الداعية والقـرب مــن اللــه



إن قضية القرب من الله قضية مهمة جدًا في حياة الدعاة، وهي المحرك والوقود في معترك الدعوة، وتتجلى مظاهرها في أمور عدة، نذكرها في المقال الآتي.
(1) التقوى
التقوى دليل من أدلة الإخلاص لله العلي العظيم، ومن معانيه التوبة الصادقة الدائمة المتكررة، والمحاسبة الجادة المستمرة، والمراقبة الكاملة لله -عز وجل- على كل الأحوال وفي مختلف الظروف: «يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ» (رواه أحمد الترمذي، وصححه الألباني).
غاية الداعية
ولأن غاية الداعية الوصول لقلب من يدعوه، أو يخرج من أزمة ومشكلة أو أن يرزقه الله الصبر إن كان في محنة، والتقوى تساعد على ذلك، وهي مخرج من الأزمات والمشكلات -إن وجدت في طريق الداعية-، وأيضًا قد يجد الداعية أثر ذلك في دعوته فبعد فترة من الزمن، إذا بالمدعو يتغير ويفتح قلبه، ويصارح ويتقدم للأمام، وكل ذلك ببركة التقوى.
الكلام الطيب المؤثر
كما يُرزق الداعية بالكلام الطيب المؤثر والمعاملة الحسنة الوصول إلى القلوب بمختلف مستوياتها، وذلك كله من حيث لا يحتسب، عن أبي ذر ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، قال الحسن -رحمه الله-: «ما ضربت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي، حتى أنظر أعلى طاعة أم على معصية؛ فإن كانت على طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت»، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله -تعالى-: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران:102): «أن يطاع فلا يُعصى، وأن يذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يكفر»، وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: «ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم وأداء ما افترض الله؛ فمن رُزِق بعد ذلك خيرًا فهو من خير إلى خير».
الداعية دائم المحاسبة لنفسه
والمؤمن الداعية إلى الله دائم المحاسبة لنفسه بسبب تقواه وخوفه من الجليل فينظر ما قدم لغدٍ، يردد قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر:18).
لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال، أمن الصالحات التي تنجيه أم من السيئات التي توبقه؟ فهو -أعني الداعية- أينما توجه وحيثما دارت به الأيام ثابت على مبدأ التقوى الذي هو زاده على الطريق، وقد تقيد بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ» فصار شعاره ودليله، وأصبح نبراسًا له وزادًا على الطريق.
قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (الطلاق:2)، ومن كان هذا منهجه وديدنه تكفل الباري -عز وجل- بنصرته وأن يكون معه، ومن كان الحق معه فمن يهزمه؟! {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} (النحل:128)، فصار المولى العظيم وليهم {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (الجاثية:19)، وأحبهم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:4).
ومن أحبه الله، كان عينه التي يبصر بها، وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ووعده الرحمن الرحيم أن يُحقق له ما تمنى، وأن يدخله الجنة التي عمل وتعب وسهر الليالي لأجل عبور الصراط إليها {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (القلم:34).
(2) الدعاء
قال - صلى الله عليه وسلم -: «الدُّعاءُ هُوَ العِبادَةُ» (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وصدق الشافعي -رحمه الله- حين قال:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه وما
تدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطئ ولكـن
لها أمد وللأمد انقضاء
لقد نسينا المسبِّب وتعاملنا مع الأسباب فقط؛ فلم تأتِ النتائج كما نحب؛ فتعلمنا أن: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال:17)، وكم من مرات ظن بعض الناس أنه يستطيع بما يحفظ أن يقنع فلانـًا من الناس، فإذا به يُخلف ظنه ولا يستجيب له، ويُحال بينه وبين الوصول إلى قلبه، وعند هذه اللحظة يتذكر الداعي ضعفه وقلة حيلته، وذله وحقارته، وأنه ما هو إلا ستار لقدر الله، وأن الله جعله سببًا في توصيل دعوته إلى الناس، فيهرع إلى الله ويطلب منه باستكانة وضعف أن يفتح له مغاليق القلوب بحوله -تعالى- وقوته؛ فعلينا أن نلزم الدعاء طيلة حياتنا، ونلزمه على الخصوص بعد أن وقع اختيارنا على من ندعوه، فعلينا أن ندعو الله دعاء الذليل الخائف، ونلح عليه في الدعاء أن يفتح علينا ويفتح بنا، وأن نكون سببًا في توصيل الخير إلى الناس، وأن ندعو لمن سندعوه باسمه عسى الله أن يفتح قلبه علينا.
الدعاء سر النجاح
إن الدعاء هو سر النجاح؛ فمن عرفه وعمل به، فقد فاز وانفتحت أمامه القلوب؛ لذلك فإن مرحلة الدعاء مرحلة أساسية نضعها بمفردها حتى لا ننساها في طريق الدعوة، وهي لا تتوقف باستجابة المدعو، بل تستمر حتى موتي وموتك.
علينا أن ندعو في البداية أن ييسر الله لنا من نختاره، ثم ندعو بعد أن وقع اختيارنا بأن ييسر الله لنا ويفتح علينا في دعوة هذا المسلم، ثم ندعو الله بعد ذلك أن يثبتنا وإياه على طريق الحق حتى الموت.
إن الدعاء يجعلنا دائمًا نردد: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال:17)، ولا يجعلنا ندَّعي بأنه: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (القصص:78)، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «أنا لا أحمل هم الإجابة، ولكني أحمل هم الدعاء»، وقال ابن مسعود - رضي اللخ عنه -: «من أدمن قرع الباب يوشك أن يُفتح له».
(3) الالتزام بطاعة الله وترك المعاصي والتوبة منها
وليعلم الداعي أن تهاونه بطاعة الله ليس كتهاون غيره؛ لأنه قدوة للناس، فمتى رأوه متهاونًا صاروا مثله أو أشد تهاونًا منه؛ ولذلك قد يكون الشيء المستحب واجبًا في حق الداعي إذا توقف ظهور السنة على فعله إياه.
وكذلك تجرؤ الداعي على معاصي الله ليس كتجرؤ غيره؛ لأن الناس يقتدون به فيها فيترتب على ذلك تعدد المعصية وشيوعها بين المسلمين وإلفهم إياها، فينقلب نكرها عرفـًا؛ بسبب تجرؤ هذا الداعي عليها، ولذلك قد يكون الشيء المكروه حرامًا في حق الداعي إذا كان فعله إياه يؤدي إلى اعتقاد الناس إباحته، فعلى الداعي أمانة ثقيلة ومسؤولية كبيرة.
(4) الصبر والاحتساب
ومعناه: أن يوطَّن الداعية نفسه على تحمل كل ما يصيبه من أذى في ذات الله، ويصبر ويحتسب؛ لأنه يدعو إلى الانخلاع عن أخلاق وعادات وأعراف وتقاليد تأصلت في الناس حتى صارت كأنها جزء من حياتهم، ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا يؤدي إلى معارضة شديدة، وعليه فما لم يكن الداعية قد وطَّن نفسه على التحمل والصبر والاحتساب، فإنه سيتعب وييأس بسرعة، ومن ثم يكون الفشل وعدم النجاح.
وحسبنا تكرار مادة الصبر في القرآن لأكثر من سبعين مرة، وحسبنا دورانه مع كل الأنبياء والمرسلين: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف:35)، وحسبنا وصية لقمان لولده: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (لقمان:17)، ووصية عمير بن حبيب الصحابي - رضي الله عنه - لولده إذ يقول: «إذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر فليوطَّن نفسه قبل ذلك على الأذى وليوقن بالثواب، فإنه من يوقن بالثواب من الله لا يجد مس الأذى».
(5) الأمل والثقة في الله وفي نصره
ومعناه: ألا يفقد الداعية الرجاء من أحد يدعوه، فكل إنسان لا يخلو من الخير، والداعية الموفق هو الذي يُهدى إلى مفتاح هذا الخير فيفتح به ويدخل، وحسبنا أن الناس كانوا يقولون عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «إنه لن يسلم حتى يسلم حمار الخطاب»! ومع هذا هداه الله وأسلم، وأعز الله بإسلامه الإسلام والمسلمين، وفائدة هذا الخُلق أنه: يحمل صاحبه على المضي في الطريق وعدم التوقف، وهو كذلك يحمل على قدح الذهن لابتكار وسيلة، وإن لم تجد وسيلة سابقة؛ فالحاجة كما يقال: «تفتق الحيلة»، و»الحاجة أم الاختراع».
(6) التوكل على الله
كثيرًا ما يغفل الدعاة عن القوة الحقيقة في هذا الكون التي يَركن إليها المسلم وهو الله، وذلك في خِضم الدعوة ومعاناة الباطل، وبالتوكل أمَرنا الله -تعالى- بقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق:3)، وهذه صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، كما ثبت في «الصحيحين» أنه: «الْمُتَوَكِّلَ »، كذلك قال السلف: «من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله»، فتوكل أخي الحبيب على الله، ووجِّه إخوانك إلى هذه الحقيقة تكن لهم المعين على مواصلة هذا الطريق الطويل.
(7) الشعور بمعية الله
وهي من أهم الصفات التي يتحلى بها الداعية، فالشعور بمعية الله ينتج عنه أبرز الصفات الإيمانية التي يحتاجها الدعاة إلى الله وإلى الحق، وهي: «القوة، والثبات، واليقين، والصبر، والجرأة، والثقة» والأمثلة من الكتاب والسنة وحياة السلف كثيرة جدًا ومشتهرة.


أحمد السيد الحمدون