رمضان مودع


نجلاء جبروني





في ليلةٍ مِن ليالي شهر شعبان قرَّرَتِ الذَّهابَ إلى المسجد للاستماع إلى درس العشاء.
لم تكن تحبُّ الذهابَ، لكنَّها فقط تلبِّي رغبةَ أخيها الأكبر، استمعَتْ إلى الدرس وهي شاردة الذِّهن، منشغلة البال.
ترى كيف سارت أحداثُ مسلسلها المفضَّل اليوم؟ وكيف ستقضي يوم غدٍ مع صديقاتها في حفل عيد الميلاد؟!
انتهى الدرسُ وعادت مسرعة إلى البيت، لا تكاد تجِد في قلبها أثَرًا لِما سمِعتْه من كلمات.
مرَّتِ الأيام، وفي آخر ليلةٍ مِن ليالي شعبان تَسمع صوتَ الصراخ يملأ الأرجاء، لقد توفِّي أحد الجيران.

ساعتها تردَّدتْ في أذنيها بعضُ تلك الكلمات التي سمِعتْها في درس العشاء:
"ربَّما حُرم العبدُ مِن أن يدرك رمضانَ، ربَّما مات في آخر ليلةٍ مِن شعبان، ربما كان رمضان هذا العام هو آخر رمضان له في هذه الحياة؛ (إنَّه رمضان مودع)".
تخيَّلَتْ لو كان ملَكُ الموت دخل بيتها هي دون بيت جارها، وقبَض روحَها هي دون روحه.
ربَّاه! ماذا كنتُ سأفعل؟ شعرَتْ بالخوف، اضطرب قلبُها، بدأت تحدِّثُ نفسَها.
لا ليس الآن، أنا لم أستعدَّ بعدُ، وفجأة تذكَّرتْ: رمضان غدًا.

بدأ القلبُ يخفق، إنها أنوار الهِداية ملأَتْ قلبها المقبِل على الله، فبدَّدتْ ظلمات المعصية، وانتشر الضِّياءُ، فعَمَّ الأرجاء، رمضان إذًا فُرصتي! إنه البداية لحياةٍ جديدة، حياة مليئة بطاعة الله، بعيدة عن مَعصيته.

وأنت؛ ماذا لو كان رمضان هذا العام هو آخر رمضان لك في هذه الحياة؟! ماذا لو كان رمضان مودِّع؟ تُرى ماذا سيكون بالنِّسبة لك؟ إنَّه طوق النَّجاة، إنَّه فرصتُك الأخيرة في هذه الحياة، أن تنال العِتقَ مِن النيران، والفوزَ بالجنان؛ أبواب الجنَّة مُفتَّحة، أبواب النار مُغلقة، الشياطين مُصفَّدة، ينادي عليك المنادي: "يا باغِي الخيرِ، أَقْبِلْ!":
1 - أقبِل على الصيام؛ ليس صيامًا عن الطعام والشراب فحسب، بل عن اللَّغو والرَّفث، والفحشِ والخبث، والغشِّ والكذب، والغلِّ والحسَد، عن الخمر والرِّبا، والسبِّ والشتم، عن التبرُّج والاختلاط، عن الأفلام والمسلسلات، عن الحبِّ الحرام، والعشقِ والغرام، وسائر الآثام؛ إنَّه رمضان مودِّع.

2 - أقبِل على الصلوات الخمس في أوقاتها، بخضوعٍ وخشوع وحضورٍ للقلب (صلِّ صلاةَ مودِّع)؛ إنَّه رمضان مودِّع.

3 - أقبِل على القيام، وداوِم عليه كلَّ ليلة من ليالي رمضان، تَحرَّ ليلةَ القدر، ليلة خيرٌ من ألف شَهر، لو عبدتَ اللهَ فيها فكأنما عبدتَه عمرًا بأكمله؛ إنَّه رمضان مودِّع.

4 - أقبِل على القرآن، اجتهِد أن تقرأ كلَّ يومٍ جزأين أو ثلاثة أو أكثر؛ إنَّه رمضان مودع.

5 - احرِصْ على أن تكون لك خَتمة تفسير وتدبُّر، يرقُّ بها قلبك، ويخشع بها فؤادك، تفهم مراد ربِّك؛ فتمتثل الأمر، وتجتنب النهي؛ إنَّه رمضان مودع.

6 - أقبِل على برِّ والديك؛ فقد أمَر الله ببرِّهما بعدما أمر بتوحيده عز وجل: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]، فتذكَّر جميلَهما، واعفُ عن تقصيرهما، وادعُ لهما؛ إنَّه رمضان مودِّع.

7 - أقبِل على الصَّدَقة: ((الصَّدقة تُطفئ غضبَ الربِّ، وتدفع ميتةَ السوء))[1]، أنفِق أموالَك بسَخاء في رمضان؛ إنَّه رمضان مودِّع.

8 - أقبِل على ذِكر الله، واغتنم حجَّةً وعمرةً كلَّ يوم في رمضان؛ ((مَن صلَّى الفجرَ في جماعةٍ، ثم قعد يذكُرُ الله حتى تطلعَ الشمسُ، ثمَّ صلَّى ركعتين، كانت له كأجر حجَّةٍ وعمرةٍ تامَّةٍ، تامَّةٍ، تامَّةٍ))[2]؛ إنَّه رمضان مودع.

9 - أقبِل على صِلَة الرَّحِم؛ صِلْ رحمك، واعفُ عمَّن ظلَمك، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: ثمَّ لقيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأخذتُ بيده فقلتُ: يا رسولَ الله، أخبِرني بفواضِل الأعمال؟ فقال: ((يا عُقبةُ، صِلْ مَن قطَعك، وأعطِ مَن حرَمك، وأعرض عمَّن ظلَمك))، وفي روايةٍ: ((واعفُ عمَّن ظلَمك))[3]؛ إنَّه رمضان مودِّع.

10 - أقبِل على الدعوة إلى الله في كلِّ مكان، وعند اللِّقاءات والزيارات، إنَّها فرصة عظيمة لاجتِماع الأهل والأحباب، فلا تضيِّعْها دون دعوة، ((فوالله لَأنْ يهديَ اللهُ بك رجلًا واحدًا، خيرٌ لك مِن أن يكون لك حُمر النَّعَم))[4]؛ إنَّه رمضان مودِّع.

11 - أقبِل على الاستغفار والتوبة، قل كلَّ يوم عشر مرات أو أكثر: ربِّ اغفِرْ لي، وتُبْ عليَّ، إنَّك أنت التوَّاب الغفور؛ عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن كنَّا لنعدَّ لرسول الله في المجلس يقول: ((ربِّ اغفِرْ لي، وتُبْ عليَّ، إنَّك أنت التوَّاب الغفور - مائة مرةٍ))[5]؛ إنَّه رمضان مودِّع.

عبادَ الله، توبة إلى الله، عودة إلى كِتاب الله، تَصحيحًا لمسارنا في هذه الحياة.
إنَّها قد تكون الفرصة الأخيرة، لعلَّه رمضان مودِّع؛ فلا تكُنْ فيه من الخاسرين.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا رمضان قد جاء، تُفتح فيه أبواب الجنَّة، وتُغلق فيه أبواب النار، وتُغلُّ فيه الشياطين، بُعدًا لِمن أدرَك رمضانَ فلم يُغفر له، إذا لم يُغفر له فمَتى؟!))[6].
"اللهمَّ بلِّغنا رمضان".




[1] صحيح ابن حبان (3309).

[2] صحيح الجامع (6346).

[3] الترغيب والترهيب (3/ 310).

[4] صحيح البخاري (4210).

[5] السلسلة الصحيحة (556).

[6] الترغيب والترهيب (2/ 118).