( تفسير سورة المسد )
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين : أما بعد : نتناول في هذا اليوم تفسير سورة من سور القرآن ، هذه السورة ذكر الله عز وجل فيها شخصين ، أحدهما أعْور والآخر أحْول ، هذان الشخصان من سادات قريش ، وهما في نفس الوقت قريبان من أحدهما إلى الآخر ، إن هذين الشخصين هما ( أبو لهب وزوجته أم جميل ) أم جميل هذه كنيتها، فـ [ الكنية : ما صدِّرت بأم أو أب ] فإذا قيل : " أبو عبد الله " فهذه هي الكنية . أما [ اللقب : فهو الوصف الموصوف به الشخص ] كما لقّبت أم جميل بأنها عوراء ، وهي في الحقيقة عوراء لكن عرفت بهذا اللقب ، فاللقب يختلف عن الكنية . مثلا : [ أبو بكر ] كنية ، [ الصدِّيق ] لقب . خالد ابن الوليد كنيته [ أبو سليمان ] ، لقبه [ سيف الله المسلول ] . والكنية ، لا يلزم أن يكون له ولد ، مثل خالد بن الوليد رضي الله عنه كني بأبي سليمان وليس له ولد اسمه ( سليمان ) فإذاً لا يلزم من ذلك أن يكون له ولد ، فالكنية إما أن تكون بمنزلة العلم كأبي سليمان ، أو يراد منها الذم كأبي جهل ، لأنه ليس له ولد اسمه جهل . إذاً يراد منها إما الذم كأبي جهل ، أو العلميَّة كأبي سليمان ، أو المصاحبة مثل أبي هريرة رضي الله عنه فلكونه يصحب معه هرة كُني بها لمصاحبته لها فقالوا أبو هريرة . إذاً : هذه المرأة التي هي زوجة أبي لهب أسمها ( أروى بنت حرب ) أخت أبي سفيان بن حرب ، كنيتها ( أم جميل ) ولقبها ( العوراء ) زوجها هو أبو لهب ، اسمه ( عبد العُزى ) هذان الشخصان ناصبا العداء للنبي صلى الله عليه وسلم وأظهرا العداوة له ، فمن بين الأذية التي صدرت من أبي لهب أن ابنيه عتبة وعتيبة لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رسول وأنه نبي فكان تحت ولديه بنتان للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما رأسي من رأسكما حرام إن لم تطلقا بنتي محمد فطلقاهما ، وكان أبو العاص بن الربيع تحته زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم فذهب إليه وأغراه أن يعطيه مالا وأن يزوجه بأجمل النساء لكن أبا العاص رفض أن يطلق زينب . فاستمرت العداوة من أبي لهب للنبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه سلّط أبناءه على النبي صلى الله عليه وسلم وكان من أشد أبنائه أذية عتبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في مستدرك الحاكم وحسنه ابن حجر رحمه الله قال ( اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ) فعلم أبو لهب بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعرف أنه مستجاب الدعوة أو حري بأن تستجاب دعوته ( وكان هذا الولد قد استعد للسفر في قافلة تجاه الشام فقال أبو لهب لمن في القافلة : إذا نزلتم بمكان فاجعلوا ابني بينكم حتى لا يمسه سوء ، فذهبت القافلة وآواهم الليل فنزلوا في مكان فأخذوا بوصيته فوضعوه بينهم ، ولما جاء الليل إذا بأسد يُهمهم ، يقول من يروي هذه القصة إنه جعل يَشمُّ كل شخص حتى وقف على عتبة فقضم رأسه ) لأن الأسد يطلق عليه كلب ، ولأن المراد ليس الكلب المعروف ، وإنما الكلب في اللغة العربية يشمل الحيوانات المفترسة من أسود ونمور ، ولكن غُلِّب في اللغة على أن الكلب يكون للكلب المعروف . فاستجاب الله عز وجل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فسلَّط على عتبة كلبا فأهلكه . ترى ما هي هذه السورة ؟ سورة [ المسد ] وهي مكية بالإجماع كما نقل ذلك القرطبي رحمه الله ، وهذه السورة لها سبب نزول ، وذلك ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل الله عز وجل عليه { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } الشعراء214 ، صعد على الصفا ونادى في قريش فلما اجتمعوا عليه قال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبا لك ألهذا جمعتنا ؟! فأنزل الله عز وجل هذه السورة ) فلما نزلت هذه السورة وذكر الله عز وجل في ثناياها أم جميل، أتت كما أورد ذلك البزار وقال لا نرى رواية أحسن من هذه الرواية أتت لأبي بكر ، فروى البزار عن أبي بكر رضي الله عنه ( أنه كان جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت العوراء وهي تولْوِل ، فقال أبو بكر : استتر منها يا رسول الله ، قال : إنها لن تراني ، وبالفعل مرت عليه ولم تر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت لأبي بكر : لقد سمعت أن صاحبك قد هجاني ، فقال أبو بكر : لا ورب الكعبة ما هجاكِ ، إنه لا يقول الشعر ولا يتفوه به ، فذهبت تقول : لقد علمت قريش بأني ابنة سيدها ) هذه المرأة شاركت زوجها في أذية النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل هذه السورة يتحدث فيها عن مصير هذه المرأة وعن مصير زوجها ، فيقول الله عز وجل { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } { تَبَّتْ } هنا دعاء بالخسران والخيبة ، لأن [ التباب ] هو الخسارة والهلاك ، فهنا دعاء . { وَتَبَّ } خبر بأن هذا الدعاء تحقق ، فدعاءٌ عليه بالخسارة ثم أُخبر بأن هذه الخسارة وأن هذا الهلاك قد تحقق . { تَبَّتْ يَدَا } خص التباب باليد لأن معظم عمل الإنسان بيديه ، فأكثر ما يصنع الإنسان ويفعل بيديه وإلا فالمراد باليدين هنا [ النفس ] كما قال الله عز وجل { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } الحج10، يعني بما صنعته لأنه سيحاسب على ما عملته قدماه وما عملته جميع جوارحه ولا يخص ذلك اليدين . { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } اسمه عبد العُزى ، ولم يذكر اسمه مع أن الاسم أقل في التكريم من الكنية ، لو قلت لإنسان : " يا محمد " وهو كبير في السن ، فهذا غير مناسب، لكن الأفضل أن تقول : يا أبا فلان ، فالكنية فيها من التكريم ما ليس في الاسم . فلم ذكر الله عز وجل هنا الكنية وفيها تكريم ولم يذكر عبد العزى ؟ لم يقل : [ تبت يدا عبد العزى وتب ] أيكرم وهو ليس أهلاً للتكريم ؟ ( لا ) . إذاً الجواب قال بعض العلماء : إن الله عز وجل لم يضف العبودية في كتابه لصنم ، فالعزى صنم . لكن التوجيه الآخر أفضل من هذا وأحسن وهو: أن الله عز وجل صرف أهله من أن يسموه أو يكنوه بأبي النور أو أبي الضياء وإنما كنوه بأبي لهب ، فكان من المناسب ، لأن النور والضياء ، النور والضياء مشترك بين المدح والذم ، أما اللهب فهو للذم وليس فيه مدح فلما لم يذكر اسمه وإنما ذكر الكنية لكي تتحقق نسبة دخوله إلى النار . فإذاً { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ{1} مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ{2} سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } فذكر الكنية هنا لكي تتحقق نسبة دخوله إلى النار التي هي ذات لهب . { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ{1} مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ{2} المــال / معروف . وما كسب قال المفسرون : أولاده ، مع أن السورة لم تشر إلى الأولاد ، فلماذا قالوا الأولاد في قوله تعالى { وَمَا كَسَبَ } ؟ قالوا : لأن أبا لهب لما نزلت هذه السورة قال : إن كان محمدٌ صادقا فسأفتدي من عذاب الله إن صدق بمالي وولدي ، فقال الله عز وجل{ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } وأيضا لعل الحديث الآخر يبين ذلك إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن أفضل ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم ) . قال تعالى : { سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } قال تعالى : { نَاراً } نكرها للتعظيم ، أي لتعظيم هذه النار . قال تعالى : { سَيَصْلَى نَاراً } هذه النار أوصافها أنها { ذَاتَ لَهَبٍ } قال تعالى : { وَامْرَأَتُهُ } لم يقل جل وعلا [ امرأته أم جميل ] ولم يقل [ امرأته العوراء ] ولم يقل [ امرأته أروى ] فلماذا لم يصرح الله عز وجل باسمها ؟ الجواب : لأن القرآن يرغب في الستر على النساء حتى على الأسماء ، لم يصرح الله عز وجل باسم امرأة قط إلا واحدة وتصريحه لاسم هذه المرأة لسبب سيذكر إن شاء الله ، إذاً لم يصرح القرآن باسم امرأة قط سترا على النساء ، قال تعالى { وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ } هود71 ، وقال تعالى {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا } يوسف23 ، وقال تعالى{ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَة ً} ، وقال تعالى { اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ } ولم يذكر أسماء وإنما ذكر اسم امرأة واحدة وهي مريم ، فلماذا صرَّح باسمها ؟ الجواب / صَّرح باسمها لما هو أعظم لكي يبين أن عيسى الذي زُعم بأنه ابن الله ليس ابنا له وإنما هو ابن لهذه المرأة التي هي اسمها( مريم ) إذاً / لم يصرِّح باسم امرأة قط سترا على النساء وإنما صرَّح باسم ( مريم ) لكي يبين ويرد على مَنْ زعم أن عيسى ابن لله أنه ليس ابنا له وإنما هو ابن لمريم . قال تعالى : { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } لما كانت مُعِينة لزوجها على كفرها كانت معينة على عذابه وعذابها في النار إذ إنها تجمع الحطب في النار لتشتعل ولتحرق أكثر ، وأيضا الجزاء من جنس العمل فكانت تضع الشوك في طريق النبي صلى الله عليه وسلم فعوقبت بأن تجمع الحطب الذي هو أذى لكي تعظم النار فيكون إحراقها أشد . وقال بعض العلماء : { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } المراد بها النميمة أنها كانت تنم ، ما وجه الشبه ؟ لأن النار تشتعل اشتعالا كبيرا في الأمور الحسية كذلك النميمة تشعل في القلوب النار . وقد ذكر الذهبي رحمه الله في كتابه [ الكبائر ] قصة عن النميمة ، قال ( إن هناك رجلا أحب أن يشتري عبدا فدخل إلى السوق وإذا به يسمع المنادي يقول: مَنْ يشتري هذا العبد ؟ والثمن رخيص ، بل قال : من يشتري هذا العبد وليس به عيب إلا أنه نمام ؟ فاستخف هذا الرجل بهذا العيب واشتراه لأن ثمنه رخيص ، فلما دخل البيت ماذا صنع ؟ أتى إلى زوجة هذا الرجل وقال : إن سيدي لا يحبك وسيتزوج بغيرك لكن إن شئت ألا يتزوج وأن تجمعي قلبه على محبتك فأتي إليه بالليل وهو نائم ومعك الموسى ( يعني الموس ) وخذي شَعَرات من حلقه واجعليها عندك فإنك إن فعلت لن يتزوج عليك ، والمرأة ضعيفة ومعتقدها فاسد حتى لو أخذت هذه الشعيرات ووضعتها عندها فهذا معتقد فاسد ، هذا من التِّولة ، والتولة هي شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب الزوجة إلى زوجها والعكس ، قال عليه الصلاة والسلام ( إن التمائم والتولة شرك ) . فلما أرشدها إلى هذه الطريقة المخالفة للدين أتى إلى زوجها وقال له ( يا سيدي إن سيدتي قد أحبت شخصا غيرك وإنها عزمت على أن تأتي بالليل ومعها الموسى لكي تقتلك وإن شئت أن تعرف علامة صدقي فتناوم لها ) المهم جاء الليل وعزمت هذه المرأة على أن تعمل بوصية هذا النمَّام وهذا الزوج تناوم لها ، فلما دخلت عليه ودنت منه قال ( والله لقد صدق هذا العبد ، فلما دنت منه أمسك بيدها ثم قتلها ، فذهب هذا النمَّام إلى أهلها وقال : أدركوا ابنتكم فقد قتلها سيدي ، فجاءوا فقتلوه ، فذهب إلى أهل هذا السيد وقال أدركوا سيدي فقد قتله أهل زوجته ) ثم تناحرت القبيلتان فهلكتا بسبب هذا النمَّام . إذاً كما أن النار تشتعل اشتعالا كبيرا في الأمور الحسية فالنميمة تشتعل في القلوب اشتعالا معنويا ، وذلك بالبغض والحقد ، فلما كانت النار تؤثر تأثيرا بالغا في إحراق الأشياء فكذلك النميمة تؤثر تأثيرا بالغا في إحراق القلوب بالبغضاء وبالشحناء . ولذلك يقول بعض العلماء : إن النمَّام يُفسد في ساعة ما لا يفسده الساحر في شهر ، وإن كان الساحر أعظم وهو كافر ولكن في سرعة الفساد فالنميمة أسرع للفساد من فعل الساحر { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } { فِي جِيدِهَا } يعني في عنقها . { مِّن مَّسَدٍ } يعني طوق من نار ، عقوبة لها لأنها قالت وكانت عندها جوهرة نفيسة قالت ( واللاتي والعزى لأنفق هذه الجوهرة في عداوة محمد ) عليه الصلاة والسلام ، ولذلك كانوا يسمونه بمُذَمَّم ، فكانوا يسبونه عليه الصلاة والسلام فانظر كيف صرف الله عز وجل أذية قريش عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ إنهم إذا سبوه يقولون ( مذمما ) ولا يقولون محمدا ، مع أن اسمه محمد ، فصرف الله عز وجل عنه الأذية بكونهم يقولون فعل مذمم، وصنع مذمم ، وفُعل بمذمم، وهو اسمه محمد . إذاً قالت ( واللاتي والعزى لأنفق هذه الجوهرة في عداوة محمد ) فعاقبها الله عز وجل بأن جعل لها جوهرة لكن جوهرة من نار ، ( من مسد ) يعني من ليف لكنه من نار يُطوَّق به عنقها . ختاما هذه السورة معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، كيف تكون معجزة ؟ النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر ما ذكر ورد عليه أبو لهب ما رد عليه لما قال ( تبا لك ألهذا جمعتنا ؟ ) أنزل الله هذه السورة ، من ذلك الوقت ولم يقيض الله عز وجل يوم أن كتب الشقاء على أبي لهب وعلى زوجته بنزول هذه السورة ، لم يقيض أبا لهب ولا أم جميل إلى الإسلام ولا إلى الإيمان لا سراً ولا علانية ، وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ومن دلائل صدقه إذ إنه أخبر في هذه السورة فيما ذكره الله عز وجل أن أبا لهب سيصلى نارا وامرأته تكون في النار ، ومع ذلك من ذلك الحين لما أخبر بهذا الشقاء وبهذا العذاب لم يقيض الله عز وجل هذين الشخصين إلى ذكر الإسلام لا على لسانهما ولا بقلبيهما لا ظاهرا ولا سرا ، إذاً هذه معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، وبهذا ينتهي الحديث عن تفسير هذه السورة . وصلى الله وسلم على نبينا محمد .