تعريف الإنشاء


د. أحمد الخاني




الألفاظ إذًا عنصر مهم في حُسن الإنشاء، إلى درجة جعلت أحد الكتاب يعرِّف الإنشاء الجيد بأنه: (القدرة على وضع الكلمة المناسبة في المكان المناسب).

وهناك ثلاثة عوامل لكي تؤدي الكلمة وظيفتها:
الأول:
أن الألفاظ هي رموز للأشياء التي نراها أو نحسها أو نسمعها أو نلمسها أو نشمها ونتذوقها.. نحن نستعيض باللفظة عن الشيء ذاته نقول: عين، أو سيارة فإن هاتين اللفظتين ترمزان إلى الأداة التي نبصر بها، وللآلة التي نركبها، وهما شيئان خارجان عن اللفظتين، إن الألفاظ تجعلنا نفكر في الأشياء، ونستحضرها في أذهاننا وهي بعيدة عن ناظرنا.

والسبب الثاني:
أن عدد الألفاظ في اللغة قليل بالنسبة للتجارب الإنسانية عند الأمة الناطقة بها، لقد استخدمت اللفظة الواحدة لأكثر من دلالة، وكل هذه الدلالات مرتبطة بالدلالة الحسية الأولى للفظة، أو متطورة عنها، لفظة عين مثلًا: نجد أنها تعني حاسة الإبصار، وتعني البئر أو عين الماء، وتعني الجاسوس.. والسياق هو الذي يحدد المعنى المقصود.

والسبب الثالث:
أن الألفاظ لا تستخدم فرادى لذاتها، وإنما ترتبط بغيرها من الألفاظ لتعبر مع بعضها عن فكرة تعمل في ذهنه. هذه العوامل الثلاثة لكي تؤدي الكلمة وظيفتها:
رمزية اللفظة لمدلول خارج عنها.
والسياق الذي تستخدم فيه.
وعدم وجودها منفردة أو مستقلة.
هذا ما يحدد استخدام أجدادنا الأقدمين للألفاظ.

وقد ورثناها عنهم حين نستخدم الألفاظ نفسها، وبذلك تبقى الصلة مستمرة بين الأجيال المتعاقبة في الأمة الواحدة وذلك في قراءتها ودراستها لتراث السابقين.

وأهم شروط اللفظة الجيدة ثلاثة:
أن تكون: دقيقة - ومحددة - وصحيحة.
ولنفصل القول في هذه الأمور الثلاثة.

الدقة في اختيار الألفاظ:
إن السبب وراء عدم دقة الألفاظ يرجع إلى أمرين:
أولهما: عدم قدرة الكاتب على التمييز بين المترادفات اللفظية.
وثانيهما: عدم معرفة الكاتب بسياق اللفظة المناسبة.
فإذا تلافى الكاتب هذين العيبين، فإن تفكيره يكون أكثر دقة وكذلك كتابته)[1].
ولأفصل القول في هذين الأمرين.

الأمر الأول: المترادفات:
من أهم ما يكون في الدقة في اختيار الألفاظ هو:
التمييز بين المترادفات:
(ترادفت الألفاظ: تشابهت في المعنى)[2]
هذا هو المعنى اللغوي.

أما المعنى الاصطلاحي للترادف فهو:
تعدد اللفظ واتحاد المعنى. مثل: دار، بيت، منزل، سكن، كهف، مغارة، خِصٌّ، قصر، عريش، ناطحة سحاب.
بعض علماء اللغة جمع الكثير من الكلمات المترادفة في الأسماء مثل: سيف، مهند، صارم، بتار، حسام، يماني، قاطع، عضب، صمصام، رسوب، الأبيض، فيصل، مخذم، كهام، الماضي، لعاب المنايا.

وفي الأفعال:
شاهد، أبصر، حدق، حملق، نظر، لمح، رمق، رأى، تأمل، حدَّج... فعلى الكاتب أن يحسن استخدام اللفظة التي تعيِّن المعنى بدقة من بين الكثير من الألفاظ المترادفة.

والسبب الثاني:
عدم استخدام اللفظة في سياقها المناسب:
لقد كان لأدبائنا وعلمائنا الأوائل حس لغوي يستخدمون به اللفظة في مكانها المناسب، وسياقها الصحيح فقالوا:
وجه دميم، كلمة عوراء، أمر شنيع، خطب فظيع، وكلها بمعنى: قبيح.
وقالوا: الصباحة في الوجه. والوضاءة في البشرة. والجمال في الأنف، والحلاوة في العينين. والملاحة في الفم. والظُّرف في اللسان. والرشاقة في القد. وكلها بمعنى: جميل.

والشرط الثاني:
من شروط اللفظة الجيدة أن تكون:
محددة:
(فمما يساعد على وضوح التفكير، ومن ثم التعبير عنه، أن يبتعد الكاتب عن استخدام الألفاظ ذات الدلالات العامة؛ فكلمة: سياسي، فقيه، شجرة، كلمات عامة لا تعطي مدلولًا محددًا، على عكس كلمات مثل: ابن تيمية، شجرة البرتقال التي ترمز إلى مدلولات محددة.

إلا أن تحديد الألفاظ مسألة نسبية، فهناك أكثر من درجة لتحديد المقصود، فالألفاظ التالية تتدرج من العمومية إلى التحديد بدرجات متفاوتة، وينبغي أن يميز الكاتب بين هذه الدرجات من التحديد بحيث يكون اتجاهه إلى الألفاظ المحددة حسب طبيعة ما يكتب، وأن يبتعد عن الألفاظ ذات الدلالة العامة قدر الإمكان.

كلمة عامة أقل عمومية محددة أكثر تحديدًا
نبات شجرة شجرة برتقال شجرة برتقال في بيتي
طعام حلوى مربى مربى التفاح
الناس العرب أهل الجزيرة العربية أهل جنوب الجزيرة

هذه الألفاظ يمكن إدراكها بحواسنا، لذلك يسهل علينا تحديدها.
ولكن هناك ألفاظًا مطلقة مثل: حرية، حب، كراهية شر، ديمقراطية، صداقة.. إلخ. مثل هذه الكلمات يصعب تحديها بالطريقة نفسها التي رأيناها من قبل، وهنا ينبغي أن تصدر هذه الألفاظ عن مفاهيم واضحة في ذهن الكاتب، وأن يحاول تحديدها قدر الإمكان.

وقد يعجز بعض الكتاب عن تحديد ألفاظهم، وذلك باستخدام ألفاظ عامة لا تعطي مدلولًا واحدًا مثل: مدهش. ماذا يعني قولنا مثلًا: لقد كانت رحلة قضينا فيها وقتًا مدهشًا. ماذا يفهم القارئ بالضبط من لفظة مدهش؟)[3].

ولكن الواقع أن الكاتب يقصد التعميم أحيانًا إذا كان الموضوع يقتضي ذلك، واستخدام الألفاظ المناسبة من التحديد أو التعمية يخضع لما يسمى في البلاغة:
(مقتضى الحال) أي، إذا كان الحال يقتضي التحديد، فيجب على الكاتب أن يحدد، ولكن قد يتطلب الموضوع التعميم، فاستعمال الألفاظ المحددة، قد تسبب إشكالات للكاتب هو في غنى عنها، وأحيانًا فإن استعمال ألفاظ التعميم قد تضيع المقصود من المعنى.

والشرط الثالث:
لتكون اللفظة جيدة هو تحري اللفظة الصحيحة:
لكي تكون كاتبًا ناجحًا ينبغي أن تستخدم ألفاظًا صحيحة سليمة.

وسلامة اللفظة تتطلب توافر ثلاثة شروط:
1 - أن تكون الكلمة صحيحة الاشتقاق:
إن كلمة (مباع) خطأ شائع على الألسنة وفي بعض الكتابات، والصواب: مبيع.
كذلك كلمة: سمحاء، وصوابها: سمحة.
لذلك ألفت المعاجم، وما على الدارس إلا أن يرجع إليها، فالمعاجم تضبط اللفظة واشتقاقها وتذكر معناها.

أما جموع التكسير؛ ففيها يكثر الخطأ من ذلك مثلًا:
المفرد
الجمع الشائع
الجمع الصحيح
عجلة
عجلات
عَجَل
مشترى
مشتروات
مشتريات
مدير
مدراء
مديرون
نسمة
نسائم
نسمات

فمن خرج عن اللغة السليمة كان بيانه كالأعجمي المستعرب.

2 - أن تكون اللفظة عربية:
في وقتنا الحاضر تتعرض لغتنا العربية لضغط هائل من اللغات الأجنبية ونحن نجرم بحق لغتنا إذا استسهلنا اللفظة الأجنبية، وفضلناها على اللفظة العربية. إن استخدام ألفاظ غير عربية، يفسد حديث المتحدث وكتابة الكاتب وشعر الشاعر.

3 - أن تكون اللفظة سليمة غير عامية:
(الألفاظ مرآة العقل) يؤيد هذا المعنى، إمام البلاغة العربية عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغيين فيقول:
(اعلم أن الكلام هو الذي يعطي العلوم منازلها ويبين مراتبها، ويبرز مكنون ضمائرها)[4]. فكيف يكذب بعض الناس باستعمال ألفاظ لا تدل على ما في الضمير؟ الجواب على ذلك، أننا حينما تكلمنا عن الألفاظ ودلالاتها. تكلمنا عن الحقيقة إذا عبر عنها بالألفاظ، فهي في هذه الحال مرآة العقل، وعنوان ما في الضمير، أما مسألة الألفاظ الخادعة فقد عرض لها الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه (دلالة الألفاظ) وفيه يقول عن الألفاظ الخادعة:
(...ولكن الإنسان في تعامله بالألفاظ لم يكن مخلصًا دائمًا، ولم يلتزم حدودها دائما. فإذا شاء التضليل والخداع والنفاق، لجأ إلى تلك الألفاظ، فاستمد منها أدواته، وإذا جنح إلى الشر، أو المكر أو الفتنة، وجد في تلك الألفاظ ما يستعين به، فلم ينطبق ما يدور في خلده على ما ينطق به، مما حمل بعض المتشائمين من اللغويين مثل (تاليراند) على القول: «إنما يتكلم الإنسان ليخفي ما يدور في ذهنه، وما تختلج به خواطره»[5].

فالمعلم يعلم اللغة نطقًا وكتابة لذاتها؛ فمن أراد أن يستعملها في الخير، فهو المطلوب، ومن أراد أن يستعملها في الشر فإن ذلك متاح.

ولكن، ألا ترى أن اللغة صادقة؟.
الإنسان الذي يقول ما يعتقد، تجده ينطق الحروف مطمئنة، أما الكاذب فإنه ينطق الحروف متلجلجة، فترداد الكلام:
1 - إما أن يكون عن نسيان.
كما في خطابة الخطباء، وهذا معروف في النحو باسم (بدل الغلط) كأن يقول الخطيب: اشترت سيفًا رمحًا، قال الخطيب: اشتريت سيفًا ثم استيقظ عقله الباطن واستدرك هذا النسيان وصححه فقال: رمحًا. وبعضهم يقول: بل رمحًا. (بل) للإضراب، أي: إلغاء السابق وتثبيت اللاحق.

وإما أن يكون ناتجًا عن إخفاء ما في الضمير، كما في الكذب، حيث يظهر بعض الصدق في فلتات اللسان وفي المحاكم شيء يسمى (حال المتهم) وقد ألفت كتب في هذا الموضوع.

فالحرف الكاذب يأبى أن يخرج من جوف صاحبه بشكل طبيعي مطمئن، وفي العصر الحديث أجهزة كشف الكذب، ربما كانت معتمدة على ذبذبات الصوت وتردد موجاته، إضافة إلى نبض القلب.

فالألفاظ مرآة العقل، وإشعاع النفس، وصوت الضمير، وهذا في الصوت المسموع والحرف المدون يترك أثره على القرطاس، وما أكثر ما يمسك إنسان نصًا نثريًا أو شعريًا، فيحكم على صاحبه بأنه صادق، أو غير ذلك، والكتابة هي القول المرسوم بالحروف، أو هي الضمير المترجم بالكلمات.

تطبيقات:
1 - ما تعريف الإنشاء الجيد؟.
2 - شروط اللفظة الجيدة ثلاثة. عددها؟
3 - عدم دقة الألفاظ يرجع إلى أمرين، فما هما؟.
4 - ما معنى (مقتضى الحال) في الكتابة؟.
5 - سلامة اللفظ تتطلب شروطًا ثلاثة فما هي؟.
6 - كلمة (عين) كم معنى تعرف لها؟.
7 - ما معنى الترادف؛ لغة واصطلاحًا؟.
8 - هات أمثلة سبعة على الترادف في الأسماء، وسبعة على الترادف في الأفعال.
9 - عدد عشرة أسماء للسيف.
10 - هات ثلاث كلمات خطأ، وصححها، (لا يشترط أن تكون هذه الكلمات من الكتاب).
11 - اشرح هذه العبارة: (الألفاظ مرآة العقل).
12 - اكتب موضوعًا تبين فيه السبيل للارتقاء باللغة العربية.



[1] التحرير العربي د. عثمان بن صالح الفريح ود. أحد شوقي عثمان ط ص 33.

[2] المنجد مادة: ردف.

[3] المصدر السابق ص 48.

[4] أسرار البلاغة. عبد القاهر الجرجاني بتحقيق هـ. ريتر ط2 ص 2.

[5] دلالات الألفاظ د. إبراهيم أنيس ط 3، ص 10.