، " واللام " التي في : " لتؤمنن به ولتنصرنه " لام القسم ، كأنه قال : والله لتؤمنن به يؤكد في أول الكلام وفي آخره ، كما يقال : " أما والله أن لو جئتني [ ص: 551 ] لكان كذا وكذا " وقد يستغنى عنها . فوكد في : " لتؤمنن به " باللام في آخر الكلام . وقد يستغنى عنها ، ويجعل خبر " ما آتيتكم من كتاب وحكمة " " لتؤمنن به " . مثل : " لعبد الله والله لتأتينه " . قال : وإن شئت جعلت خبر " ما " " من كتاب " يريد : لما آتيتكم ، كتاب وحكمة وتكون " من " زائدة .

    وخطأ بعض نحويي الكوفيين ذلك كله وقال : " اللام " التي تدخل في أوائل الجزاء ، تجاب بجوابات الأيمان ، يقال : " لمن قام لآتينه " " ولمن قام ما أحسن " فإذا وقع في جوابها " ما " و " لا " علم أن اللام ليست بتوكيد للأولى ، لأنه يوضع موضعها " ما " و " لا " فتكون كالأولى ، وهي جواب للأولى . قال : وأما قوله : " لما آتيتكم من كتاب وحكمة " بمعنى إسقاط " من " غلط . لأن " من " التي تدخل وتخرج ، لا تقع مواقع الأسماء ، قال : ولا تقع في الخبر أيضا ، إنما تقع في الجحد والاستفهام والجزاء .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل هذه الآية - على قراءة من قرأ ذلك بفتح " اللام " - بالصواب : أن يكون قوله : " لما " بمعنى " لمهما " وأن تكون " ما " حرف جزاء أدخلت عليها " اللام " وصير الفعل معها على " فعل " ثم [ ص: 552 ] أجيبت بما تجاب به الأيمان ، فصارت " اللام " الأولى يمينا ، إذ تلقيت بجواب اليمين .

    وقرأ ذلك آخرون : ( لما آتيتكم ) " بكسر " اللام " من " لما " وذلك قراءة جماعة من أهل الكوفة .

    ثم اختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله .

    فقال بعضهم : معناه إذا قرئ كذلك : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين للذي آتيتكم ف " ما " على هذه القراءة . بمعنى " الذي " عندهم . وكان تأويل الكلام : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ثم " جاءكم رسول " يعني : ثم إن جاءكم رسول ، يعني : ذكر محمد في التوراة " لتؤمنن به " أي : ليكونن إيمانكم به ، للذي عندكم في التوراة من ذكره .

    وقال آخرون منهم : تأويل ذلك إذا قرئ بكسر " اللام " من " لما " : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ، للذي آتاهم من الحكمة . ثم جعل قوله : " لتؤمنن به " من الأخذ أخذ الميثاق . كما يقال في الكلام : " أخذت ميثاقك لتفعلن " . لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف . فكان تأويل الكلام عند قائل هذا القول : وإذ استحلف الله النبيين للذي آتاهم من كتاب وحكمة ، متى جاءهم رسول مصدق لما معهم ، ليؤمنن به ولينصرنه .

    قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم " بفتح " اللام " . لأن الله - عز وجل - أخذ ميثاق جميع الأنبياء بتصديق كل رسول له ابتعثه إلى خلقه فيما ابتعثه به إليهم ، كان ممن آتاه كتابا أو ممن لم يؤته كتابا . وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبياء الله - عز وجل - ورسله ، بأنه كان ممن أبيح له التكذيب بأحد من رسله . فإذا كان ذلك [ ص: 553 ] كذلك ، وكان معلوما أن منهم من أنزل عليه الكتاب ، وأن منهم من لم ينزل عليه الكتاب كان بينا أن قراءة من قرأ ذلك : " لما آتيتكم " بكسر " اللام " بمعنى : من أجل الذي آتيتكم من كتاب ، لا وجه له مفهوم إلا على تأويل بعيد ، وانتزاع عميق .

    ثم اختلف أهل التأويل فيمن أخذ ميثاقه بالإيمان بمن جاءه من رسل الله مصدقا لما معه .

    فقال بعضهم : إنما أخذ الله بذلك ميثاق أهل الكتاب دون أنبيائهم . واستشهدوا لصحة قولهم بذلك بقوله : " لتؤمنن به ولتنصرنه " . قالوا : فإنما أمر الذين أرسلت إليهم الرسل من الأمم بالإيمان برسل الله ونصرتها على من خالفها . وأما الرسل ، فإنه لا وجه لأمرها بنصرة أحد ، لأنها المحتاجة إلى المعونة على من خالفها من كفرة بني آدم . فأما هي ، فإنها لا تعين الكفرة على كفرها ولا تنصرها . قالوا : وإذا لم يكن غيرها وغير الأمم الكافرة ، فمن الذي ينصر النبي ، فيؤخذ ميثاقه بنصرته ؟

    ذكر من قال ذلك :

    7323 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة " قال : هي خطأ من الكاتب ، وهي في قراءة ابن مسعود : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " . [ ص: 554 ]

    7324 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    7325 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين " يقول : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، وكذلك كان يقرؤها الربيع : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " إنما هي أهل الكتاب . قال : وكذلك كان يقرؤها أبي بن كعب . قال الربيع : ألا ترى أنه يقول : " ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ؟ يقول : لتؤمنن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولتنصرنه . قال : هم أهل الكتاب .

    وقال آخرون : بل الذين أخذ ميثاقهم بذلك ، الأنبياء دون أممها .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 555 ]

    7326 - حدثني المثنى وأحمد بن حازم قالا حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم .

    7327 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين " أن يصدق بعضهم بعضا .

    7328 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم " الآية ، قال : أخذ الله ميثاق الأول من الأنبياء ، ليصدقن وليؤمنن بما جاء به الآخر منهم .

    7329 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي بن أبي طالب قال : لم يبعث الله - عز وجل - نبيا ، آدم فمن بعده - إلا أخذ عليه العهد في محمد : لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه ، فقال : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة " الآية .

    7330 - حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب " الآية : هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يصدق بعضهم بعضا ، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته ، فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم ، وأخذ عليهم - فيما بلغتهم رسلهم - أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويصدقوه وينصروه . [ ص: 556 ]

    7331 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة " الآية . قال : لم يبعث الله - عز وجل - نبيا قط من لدن نوح ، إلا أخذ ميثاقه ليؤمنن بمحمد ولينصرنه إن خرج وهو حي ، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به ولينصرنه إن خرج وهم أحياء .

    7332 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد بن منصور قال : سألت الحسن عن قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة " الآية كلها ، قال : أخذ الله ميثاق النبيين : ليبلغن آخركم أولكم ، ولا تختلفوا .

    وقال آخرون : معنى ذلك : أنه أخذ ميثاق النبيين وأممهم فاجتزأ بذكر الأنبياء عن ذكر أممها ، لأن في ذكر أخذ الميثاق على المتبوع ، دلالة على أخذه على التباع ، لأن الأمم هم تباع الأنبياء .

    ذكر من قال ذلك :

    7333 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ثم ذكر ما أخذ عليهم - يعني على أهل الكتاب - وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه - يعني بتصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - - إذا جاءهم ، وإقرارهم به على أنفسهم . فقال : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة " إلى آخر الآية .

    7334 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد [ ص: 557 ] بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس مثله .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : الخبر عن أخذ الله الميثاق من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضا ، وأخذ الأنبياء على أممها وتباعها الميثاق بنحو الذي أخذ عليها ربها من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به لأن الأنبياء عليهم السلام بذلك أرسلت إلى أممها . ولم يدع أحد ممن صدق المرسلين ، أن نبيا أرسل إلى أمة بتكذيب أحد من أنبياء الله - عز وجل - وحججه في عباده ، بل كلها - وإن كذب بعض الأمم بعض أنبياء الله ، بجحودها نبوته - مقرة بأن من ثبتت صحة نبوته ، فعليها الدينونة بتصديقه . فذلك ميثاق مقر به جميعهم .

    ولا معنى لقول من زعم أن الميثاق إنما أخذ على الأمم دون الأنبياء . لأن الله - عز وجل - قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبيين ، فسواء قال قائل : " لم يأخذ ذلك منها ربها " أو قال : " لم يأمرها ببلاغ ما أرسلت " وقد نص الله - عز وجل - أنه أمرها بتبليغه ، لأنهما جميعا خبران من الله عنها : أحدهما أنه أخذ منها ، والآخر منهما أنه أمرها . فإن جاز الشك في أحدهما ، جاز في الآخر .

    وأما ما استشهد به الربيع بن أنس ، على أن المعني بذلك أهل الكتاب من قوله : " لتؤمنن به ولتنصرنه " فإن ذلك غير شاهد على صحة ما قال . لأن الأنبياء قد أمر بعضها بتصديق بعض ، وتصديق بعضها بعضا ، نصرة من بعضها بعضا .

    تم اختلفوا في الذين عنوا بقوله : " ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه " .

    فقال بعضهم : الذين عنوا بذلك ، هم الأنبياء ، أخذت مواثيقهم أن يصدق [ ص: 558 ] بعضهم بعضا وأن ينصروه ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله .

    وقال آخرون : هم أهل الكتاب ، أمروا بتصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا بعثه الله وبنصرته ، وأخذ ميثاقهم في كتبهم بذلك . وقد ذكرنا الرواية بذلك أيضا عمن قاله .

    وقال آخرون ممن قال : الذين عنوا بأخذ الله ميثاقهم منهم في هذه الآية هم الأنبياء قوله : " ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم " معني به أهل الكتاب .

    ذكر من قال ذلك :

    7335 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : أخبرنا ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، قال أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا ، ثم قال : " ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه " قال : فهذه الآية لأهل الكتاب ، أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بمحمد ويصدقوه .

    7336 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه قال : قال قتادة : أخذ الله على النبيين ميثاقهم : أن يصدق بعضهم بعضا ، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالته إلى عباده ، فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم ، وأخذوا مواثيق أهل الكتاب - في كتابهم ، فيما بلغتهم رسلهم - : أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويصدقوه وينصروه .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب عندنا في تأويل هذه الآية : أن جميع ذلك خبر من الله - عز وجل - عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم به ، وألزمهم دعاء أممها [ ص: 559 ] إليه ، والإقرار به . لأن ابتداء الآية خبر من الله - عز وجل - عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم ، ثم وصف الذي أخذ به ميثاقهم فقال : هو كذا وهو كذا .

    وإنما قلنا إن ما أخبر الله أنه أخذ به مواثيق أنبيائه من ذلك ، قد أخذت الأنبياء مواثيق أممها به ، لأنها أرسلت لتدعو عباد الله إلى الدينونة بما أمرت بالدينونة به في أنفسها ، من تصديق رسل الله ، على ما قدمنا البيان قبل .

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية : واذكروا يا معشر أهل الكتاب ، إذ أخذ الله ميثاق النبيين لمهما آتيتكم ، أيها النبيون ، من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول من عندي مصدق لما معكم ، لتؤمنن به يقول : لتصدقنه ولتنصرنه .

    وقد قال السدي في ذلك بما : -

    7337 - حدثنا به محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " لما آتيتكم " يقول لليهود : أخذت ميثاق النبيين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الذي ذكر في الكتاب عندكم .

    فتأويل ذلك على قول السدي الذي ذكرناه : واذكروا ، يا معشر أهل الكتاب ، إذ أخذ الله ميثاق النبيين بما آتيتكم ، أيها اليهود ، من كتاب وحكمة .

    وهذا الذي قاله السدي كان تأويلا له وجه ، لو كان التنزيل : " بما آتيتكم " ولكن التنزيل باللام " لما آتيتكم " . وغير جائز في لغة أحد من العرب أن يقال : " أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم " بمعنى : بما آتيتكم .
    [ ص: 560 ] القول في تأويل قوله ( قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بما ذكر ، فقال لهم تعالى ذكره : أأقررتم بالميثاق الذي واثقتموني عليه : من أنكم مهما أتاكم رسول من عندي مصدق لما معكم " لتؤمنن به ولتنصرنه " " وأخذتم على ذلك إصري " ؟ يقول : وأخذتم على ما واثقتموني عليه من الإيمان بالرسل التي تأتيكم بتصديق ما معكم من عندي والقيام بنصرتهم " إصري " . يعني عهدي ووصيتي ، وقبلتم في ذلك مني ورضيتموه .

    و " الأخذ " : هو القبول - في هذا الموضع - والرضى ، من قولهم : " أخذ الوالي عليه البيعة " بمعنى : بايعه وقبل ولايته ورضي بها .

    وقد بينا معنى " الإصر " باختلاف المختلفين فيه ، والصحيح من القول في ذلك فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

    وحذفت " الفاء " من قوله : " قال أأقررتم " لأنه ابتداء كلام ، على نحو ما قد بينا في نظائره فيما مضى . [ ص: 561 ]

    وأما قوله : " قالوا أقررنا " فإنه يعني به : قال النبيون الذين أخذ الله ميثاقهم بما ذكر في هذه الآية : أقررنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدقين لما معنا من كتبك ، وبنصرتهم .
    القول في تأويل قوله ( قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ( 81 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : قال الله : فاشهدوا ، أيها النبيون ، بما أخذت به ميثاقكم من الإيمان بتصديق رسلي التي تأتيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والحكمة ، ونصرتهم على أنفسكم وعلى أتباعكم من الأمم إذ أنتم أخذتم ميثاقهم على ذلك ، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم بذلك ، كما : -

    7338 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي بن أبي طالب في قوله : " قال فاشهدوا " يقول : فاشهدوا على أممكم بذلك " وأنا معكم من الشاهدين " عليكم وعليهم .
    [ ص: 562 ] القول في تأويل قوله ( فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ( 82 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : فمن أعرض عن الإيمان برسلي الذين أرسلتهم بتصديق ما كان مع أنبيائي من الكتب والحكمة ، وعن نصرتهم ، فأدبر ولم يؤمن بذلك ، ولم ينصر ، ونكث عهده وميثاقه " بعد ذلك " يعني بعد العهد والميثاق الذي أخذه الله عليه " فأولئك هم الفاسقون " يعني بذلك : أن المتولين عن الإيمان بالرسل الذين وصف أمرهم ، ونصرتهم بعد العهد والميثاق اللذين أخذا عليهم بذلك " هم الفاسقون " يعني بذلك : الخارجون من دين الله وطاعة ربهم ،

    كما : -

    7339 - حدثنا المثنى قال حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي بن أبي طالب : فمن تولى عنك ، يا محمد ، بعد هذا العهد من جميع الأمم " فأولئك هم الفاسقون " هم العاصون في الكفر .

    7340 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قال أبو جعفر : يعني الرازي " فمن تولى بعد ذلك " يقول : بعد العهد والميثاق الذي أخذ عليهم " فأولئك هم الفاسقون " . [ ص: 563 ]

    7341 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، [ عن أبيه ] ، عن الربيع مثله .

    قال أبو جعفر : وهاتان الآيتان ، وإن كان مخرج الخبر فيهما من الله - عز وجل - بما أخبر أنه أشهد وأخذ به ميثاق من أخذ ميثاقه به ، عن أنبيائه ورسله ، فإنه مقصود به إخبار من كان حوالي مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يهود بني إسرائيل أيام حياته - صلى الله عليه وسلم - ، عما لله عليهم من العهد في الإيمان بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعني [ به ] تذكيرهم ما كان الله آخذا على آبائهم وأسلافهم من المواثيق والعهود ، وما كانت أنبياء الله عرفتهم وتقدمت إليهم في تصديقه واتباعه ونصرته على من خالفه وكذبه وتعريفهم ما في كتب الله ، التي أنزلها إلى أنبيائه التي ابتعثها إليهم ، من صفته وعلامته .
    القول في تأويل قوله ( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ( 83 ) )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك :

    فقرأته عامة قرأة الحجاز من مكة والمدينة ، وقرأة الكوفة : ( " أفغير دين الله تبغون " ) ، ( وإليه ترجعون ) على وجه الخطاب . [ ص: 564 ]

    وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز ( أفغير دين الله يبغون ) ( وإليه يرجعون ) بالياء كلتيهما ، على وجه الخبر عن الغائب .

    وقرأ ذلك بعض أهل البصرة : ( أفغير دين الله يبغون ) ، على وجه الخبر عن الغائب ، ( وإليه ترجعون ) ، بالتاء على وجه المخاطبة .

    قال أبو جعفر : وأولى ذلك بالصواب ، قراءة من قرأ : " أفغير دين الله تبغون " على وجه الخطاب " وإليه ترجعون " بالتاء . لأن الآية التي قبلها خطاب لهم ، فإتباع الخطاب نظيره ، أولى من صرف الكلام إلى غير نظيره . وإن كان الوجه الآخر جائزا ، لما قد ذكرنا فيما مضى قبل : من أن الحكاية يخرج الكلام معها أحيانا على الخطاب كله ، وأحيانا على وجه الخبر عن الغائب ، وأحيانا بعضه على الخطاب ، وبعضه على الغيبة ، فقوله : " تبغون " و " إليه ترجعون " في هذه الآية ، من ذلك .

    وتأويل الكلام : يا معشر أهل الكتاب " أفغير دين الله تبغون " يقول : أفغير طاعة الله تلتمسون وتريدون ، " وله أسلم من في السماوات والأرض " يقول : وله خشع من في السموات والأرض ، فخضع له بالعبودة ، وأقر له بإفراد الربوبية ، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية " طوعا وكرها " يقول أسلم لله طائعا من كان إسلامه منهم له طائعا ، وذلك كالملائكة والأنبياء والمرسلين ، [ ص: 565 ] فإنهم أسلموا لله طائعين " وكرها " من كان منهم كارها .

    واختلف أهل التأويل في معنى إسلام الكاره الإسلام وصفته .

    فقال بعضهم : إسلامه ، إقراره بأن الله خالقه وربه ، وإن أشرك معه في العبادة غيره .

    ذكر من قال ذلك :

    7342 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : " وله أسلم من في السموات والأرض " قال : هو كقوله : ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ) [ سورة الزمر : 38 ] .

    7343 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد مثله .

    7344 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : " وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون " قال : كل آدمي قد أقر على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده . فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها ، ومن أخلص له العبودة ، فهو الذي أسلم طوعا .

    وقال آخرون : بل إسلام الكاره منهم ، كان حين أخذ منه الميثاق فأقر به .

    ذكر من قال ذلك :

    7345 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها " قال : حين أخذ الميثاق .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #416
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (416)
    صــ 566 إلى صــ 579




    [ ص: 566 ]

    وقال آخرون ; عنى بإسلام الكاره منهم ، سجود ظله .

    ذكر من قال ذلك :

    7346 - حدثنا سوار بن عبد الله قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن ليث ، عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها " قال : الطائع المؤمن و " كرها " ظل الكافر .

    7347 - حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " طوعا وكرها " قال : سجود المؤمن طائعا ، وسجود الكافر وهو كاره .

    7348 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كرها " قال : سجود المؤمن طائعا ، وسجود ظل الكافر وهو كاره .

    7349 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : سجود وجهه طائعا ، وظله كارها .

    وقال آخرون : بل إسلامه بقلبه في مشيئة الله ، واستقادته لأمره وإن أنكر ألوهته بلسانه .

    ذكر من قال ذلك :

    7350 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر : " وله أسلم من في السموات والأرض " قال : استقاد كلهم له . [ ص: 567 ]

    وقال آخرون : عنى بذلك إسلام من أسلم من الناس كرها ، حذر السيف على نفسه .

    ذكر من قال ذلك :

    7351 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها " الآية كلها ، فقال : أكره أقوام على الإسلام ، وجاء أقوام طائعين .

    7352 - حدثني الحسن بن قزعة الباهلي قال : حدثنا روح بن عطاء ، عن مطر الوراق في قول الله - عز وجل - : " وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون " قال : الملائكة طوعا ، والأنصار طوعا ، وبنو سليم وعبد القيس طوعا ، والناس كلهم كرها .

    وقال آخرون معنى ذلك : أن أهل الإيمان أسلموا طوعا ، وأن الكافر أسلم في حال المعاينة ، حين لا ينفعه إسلام ، كرها .

    ذكر من قال ذلك :

    7353 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " أفغير دين الله تبغون " الآية ، فأما المؤمن فأسلم طائعا فنفعه ذلك ، وقبل منه ، وأما الكافر فأسلم كارها حين لا ينفعه ذلك ، ولا يقبل منه .

    7354 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها " قال : أما المؤمن فأسلم طائعا ، وأما الكافر فأسلم حين رأى بأس الله ، ( فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ) [ سورة غافر : 85 ] . [ ص: 568 ]

    وقال آخرون : معنى ذلك : أي : عبادة الخلق لله - عز وجل - .

    ذكر من قال ذلك :

    7355 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " أفغير دين الله تبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها " قال : عبادتهم لي أجمعين طوعا وكرها ، وهو قوله : ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) [ سورة الرعد : 15 ] .

    وأما قوله : " وإليه ترجعون " فإنه يعني : " وإليه " يا معشر من يبتغي غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى وسائر الناس " ترجعون " يقول : إليه تصيرون بعد مماتكم ، فمجازيكم بأعمالكم ، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته .

    وهذا من الله - عز وجل - تحذير خلقه أن يرجع إليه أحد منهم فيصير إليه بعد وفاته على غير ملة الإسلام .
    [ ص: 569 ] القول في تأويل قوله ( قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ( 84 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " أفغير دين الله تبغون " يا معشر اليهود ، " وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون " فإن ابتغوا غير دين الله ، يا محمد ، فقل لهم : " آمنا بالله " فترك ذكر قوله : " فإن قالوا : نعم " أو ذكر قوله : " فإن ابتغوا غير دين الله " لدلالة ما ظهر من الكلام عليه .

    وقوله : " قل آمنا بالله " يعني به : قل لهم ، يا محمد ، : صدقنا بالله أنه ربنا وإلهنا ، لا إله غيره ، ولا نعبد أحدا سواه " وما أنزل علينا " يقول : وقل : وصدقنا أيضا بما أنزل علينا من وحيه وتنزيله ، فأقررنا به " وما أنزل على إبراهيم " يقول : وصدقنا أيضا بما أنزل على إبراهيم خليل الله ، وعلى ابنيه إسماعيل وإسحاق ، وابن ابنه* يعقوب وبما أنزل على " الأسباط " وهم ولد يعقوب الاثنا عشر ، وقد بينا أسماءهم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . " وما أوتي موسى وعيسى " يقول : وصدقنا أيضا مع ذلك بالذي أنزل الله على موسى وعيسى من الكتب والوحي ، وبما أنزل على النبيين من عنده .

    والذي آتى الله موسى وعيسى مما أمر الله - عز وجل - محمدا بتصديقهما فيه ، والإيمان به التوراة التي آتاها موسى ، والإنجيل الذي أتاه عيسى .

    " لا نفرق بين أحد منهم " يقول : لا نصدق بعضهم ونكذب بعضهم ، [ ص: 570 ] ولا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم ، كما كفرت اليهود والنصارى ببعض أنبياء الله وصدقت بعضا ، ولكنا نؤمن بجميعهم ، ونصدقهم " ونحن له مسلمون " . يعني : ونحن ندين لله بالإسلام لا ندين غيره ، بل نتبرأ إليه من كل دين سواه ، ومن كل ملة غيره .

    ويعني بقوله : " ونحن له مسلمون " . ونحن له منقادون بالطاعة ، متذللون بالعبودة ، مقرون له بالألوهة والربوبية ، وأنه لا إله غيره . وقد ذكرنا الرواية بمعنى ما قلنا في ذلك فيما مضى ، وكرهنا إعادته .
    القول في تأويل قوله ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ( 85 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : ومن يطلب دينا غير دين الإسلام ليدين به ، فلن يقبل الله منه " وهو في الآخرة من الخاسرين " يقول : من الباخسين أنفسهم حظوظها من رحمة الله - عز وجل - .

    وذكر أن أهل كل ملة ادعوا أنهم هم المسلمون ، لما نزلت هذه الآية ، فأمرهم الله بالحج إن كانوا صادقين ، لأن من سنة الإسلام الحج ، فامتنعوا ، فأدحض الله بذلك حجتهم . [ ص: 571 ]

    ذكر الخبر بذلك :

    7356 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح قال : زعم عكرمة : " ومن يبتغ غير الإسلام دينا " فقالت الملل : نحن المسلمون ! فأنزل الله - عز وجل - : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) [ سورة آل عمران : 97 ] ، فحج المسلمون ، وقعد الكفار .

    7357 - حدثني المثنى قال : حدثنا القعنبي قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن عكرمة قال : " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه " قالت اليهود : فنحن المسلمون ! فأنزل الله - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - يحجهم أن : ( لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) .

    7358 - حدثني يونس قال : أخبرنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن عكرمة قال : لما نزلت : " ومن يبتغ غير الإسلام دينا " إلى آخر الآية ، قالت اليهود : فنحن مسلمون ! قال الله - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : قل لهم إن : ( لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر ) من أهل الملل ( فإن الله غني عن العالمين ) .

    وقال آخرون : في هذه الآية بما : -

    7359 - حدثنا به المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني [ ص: 572 ] معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ) إلى قوله : ( ولا هم يحزنون ) [ سورة البقرة : 62 ] ، فأنزل الله - عز وجل - بعد هذا : " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه " .
    القول في تأويل قوله ( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ( 87 ) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ( 88 ) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ( 89 ) )

    اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية ، وفيمن نزلت .

    فقال بعضهم : نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري ، وكان مسلما فارتد بعد إسلامه .

    ذكر من قال ذلك :

    7360 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع البصري قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ، ثم ندم فأرسل إلى قومه : أرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هل لي من توبة ؟ قال : فنزلت : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " إلى قوله [ ص: 573 ] : " وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " فأرسل إليه قومه فأسلم .

    7361 - حدثني ابن المثنى قال : حدثني عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن عكرمة بنحوه ، ولم يرفعه إلى ابن عباس إلا أنه قال : فكتب إليه قومه ، فقال : ما كذبني قومي ! فرجع .

    7362 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا حكيم بن جميع ، عن علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ارتد رجل من الأنصار ، فذكر نحوه .

    7363 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان قال : أخبرنا حميد الأعرج ، عن مجاهد قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه ، فأنزل الله - عز وجل - فيه القرآن : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " إلى " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه ، فقال الحارث : إنك والله ما علمت لصدوق ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصدق منك ، وإن الله - عز وجل - لأصدق الثلاثة . قال : فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه .

    7364 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق " قال : أنزلت في الحارث بن سويد الأنصاري ، كفر بعد إيمانه ، فأنزل الله - عز وجل - فيه هذه الآيات ، إلى : " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " [ ص: 574 ] ثم تاب وأسلم ، فنسخها الله عنه ، فقال : " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " .

    7365 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات " قال : رجل من بني عمرو بن عوف ، كفر بعد إيمانه .

    7366 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    7367 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : هو رجل من بني عمرو بن عوف ، كفر بعد إيمانه قال ابن جريج ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : لحق بأرض الروم فتنصر ، ثم كتب إلى قومه : " أرسلوا ، هل لي من توبة ؟ " قال : فحسبت أنه آمن ، ثم رجع قال ابن جريج ، قال عكرمة ، نزلت في أبي عامر الراهب ، والحارث بن سويد بن الصامت ، ووحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ، ثم كتبوا إلى أهلهم : هل لنا من توبة ؟ فنزلت : " إلا الذين تابوا من بعد ذلك " الآيات .

    وقال آخرون : عنى بهذه الآية أهل الكتاب ، وفيهم نزلت .

    ذكر من قال ذلك :

    7368 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " فهم أهل الكتاب ، عرفوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ثم كفروا به . [ ص: 575 ]

    7369 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " الآية كلها . قال : اليهود والنصارى .

    7370 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن يقول في قوله : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " الآية ، هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، رأوا نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم وأقروا به ، وشهدوا أنه حق ، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه ، وكفروا بعد إقرارهم ، حسدا للعرب ، حين بعث من غيرهم .

    7371 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " قال : هم أهل الكتاب ، كانوا يجدون محمدا - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم ، ويستفتحون به ، فكفروا بعد إيمانهم .

    قال أبو جعفر : وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن من أن هذه الآية معني بها أهل الكتاب على ما قال . غير أن الأخبار بالقول الآخر أكثر ، والقائلين به أعلم بتأويل القرآن . وجائز أن يكون الله - عز وجل - أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا ارتدوا عن الإسلام ، فجمع قصتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآيات . ثم عرف عباده سنته فيهم ، فيكون داخلا في ذلك كل من كان مؤمنا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث ، ثم كفر به بعد أن بعث ، وكل من كان كافرا ثم أسلم على عهده - صلى الله عليه وسلم - ثم ارتد وهو حي عن [ ص: 576 ] إسلامه . فيكون معنيا بالآية جميع هذين الصنفين وغيرهما ممن كان بمثل معناهما ، بل ذلك كذلك إن شاء الله .

    فتأويل الآية إذا : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " يعني : كيف يرشد الله للصواب ويوفق للإيمان قوما جحدوا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - " بعد إيمانهم " أي : بعد تصديقهم إياه ، وإقرارهم بما جاءهم به من عند ربه " وشهدوا أن الرسول حق " يقول : وبعد أن أقروا أن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خلقه حقا " وجاءهم البينات " يعني : وجاءهم الحجج من عند الله والدلائل بصحة ذلك ؟ " والله لا يهدي القوم الظالمين " يقول : والله لا يوفق للحق والصواب الجماعة الظلمة ، وهم الذين بدلوا الحق إلى الباطل ، فاختاروا الكفر على الإيمان .

    وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى " الظلم " - وأنه وضع الشيء في غير موضعه - بما أغنى عن إعادته .

    " أولئك جزاؤهم " يعني : هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ، وبعد أن شهدوا أن الرسول حق - " جزاؤهم " ثوابهم من عملهم الذي عملوه " أن عليهم لعنة الله " يعني : أن يحل بهم من الله الإقصاء والبعد ، ومن الملائكة والناس الدعاء بما يسوؤهم من العقاب " أجمعين " يعني : من جميعهم لا من [ ص: 577 ] بعض من سماه - جل ثناؤه - من الملائكة والناس ، ولكن من جميعهم . وإنما جعل ذلك - جل ثناؤه - ثواب عملهم ؛ لأن عملهم كان بالله كفرا .

    وقد بينا صفة " لعنة الناس " الكافر في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته .

    " خالدين فيها " يعني : ماكثين فيها ، يعني في عقوبة الله

    " لا يخفف عنهم العذاب " لا ينقصون من العذاب شيئا في حال من الأحوال ، ولا ينفسون فيه " ولا هم ينظرون " يعني : ولا هم ينظرون لمعذرة يعتذرون . وذلك كله عين الخلود في العقوبة في الآخرة .

    ثم استثنى - جل ثناؤه - الذين تابوا من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم فقال - تعالى ذكره - : " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا " يعني : إلا الذين تابوا [ ص: 578 ] من بعد ارتدادهم عن إيمانهم ، فراجعوا الإيمان بالله وبرسوله ، وصدقوا بما جاءهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - من عند ربهم " وأصلحوا " يعني : وعملوا الصالحات من الأعمال " فإن الله غفور رحيم " يعني : فإن الله لمن فعل ذلك بعد كفره " غفور " يعني : ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الردة ، فتارك عقوبته عليه ، وفضيحته به يوم القيامة ، غير مؤاخذه به إذا مات على التوبة منه . " رحيم " متعطف عليه بالرحمة .
    القول في تأويل قوله ( إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ( 90 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : عنى الله - عز وجل - بقوله : " إن الذين كفروا " ببعض أنبيائه الذين بعثوا قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - " بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا " بكفرهم بمحمد " لن تقبل توبتهم " عند حضور الموت وحشرجته بنفسه .

    ذكر من قال ذلك :

    7372 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون " قال : اليهود والنصارى ، لن تقبل توبتهم عند الموت .

    7373 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، [ ص: 579 ] قوله : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا " أولئك أعداء الله اليهود كفروا بالإنجيل وبعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والفرقان .

    7374 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ثم ازدادوا كفرا " قال : ازدادوا كفرا حتى حضرهم الموت ، فلم تقبل توبتهم حين حضرهم الموت . قالمعمر : وقال مثل ذلك عطاء الخراساني .

    7375 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة قوله : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون " وقال : هم اليهود كفروا بالإنجيل ، ثم ازدادوا كفرا حين بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، فأنكروه وكذبوا به .

    وقال آخرون : معنى ذلك : إن الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد بعد إيمانهم بأنبيائهم " ثم ازدادوا كفرا " يعني : ذنوبا " لن تقبل توبتهم " من ذنوبهم ، وهم على الكفر مقيمون .

    ذكر من قال ذلك :

    7376 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود ، عن رفيع : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا " ازدادوا ذنوبا وهم كفار " لن تقبل توبتهم " من تلك الذنوب ما كانوا على كفرهم وضلالتهم .

    7377 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود قال : سألت أبا العالية قال : قلت : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم " ؟ قال : إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا ، ثم ازدادوا كفرا بذنوب أصابوها ، فهم يتوبون منها في كفرهم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #417
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (417)
    صــ 580 إلى صــ 592




    7378 - حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري قال : أخبرنا ابن أبي عدي ، [ ص: 580 ] عن داود قال : سألت أبا العالية عن : الذين آمنوا ثم كفروا ، فذكر نحوا منه .

    7379 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود قال : سألت أبا العالية عن هذه الآية : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون " قال : هم اليهود والنصارى والمجوس ، أصابوا ذنوبا في كفرهم ، فأرادوا أن يتوبوا منها ، ولن يتوبوا من الكفر ، ألا ترى أنه يقول : " وأولئك هم الضالون " ؟

    7380 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا سفيان ، عن داود ، عن أبي العالية في قوله : " لن تقبل توبتهم " قال : تابوا من بعض ، ولم يتوبوا من الأصل .

    7381 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية قوله : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا " قال : هم اليهود والنصارى يصيبون الذنوب فيقولون : " نتوب " وهم مشركون . قال الله - عز وجل - : لن تقبل التوبة في الضلالة .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن الذين كفروا بعد إيمانهم بأنبيائهم " ثم ازدادوا كفرا " يعني : بزيادتهم الكفر تمامهم عليه حتى هلكوا وهم عليه مقيمون " لن تقبل توبتهم " لن تنفعهم توبتهم الأولى وإيمانهم ، لكفرهم الآخر وموتهم .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 581 ]

    7382 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : " ثم ازدادوا كفرا " قال : تموا على كفرهم قال ابن جريج : " لن تقبل توبتهم " يقول : إيمانهم أول مرة لن ينفعهم .

    وقال آخرون : معنى قوله : " ثم ازدادوا كفرا " ماتوا كفارا ، فكان ذلك هو زيادتهم من كفرهم . وقالوا : معنى " لن تقبل توبتهم " لن تقبل توبتهم عند موتهم .

    ذكر من قال ذلك :

    7383 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون " أما " ازدادوا كفرا " فماتوا وهم كفار . وأما " لن تقبل توبتهم " فعند موته إذا تاب لم تقبل توبته .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية قول من قال : " عنى بها اليهود " وأن يكون تأويله : إن الذين كفروا من اليهود بمحمد - صلى الله عليه وسلم - عند مبعثه بعد إيمانهم به قبل مبعثه ، ثم ازدادوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم ومقامهم على ضلالتهم لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم ، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويراجعوا التوبة منه بتصديقه بما جاء به من عند الله .

    وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب ؛ لأن الآيات [ ص: 582 ] قبلها وبعدها فيهم نزلت ، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها إذ كانت في سياق واحد .

    وإنما قلنا : " معنى ازديادهم الكفر : ما أصابوا في كفرهم من المعاصي ؛ لأنه - جل ثناؤه - قال : " لن تقبل توبتهم " فكان معلوما أن معنى قوله : " لن تقبل توبتهم " إنما هو معني به : لن تقبل توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم ، لا من كفرهم ؛ لأن الله - تعالى ذكره - وعد أن يقبل التوبة من عباده فقال : ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ) [ سورة الشورى : 25 ] فمحال أن يقول - عز وجل - : " أقبل " و " لا أقبل " في شيء واحد . وإذا كان ذلك كذلك وكان من حكم الله في عباده أنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب ، وكان الكفر بعد الإيمان أحد تلك الذنوب التي وعد قبول التوبة منها بقوله : " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " علم أن المعنى الذي لا يقبل التوبة منه غير المعنى الذي يقبل التوبة منه . وإذا كان ذلك كذلك ، فالذي لا يقبل منه التوبة هو الازدياد على الكفر بعد الكفر ، لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره ؛ لأن الله لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على شركه وضلاله . فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح فإن الله - كما وصف به نفسه - غفور رحيم .

    فإن قال قائل : وما تنكر أن يكون معنى ذلك كما قال من قال : " فلن تقبل توبته من كفره عند حضور أجله وتوبته الأولى " ؟ [ ص: 583 ]

    قيل : أنكرنا ذلك ؛ لأن التوبة من العبد غير كائنة إلا في حال حياته ، فأما بعد مماته فلا توبة ، وقد وعد الله - عز وجل - عباده قبول التوبة منهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم . ولا خلاف بين جميع الحجة في أن كافرا لو أسلم قبل خروج نفسه بطرفة عين أن حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه ، والموارثة ، وسائر الأحكام غيرهما . فكان معلوما بذلك أن توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الإسلام ، ولا منزلة بين الموت والحياة يجوز أن يقال : " لا يقبل الله فيها توبة الكافر " . فإذا صح أنها في حال حياته مقبولة ، ولا سبيل بعد الممات إليها بطل قول الذي زعم أنها غير مقبولة عند حضور الأجل .

    وأما قول من زعم أن معنى ذلك : " التوبة التي كانت قبل الكفر " فقول لا معنى له ؛ لأن الله - عز وجل - لم يصف القوم بإيمان كان منهم بعد كفر ، ثم كفر بعد إيمان بل إنما وصفهم بكفر بعد إيمان . فلم يتقدم ذلك الإيمان كفر كان للإيمان لهم توبة منه ، فيكون تأويل ذلك على ما تأوله قائل ذلك . وتأويل القرآن على ما كان موجودا في ظاهر التلاوة - إذا لم تكن حجة تدل على باطن خاص - أولى من غيره ، وإن أمكن توجيهه إلى غيره .

    وأما قوله : " وأولئك هم الضالون " فإنه يعني بذلك : وهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ، ثم ازدادوا كفرا هم الذين ضلوا سبيل الحق فأخطأوا منهجه ، وتركوا نصف السبيل وهدى الدين ، حيرة منهم ، وعمى عنه . [ ص: 584 ]

    وقد بينا فيما مضى معنى الضلال بما فيه الكفاية .
    القول في تأويل قوله ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ( 91 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - " إن الذين كفروا " أي : جحدوا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يصدقوا به وبما جاء به من عند الله من أهل كل ملة ، يهودها ونصاراها ومجوسها وغيرهم " وماتوا وهم كفار " يعني : وماتوا على ذلك من جحود نبوته وجحود ما جاء به " فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به " يقول : فلن يقبل ممن كان بهذه الصفة في الآخرة جزاء ولا رشوة على ترك عقوبته على كفره ، ولا جعل على العفو عنه ، ولو كان له من الذهب قدر ما يملأ الأرض من مشرقها إلى مغربها فرشا ، وجزى على ترك عقوبته وفي العفو عنه على كفره عوضا مما الله محل به من عذابه ؛ لأن الرشا إنما يقبلها من كان ذا حاجة إلى ما رشي . فأما من له الدنيا والآخرة فكيف يقبل [ ص: 585 ] الفدية ، وهو خلاق كل فدية افتدى بها مفتد من نفسه أو غيره ؟

    وقد بينا أن معنى " الفدية " العوض ، والجزاء من المفتدى منه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

    ثم أخبر - عز وجل - عما لهم عنده فقال : " أولئك " يعني هؤلاء الذين كفروا وماتوا وهم كفار " لهم عذاب أليم " يقول : لهم عند الله في الآخرة عذاب موجع " وما لهم من ناصرين " يعني : وما لهم من قريب ولا حميم ولا صديق ينصره ، فيستنقذه من الله ومن عذابه كما كانوا ينصرونه في الدنيا على من حاول أذاه ومكروهه . وقد : -

    7384 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : حدثنا أنس بن مالك : أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا ، أكنت مفتديا به ؟ فيقول : نعم . قال فيقال : لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك ، فذلك قوله : " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به " .

    7385 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد ، عن الحسن قوله : " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا " قال : هو كل كافر . [ ص: 586 ]

    ونصب قوله " ذهبا " على الخروج من المقدار الذي قبله والتفسير منه ، وهو قوله : " ملء الأرض " كقول القائل : " عندي قدر زق سمنا وقدر رطل عسلا " ف " العسل " مبين به ما ذكر من المقدار ، وهو نكرة منصوبة على التفسير للمقدار والخروج منه .

    وأما نحويو البصرة فإنهم زعموا أنه نصب " الذهب " لاشتغال " الملء " ب " الأرض " ومجيء " الذهب " بعدهما ، فصار نصبها نظير نصب الحال . وذلك أن الحال يجيء بعد فعل قد شغل بفاعله ، فينصب كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي قد شغل بفاعله . قالوا : ونظير قوله : " ملء الأرض ذهبا " في نصب " الذهب " في الكلام : " لي مثلك رجلا " بمعنى : لي مثلك من الرجال . وزعموا أن نصب " الرجل لاشتغال الإضافة بالاسم ، فنصب كما ينصب المفعول به ، لاشتغال الفعل بالفاعل .

    وأدخلت الواو في قوله : " ولو افتدى به " لمحذوف من الكلام بعده دل عليه دخول " الواو " وكالواو في قوله : ( وليكون من الموقنين ) [ سورة الأنعام : 75 ] ، وتأويل الكلام : وليكون من الموقنين أريناه ملكوت السموات والأرض . فكذلك ذلك في قوله : " ولو افتدى به " ولو لم يكن في الكلام " واو " لكان الكلام صحيحا ، ولم يكن هنالك متروك . وكان : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو افتدى به .
    [ ص: 587 ] القول في تأويل قوله تعالى ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ( 92 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : لن تدركوا - أيها المؤمنون - البر وهو " البر " من الله الذي يطلبونه منه بطاعتهم إياه وعبادتهم له ويرجونه منه ، وذلك تفضله عليهم بإدخالهم جنته ، وصرف عذابه عنهم .

    ولذلك قال كثير من أهل التأويل " البر " : الجنة ؛ لأن بر الرب بعبده في الآخرة إكرامه إياه بإدخاله الجنة .

    ذكر من قال ذلك .

    7386 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : " لن تنالوا البر " قال : الجنة .

    7387 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : " لن تنالوا البر " قال : البر الجنة .

    7388 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لن تنالوا البر " أما البر فالجنة .

    قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : لن تنالوا - أيها المؤمنون - جنة ربكم " حتى تنفقوا مما تحبون " يقول : حتى تتصدقوا مما تحبون وتهوون أن يكون لكم من نفيس أموالكم ، كما : -

    7389 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " يقول : لن تنالوا بر ربكم حتى [ ص: 588 ] تنفقوا مما يعجبكم ، ومما تهوون من أموالكم .

    7390 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر ، عن عباد ، عن الحسن قوله : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " قال : من المال .

    وأما قوله : " وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم " فإنه يعني به : ومهما تنفقوا من شيء فتتصدقوا به من أموالكم فإن الله - تعالى ذكره - بما يتصدق به المتصدق منكم - فينفقه مما يحب من ماله في سبيل الله وغير ذلك - " عليم " . يقول : هو ذو علم بذلك كله ، لا يعزب عنه شيء منه ، حتى يجازي صاحبه عليه جزاءه في الآخرة ، كما : -

    7391 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم " يقول : محفوظ لكم ذلك ، الله به عليم شاكر له .

    وبنحو التأويل الذي قلنا تأول هذه الآية جماعة من الصحابة والتابعين .

    ذكر من قال ذلك :

    7392 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى في قتال سعد بن أبي وقاص ، فدعا بها عمر بن الخطاب فقال : إن الله يقول : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " فأعتقها عمر وهي مثل قول الله - عز وجل - : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) [ سورة الإنسان : 8 ] ، و ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ سورة الحشر : 9 ] . [ ص: 589 ]

    7393 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله سواء .

    7394 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، قال : لما نزلت هذه الآية : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) ، أو هذه الآية : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) [ سورة البقرة : 245\ الحديد : 11 ] قال أبو طلحة يا رسول الله : حائطي الذي بكذا وكذا صدقة ، ولو استطعت أن أجعله سرا لم أجعله علانية . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجعلها في فقراء أهلك .

    7395 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : لما نزلت هذه الآية : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " قال أبو طلحة يا رسول الله : إن الله يسألنا من أموالنا ، اشهد أني قد جعلت أرضي بأريحا لله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجعلها [ ص: 590 ] في قرابتك . فجعلها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب . [ ص: 591 ]

    7396 - حدثنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا ليث ، عن ميمون بن مهران : أن رجلا سأل أبا ذر : أي الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة عماد الإسلام ، والجهاد سنام العمل ، والصدقة شيء عجب . فقال : يا أبا ذر لقد تركت شيئا هو أوثق عملي في نفسي ، لا أراك ذكرته ؟ قال : ما هو ؟ قال : الصيام . فقال : قربة ، وليس هناك . وتلا هذه الآية : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " . [ ص: 592 ]

    7397 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني داود بن عبد الرحمن المكي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، عن عمرو بن دينار قال : لما نزلت هذه الآية : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " جاء زيد بفرس له يقال له : " سبل " إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : تصدق بهذه يا رسول الله . فأعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنه أسامة بن زيد بن حارثة ، فقال : يا رسول الله ، إنما أردت أن أتصدق به . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد قبلت صدقتك .

    7398 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن أيوب وغيره أنها حين نزلت : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها ، فقال : يا رسول الله ، هذه في سبيل الله . فحمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها أسامة بن زيد ، فكأن زيدا وجد في نفسه ، فلما رأى ذلك منه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أما إن الله قد قبلها .







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #418
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (418)
    صــ 7 إلى صــ 21




    [ ص: 7 ] القول في تأويل قوله تعالى ( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ( 93 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أنه لم يكن حرم على بني إسرائيل وهم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن شيئا من الأطعمة من قبل أن تنزل التوراة ، بل كان ذلك كله لهم حلالا إلا ما كان يعقوب حرمه على نفسه ، فإن ولده حرموه استنانا بأبيهم يعقوب ، من غير تحريم الله ذلك عليهم في وحي ولا تنزيل ، ولا على لسان رسول له إليهم ، من قبل نزول التوراة .

    ثم اختلف أهل التأويل في تحريم ذلك عليهم ، هل نزل في التوراة أم لا؟ فقال بعضهم : لما أنزل الله عز وجل التوراة ، حرم عليهم من ذلك ما كانوا يحرمونه قبل نزولها .

    ذكر من قال ذلك :

    7399 - حدثني محمد بن الحسين ، قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " قالت اليهود : إنما نحرم ما حرم إسرائيل على نفسه ، وإنما حرم [ ص: 8 ] إسرائيل العروق ، كان يأخذه عرق النسا ، كان يأخذه بالليل ويتركه بالنهار ، فحلف لإن الله عافاه منه لا يأكل عرقا أبدا ، فحرمه الله عليهم ثم قال : " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " ، ما حرم هذا عليكم غيري ببغيكم ، فذلك قوله : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) [ سورة النساء : 160 ]

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية على هذا القول : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، فإن الله حرم عليهم من ذلك ما كان إسرائيل حرمه على نفسه في التوراة ، ببغيهم على أنفسهم وظلمهم لها . قل يا محمد : فأتوا ، أيها اليهود ، إن أنكرتم ذلك بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين أن الله لم يحرم ذلك عليكم في التوراة ، وأنكم إنما تحرمونه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه .

    وقال آخرون : ما كان شيء من ذلك عليهم حراما ، لا حرمه الله عليهم في التوراة ، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم ، ثم أضافوا تحريمه إلى الله . فكذبهم الله عز وجل في إضافتهم ذلك إليه ، فقال الله عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد : إن كنتم صادقين ، فأتوا بالتوراة فاتلوها ، حتى ننظر هل ذلك فيها ، أم لا؟ فيتبين كذبهم لمن يجهل أمرهم .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 9 ]

    7400 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال ، سمعت أبا معاذ ، قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " إسرائيل هو يعقوب ، أخذه عرق النسا فكان لا يبيت الليل من وجعه ، وكان لا يؤذيه بالنهار . فحلف لإن شفاه الله لا يأكل عرقا أبدا ، وذلك قبل نزول التوراة على موسى . فسأل نبي الله صلى الله عليه وسلم اليهود : ما هذا الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ فقالوا : نزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل . فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " إلى قوله : " فأولئك هم الظالمون " ، وكذبوا وافتروا ، لم تنزل التوراة بذلك .

    وتأويل الآية على هذا القول : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة وبعد نزولها ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة بمعنى : لكن إسرائيل حرم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة بعض ذلك . وكأن الضحاك وجه قوله : " إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " إلى الاستثناء الذي يسميه النحويون "الاستثناء المنقطع" .

    وقال آخرون : تأويل ذلك : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، فإن ذلك حرام على ولده بتحريم إسرائيل إياه على ولده ، من غير أن يكون الله حرمه على إسرائيل ولا على ولده . [ ص: 10 ]

    ذكر من قال ذلك :

    7401 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " فإنه حرم على نفسه العروق ، وذلك أنه كان يشتكي عرق النسا ، فكان لا ينام الليل ، فقال : والله لإن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد وليس مكتوبا في التوراة ! وسأل محمد صلى الله عليه وسلم نفرا من أهل الكتاب فقال : ما شأن هذا حراما؟ فقالوا : هو حرام علينا من قبل الكتاب . فقال الله عز وجل : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل " إلى" إن كنتم صادقين " .

    7402 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس : أخذه - يعني إسرائيل - عرق النسا ، فكان لا يبيت بالليل من شدة الوجع ، وكان لا يؤذيه بالنهار ، فحلف لإن شفاه الله لا يأكل عرقا أبدا ، وذلك قبل أن تنزل التوراة . فقال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم : نزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل على نفسه . قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " ، وكذبوا ، ليس في التوراة .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قول من قال : "معنى ذلك : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من غير تحريم الله ذلك عليه ، فإنه كان حراما عليهم بتحريم أبيهم إسرائيل ذلك عليهم ، من غير أن يحرمه الله عليهم في تنزيل ولا وحي قبل التوراة ، حتى نزلت التوراة ، فحرم الله عليهم فيها ما شاء ، وأحل لهم فيها ما أحب" .

    وهذا قول قالته جماعة من أهل التأويل ، وهو معنى قول ابن عباس الذي ذكرناه قبل .

    ذكر بعض من قال ذلك : [ ص: 11 ]

    7403 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة " ، وإسرائيل ، هو يعقوب " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " يقول : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة . إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ، فلما أنزل الله التوراة حرم عليهم فيها ما شاء وأحل لهم ما شاء .

    7404 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة بنحوه .

    واختلف أهل التأويل في الذي كان إسرائيل حرمه على نفسه .

    فقال بعضهم : كان الذي حرمه إسرائيل على نفسه العروق .

    ذكر من قال ذلك :

    7405 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر ، عن يوسف بن ماهك قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال إنه جعل امرأته عليه حراما ، قال : ليست عليك بحرام . قال : فقال الأعرابي : ولم؟ والله يقول في كتابه : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه "؟ قال : فضحك ابن عباس وقال : وما يدريك ما كان إسرائيل حرم على نفسه؟ قال : ثم أقبل على القوم يحدثهم فقال : إسرائيل عرضت له الأنساء فأضنته ، فجعل لله عليه إن شفاه الله منها لا يطعم عرقا . قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم .

    7406 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، [ ص: 12 ] عن أبي بشر . قال : سمعت يوسف بن ماهك يحدث : أن أعرابيا أتى ابن عباس ، فذكر رجلا حرم امرأته فقال : إنها ليست بحرام . فقال الأعرابي : أرأيت قول الله عز وجل : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " ؟ فقال : إن إسرائيل كان به عرق النسا ، فحلف لإن عافاه الله أن لا يأكل العروق من اللحم ، وإنها ليست عليك بحرام .

    7407 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " قال ، إن يعقوب أخذه وجع عرق النسا ، فجعل لله عليه أو : أقسم ، أو : آلى : لا يأكله من الدواب . قال : والعروق كلها تبع لذلك العرق .

    7408 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن الذي حرم إسرائيل على نفسه : أن الأنساء أخذته ذات ليلة ، فأسهرته ، فتألى إن الله شفاه لا يطعم نسا أبدا ، فتتبعت بنوه العروق بعد ذلك يخرجونها من اللحم .

    7409 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة بنحوه وزاد فيه . قال : فتألى لإن شفاه الله لا يأكل عرقا أبدا ، فجعل بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق ، فيخرجونها من اللحم . وكان"الذي حرم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة" ، العروق .

    7410 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " قال ، اشتكى [ ص: 13 ] إسرائيل عرق النسا فقال : إن الله شفاني لأحرمن العروق! فحرمها .

    7411 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان إسرائيل أخذه عرق النسا ، فكان يبيت له زقاء ، فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل العروق . فأنزل الله عز وجل : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " قال سفيان : "له زقاء" ، يعني صياحا .

    7412 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " قال ، كان يشتكي عرق النسا ، فحرم العروق .

    7413 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    7414 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عباس في قوله : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة " قال : كان إسرائيل يأخذه عرق النسا ، فكان يبيت وله زقاء ، فحرم على نفسه أن يأكل عرقا .

    وقال آخرون : بل " الذي كان إسرائيل حرم على نفسه " ، لحوم الإبل وألبانها .

    ذكر من قال ذلك :

    7415 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن [ ص: 14 ] جريج ، عن عبد الله بن كثير قال : سمعنا أنه اشتكى شكوى ، فقالوا : إنه عرق النسا ، فقال : رب ، إن أحب الطعام إلي لحوم الإبل وألبانها ، فإن شفيتني فإني أحرمها علي قال ابن جريج ، وقال عطاء بن أبي رباح : لحوم الإبل وألبانها حرم إسرائيل .

    7416 - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل " قال ، كان إسرائيل حرم على نفسه لحوم الإبل ، وكانوا يزعمون أنهم يجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل وإنما كان حرم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل قبل أن تنزل التوراة ، فقال الله : " فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " ، فقال : لا تجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه ، أي لحم الإبل .

    7417 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال ، حدثنا سعيد ، عن ابن عباس : أن إسرائيل أخذه عرق النسا ، فكان يبيت بالليل له زقاء يعني : صياح قال : فجعل على نفسه لإن شفاه الله منه لا يأكله يعني : لحوم الإبل قال : فحرمه اليهود ، وتلا هذه الآية : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " ، أي : إن هذا قبل التوراة .

    7418 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في : " إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " قال ، حرم العروق ولحوم الإبل . قال : كان به عرق النسا ، فأكل من لحومها فبات بليلة يزقو ، فحلف أن لا يأكله أبدا . [ ص: 15 ]

    7419 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد في قوله : " إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " . قال : حرم لحم الأنعام .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قول ابن عباس الذي رواه الأعمش ، عن حبيب ، عن سعيد عنه : أن ذلك : العروق ولحوم الإبل ، لأن اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمها ، كما كان عليه من ذلك أوائلها . وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك خبر ، وهو : ما : -

    7420 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس : أن عصابة من اليهود حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا ، فطال سقمه منه ، فنذر لله نذرا لإن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل ، وأحب الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا : اللهم نعم .

    وأما قوله : " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " ، فإن معناه : قل ، يا محمد ، للزاعمين من اليهود أن الله حرم عليهم في التوراة العروق ولحوم الإبل وألبانها : " ائتوا بالتوراة فاتلوها " ، يقول : قل لهم : جيئوا بالتوراة فاتلوها ، حتى يتبين لمن خفي عليه كذبهم وقيلهم الباطل على الله من أمرهم : أن ذلك ليس مما [ ص: 16 ] أنزلته في التوراة " إن كنتم صادقين " ، يقول : إن كنتم محقين في دعواكم أن الله أنزل تحريم ذلك في التوراة ، فأتونا بها ، فاتلوا تحريم ذلك علينا منها .

    وإنما ذلك خبر من الله عن كذبهم ، لأنهم لا يجيئون بذلك أبدا على صحته ، فأعلم الله بكذبهم عليه نبيه صلى الله عليه وسلم ، وجعل إعلامه إياه ذلك حجة له عليهم . لأن ذلك إذ كان يخفى على كثير من أهل ملتهم ، فمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أمي من غير ملتهم ، لولا أن الله أعلمه ذلك بوحي من عنده كان أحرى أن لا يعلمه . فكان ذلك له صلى الله عليه وسلم ، من أعظم الحجة عليهم بأنه نبي الله صلى الله عليه وسلم ، إليهم . لأن ذلك من أخبار أوائلهم ، كان من خفي علومهم الذي لا يعلمه غير خاصة منهم ، إلا من أعلمه الذي لا يخفى عليه خافية من نبي أو رسول ، أو من أطلعه الله على علمه ممن شاء من خلقه .
    القول في تأويل قوله تعالى ( فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ( 94 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : فمن كذب على الله منا ومنكم ، من بعد مجيئكم بالتوراة ، وتلاوتكم إياها ، وعدمكم ما ادعيتم من تحريم الله العروق ولحوم الإبل وألبانها فيها " فأولئك هم الظالمون " يعني : فمن فعل ذلك منهم "فأولئك" ، يعني : فهؤلاء الذين يفعلون ذلك " هم الظالمون " ، يعني : فهم الكافرون ، القائلون على الله الباطل ، كما : - [ ص: 17 ]

    7421 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن زكريا ، عن الشعبي : " فأولئك هم الظالمون " قال ، نزلت في اليهود .
    القول في تأويل قوله تعالى جل ثناؤه ( قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( 95 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : "قل" ، يا محمد " صدق الله " ، فيما أخبرنا به من قوله : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل " ، وأن الله لم يحرم على إسرائيل ولا على ولده العروق ولا لحوم الإبل وألبانها ، وأن ذلك إنما كان شيئا حرمه إسرائيل على نفسه وولده بغير تحريم الله إياه عليهم في التوراة ، وفي كل ما أخبر به عباده من خبر ، دونكم . وأنتم ، يا معشر اليهود ، الكذبة في إضافتكم تحريم ذلك إلى الله عليكم في التوراة ، المفترية على الله الباطل في دعواكم عليه غير الحق " فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " ، يقول : فإن كنتم ، أيها اليهود ، محقين في دعواكم أنكم على الدين الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورسله " فاتبعوا ملة إبراهيم " ، خليل الله ، فإنكم تعلمون أنه الحق الذي ارتضاه الله من خلقه دينا ، وابتعث به أنبياءه ، ذلك الحنيفية - يعني الاستقامة على الإسلام وشرائعه - دون اليهودية والنصرانية والمشركة . [ ص: 18 ]

    وقوله : " وما كان من المشركين " ، يقول : لم يكن يشرك في عبادته أحدا من خلقه . فكذلك أنتم أيضا ، أيها اليهود ، فلا يتخذ بعضكم بعضا أربابا من دون الله تطيعونهم كطاعة إبراهيم ربه ، وأنتم يا معشر عبدة الأوثان ، فلا تتخذوا الأوثان والأصنام أربابا ، ولا تعبدوا شيئا من دون الله ، فإن إبراهيم خليل الرحمن كان دينه إخلاص العبادة لربه وحده ، من غير إشراك أحد معه فيه . فكذلك أنتم أيضا ، فأخلصوا له العبادة ولا تشركوا معه في العبادة أحدا ، فإن جميعكم مقرون بأن إبراهيم كان على حق وهدى مستقيم ، فاتبعوا ما قد أجمع جميعكم على تصويبه من ملته الحنيفية ، ودعوا ما اختلفتم فيه من سائر الملل غيرها ، أيها الأحزاب ، فإنها بدع ابتدعتموها إلى ما قد أجمعتم عليه أنه حق ، فإن الذي أجمعتم عليه أنه صواب وحق من ملة إبراهيم ، هو الحق الذي ارتضيته وابتعثت به أنبيائي ورسلي ، وسائر ذلك هو الباطل الذي لا أقبله من أحد من خلقي جاءني به يوم القيامة .

    وإنما قال جل ثناؤه : " وما كان من المشركين " ، يعني به : وما كان من عددهم وأوليائهم . وذلك أن المشركين بعضهم من بعض في التظاهر على كفرهم . ونصرة بعضهم بعضا . فبرأ الله إبراهيم خليله أن يكون منهم أو [ من ] نصرائهم وأهل ولايتهم . وإنما عنى جل ثناؤه بالمشركين ، اليهود والنصارى وسائر الأديان ، غير الحنيفية . قال : لم يكن إبراهيم من أهل هذه الأديان المشركة ، ولكنه كان حنيفا مسلما .
    [ ص: 19 ] القول في تأويل قوله تعالى ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ( 96 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : تأويله : إن أول بيت وضع للناس ، يعبد الله فيه مباركا وهدى للعالمين ، الذي ببكة . قالوا : وليس هو أول بيت وضع في الأرض ، لأنه قد كانت قبله بيوت كثيرة .

    ذكر من قال ذلك :

    7422 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة قال : قام رجل إلى علي فقال : ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال : لا ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا .

    7423 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك قال : سمعت خالد بن عرعرة قال : سمعت عليا ، وقيل له : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة " ، هو أول بيت كان في الأرض؟ قال : لا! قال : فأين كان قوم نوح؟ وأين كان قوم هود؟ قال : ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا وهدى . [ ص: 20 ]

    7424 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء قال ، سأل حفص الحسن وأنا أسمع عن قوله : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا " قال ، هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض .

    7425 - حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي قال ، حدثنا ضمرة ، عن ابن شوذب ، عن مطر في قوله : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة " قال : قد كانت قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للعبادة .

    7426 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن قوله : " إن أول بيت وضع للناس " ، يعبد الله فيه " للذي ببكة " .

    7427 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا " قال ، وضع للعبادة .

    وقال آخرون : بل هو أول بيت وضع للناس .

    ثم اختلف قائلو ذلك في صفة وضعه أول .

    فقال بعضهم : خلق قبل جميع الأرضين ، ثم دحيت الأرضون من تحته .

    ذكر من قال ذلك :

    7428 - حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، أخبرنا شيبان ، عن الأعمش ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو قال : خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة ، وكان - إذ كان عرشه على الماء - زبدة بيضاء ، فدحيت الأرض من تحته . [ ص: 21 ]

    7429 - حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا خصيف قال : سمعت مجاهدا يقول : إن أول ما خلق الله الكعبة ، ثم دحى الأرض من تحتها .

    7430 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " إن أول بيت وضع للناس " ، كقوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) [ سورة آل عمران : 110 ]

    7431 - حدثني محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين " ، أما" أول بيت " ، فإنه يوم كانت الأرض ماء ، كان زبدة على الأرض ، فلما خلق الله الأرض ، خلق البيت معها ، فهو أول بيت وضع في الأرض .

    7432 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا ) قال : أول بيت وضعه الله عز وجل ، فطاف به آدم ومن بعده .

    وقال آخرون : موضع الكعبة ، موضع أول بيت وضعه الله في الأرض .

    ذكر من قال ذلك :

    7433 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط ، قال : أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي . فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين ، حتى إذا كان زمن الطوفان ، زمن أغرق الله قوم نوح ، رفعه الله وطهره من أن يصيبه عقوبة أهل الأرض ، فصار معمورا في السماء . ثم إن إبراهيم تتبع منه أثرا بعد ذلك ، فبناه على أساس قديم كان قبله .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #419
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (419)
    صــ 22 إلى صــ 36




    [ ص: 22 ]

    قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قال جل ثناؤه فيه : إن أول بيت مبارك وهدى وضع للناس ، للذي ببكة . ومعنى ذلك : " إن أول بيت وضع للناس " ، أي : لعبادة الله فيه " مباركا وهدى " ، يعني بذلك : ومآبا لنسك الناسكين وطواف الطائفين ، تعظيما لله وإجلالا له " للذي ببكة " لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ما : -

    7434 - حدثنا به محمد بن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع أول؟ قال : " المسجد الحرام . قال : ثم أي؟ قال : المسجد الأقصى . قال : كم بينهما؟ قال : أربعون سنة .

    فقد بين هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسجد الحرام هو أول مسجد وضعه الله في الأرض ، على ما قلنا . فأما في موضعه بيتا ، بغير معنى بيت للعبادة والهدى والبركة ، ففيه من الاختلاف ما قد ذكرت بعضه في هذا الموضع ، وبعضه في سورة البقرة وغيرها من سور القرآن ، وبينت الصواب من القول عندنا في ذلك بما أغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . [ ص: 23 ]

    وأما قوله : " للذي ببكة مباركا " فإنه يعني : للبيت الذي بمزدحم الناس لطوافهم في حجهم وعمرهم .

    وأصل"البك" : الزحم ، يقال : منه : "بك فلان فلانا" إذا زحمه وصدمه - "فهو يبكه بكا ، وهم يتباكون فيه" ، يعني به : يتزاحمون ويتصادمون فيه . فكأن" بكة ""فعلة" من "بك فلان فلانا" زحمه ، سميت البقعة بفعل المزدحمين بها .

    فإذا كانت" بكة " ما وصفنا ، وكان موضع ازدحام الناس حول البيت ، وكان لا طواف يجوز خارج المسجد كان معلوما بذلك أن يكون ما حول الكعبة من داخل المسجد ، وأن ما كان خارج المسجد فمكة ، لا" بكة " . لأنه لا معنى خارجه يوجب على الناس التباك فيه . وإذ كان ذلك كذلك ، كان بينا بذلك فساد قول من قال : " بكة " اسم لبطن " مكة " ، ومكة اسم للحرم . .

    ذكر من قال في ذلك ما قلنا : من أن " بكة " موضع مزدحم الناس للطواف : [ ص: 24 ]

    7435 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك الغفاري في قوله : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة " قال : "بكة " موضع البيت ، "ومكة " ما سوى ذلك .

    7436 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم مثله .

    7437 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن أبي جعفر قال : مرت امرأة بين يدي رجل وهو يصلي وهي تطوف بالبيت ، فدفعها . قال أبو جعفر : إنها بكة ، يبك بعضها بعضا .

    7438 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الصمد قال : : حدثنا شعبة قال : حدثنا سلمة ، عن مجاهد قال : إنما سميت "بكة " ، لأن الناس يتباكون فيها ، الرجال والنساء .

    7439 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد قال : قلت : لأي شيء سميت "بكة "؟ قال : لأنهم يتباكون فيها قال : يعني : يزدحمون .

    7440 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأسود بن قيس ، عن أبيه ، عن ابن الزبير قال : إنما سميت "بكة " ، لأنهم يأتونها حجاجا .

    7441 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا " ، فإن الله بك به الناس جميعا ، فيصلي النساء قدام الرجال ، ولا يصلح ببلد غيره .

    7442 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : "بكة " ، بك الناس بعضهم بعضا ، الرجال والنساء ، يصلي بعضهم بين يدي بعض ، لا يصلح ذلك إلا بمكة . [ ص: 25 ]

    7443 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي قال : "بكة " ، موضع البيت ، و "مكة " : ما حولها .

    7444 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يحيى بن أزهر ، عن غالب بن عبيد الله : أنه سأل ابن شهاب عن "بكة " قال : "بكة " البيت ، والمسجد . وسأله عن " مكة " ، فقال ابن شهاب : " مكة " : الحرم كله .

    7445 - حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ومجاهد قالا "بكة " : بك فيها الرجال والنساء .

    7446 - حدثني عبد الجبار بن يحيى الرملي . قال : قال ضمرة بن ربيعة ، " بكة " : المسجد ، . و "مكة " : البيوت .

    وقال بعضهم بما : -

    7447 - حدثني به يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة " قال : هي مكة .

    وقيل : "مباركا " ، لأن الطواف به مغفرة للذنوب .

    فأما نصب قوله : "مباركا " ، فإنه على الخروج من قوله : "وضع " ، لأن في "وضع " ذكرا من "البيت " هو به مشغول ، وهو معرفة ، و "مبارك " نكرة لا يصلح أن يتبعه في الإعراب . [ ص: 26 ]

    وأما على قول من قال : "هو أول بيت وضع للناس " ، على ما ذكرنا في ذلك قول من ذكرنا قوله ، فإنه نصب على الحال من قوله : " للذي ببكة " . لأن معنى الكلام على قولهم : إن أول بيت وضع للناس البيت [ الذي ] ببكة مباركا . ف " البيت " عندهم من صفته "الذي ببكة " ، و"الذي" بصلته معرفته ، و"المبارك " نكرة ، فنصب على القطع منه ، في قول بعضهم وعلى الحال في قول بعضهم . و"هدى " في موضع نصب على العطف على قوله "مباركا " .
    القول في تأويل قوله تعالى ( فيه آيات بينات مقام إبراهيم )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك ،

    فقرأه قرأة الأمصار : ( فيه آيات بينات ) على جماع "آية " ، بمعنى : فيه علامات بينات .

    وقرأ ذلك ابن عباس . ( فيه آية بينة ) ، يعني بها : مقام إبراهيم ، يراد بها : علامة واحدة .

    ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فيه آيات بينات " وما تلك الآيات؟ . فقال بعضهم : مقام إبراهيم والمشعر الحرام ، ونحو ذلك .

    ذكر من قال ذلك :

    7448 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : [ ص: 27 ] حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فيه آيات بينات " ، مقام إبراهيم ، والمشعر .

    7449 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ومجاهد : " فيه آيات بينات مقام إبراهيم " قال : مقام إبراهيم ، من الآيات البينات .

    وقال آخرون : "الآيات البينات " ، مقام إبراهيم " ومن دخله كان آمنا " .

    ذكر من قال ذلك :

    7450 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " فيه آيات بينات " قال : " مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا " .

    وقال آخرون : "الآيات البينات " ، هو مقام إبراهيم .

    ذكر من قال ذلك :

    7451 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قوله : " فيه آيات بينات مقام إبراهيم " أما "الآيات البينات " فمقام إبراهيم .

    قال أبو جعفر : وأما الذين قرأوا ذلك : "فيه آية بينة " على التوحيد ، فإنهم عنوا ب "الآية البينة " ، مقام إبراهيم .

    ذكر من قال ذلك :

    7452 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي [ ص: 28 ] نجيح ، عن مجاهد : "فيه آية بينة " ، قال : قدماه في المقام آية بينة . يقول : " ومن دخله كان آمنا " قال : هذا شيء آخر .

    7453 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد : "فيه آية بينة مقام إبراهيم " قال : أثر قدميه في المقام ، آية بينة .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ، قول من قال : "الآيات البينات ، منهن مقام إبراهيم " ، وهو قول قتادة ومجاهد الذي رواه معمر عنهما . فيكون الكلام مرادا فيه "منهن " ، فترك ذكره اكتفاء بدلالة الكلام عليها .

    فإن قال قائل : فهذا المقام من الآيات البينات ، فما سائر الآيات التي من أجلها قيل : " آيات بينات

    قيل : منهن المقام ، ومنهن الحجر ، ومنهن الحطيم .

    وأصح القراءتين في ذلك قراءة من قرأه : " فيه آيات بينات " ، على الجماع ، لإجماع قرأة أمصار المسلمين على أن ذلك هو القراءة الصحيحة دون غيرها .

    وأما اختلاف أهل التأويل في تأويل : " مقام إبراهيم " ، فقد ذكرناه في "سورة البقرة " ، وبينا أولى الأقوال بالصواب فيه هنالك ، وأنه عندنا المقام المعروف به . [ ص: 29 ]

    فتأويل الآية إذا : إن أول بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين ، للذي ببكة ، فيه علامات بينات من قدرة الله وآثار خليله إبراهيم ، منهن أثر قدم خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الحجر الذي قام عليه .
    القول في تأويل قوله ( ومن دخله كان آمنا )

    اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : تأويله : الخبر عن أن كل من جر في الجاهلية جريرة ثم عاذ بالبيت ، لم يكن بها مأخوذا .

    ذكر من قال ذلك :

    7454 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ومن دخله كان آمنا " وهذا كان في الجاهلية ، كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه ، ثم لجأ إلى حرم الله ، لم يتناول ولم يطلب . فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله ، من سرق فيه قطع ، ومن زنى فيه أقيم عليه الحد ، ومن قتل فيه قتل وعن قتادة : أن الحسن كان يقول : إن الحرم لا يمنع من حدود الله . لو أصاب حدا في غير الحرم ، فلجأ إلى الحرم ، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد .

    ورأى قتادة ما قاله الحسن .

    7455 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " ومن دخله كان آمنا " قال : كان ذلك في الجاهلية . [ ص: 30 ] فأما اليوم ، فإن سرق فيه أحد قطع ، وإن قتل فيه قتل ، ولو قدر فيه على المشركين قتلوا .

    7456 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثنا عبد السلام بن حرب قال : حدثنا خصيف ، عن مجاهد في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم قال : يؤخذ ، فيخرج من الحرم ، ثم يقام عليه الحد . يقول : القتل .

    7457 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن حماد ، مثل قول مجاهد .

    7458 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال : أخبرنا هشام ، عن الحسن وعطاء في الرجل يصيب الحد ويلجأ إلى الحرم يخرج من الحرم ، فيقام عليه الحد .

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية على قول هؤلاء : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، والذي دخله من الناس كان آمنا بها في الجاهلية .

    وقال آخرون : معنى ذلك : ومن يدخله يكن آمنا بها بمعنى الجزاء ، كنحو قول القائل . "من قام لي أكرمته " ، بمعنى : من يقم لي أكرمه . وقالوا : هذا أمر كان في الجاهلية ، كان الحرم مفزع كل خائف . وملجأ كل جان ، لأنه لم يكن يهاج به ذو جريرة ، ولا يعرض الرجل فيه لقاتل أبيه وابنه بسوء . قالوا : وكذلك هو في الإسلام ، لأن الإسلام زاده تعظيما وتكريما .

    ذكر من قال ذلك :

    7459 - حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد قال : حدثنا خصيف قال : حدثنا مجاهد قال : قال ابن عباس : إذا أصاب الرجل الحد : قتل أو سرق ، فدخل الحرم ، لم يبايع ولم يؤو ، حتى يتبرم فيخرج من الحرم ، فيقام عليه الحد . قال . فقلت لابن عباس : ولكني لا أرى [ ص: 31 ] ذلك! أرى أن يؤخذ برمته ، ثم يخرج من الحرم ، فيقام عليه الحد ، فإن الحرم لا يزيده إلا شدة .

    7460 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال : حدثنا عبد الملك ، عن عطاء قال : أخذ ابن الزبير سعدا مولى معاوية - وكان في قلعة بالطائف - فأرسل إلى ابن عباس من يشاوره فيهم : إنهم لنا عدو . فأرسل إليه ابن عباس : لو وجدت قاتل أبي لم أعرض له . قال : فأرسل إليه ابن الزبير : ألا نخرجهم من الحرم ؟ قال : فأرسل إليه ابن عباس : أفلا قبل أن تدخلهم الحرم ؟ زاد أبو السائب في حديثه : فأخرجهم فصلبهم ، ولم ينظر إلى قول ابن عباس .

    7461 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : من أحدث حدثا في غير الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم لم يعرض له ، ولم يبايع ، ولم يكلم ، ولم يؤو حتى يخرج من الحرم . فإذا خرج من الحرم ، أخذ فأقيم عليه الحد . قال : ومن أحدث في الحرم حدثا أقيم عليه . [ ص: 32 ]

    7462 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر السلمي ، عن ابن أبي حبيبة ، عن داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : من أحدث حدثا ثم استجار بالبيت فهو آمن ، وليس للمسلمين أن يعاقبوه على شيء إلى أن يخرج . فإذا خرج أقاموا عليه الحد .

    7463 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا حجاج ، عن عطاء عن ابن عمر قال : لو وجدت قاتل عمر في الحرم ، ما هجته .

    7464 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا : حدثنا ابن إدريس قال : حدثنا ليث ، عن عطاء : أن الوليد بن عتبة أراد أن يقيم الحد في الحرم ، فقال له عبيد بن عمير : لا تقم عليه الحد في الحرم إلا أن يكون أصابه فيه .

    7465 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال : أخبرنا مطرف ، عن عامر قال : إذا أصاب الحد ثم هرب إلى الحرم ، فقد أمن ، فإذا أصابه في الحرم أقيم عليه الحد في الحرم .

    7466 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن فراس ، عن الشعبي قال : من أصاب حدا في الحرم أقيم عليه في الحرم . ومن أصابه خارجا من الحرم ثم دخل الحرم ، لم يكلم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم ، فيقام عليه .

    7467 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثنا عبد السلام بن حرب قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير وعن عبد الملك ، عن عطاء بن أبي رباح في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم قال : لا يبيعه أهل مكة ولا يشترون منه ، ولا يسقونه ولا يطعمونه ولا يؤونه ، عد أشياء كثيرة حتى [ ص: 33 ] يخرج من الحرم ، فيؤخذ بذنبه .

    7468 - حدثت عن عمار قال : : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن الرجل إذا أصاب حدا ثم دخل الحرم ، أنه لا يطعم ، ولا يسقى ، ولا يؤوى ، ولا يكلم ، ولا ينكح ، ولا يبايع . فإذا خرج منه أقيم عليه الحد .

    7469 - حدثني المثنى قال : حدثني حجاج قال : : حدثنا حماد ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : إذا أحدث الرجل حدثا ثم دخل الحرم ، لم يؤو ، ولم يجالس ، ولم يبايع ، ولم يطعم ، ولم يسق ، حتى يخرج من الحرم .

    7470 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .

    7471 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : " ومن دخله كان آمنا " ، فلو أن رجلا قتل رجلا ثم أتى الكعبة فعاذ بها ، ثم لقيه أخو المقتول لم يحل له أبدا أن يقتله .

    وقال آخرون : معنى ذلك : ومن دخله يكن آمنا من النار .

    ذكر من قال ذلك :

    7472 - حدثنا علي بن مسلم قال : حدثنا أبو عاصم قال : أخبرنا رزيق بن مسلم المخزومي قال : حدثنا زياد بن أبي عياش ، عن يحيى بن جعدة في قوله : " ومن دخله كان آمنا " قال : آمنا من النار . [ ص: 34 ]

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قول ابن الزبير ومجاهد والحسن ، ومن قال : "معنى ذلك : ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذا به ، كان آمنا ما كان فيه ، ولكنه يخرج منه فيقام عليه الحد ، إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثم لجأ إليه . وإن كان أصابه فيه أقيم عليه فيه " .

    فتأويل الآية إذا : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، ومن يدخله من الناس مستجيرا به ، يكن آمنا مما استجار منه ما كان فيه ، حتى يخرج منه .

    فإن قال قائل : وما منعك من إقامة الحد عليه فيه ؟

    قيل : لاتفاق جميع السلف على أن من كانت جريرته في غيره ثم عاذ به ، [ ص: 35 ] فإنه لا يؤخذ بجريرته فيه . وإنما اختلفوا في صفة إخراجه منه لأخذه بها .

    فقال بعضهم : صفة ذلك : منعه المعاني التي يضطر مع منعه وفقده إلى الخروج منه .

    وقال آخرون : لا صفة لذلك غير إخراجه منه بما أمكن إخراجه من المعاني التي توصل إلى إقامة حد الله معها .

    فلذلك قلنا : غير جائز إقامة الحد عليه فيه إلا بعد إخراجه منه . فأما من أصاب الحد فيه ، فإنه لا خلاف بين الجميع في أنه يقام عليه فيه الحد . فكلتا المسألتين أصل مجمع على حكمهما على ما وصفنا .

    فإن قال لنا قائل : وما دلالتك على أن إخراج العائذ بالبيت إذا أتاه مستجيرا به من جريرة جرها . أو من حد أصابه من الحرم ، جائز لإقامة الحد عليه ، وأخذه بالجريرة ، وقد أقررت بأن الله عز وجل قد جعل من دخله آمنا ، ومعنى "الآمن " غير معنى "الخائف " ؟ فبما هما فيه مختلفان ؟ .

    قيل : قلنا ذلك ، لإجماع الجميع من المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة ، على أن إخراج العائذ به من جريرة أصابها أو فاحشة أتاها وجبت عليه بها عقوبة منه ببعض معاني الإخراج لأخذه بما لزمه ، واجب على إمام المسلمين وأهل الإسلام معه .

    وإنما اختلفوا في السبب الذي يخرج به منه .

    فقال بعضهم : السبب الذي يجوز إخراجه به منه : ترك جميع المسلمين مبايعته وإطعامه وسقيه وإيواءه وكلامه ، وما أشبه ذلك من المعاني التي لا قرار للعائذ به [ ص: 36 ] فيه مع بعضها ، فكيف مع جميعها ؟

    وقال آخرون منهم : بل إخراجه لإقامة ما لزمه من العقوبة ، واجب بكل معاني الإخراج .

    فلما كان إجماعا من الجميع على أن حكم الله - فيمن عاذ بالبيت من حد أصابه أو جريرة جرها - إخراجه منه ، لإقامة ما فرض الله على المؤمنين إقامته عليه ، ثم اختلفوا في السبب الذي يجوز إخراجه به منه كان اللازم لهم ولإمامهم إخراجه منه بأي معنى أمكنهم إخراجه منه ، حتى يقيموا عليه الحد الذي لزمه خارجا منه إذا كان لجأ إليه من خارج ، على ما قد بينا قبل .

    وبعد ، فإن الله عز وجل لم يضع حدا من حدوده عن أحد من خلقه من أجل بقعة وموضع صار إليها من لزمه ذلك ، . وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

    7473 - " إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة " .

    ولا خلاف بين جميع الأمة أن عائذا لو عاذ من عقوبة لزمته بحرم النبي صلى الله عليه وسلم ، يؤاخذ بالعقوبة فيه . ولولا ما ذكرت من إجماع السلف على أن حرم إبراهيم لا يقام فيه على من عاذ به من عقوبة لزمته حتى يخرج منه ما لزمه ، لكان أحق البقاع أن تؤدى فيه فرائض الله التي ألزمها عباده من قتل أو غيره ، أعظم البقاع إلى الله ، كحرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكنا أمرنا بإخراج من أمرنا بإخراجه من حرم الله لإقامة الحد ، لما ذكرنا من فعل الأمة ذلك وراثة .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #420
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (420)
    صــ 37 إلى صــ 51




    [ ص: 37 ]

    فمعنى الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا : ومن دخله كان آمنا ما كان فيه . فإذ كان ذلك كذلك ، فمن لجأ إليه من عقوبة لزمته عائذا به ، فهو آمن ما كان به حتى يخرج منه ، وإنما يصير إلى الخوف بعد الخروج أو الإخراج منه ، فحينئذ هو غير داخله ولا هو فيه .
    القول في تأويل قوله تعالى ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا )



    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وفرض واجب لله على من استطاع من أهل التكليف السبيل إلى حج بيته الحرام الحج إليه .

    وقد بينا فيما مضى معنى "الحج" ، ودللنا على صحة ما قلنا من معناه ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

    واختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل : " من استطاع إليه سبيلا " ، وما السبيل التي يجب مع استطاعتها فرض الحج ؟

    فقال بعضهم : هي الزاد والراحلة .

    ذكر من قال ذلك :

    7474 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد بن بكر قال : أخبرنا ابن جريج قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "من استطاع إليه سبيلا " قال : الزاد والراحلة .

    7475 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا محمد بن بكر قال : أخبرنا ابن [ ص: 38 ] جريج قال : قال عمرو بن دينار : الزاد والراحلة .

    7476 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن أبي جناب ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : " من استطاع إليه سبيلا " ، قال : الزاد والبعير .

    7477 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ، والسبيل أن يصح بدن العبد ، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به .

    7478 - حدثنا خلاد بن أسلم قال : حدثنا النضر بن شميل قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي عبد الله البجلي قال : سألت سعيد بن جبير عن قوله : " من استطاع إليه سبيلا " ، قال قال ابن عباس : من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه .

    7479 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو عاصم ، عن إسحاق بن عثمان قال : سمعت عطاء يقول : السبيل ، الزاد والراحلة .

    7480 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " من استطاع إليه سبيلا " ، فإن ابن عباس قال : السبيل ، راحلة وزاد .

    7481 - حدثني المثنى وأحمد بن حازم قالا حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن سوقة ، عن سعيد بن جبير : "من استطاع إليه سبيلا " ، قال : الزاد والراحلة . [ ص: 39 ]

    7482 - حدثنا أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : أخبرنا الربيع بن صبيح ، عن الحسن ، قال : الزاد والراحلة .

    7483 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحسن قال : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ، فقال رجل : يا رسول الله ، ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة .

    واعتل قائلو هذه المقالة بأخبار رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما قالوا في ذلك .

    ذكر الرواية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

    7484 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا إبراهيم بن يزيد الخوزي قال : سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث ، عن ابن عمر قال : قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما السبيل ؟ قال : "الزاد والراحلة " . [ ص: 40 ]

    7485 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم الخوزي ، عن محمد بن عباد ، عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله عز وجل : " من استطاع إليه سبيلا " ، قال : السبيل إلى الحج ، الزاد والراحلة .

    7486 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا يونس وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس عن الحسن قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ، قالوا : يا رسول الله ، ما السبيل ؟ قال . "الزاد والراحلة . [ ص: 41 ]

    7487 - حدثنا أبو عثمان المقدمي والمثني بن إبراهيم قالا : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ، وذلك أن الله عز وجل يقول في كتابه : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " الآية .

    7488 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، [ ص: 42 ] عن الحسن قال : بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال له قائل ، أو رجل : يا رسول الله ، ما السبيل إليه ؟ قال : من وجد زادا وراحلة .

    7489 - حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال : حدثنا شاذ بن فياض البصري قال : حدثنا هلال أبو هاشم ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن الحارث ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ملك زادا وراحلة فلم يحج مات يهوديا أو نصرانيا . وذلك أن الله يقول في كتابه : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " الآية .

    7490 - حدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة وحميد ، عن الحسن ، أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما السبيل إليه ؟ قال : الزاد والراحلة .

    7491 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا [ ص: 43 ] حماد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله .

    وقال آخرون : السبيل التي إذا استطاعها المرء كان عليه الحج : الطاقة للوصول إليه . قالوا : وذلك قد يكون بالمشي وبالركوب ، وقد يكون مع وجودهما العجز عن الوصول إليه : بامتناع الطريق من العدو الحائل ، وبقلة الماء ، وما أشبه ذلك . قالوا : فلا بيان في ذلك أبين مما بينه الله عز وجل ، بأن يكون مستطيعا إليه السبيل ، وذلك : الوصول إليه بغير مانع ولا حائل بينه وبينه ، وذلك قد يكون بالمشي وحده وإن أعوزه المركب ، وقد يكون بالمركب وغير ذلك .

    ذكر من قال ذلك :

    7492 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا سفيان ، عن خالد بن أبي كريمة ، عن رجل ، عن ابن الزبير قوله : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " قال : على قدر القوة .

    7493 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " من استطاع إليه سبيلا " ، قال : الزاد والراحلة ، فإن كان شابا صحيحا ليس له مال ، فعليه أن يؤاجر نفسه بأكله وغفته حتى يقضي حجته به ، فقال له قائل : كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو أن لبعضهم ميراثا بمكة ، أكان تاركه ؟ والله لانطلق إليه ولو حبوا!! كذلك يجب عليه الحج .

    7494 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد بن بكر قال : أخبرنا ابن [ ص: 44 ] جريج قال : قال عطاء : من وجد شيئا يبلغه ، فقد وجد سبيلا كما قال الله عز وجل : . " من استطاع إليه سبيلا " .

    7495 - حدثنا أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا أبو هانئ قال : سئل عامر عن هذه الآية : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ؟ قال : السبيل ، ما يسره الله .

    7496 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد ، عن الحسن : من وجد شيئا يبلغه فقد استطاع إليه سبيلا .

    وقال آخرون : السبيل إلى ذلك : الصحة .

    ذكر من قال ذلك :

    7497 - حدثنا محمد بن حميد ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمثنى بن إبراهيم قالوا ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال : حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة قالا أخبرنا شرحبيل بن شريك المعافري : أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول في هذه الآية : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ، قال : السبيل الصحة .

    وقال آخرون بما : -

    7498 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله عز وجل : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ، قال : من وجد قوة في النفقة والجسد والحملان . قال : وإن كان في جسده ما لا يستطيع [ ص: 45 ] الحج ، فليس عليه الحج ، وإن كان له قوة في مال ، كما إذا كان صحيح الجسد ولا يجد مالا ولا قوة ، يقولون : لا يكلف أن يمشي .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قول من قال بقول ابن الزبير وعطاء : إن ذلك على قدر الطاقة . لأن "السبيل " في كلام العرب : الطريق ، فمن كان واجدا طريقا إلى الحج لا مانع له منه من زمانة ، أو عجز ، أو عدو ، أو قلة ماء في طريقه ، أو زاد ، أو ضعف عن المشي ، فعليه فرض الحج ، لا يجزيه إلا أداؤه . فإن لم يكن واجدا سبيلا أعني بذلك : فإن لم يكن مطيقا الحج ، بتعذر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه فهو ممن لا يجد إليه طريقا ولا يستطيعه . لأن الاستطاعة إلى ذلك ، هو القدرة عليه . ومن كان عاجزا عنه ببعض الأسباب التي ذكرنا أو بغير ذلك ، فهو غير مطيق ولا مستطيع إليه السبيل .

    وإنما قلنا : هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها ، لأن الله عز وجل لم يخصص ، إذ ألزم الناس فرض الحج ، بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه . فذلك على كل مستطيع إليه سبيلا بعموم الآية .

    فأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بأنه : " الزاد والراحلة " ، فإنها أخبار في أسانيدها نظر ، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدين .

    قال أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة "الحج " .

    فقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل المدينة والعراق بالكسر : ( ولله على الناس حج البيت ) .

    وقرأ ذلك جماعة أخر منهم بالفتح : ( ولله على الناس حج البيت ) .

    وهما لغتان معروفتان للعرب ، فالكسر لغة أهل نجد ، والفتح لغة أهل العالية . ولم نر أحدا من أهل العربية ادعى فرقا بينهما في معنى ولا غيره ، غير ما ذكرنا من اختلاف اللغتين; إلا ما : -

    7499 - حدثنا به أبو هشام الرفاعي قال : قال حسين الجعفي "الحج " . مفتوح ، اسم ، "والحج " مكسور ، عمل .

    وهذا قول لم أر أهل المعرفة بلغات العرب ومعاني كلامهم يعرفونه ، بل رأيتهم مجمعين على ما وصفت ، من أنهما لغتان بمعنى واحد .

    والذي نقول به في قراءة ذلك : أن القراءتين إذ كانتا مستفيضتين في قراءة أهل الإسلام ، ولا اختلاف بينهما في معنى ولا غيره فهما قراءتان قد جاءتا مجيء الحجة ، فبأي القراءتين - أعني : بكسر "الحاء " من "الحج " أو فتحها - قرأ القارئ فمصيب الصواب في قراءته .

    وأما "من " التي مع قوله : " من استطاع " ، فإنه في موضع خفض على الإبدال من "الناس " . لأن معنى الكلام : ولله على من استطاع من الناس سبيلا إلى حج البيت ، حجه . فلما تقدم ذكر "الناس " قبل "من " ، بين بقوله : " من استطاع إليه سبيلا " ، الذي عليه فرض ذلك منهم . لأن فرض ذلك على بعض الناس دون جميعهم .
    [ ص: 47 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ( 97 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حج بيته ، فأنكره وكفر به ، فإن الله غني عنه وعن حجه وعمله ، وعن سائر خلقه من الجن والإنس ، كما :

    7500 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن محمد بن أبي المجالد قال : سمعت مقسما ، عن ابن عباس في قوله : " ومن كفر " ، قال : من زعم أنه ليس بفرض عليه .

    7501 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا الحجاج ، عن عطاء وجويبر ، عن الضحاك في قوله : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، قالا : من جحد الحج وكفر به .

    7502 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا هشيم ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن عطاء قال : من جحد به .

    7503 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا عمران القطان ، يقول : من زعم أن الحج ليس عليه .

    7504 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، قال : من أنكره ، ولا يرى أن ذلك عليه حقا ، فذلك كفر .

    7505 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ومن كفر " ، قال : من كفر بالحج . [ ص: 48 ]

    7506 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال : أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، قال : من كفر بالحج ، كفر بالله .

    7507 - حدثني المثنى قال : حدثنا يعلى بن أسد قال : حدثنا خالد ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن في قول الله عز وجل : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر " ، قال : من لم يره عليه واجبا .

    7508 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ومن كفر " ، قال : بالحج .

    وقال آخرون : معنى ذلك : "أن لا يكون معتقدا في حجه أن له الأجر عليه ، ولا أن عليه بتركه إثما ولا عقوبة " .

    ذكر من قال ذلك :

    7509 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية قال : أخبرنا ابن جريج قال : حدثني عبد الله بن مسلم ، عن مجاهد في قوله : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، قال : هو ما إن حج لم يره برا ، وإن قعد لم يره مأثما .

    7510 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال : أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : هو ما إن حج لم يره برا ، وإن قعد لم يره مأثما .

    7511 - حدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا فطر ، عن أبي داود نفيع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " [ ص: 49 ] فقام رجل من هذيل ، فقال : يا رسول الله ، من تركه كفر ؟ قال : من تركه ولا يخاف عقوبته ، ومن حج ولا يرجو ثوابه ، فهو ذاك .

    7512 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، يقول : من كفر بالحج ، فلم ير حجه برا ، ولا تركه مأثما .

    وقال آخرون : معنى ذلك : ومن كفر بالله واليوم الآخر .

    ذكر من قال ذلك :

    7513 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد قال : سألته عن قوله : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، ما هذا الكفر ؟ قال : من كفر بالله واليوم الآخر .

    7514 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : " ومن كفر " ، قال : من كفر بالله واليوم الآخر .

    7515 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ، قال : لما نزلت آية الحج ، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فقال : يا أيها الناس ، إن الله عز وجل كتب عليكم الحج فحجوا ، فآمنت به ملة [ ص: 50 ] واحدة ، وهي من صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، وآمن به ، وكفرت به خمس ملل ، قالوا : لا نؤمن به ، ولا نصلي إليه ، ولا نستقبله . فأنزل الله عز وجل : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " .

    7516 - حدثني أحمد بن حازم قال : أخبرنا أبو نعيم قال : حدثنا أبو هانئ قال : سئل عامر عن قوله : " ومن كفر " ، قال : من كفر من الخلق ، فإن الله غني عنه .

    7517 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم ، عن محمد بن عباد ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في قول الله : " ومن كفر " ، قال : من كفر بالله واليوم الآخر .

    7518 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله عز وجل : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا ) [ سورة آل عمران : 85 ] ، فقالت الملل : نحن مسلمون! فأنزل الله عز وجل : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، فحج المؤمنون ، وقعد الكفار .

    وقال آخرون : معنى ذلك : ومن كفر بهذه الآيات التي في مقام إبراهيم .

    ذكر من قال ذلك :

    7519 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، فقرأ : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا " ، فقرأ حتى بلغ : " من استطاع إليه سبيلا ومن كفر " ، قال : من كفر بهذه الآيات " فإن الله غني عن العالمين " ، ليس كما يقولون : "إذا [ ص: 51 ] لم يحج وكان غنيا وكانت له قوة " ، فقد كفر بها . وقال قوم من المشركين : فإنا نكفر بها ولا نفعل! فقال الله عز وجل : " فإن الله غني عن العالمين " .

    وقال آخرون بما : -

    7520 - حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال : أخبرنا أبو عمر الضرير قال : حدثنا حماد ، عن حبيب بن أبي بقية ، عن عطاء بن أبي رباح ، في قوله : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، قال : من كفر بالبيت .

    وقال آخرون : كفره به : تركه إياه حتى يموت .

    ذكر من قال ذلك :

    7521 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثني أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " من كفر " ، فمن وجد ما يحج به ثم لا يحج ، فهو كافر .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بالصواب في ذلك قول من قال : "معنى " ومن كفر " ، ومن جحد فرض ذلك وأنكر وجوبه ، فإن الله غني عنه وعن حجه وعن العالمين جميعا " .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •