التواضع هو التذلُّل والتخاشع[1]، فهو إذًا الخشوع لله وخفض الجناح تذلُّلًا للمؤمنين، ولِينُ الجانب لعامة الناس، وقَبولُ الحق ممن قاله أيًّا كان، ونقيض التواضع الكِبر، الذي هو بطَرُ الحق وغمط الناس، والتواضعُ من الأخلاق الفاضلة، والصفات العالية؛ به يتحقق التآلف والود، ولا يَعْرف التواضع إلا من عرَفَ ربَّه ونفسَه[2].
فالتعالي من الداعية يُبعِد ما بينه وبين المدعوِّين؛ فقد جُبلت النفوس على بغض المتكبِّر والنفورِ منه، وما أصدق من شبَّه المتكبِّر برجل فوق قمة جبل عالٍ يرى الناس من تحته صغارًا كالنمل، وهم يرونه كذلك، وأن مثل المتواضع كمثل السُّنبلة المملوءة بالحَبِّ تتواضع وتحني رأسها؛ لما فيها من الخير والنفع، أما الفارغة الجوفاء، فإنها تظل رافعة رأسها تتعالى على غيرها من السنابل المملوءة، وهي لا تصلح إلا للعلف، والتواضع يحبِّب الشخص للآخرين، ويجعله قديرًا وأليفًا وأنيسًا عندهم، والداعية أحوج ما يكون إلى هذا، إنه بحاجة إلى معاشرة الناس ومخالطتهم؛ ليدعوهم ومن ثم ليثمر كلامه معهم.
وقد كان عليه الصلاة والسلام حليمًا متواضعًا بين أصحابه، لا يعلو عليهم فيستكبر، ولا يتعالى عليهم فيرتفع، بل كان صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته، ويشارك أصحابه في أعمال كثيرة، ويجاهد معهم، ويسلِّم على صغيرهم، ويحنو على ضعيفهم، ويذكُرُ أنه ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد[3]، وكان عليه السلام يقول: ((ما نقَصتْ صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تَواضَعَ أحد لله إلا رفَعَه))[4].
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله من خلال تفسيره فضل التواضع وذم الكِبر والمتكبِّرين، كما ذكر أمثلة للمتواضعين، وعقد فصلًا عن التواضع، وذكر فيه بعض الآثار والمرويات عن السلف في التواضع وفضله[5]، يقول رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ ﴾ [الأحزاب: 35]: "الخشوع السكون والطُّمأنينة، والتؤدة الوقار والتواضع، والحامل عليه الخوفُ من الله ومراقبته"[6].
ويؤكد رحمه الله أن من صفات المؤمنين الكمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليِّه، ومعتزًّا على خصمه وعدوِّه"[7].
وقال رحمه الله في ذمِّ المتكبرين عن طاعة الله وعلى الناس بغير حق عند تفسير الآية: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146]: "أي سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظَمتي وشريعتي وأحكامي، قلوبَ المتكبرين عن طاعتي، ويتكبَّرون على الناس بغير حق، أي كما استكبَروا بغير حق أذَلَّهم الله بالجهل"[8].
ومن القصص والشواهد التي ذكرها ابن كثير عن التواضع من السلف تواضعُ أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها "عن عقبة بن صُهْبَان الهنائي[9] قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ﴾ [فاطر: 32]، فقالت: يا بُنيَّ هؤلاء في الجنة؛ أما السابق بالخيرات، فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة والرزق، وأما المقتصد، فمَنِ اتبَع أثره من أصحابه حتى لَحِقَ به، وأما الظالم لنفسه، فمثلي ومثلكم، قال: فجعلتْ نفسها معنا، وهذا منها رضي الله عنها من باب الهضم والتواضع، وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات؛ لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"[10].
وكذلك الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه "عن عرفجة الثقفي[11] قال: استقرأت ابن مسعود ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1]، فلما بلغ ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [الأعلى: 16]، ترك القراءة وأقبَلَ على أصحابه فقال: آثرنا الدنيا على الآخرة، فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا؛ لأنَّا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزُويتْ عنَّا الآخرة، فاختَرْنا هذا العاجل وتركنا الآجل، وهذا منه على وجه التواضع والهضم"[12].
فالداعية إلى الله مطالَبٌ بأن يلتزم بالتواضع؛ حتى يتمكن من تأدية دوره، وحتى يتقرب من الناس؛ لأن دعوته في حاجة إلى صلة مستمرة بهم، وعليه أن يكون قريبًا إلى قلوبهم وأرواحهم، والتواضعُ هو صانعُ ذلك كلِّه، كما بيَّنتْه الحياةُ التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقًا على نفسه، وتوجيهًا لمن بعده من المؤمنين[13].
-------------------
[1] المعجم الوسيط 1039.
[2] انظر الدعوة والداعية في ضوء سورة الفرقان، محمد سعيد البارودي، طبعة دار الوفاء بجدة، ط1، 1407هـ.
[3] القديد من اللحم ما قُطع طولًا ومُلح وجُفف في الهواء والشمس. المعجم الوسيط ص 718.
[4] الحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع، رقم (2588).
[5] انظر تفسير القرآن العظيم 3/ 552.
[6] المرجع السابق 3/ 600.
[7] المرجع نفسه 2/ 91 عند تفسير الآية: 54 من سورة المائدة.
[8] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 311-312.
[9] هو عقبة من مسلم بن نافع بن هلال بن صهبان الهنائي الدوسي يكنى أبي الملد، انظر الأسامي والكنى، لأحمد بن حنبل، تحقيق عبدالله يوسف الجديع ص 76. الناشر مكتبة دار الأقصى، الكويت ط1، 1406هـ.
[10] المرجع نفسه 3/ 682.
[11] هو عرفجة بن عبدالله الثقفي، ويقال: السلمي، روى عن علي وابن مسعود وعائشة وعتبة بن فرقد ورجل من الصحابة، انظر تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني ص 389 تحقيق محمد عوامة، طبعة دار القلم بسوريا ط3، 1411هـ.
[12] انظر تفسير القرآن العظيم 4/ 594.
[13] انظر الدعوة الإسلامية، أحمد غلوش ص 456، طبعة دار الكتاب المصري، ط2، 1407هـ.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/147092/#ixzz6vrfxBCA3